الباحث القرآني

قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ " فارَقُوا دِينَهم " وهي قِراءَةُ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ: أيْ تَرَكُوا دِينَهم وخَرَجُوا عَنْهُ. وقَرَأ الباقُونَ فَرَّقُوا بِالتَّشْدِيدِ إلّا النَّخَعِيَّ فَإنَّهُ قَرَأ بِالتَّخْفِيفِ. والمَعْنى: أنَّهم جَعَلُوا دِينَهم مُتَفَرِّقًا فَأخَذُوا بِبَعْضِهِ وتَرَكُوا بَعْضَهُ، قِيلَ: المُرادُ بِهِمُ اليَهُودُ والنَّصارى. وقَدْ ورَدَ في مَعْنى هَذا، في اليَهُودِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إلّا مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ﴾ ( البَيِّنَةِ: ٤ ) (p-٤٦١)وقِيلَ: المُرادُ بِهِمُ المُشْرِكُونَ عَبَدَ بَعْضُهُمُ الصَّنَمَ وبَعْضُهُمُ المَلائِكَةَ، وقِيلَ: الآيَةُ عامَّةٌ في جَمِيعِ الكُفّارِ وكُلِّ مَنِ ابْتَدَعَ وجاءَ بِما لَمْ يَأْمُرْ بِهِ اللَّهُ، وهَذا هو الصَّوابُ لِأنَّ اللَّفْظَ يُفِيدُ العُمُومَ فَيَدْخُلُ فِيهِ طَوائِفُ أهْلِ الكِتابِ وطَوائِفُ المُشْرِكِينَ وغَيْرُهم مِمَّنِ ابْتَدَعَ مِن أهْلِ الإسْلامِ، ومَعْنى شِيَعًا فِرَقًا وأحْزابًا، فَتَصْدُقُ عَلى كُلِّ قَوْمٍ كانَ أمْرُهم في الدِّينِ واحِدًا مُجْتَمِعًا، ثُمَّ اتَّبَعَ كُلُّ جَماعَةٍ مِنهم رَأْيَ كَبِيرٍ مِن كُبَرائِهِمْ يُخالِفُ الصَّوابَ ويُبايِنُ الحَقَّ ﴿لَسْتَ مِنهم في شَيْءٍ﴾ أيْ لَسْتَ مِن تَفَرُّقِهِمْ، أوْ مِنَ السُّؤالِ عَنْ سَبَبِ تَفَرُّقِهِمْ والبَحْثِ عَنْ مُوجِبِ تَحَزُّبِهِمْ في شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ فَلا يَلْزَمُكَ مِن ذَلِكَ شَيْءٌ ولا تُخاطَبُ بِهِ إنَّما عَلَيْكَ البَلاغُ، وهو مِثْلُ قَوْلِهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «مَن غَشَّنا فَلَيْسَ مِنّا» أيْ نَحْنُ بُرَآءُ مِنهُ، ومَوْضِعُ ﴿فِي شَيْءٍ﴾ نَصْبٌ عَلى الحالِ. قالَ الفَرّاءُ: هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ: أيْ لَسْتَ مِن عِقابِهِمْ في شَيْءٍ، وإنَّما عَلَيْكَ الإنْذارُ، ثُمَّ سَلّاهُ اللَّهُ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّما أمْرُهم إلى اللَّهِ﴾ فَهو مُجازٍ لَهم بِما تَقْتَضِيهِ مَشِيئَتُهُ، والحَصْرُ بِإنَّما هو في حُكْمِ التَّعْلِيلِ لِما قَبْلَهُ والتَّأْكِيدِ لَهُ ثُمَّ هو يَوْمَ القِيامَةِ يُنَبِّئُهُمُ أيْ يُخْبِرُهم بِما يُنْزِلُهُ بِهِمْ مِنَ المُجازاةِ ﴿بِما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾ مِنَ الأعْمالِ الَّتِي تُخالِفُ ما شَرَعَهُ اللَّهُ لَهم وأوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ، وهَذِهِ الآيَةُ مِن جُمْلَةِ ما هو مَنسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. قَوْلُهُ: ﴿مَن جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِها﴾ لَمّا تَوَعَّدَ سُبْحانَهُ المُخالِفِينَ لَهُ بِما تَوَعَّدَ بَيَّنَ عَقِبَ ذَلِكَ مِقْدارَ جَزاءِ العامِلِينَ بِما أمَرَهم بِهِ المُمْتَثِلِينَ لِما شَرَعَهُ لَهم بِأنَّ مَن جاءَ بِحَسَنَةٍ واحِدَةٍ مِنَ الحَسَناتِ فَلَهُ مِنَ الجَزاءِ عَشْرُ حَسَناتٍ، والتَّقْدِيرُ: فَلَهُ عَشْرُ حَسَناتٍ أمْثالُها، فَأُقِيمَتِ الصِّفَةُ مَقامَ المَوْصُوفِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: حَسُنَ التَّأْنِيثُ في عَشْرِ أمْثالِها لَمّا كانَ الأمْثالُ مُضافًا إلى مُؤَنَّثٍ، نَحْو ذَهَبَتْ بَعْضُ أصابِعِهِ. وقَرَأ الحَسَنُ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، والأعْمَشُ " فَلَهُ عَشْرُ أمْثالُها " بِرَفْعِهِما. وقَدْ ثَبَتَ هَذا التَّضْعِيفُ في السُّنَّةِ بِأحادِيثَ كَثِيرَةٍ، وهَذا التَّضْعِيفُ هو أقَلُّ ما يَسْتَحِقُّهُ عامِلُ الحَسَنَةِ. وقَدْ ورَدَتِ الزِّيادَةُ عَلى هَذا عُمُومًا وخُصُوصًا، فَفي القُرْآنِ كَقَوْلِهِ: ﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ﴾ ( البَقَرَةِ: ٢٦١ ) . ووَرَدَ في بَعْضِ الحَسَناتِ أنَّ فاعِلَها يُجازى عَلَيْها بِغَيْرِ حِسابٍ، ووَرَدَ في السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ تَضْعِيفُ الجَزاءِ إلى أُلُوفٍ مُؤَلَّفَةٍ. وقَدْ قَدَّمْنا تَحْقِيقَ هَذا في مَوْضِعَيْنِ مِن هَذا التَّفْسِيرِ فَلْيُرْجَعْ إلَيْهِما ﴿ومَن جاءَ بِالسَّيِّئَةِ﴾ مِنَ الأعْمالِ السَّيِّئَةِ ﴿فَلا يُجْزى إلّا مِثْلَها﴾ مِن دُونِ زِيادَةٍ عَلَيْها عَلى قَدْرِها في الخِفَّةِ والعِظَمِ، فالمُشْرِكُ يُجازى عَلى سَيِّئَةِ الشِّرْكِ بِخُلُودِهِ في النّارِ، وفاعِلُ المَعْصِيَةِ مِنَ المُسْلِمِينَ يُجازى عَلَيْها بِمِثْلِها مِمّا ورَدَ تَقْدِيرُهُ مِنَ العُقُوباتِ كَما ورَدَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الأحادِيثِ المُصَرِّحَةِ بِأنَّ مَن عَمِلَ كَذا فَعَلَيْهِ كَذا، وما لَمْ يَرِدْ لِعُقُوبَتِهِ تَقْدِيرٌ مِن الذُّنُوبِ فَعَلَيْنا أنْ نَقُولَ: يُجازِيهِ اللَّهُ بِمِثْلِهِ وإنْ لَمْ نَقِفْ عَلى حَقِيقَةِ ما يُجازى بِهِ، وهَذا إنْ لَمْ يَتُبْ، أمّا إذا تابَ أوْ غَلَبَتْ حَسَناتُهُ سَيِّئاتِهِ أوْ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ وتَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِمَغْفِرَتِهِ فَلا مُجازاةَ، وأدِلَّةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ مُصَرِّحَةٌ بِهَذا تَصْرِيحًا لا يَبْقى بَعْدَهُ رَيْبٌ لِمُرْتابٍ، وهم أيْ مَن جاءَ بِالحَسَنَةِ ومَن جاءَ بِالسَّيِّئَةِ ﴿لا يُظْلَمُونَ﴾ بِنَقْصِ ثَوابِ حَسَناتِ المُحْسِنِينَ ولا بِزِيادَةِ عُقُوباتِ المُسِيئِينَ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: اخْتَلَفَتِ اليَهُودُ والنَّصارى قَبْلَ أنْ يُبْعَثَ مُحَمَّدٌ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَتَفَرَّقُوا، فَلَمّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ أُنْزِلَ عَلَيْهِ ﴿إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمُ﴾ الآيَةَ. وأخْرَجَ النَّحّاسُ عَنْهُ في ناسِخِهِ ﴿إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهم﴾ قالَ: اليَهُودُ والنَّصارى تَرَكُوا الإسْلامَ والدِّينَ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ ﴿وكانُوا شِيَعًا﴾ فِرَقًا أحْزابًا مُخْتَلِفَةً ﴿لَسْتَ مِنهم في شَيْءٍ﴾ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ ثُمَّ نَسَخَها ﴿وقاتِلُوا المُشْرِكِينَ﴾ ( التَّوْبَةِ: ٣٦ ) . وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، عَنْهُ ﴿وكانُوا شِيَعًا﴾ قالَ: مِلَلًا شَتّى. وأخْرَجَ الفِرْيابِيُّ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ﴾ الآيَةَ قالَ: هم في هَذِهِ الأُمَّةِ. وأخْرَجَ الحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وابْنُ جَرِيرٍ، والطَّبَرانِيُّ والشِّيرازِيُّ في الألْقابِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - في الآيَةِ قالَ: «هم أهْلُ البِدَعِ والأهْواءِ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ»، وفي إسْنادِهِ عَبْدُ بْنُ كَثِيرٍ، وهو مَتْرُوكُ الحَدِيثِ ولَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُهُ، ومَن عَداهُ وقَفُوهُ عَلى أبِي هُرَيْرَةَ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وأبُو الشَّيْخِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أبِي أُمامَةَ في الآيَةِ قالَ: هُمُ الحَرُورِيَّةُ وقَدْ رَواهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، والنَّحّاسُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أبِي غالِبٍ عَنْ أبِي أُمامَةَ مَرْفُوعًا ولا يَصِحُّ رَفْعُهُ. وأخْرَجَ الحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والطَّبَرانِيُّ وأبُو الشَّيْخِ، وابْنُ شاهِينَ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وأبُو نُعَيْمٍ في الحِلْيَةِ وأبُو نَصْرٍ السِّجْزِيُّ في الإبانَةِ والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ عَنْ عُمَرَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - قالَ لِعائِشَةَ: «يا عائِشَةُ إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهم وكانُوا شِيَعًا هم أصْحابُ البِدَعِ وأصْحابُ الأهْواءِ وأصْحابُ الضَّلالَةِ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ لَيْسَتْ لَهم تَوْبَةٌ، يا عائِشَةُ إنَّ لِكُلِّ صاحِبِ ذَنْبٍ تَوْبَةً غَيْرَ أصْحابِ البِدَعِ وأصْحابِ الأهْواءِ لَيْسَ لَهم تَوْبَةٌ وهم مِنِّي بُرَآءُ» . قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هو غَرِيبٌ ولا يَصِحُّ رَفْعُهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ ﴿مَن جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثالِها﴾ قالَ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ: يا رَسُولَ اللَّهِ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ حَسَنَةٌ ؟ قالَ: نَعَمْ أفْضَلُ الحَسَناتِ»، وهَذا مُرْسَلٌ ولا نَدْرِي كَيْفَ إسْنادُهُ إلى سَعِيدٍ ؟ . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو نُعَيْمٍ في الحِلْيَةِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ﴿مَن جاءَ بِالحَسَنَةِ﴾ قالَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، مِثْلَهُ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ أيْضًا. وقَدْ قَدَّمْنا الإشارَةَ إلى أنَّها قَدْ ثَبَتَتِ الأحادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِمُضاعَفَةِ الحَسَنَةِ إلى عَشْرِ أمْثالِها فَلا نُطِيلُ بِذِكْرِها، ووَرَدَتْ أحادِيثُ كَثِيرَةٌ في الزِّيادَةِ عَلى هَذا المِقْدارِ، وفَضْلُ اللَّهِ (p-٤٦٢)واسِعٌ، وعَطاؤُهُ جَمٌّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب