الباحث القرآني

هَذا الكَلامُ مَسُوقٌ لِتَقْرِيرِ التَّوْصِيَةِ الَّتِي وصّى اللَّهُ عِبادَهُ (p-٤٥٩)بِها، وقَدِ اسْتُشْكِلَ العَطْفُ بِثُمَّ مَعَ كَوْنِ قِصَّةِ مُوسى وإيتائِهِ الكِتابَ قَبْلَ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وهو ما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكم وصّاكم بِهِ﴾ فَقِيلَ: إنَّ ثُمَّ هاهُنا بِمَعْنى الواوِ، وقِيلَ: تَقْدِيرُ الكَلامِ: ثُمَّ كُنّا قَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ قَبْلَ إنْزالِنا القُرْآنَ عَلى مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -، وقِيلَ: المَعْنى: قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكم عَلَيْكم، ثُمَّ أتْلُ إيتاءَ مُوسى الكِتابَ، وقِيلَ: إنَّ التَّوْصِيَةَ المَعْطُوفَ عَلَيْها قَدِيمَةٌ لَمْ يَزَلْ كُلُّ نَبِيٍّ يُوصِي بِها أُمَّتَهُ، وقِيلَ: إنَّ ثُمَّ لِلتَّراخِي في الإخْبارِ كَما تَقُولُ: بَلَغَنِي ما صَنَعْتَ اليَوْمَ ثُمَّ ما صَنَعْتَ بِالأمْسِ أعْجَبُ. قَوْلُهُ: ١٥٤ - تَمامًا مَفْعُولٌ لِأجْلِهِ أوْ مَصْدَرٌ، و" ﴿عَلى الَّذِي أحْسَنَ﴾ " قُرِئَ بِالرَّفْعِ وهي قِراءَةُ يَحْيى بْنِ يَعْمَرَ وابْنِ أبِي إسْحاقَ، فَيَكُونُ رَفْعُ أحْسَنَ عَلى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ: أيْ عَلى الَّذِي هو أحْسَنُ، ومِنهُ ما حَكى سِيبَوَيْهِ عَنِ الخَلِيلِ أنَّهُ سَمِعَ: ما أنا بِالَّذِي قائِلٌ لَكَ شَيْئًا. وقَرَأ الباقُونَ بِالنَّصْبِ عَلى أنَّهُ فِعْلٌ ماضٍ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، وأجازَ الفَرّاءُ والكِسائِيُّ أنْ يَكُونَ اسْمًا نَعْتًا لِلَّذِي، وهَذا مُحالٌ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ لِأنَّهُ نَعَتٌ لِلِاسْمِ قَبْلَ أنْ يَتِمَّ، والمَعْنى عِنْدَهم تَمامًا عَلى مَن أحْسَنَ قَبُولَهُ والقِيامَ بِهِ كائِنًا مَن كانَ، ويُؤَيِّدُ هَذا أنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَرَأ: ( تَمامًا عَلى الَّذِينَ أحْسَنُوا ) وقالَ الحَسَنُ: كانَ فِيهِمْ مُحْسِنٌ وغَيْرُ مُحْسِنٍ، فَأنْزَلَ اللَّهُ الكِتابَ تَمامًا عَلى المُحْسِنِينَ، وقِيلَ: المَعْنى: أعْطَيْنا مُوسى التَّوْراةَ زِيادَةً عَلى ما كانَ يُحْسِنُهُ مُوسى مِمّا عَلَّمَهُ اللَّهُ قَبْلَ نُزُولِ التَّوْراةِ عَلَيْهِ، وقِيلَ: المَعْنى: تَمامًا عَلى الَّذِي أحْسَنَ بِهِ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ إلى مُوسى مِنَ الرِّسالَةِ وغَيْرِها، وقِيلَ: تَمامًا عَلى إحْسانِ مُوسى بِطاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ قالَهُ الفَرّاءُ. قَوْلُهُ: ﴿وتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى تَمامًا: أيْ ولِأجْلِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْءٍ وكَذا هُدًى ورَحْمَةً مَعْطُوفَتانِ عَلَيْهِ: أيْ ولِلْهُدى والرَّحْمَةِ، والضَّمِيرُ في لَعَلَّهم راجِعٌ إلى بَنِي إسْرائِيلَ، المَدْلُولُ عَلَيْهِ بِذِكْرِ مُوسى، والباءُ في بِلِقاءِ مُتَعَلِّقَةٌ بِيُؤْمِنُونَ. قَوْلُهُ: ﴿وهَذا كِتابٌ أنْزَلْناهُ مُبارَكٌ﴾ الإشارَةُ إلى القُرْآنِ، واسْمُ الإشارَةِ مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ كِتابٌ، وأنْزَلْناهُ صِفَةٌ لِكِتابٍ ومُبارَكٌ صِفَةٌ أُخْرى لَهُ، وتَقْدِيمُ صِفَةِ الإنْزالِ لِكَوْنِ الإنْكارِ مُتَعَلِّقًا بِها، والمُبارَكُ كَثِيرُ البَرَكَةِ لِما هو مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِ مِنَ المَنافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ والدِّينِيَّةِ فاتَّبِعُوهُ فَإنَّهُ لَمّا كانَ مِن عِنْدِ اللَّهِ وكانَ مُشْتَمِلًا عَلى البَرَكَةِ، كانَ اتِّباعُهُ مُتَحَتِّمًا عَلَيْكم واتَّقُوا مُخالَفَتَهُ والتَّكْذِيبَ بِما فِيهِ لَعَلَّكم إنْ قَبِلْتُمُوهُ ولَمْ تُخالِفُوهُ تُرْحَمُونَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ سُبْحانَهُ. وأنْ في ﴿أنْ تَقُولُوا﴾ في مَوْضِعِ نَصْبٍ. قالَ الكُوفِيُّونَ: لِئَلّا تَقُولُوا. وقالَ البَصْرِيُّونَ: كَراهَةَ أنْ تَقُولُوا. وقالَ الفَرّاءُ والكِسائِيُّ: المَعْنى فاتَّقُوا أنْ تَقُولُوا يا أهْلَ مَكَّةَ ﴿إنَّما أُنْزِلَ الكِتابُ﴾: أيِ التَّوْراةُ والإنْجِيلُ ﴿عَلى طائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنا﴾ وهُمُ اليَهُودُ والنَّصارى ولَمْ يَنْزِلْ عَلَيْنا كِتابٌ ﴿وإنْ كُنّا عَنْ دِراسَتِهِمْ﴾ أيْ عَنْ تِلاوَةِ كُتُبِهِمْ بِلُغاتِهِمْ لَغافِلِينَ أيْ لا نَدْرِي ما فِيها، ومُرادُهم إثْباتُ نُزُولِ الكِتابَيْنِ مَعَ الِاعْتِذارِ عَنِ اتِّباعِ ما فِيهِما بِعَدَمِ الدِّرايَةِ مِنهم والغَفْلَةِ عَنْ مَعْناهُما. قَوْلُهُ: ﴿أوْ تَقُولُوا لَوْ أنّا أُنْزِلَ عَلَيْنا الكِتابُ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى تَقُولُوا أيْ أوْ أنْ تَقُولُوا لَوْ أنّا أُنْزِلَ عَلَيْنا الكِتابُ كَما أُنْزِلَ عَلى الطّائِفَتَيْنِ مِن قَبِلْنا ﴿لَكُنّا أهْدى مِنهُمْ﴾ إلى الحَقِّ الَّذِي طَلَبَهُ اللَّهُ، فَإنَّ هَذِهِ المَقالَةَ والمَعْذِرَةَ مِنهم مُنْدَفِعَةٌ بِإرْسالِ مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - إلَيْهِمْ وإنْزالِ القُرْآنِ عَلَيْهِ، ولِهَذا قالَ: ﴿فَقَدْ جاءَكم بَيِّنَةٌ مِن رَبِّكُمْ﴾ أيْ كِتابٌ أنْزَلَهُ اللَّهُ عَلى نَبِيِّكم، وهو مِنكم يا مَعْشَرَ العَرَبِ، فَلا تَعْتَذِرُوا بِالأعْذارِ الباطِلَةِ وتُعَلِّلُوا أنْفُسَكم بِالعِلَلِ السّاقِطَةِ، فَقَدْ أسْفَرَ الصُّبْحُ لِذِي عَيْنَيْنِ ﴿وهُدًى ورَحْمَةٌ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى بَيِّنَةٌ أيْ جاءَكُمُ البَيِّنَةُ الواضِحَةُ والهُدى الَّذِي يَهْتَدِي بِهِ كُلُّ مِن لَهُ رَغْبَةٌ في الِاهْتِداءِ، ورَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ يَدْخُلُ فِيها كُلُّ مَن يَطْلُبُها ويُرِيدُ حُصُولَها، ولَكِنَّكم ظَلَمْتُمْ أنْفُسَكم بِالتَّكْذِيبِ بِآياتِ اللَّهِ والصُّدُوفِ عَنْها: أيِ الِانْصِرافِ عَنْها، وصَرْفِ مَن أرادَ الإقْبالَ إلَيْها ﴿فَمَن أظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ﴾ الَّتِي هي رَحْمَةٌ وهُدًى لِلنّاسِ ﴿وصَدَفَ عَنْها﴾ فَضَلَّ بِانْصِرافِهِ عَنْها، وأضَلَّ بِصَرْفِ غَيْرِهِ عَنِ الإقْبالِ إلَيْها ﴿سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ العَذابِ﴾ أيِ العَذابَ السَّيِّءَ بِـ سَبَبِ ما كانُوا يَصْدِفُونَ وقِيلَ: مَعْنى صَدَفَ: أعْرَضَ، ويَصْدِفُونَ يُعْرِضُونَ، وهو مُقارِبٌ لِمَعْنى الصَّرْفِ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنى هَذا اللَّفْظِ، والِاسْتِفْهامُ في فَمَن أظْلَمُ لِلْإنْكارِ: أيْ إنْكارِ أنْ يَكُونَ أحَدٌ أظْلَمَ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وصَدَفَ عَنْها مَعَ ما يُفِيدُهُ ذَلِكَ مِنَ التَّبْكِيتِ لَهم. وقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجاهِدٍ ﴿تَمامًا عَلى الَّذِي أحْسَنَ﴾ قالَ: عَلى المُؤْمِنِينَ المُحْسِنِينَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ أبِي صَخْرٍ ﴿تَمامًا عَلى الَّذِي أحْسَنَ﴾ قالَ: تَمامًا لِما كانَ قَدْ أحْسَنَ اللَّهُ. وأخْرَجَ أيْضًا عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قالَ: تَمامًا لِنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ وإحْسانِهِ إلَيْهِمْ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ قَتادَةَ، في قَوْلِهِ ﴿وهَذا كِتابٌ﴾ قالَ: هو القُرْآنُ الَّذِي أنْزَلَهُ اللَّهُ عَلى مُحَمَّدٍ ﴿فاتَّبِعُوهُ واتَّقُوا﴾ يَقُولُ: فاتَّبِعُوا ما أحَلَّ اللَّهُ فِيهِ واتَّقُوا ما حَرَّمَ. وأخْرَجَ هَؤُلاءِ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿عَلى طائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنا﴾ قالَ: اليَهُودُ والنَّصارى، خافَ أنْ تَقُولَهُ قُرَيْشٌ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: هُمُ اليَهُودُ والنَّصارى ﴿وإنْ كُنّا عَنْ دِراسَتِهِمْ﴾ قالَ: تِلاوَتِهِمْ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ قَتادَةَ، في قَوْلِهِ: ﴿لَكُنّا أهْدى مِنهُمْ﴾ قالَ: هَذا قَوْلُ كُفّارِ العَرَبِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، في قَوْلِهِ: ﴿فَقَدْ جاءَكم بَيِّنَةٌ مِن رَبِّكُمْ﴾ يَقُولُ: قَدْ جاءَتْكم بَيِّنَةٌ لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ حِينَ لَمْ يَعْرِفُوا دِراسَةَ الطّائِفَتَيْنِ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، في قَوْلِهِ: ﴿وصَدَفَ عَنْها﴾ قالَ: أعْرَضَ عَنْها. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ الضَّحّاكِ، في قَوْلِهِ: ﴿يَصْدِفُونَ﴾ قالَ: يُعْرِضُونَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب