الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ﴿ووَهَبْنا لَهُ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿وتِلْكَ حُجَّتُنا﴾ [الأنعام: ٨٣] عَطَفَ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً عَلى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ وقِيلَ: مَعْطُوفٌ عَلى " آتَيْناها " والأوَّلُ أوْلى. والمَعْنى: ووَهَبْنا لَهُ ذَلِكَ جَزاءً لَهُ عَلى الِاحْتِجاجِ في الدِّينِ وبَذْلِ النَّفْسِ فِيهِ، (p-٤٣٢)و﴿كُلًّا هَدَيْنا﴾ انْتِصابُ كُلًّا عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لِما بَعْدَهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ لِلْقَصْرِ: أيْ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما هَدَيْناهُ، وكَذَلِكَ " نُوحًا " مَنصُوبٌ بِهَدَيْنا الثّانِي أوْ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ ما بَعْدَهُ ﴿ومِن ذُرِّيَّتِهِ﴾ أيْ مِن ذُرِّيَّةِ إبْراهِيمَ، وقالَ الفَرّاءُ: مِن ذُرِّيَّةِ نُوحٍ. واخْتارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرَيُّ والقُشَيْرِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ، واخْتارَ الأوَّلَ الزَّجّاجُ، واعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأنَّهُ عَدَّ مِن هَذِهِ الذُّرِّيَّةِ يُونُسَ ولُوطًا وما كانا مِن ذُرِّيَّةِ إبْراهِيمَ، فَإنَّ لُوطًا هو ابْنُ أخِي إبْراهِيمَ، وانْتَصَبَ ﴿داوُدَ وسُلَيْمانَ﴾ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ أيْ وهَدَيْنا مِن ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وسُلَيْمانَ، وكَذَلِكَ ما بَعَدَهُما، وإنَّما عَدَّ اللَّهُ سُبْحانَهُ هِدايَةَ هَؤُلاءِ الأنْبِياءِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي عَدَّدَها عَلى إبْراهِيمَ، لِأنَّ شَرَفَ الأبْناءِ مُتَّصِلٌ بِالآباءِ. ومَعْنى مِن قَبْلُ في قَوْلِهِ: ﴿ونُوحًا هَدَيْنا مِن قَبْلُ﴾ أيْ مِن قَبْلِ إبْراهِيمَ، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: وكَذَلِكَ إلى مَصْدَرِ الفِعْلِ المُتَأخِّرِ: أيْ ومِثْلُ ذَلِكَ الجَزاءِ ﴿نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ . وإلْياسَ. قالَ الضَّحّاكُ،: هو مِن ولَدِ إسْماعِيلَ، وقالَ القُتَيْبِيُّ: هو مِن سِبْطِ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ. وقَرَأ الأعْرَجُ والحَسَنُ وقَتادَةُ، " والياسَ " بِوَصْلِ الهَمْزَةِ. وقَرَأ أهْلُ الحَرَمَيْنِ وأبُو عَمْرٍو وعاصِمٌ واليَسَعَ مُخَفَّفًا. وقَرَأ الكُوفِيُّونَ إلّا عاصِمًا بِلامَيْنِ. وكَذا قَرَأ الكِسائِيُّ ورَدَّ القِراءَةَ الأُولى، ولا وجْهَ لِلرَّدِّ فَهو اسْمٌ أعْجَمِيٌّ، والعُجْمَةُ لا تُؤْخَذُ بِالقِياسِ بَلْ تُؤَدّى عَلى حَسَبِ السَّماعِ، ولا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ في الِاسْمِ لُغَتانِ لِلْعَجَمِ، أوْ تُغَيِّرُهُ العَرَبُ تَغْيِيرَيْنِ. قالَ الَمَهْدَوِيُّ: مَن قَرَأ بِلامٍ واحِدَةٍ فالِاسْمُ يَسَعُ والألِفُ واللّامُ مَزِيدَتانِ، كَما في قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎رَأيْتُ الوَلِيدَ بْنَ اليَزِيدِ مُبارَكًا شَدِيدًا بِأعْباءِ الخِلافَةِ كاهِلُهُ ومَن قَرَأ بِلامَيْنِ فالِاسْمُ لِيَسَعَ، وقَدْ تَوَهَّمَ قَوْمٌ أنَّ اليَسَعَ هو إلْياسُ وهو وهْمٌ، فَإنَّ اللَّهَ أفْرَدَ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما. وقالَ وهْبٌ: اليَسَعُ صاحِبُ إلْياسَ، وكانُوا قَبْلَ يَحْيى وعِيسى وزَكَرِيّا، وقِيلَ: إلْياسُ هو إدْرِيسُ، وهَذا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأنَّ إدْرِيسَ جَدُّ نُوحٍ وإلْياسُ مِن ذُرِّيَّتِهِ، وقِيلَ: إلْياسُ هو الخَضِرُ، وقِيلَ: لا بَلِ اليَسَعُ هو الخَضِرُ ﴿وكُلًّا فَضَّلْنا عَلى العالَمِينَ﴾ أيْ كُلَّ واحِدٍ فَضَّلْناهُ بِالنُّبُوَّةِ عَلى عالَمِي زَمانِهِ، والجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ. قَوْلُهُ: ﴿ومِن آبائِهِمْ وذُرِّيّاتِهِمْ وإخْوانِهِمْ﴾ أيْ هَدَيْنا، ومِن لِلتَّبْعِيضِ: أيْ هَدَيْنا بَعْضَ آبائِهِمْ وذُرِّيّاتِهِمْ وأزْواجِهِمْ ﴿واجْتَبَيْناهُمْ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى فَضَّلْنا، والِاجْتِباءُ الِاصْطِفاءُ أوِ التَّخْلِيصُ أوْ الِاخْتِيارُ، مُشْتَقٌّ مِن جَبَيْتُ الماءَ في الحَوْضِ جَمَعْتُهُ، فالِاجْتِباءُ ضَمُّ الَّذِي تَجْتَبِيهِ إلى خاصِّيَّتِكَ. قالَ الكِسائِيُّ: جَبَيْتُ الماءَ في الحَوْضِ جَبْيٌ مَقْصُورٌ، والجابِيَةُ الحَوْضُ، قالَ الشّاعِرُ: ؎كَجابِيَةِ الشَّيْخِ العِراقِيِّ تَفْهَقُ والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ هُدى اللَّهِ﴾ إلى الهِدايَةِ والتَّفْضِيلِ والِاجْتِباءِ المَفْهُومَةِ مِنَ الأفْعالِ السّابِقَةِ ﴿يَهْدِي بِهِ﴾ اللَّهُ ﴿مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ﴾ وهُمُ الَّذِينَ وفَّقَهم لِلْخَيْرِ واتِّباعِ الحَقِّ ﴿ولَوْ أشْرَكُوا﴾ أيْ هَؤُلاءِ المَذْكُورُونَ بِعِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ ﴿لَحَبِطَ عَنْهُمْ﴾ مِن حَسَناتِهِمْ ﴿ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ والحُبُوطُ البُطْلانِ. وقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ في البَقَرَةِ. والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ﴾ إلى الأنْبِياءِ المَذْكُورِينَ سابِقًا: أيْ جِنْسِ الكِتابِ لِيُصَدِّقَ عَلى كُلِّ ما أُنْزِلَ عَلى هَؤُلاءِ المَذْكُورِينَ والحُكْمَ العِلْمَ والنُّبُوَّةَ الرِّسالَةَ أوْ ما هو أعَمُّ مِن ذَلِكَ ﴿فَإنْ يَكْفُرْ بِها هَؤُلاءِ﴾ الضَّمِيرُ في بِها لِلْحُكْمِ والنُّبُوَّةِ والكِتابِ، أوْ لِلنُّبُوَّةِ فَقَطْ، والإشارَةُ بِهَؤُلاءِ إلى كُفّارِ قُرَيْشٍ المُعانِدِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: ﴿فَقَدْ وكَّلْنا بِها قَوْمًا﴾ هَذا جَوابُ الشَّرْطِ: أيْ ألْزَمْنا بِالإيمانِ بِها قَوْمًا ﴿لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ﴾ وهُمُ المُهاجِرُونَ والأنْصارُ، أوِ الأنْبِياءُ المَذْكُورُونَ سابِقًا. وهَذا أوْلى لِقَوْلِهِ فِيما بَعْدُ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ فَإنَّ الإشارَةَ إلى الأنْبِياءِ المَذْكُورِينَ لا إلى المُهاجِرِينَ والأنْصارِ إذْ لا يَصِحُّ أنْ يُؤْمَرَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - بِالِاقْتِداءِ بِهُداهم، وتَقْدِيمِ بِهُداهم عَلى الفِعْلِ يُفِيدُ تَخْصِيصَ هُداهم بِالِاقْتِداءِ، والِاقْتِداءُ طَلَبُ مُوافَقَةِ الغَيْرِ في فِعْلِهِ. وقِيلَ: المَعْنى: اصْبِرْ كَما صَبَرُوا، وقِيلَ: اقْتَدِ بِهِمْ في التَّوْحِيدِ، وإنْ كانَتْ جُزْئِيّاتُ الشَّرائِعِ مُخْتَلِفَةً، وفِيها دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - مَأْمُورٌ بِالِاقْتِداءِ بِمَن قَبْلَهُ مِنَ الأنْبِياءِ فِيما لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ فِيهِ نَصٌّ. قَوْلُهُ: ﴿قُلْ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا﴾ أمَرَهُ اللَّهُ بِأنْ يُخْبِرَهم بِأنَّهُ لا يَسْألُهم أجْرًا عَلى القُرْآنِ، وأنْ يَقُولَ لَهم: ما هو إلّا ذِكْرى يَعْنِي القُرْآنَ لِلْعالَمِينَ أيْ مَوْعِظَةٌ وتَذْكِيرٌ لِلْخَلْقِ كافَّةً، المَوْجُودِينَ عِنْدَ نُزُولِهِ ومَن سَيُوجَدُ مِن بَعْدُ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قالَ: الخالُ والِدٌ والعَمُّ والِدٌ، نَسَبَ اللَّهُ عِيسى إلى أخْوالِهِ فَقالَ: ﴿ومِن ذُرِّيَّتِهِ﴾ حَتّى بَلَغَ إلى قَوْلِهِ: ﴿وزَكَرِيّا ويَحْيى وعِيسى﴾ . وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، والحاكِمُ والبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قالَ: دَخَلَ يَحْيى بْنُ يَعْمَرَ عَلى الحَجّاجِ فَذَكَرَ الحُسَيْنَ، فَقالَ الحَجّاجُ: لَمْ يَكُنْ مِن ذُرِّيَّةِ النَّبِيِّ، فَقالَ يَحْيى: كَذَبْتَ، فَقالَ لَتَأْتِيَنِّي عَلى ما قُلْتَ بِبَيِّنَةٍ فَتَلا ﴿ومِن ذُرِّيَّتِهِ﴾ إلى قَوْلِهِ عِيسى فَأخْبَرَ اللَّهُ أنَّ عِيسى مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ بِأُمِّهِ، فَقالَ: صَدَقْتَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ أبِي حَرْبِ بْنِ أبِي الأسْوَدِ قالَ: أرْسَلَ الحَجّاجُ إلى يَحْيى بْنِ يَعْمَرَ فَقالَ: بَلَغَنِي أنَّكَ تَزْعُمُ أنَّ الحَسَنَ والحُسَيْنَ مِن ذُرِّيَّةِ النَّبِيِّ، تَجِدُهُ في كِتابِ اللَّهِ، وقَدْ قَرَأْتُهُ مِن أوَّلِهِ إلى آخِرِهِ فَلَمْ أجِدْهُ ؟، فَذَكَرَ يَحْيى بْنُ يَعْمَرَ نَحْوَ ما تَقَدَّمَ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿واجْتَبَيْناهم﴾ قالَ: أخْلَصْناهم. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ في قَوْلِهِ: ﴿ولَوْ أشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهم ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ قالَ: يُرِيدُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ هَدَيْناهم وفَعَلْنا بِهِمْ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: الحُكْمُ اللُّبُّ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، في قَوْلِهِ: ﴿فَإنْ يَكْفُرْ بِها هَؤُلاءِ﴾ يَعْنِي أهْلَ مَكَّةَ، يَقُولُ: إنْ يَكْفُرُوا بِالقُرْآنِ ﴿فَقَدْ وكَّلْنا بِها قَوْمًا لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ﴾ يَعْنِي أهْلَ المَدِينَةِ والأنْصارَ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ قَتادَةَ، في قَوْلِهِ: ﴿فَقَدْ وكَّلْنا بِها قَوْمًا﴾ قالَ: هُمُ الأنْبِياءُ الثَّمانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ قالَ اللَّهُ فِيهِمْ: (p-٤٣٣)﴿فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ،، عَنْ أبِي رَجاءٍ العُطارِدِيِّ قالَ في الآيَةِ: هُمُ المَلائِكَةُ، وأخْرَجَ البُخارِيُّ، والنَّسائِيُّ، وغَيْرُهُما، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، في قَوْلِهِ: ﴿فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ قالَ: أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - أنْ يَقْتَدِيَ بِهُداهم وكانَ يَسْجُدُ في ص، ولَفْظُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ مُجاهِدٍ: سَألْتُ ابْنَ عَبّاسٍ، في السَّجْدَةِ الَّتِي في ص، فَقالَ هَذِهِ الآيَةَ، وقالَ: أُمِرَ نَبِيُّكم أنْ يَقْتَدِيَ بِداوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، في قَوْلِهِ: ﴿قُلْ لا أسْألُكم عَلَيْهِ أجْرًا﴾ قالَ: قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ لا أسْألُكم عَلى ما أدْعُوكم إلَيْهِ عَرَضًا مِن عُرُوضِ الدُّنْيا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب