الباحث القرآني
(p-٤٥٧)قَوْلُهُ: ﴿قُلْ تَعالَوْا﴾ أيْ تَقَدَّمُوا.
قالَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ: إنَّ المَأْمُورَ بِالتَّقَدُّمِ في أصْلِ وضْعِ هَذا الفِعْلِ كَأنَّهُ كانَ قاعِدًا، فَقِيلَ: لَهُ تَعالَ: أيِ ارْفَعْ شَخْصَكَ بِالقِيامِ وتَقَدَّمَ، واتْسَعُوا فِيهِ حَتّى جَعَلُوهُ لِلْواقِفِ والماشِي.
وهَكَذا قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في الكَشّافِ: إنَّهُ مِنَ الخاصِّ الَّذِي صارَ عامّا، وأصْلُهُ أنْ يَقُولَهُ مَن كانَ في مَكانٍ عالٍ لِمَن هو أسْفَلُ مِنهُ، ثُمَّ كَثُرَ واتَّسَعَ فِيهِ حَتّى عَمَّ.
قَوْلُهُ: ﴿أتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ﴾ أتْلُ جَوابُ الأمْرِ، وما مَوْصُولَةٌ في مَحَلِّ نَصْبٍ بِهِ: أيْ أتْلُ الَّذِي حَرَّمَهُ رَبُّكم عَلَيْكم.
والمُرادُ مِن تِلاوَةِ ما حَرَّمَ اللَّهُ تِلاوَةُ الآياتِ المُشْتَمِلَةِ عَلَيْهِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ ما مَصْدَرِيَّةٌ: أيْ أتْلُ تَحْرِيمَ رَبِّكم.
والمَعْنى: ما اشْتَمَلَ عَلى التَّحْرِيمِ، قِيلَ: ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ ما اسْتِفْهامِيَّةٌ أيْ أتْلُ أيَّ شَيْءِ حَرَّمَ رَبُّكم عَلى جَعْلِ التِّلاوَةِ بِمَعْنى القَوْلِ، وهو ضَعِيفٌ جِدًّا، و" عَلَيْكم " إنْ تَعَلَّقَ بِأتْلُ، فالمَعْنى: أتْلُ عَلَيْكُمُ الَّذِي حَرَّمَ رَبُّكم، وإنْ تَعَلَّقَ بِحَرَّمَ، فالمَعْنى أتْلُ الَّذِي حَرَّمَ رَبُّكم عَلَيْكم، وهَذا أوْلى، لِأنَّ المَقامَ مَقامُ بَيانِ ما هو مُحَرَّمٌ عَلَيْكم لا مَقامُ بَيانِ ما هو مُحَرَّمٌ مُطْلَقًا، وقِيلَ: إنَّ " عَلَيْكم " لِلْإغْراءِ ولا تَعَلُّقَ لَها بِما قَبْلَها.
والمَعْنى عَلَيْكم أنْ لا تُشْرِكُوا إلى آخِرِهِ: أيِ الزَمُوا ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَلَيْكم أنْفُسَكُمْ﴾ ( المائِدَةِ: ١٠٥ ) وهو أضْعَفُ مِمّا قَبْلَهُ، وأنْ في أنْ لا تُشْرِكُوا مُفَسِّرَةٌ لِفِعْلِ التِّلاوَةِ، وقالَ النَّحّاسُ: يَجُوزُ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بَدَلًا مِن ما: أيْ أتْلُ عَلَيْكم تَحْرِيمَ الإشْراكِ، وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ في مَحَلِّ رَفْعٍ بِتَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ: أيِ المَتْلُوُّ أنْ لا تُشْرِكُوا، وشَيْئًا مَفْعُولٌ أوْ مَصْدَرٌ أيْ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا مِنَ الأشْياءِ، أوْ شَيْئًا مِنَ الإشْراكِ.
قَوْلُهُ: ﴿وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا﴾ أيْ أحْسِنُوا بِهِما إحْسانًا، والإحْسانُ إلَيْهِما البِرُّ بِهِما، وامْتِثالُ أمْرِهِما ونَهْيِهِما.
وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى هَذا.
قَوْلُهُ: ﴿ولا تَقْتُلُوا أوْلادَكم مِن إمْلاقٍ﴾ لَمّا ذَكَرَ حَقَّ الوالِدَيْنِ عَلى الأوْلادِ، ذَكَرَ حَقَّ الأوْلادِ عَلى الوالِدَيْنِ، وهو أنْ لا يَقْتُلُوهم مِن أجْلِ إمْلاقٍ.
والإمْلاقُ الفَقْرُ، فَقَدْ كانَتِ الجاهِلِيَّةُ تَفْعَلُ ذَلِكَ بِالذَّكَرِ والإناثِ خَشْيَةَ الإمْلاقِ وتَفْعَلُهُ بِالإناثِ خاصَّةً خَشْيَةَ العارِ، وحَكى النَّقّاشُ عَنْ مُؤَرِّجٍ أنَّ الإمْلاقَ الجُوعُ بِلُغَةِ لَخْمٍ، وذَكَرَ مُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ البَلُّوطِيُّ أنَّ الإمْلاقَ الإنْفاقُ.
يُقالُ: أمْلَقَ مالَهُ: بِمَعْنى أنْفَقَهُ.
والمَعْنى الأوَّلُ هو الَّذِي أطْبَقَ عَلَيْهِ أئِمَّةُ اللُّغَةِ، وأئِمَّةُ التَّفْسِيرِ هاهُنا ﴿ولا تَقْرَبُوا الفَواحِشَ﴾ أيِ المَعاصِيَ، ومِنهُ ﴿ولا تَقْرَبُوا الزِّنى إنَّهُ كانَ فاحِشَةً﴾ ( الإسْراءِ: ٣٢ ) وما في ﴿ما ظَهَرَ﴾ بَدَلٌ مِنَ الفَواحِشِ، وكَذا ما بَطَنَ.
والمُرادُ بِما ظَهَرَ ما أعْلَنَ بِهِ مِنها، وما بَطَنَ: ما أسَرَّ.
وقَدْ تَقَدَّمَ، ﴿ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ﴾ اللّامُ في النَّفْسِ لِلْجِنْسِ، و﴿الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ﴾ صِفَةٌ لِلنَّفْسِ: أيْ لا تَقْتُلُوا شَيْئًا مِنَ الأنْفُسِ الَّتِي حَرَّمَها اللَّهُ ﴿إلّا بِالحَقِّ﴾ أيْ إلّا بِما يُوجِبُهُ الحَقُّ، والِاسْتِثْناءُ مُفَرَّغٌ: أيْ لا تَقْتُلُوهُ في حالٍ مِنَ الأحْوالِ إلّا في حالِ الحَقِّ، أوْ لا تَقْتُلُوها بِسَبَبٍ مِنَ الأسْبابِ إلّا بِسَبَبِ الحَقِّ، ومِنَ الحَقِّ قَتْلُها قَصاصًا وقَتْلُها بِسَبَبِ زِنا المُحْصَنِ، وقَتْلُها بِسَبَبِ الرِّدَّةِ، ونَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الأسْبابِ الَّتِي ورَدَ الشَّرْعُ بِها، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكم إلى ما تَقَدَّمَ مِمّا تَلاهُ عَلَيْهِمْ، وهو مُبْتَدَأٌ ﴿وصّاكم بِهِ﴾ خَبَرُهُ: أيْ أمَرَكم بِهِ، وأوْجَبَهُ عَلَيْكم.
١٥٢ - ﴿ولا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيمِ﴾ أيْ لا تَتَعَرَّضُوا لَهُ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ إلّا بِـ الخَصْلَةِ ﴿الَّتِي هي أحْسَنُ﴾ مِن غَيْرِها، وهي ما فِيهِ صَلاحُهُ وحِفْظُهُ وتَنْمِيَتُهُ، فَيَشْمَلُ كُلَّ وجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ الَّتِي فِيها نَفْعٌ لِلْيَتِيمِ وزِيادَةٌ في مالِهِ، وقِيلَ: المُرادُ بِالَّتِي هي أحْسَنُ التِّجارَةُ ﴿حَتّى يَبْلُغَ أشُدَّهُ﴾ أيْ إلى غايَةٍ هي أنْ يَبْلُغَ اليَتِيمُ أشُدَّهُ، فَإنْ بَلَغَ ذَلِكَ فادْفَعُوا إلَيْهِ مالَهُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿فَإنْ آنَسْتُمْ مِنهم رُشْدًا فادْفَعُوا إلَيْهِمْ أمْوالَهم﴾ ( النِّساءِ: ٦ ) .
واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في الأشُدِّ، فَقالَ أهْلُ المَدِينَةِ: بُلُوغُهُ وإيناسُ رُشْدِهِ.
وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: خَمْسٌ وعِشْرُونَ سَنَةً.
وقالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ: هو البُلُوغُ.
وقِيلَ: إنَّهُ انْتِهاءُ الكُهُولَةِ، ومِنهُ قَوْلُ سُحَيْمٍ الرَّباحِيِّ:
؎أخُو الخَمْسِينَ مُجْتَمِعٌ أشُدِّي وبِحَدِيثِي مُداوَرَةُ الشُّئُونِ
والأوْلى في تَحْقِيقِ بُلُوغِ الأشُدِّ أنَّهُ البُلُوغُ إلى سِنِّ التَّكْلِيفِ مَعَ إيناسِ الرُّشْدِ، وهو أنْ يَكُونَ في تَصَرُّفاتِهِ بِمالِهِ سالِكًا مَسْلَكَ العُقَلاءِ، لا مَسْلَكَ أهْلِ السَّفَهِ والتَّبْذِيرِ، ويَدُلُّ عَلى هَذا قَوْلُهُ تَعالى في سُورَةِ النِّساءِ: ﴿وابْتَلُوا اليَتامى حَتّى إذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإنْ آنَسْتُمْ مِنهم رُشْدًا فادْفَعُوا إلَيْهِمْ أمْوالَهم﴾ ( النِّساءِ: ٦ ) فَجَعَلَ بُلُوغَ النِّكاحِ، وهو بُلُوغُ سِنِّ التَّكْلِيفِ مُقَيَّدًا بِإيناسِ الرُّشْدِ، ولَعَلَّهُ قَدْ سَبَقَ هُنالِكَ كَلامٌ في هَذا، والأشُدُّ واحِدٌ لا جَمْعَ لَهُ، وقِيلَ: واحِدُهُ شَدٌّ كَفَلْسٍ وأفْلُسٍ وأصْلُهُ مِن شَدَّ النَّهارُ: أيِ ارْتَفَعَ.
وقالَ سِيبَوَيْهِ: واحِدُهُ شِدَّةٌ.
قالَ الجَوْهَرِيُّ: وهو حَسَنٌ في المَعْنى، لِأنَّهُ يُقالُ: بَلَغَ الكَلامُ شِدَّتَهُ، ولَكِنْ لا تُجْمَعُ فِعْلَةٌ عَلى أفْعُلٍ.
قَوْلُهُ: ﴿وأوْفُوا الكَيْلَ والمِيزانَ بِالقِسْطِ﴾ أيْ بِالعَدْلِ في الأخْذِ والإعْطاءِ عِنْدَ البَيْعِ والشِّراءِ ﴿لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها﴾ أيْ إلّا طاقَتَها في كُلِّ تَكْلِيفٍ مِنَ التَّكالِيفِ، ومِنهُ التَّكْلِيفُ بِإيفاءِ الكَيْلِ والوَزْنِ، فَلا يُخاطَبُ المُتَوَلِّي لَهُما بِما لا يُمْكِنُ الِاحْتِرازُ عَنْهُ في الزِّيادَةِ والنُّقْصانِ ﴿وإذا قُلْتُمْ فاعْدِلُوا﴾ أيْ إذا قُلْتُمْ بِقَوْلٍ في خَبَرٍ أوْ شَهادَةٍ أوْ جَرْحٍ أوْ تَعْدِيلٍ فاعْدِلُوا فِيهِ وتَحَرَّوُا الصَّوابَ، ولا تَتَعَصَّبُوا في ذَلِكَ لِقَرِيبٍ ولا عَلى بَعِيدٍ، ولا تَمِيلُوا إلى صَدِيقٍ ولا عَلى عَدُوٍّ، بَلْ سَوُّوا بَيْنَ النّاسِ فَإنَّ ذَلِكَ مِنَ العَدْلِ الَّذِي أمَرَ اللَّهُ بِهِ، والضَّمِيرُ في ﴿ولَوْ كانَ﴾ راجِعٌ إلى ما يُفِيدُهُ ﴿وإذا قُلْتُمْ﴾ فَإنَّهُ لا بُدَّ لِلْقَوْلِ مِن مَقُولٍ فِيهِ، أوْ مَقُولٍ لَهُ: أيْ ولَوْ كانَ المَقُولُ فِيهِ، أوِ المَقُولُ لَهُ ﴿ذا قُرْبى﴾ أيْ صاحِبَ قَرابَةٍ لَكم.
وقِيلَ: إنَّ المَعْنى: ولَوْ كانَ الحَقُّ عَلى مِثْلِ قَراباتِكم والأوَّلُ أوْلى، ومِثْلُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ: ﴿ولَوْ عَلى أنْفُسِكم أوِ الوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ﴾ ( النِّساءِ: ١٣٥ ) .
قَوْلُهُ: ﴿وبِعَهْدِ اللَّهِ أوْفُوا﴾ أيْ أوْفُوا بِكُلِّ عَهْدٍ عَهِدَهُ اللَّهُ إلَيْكم، ومِن جُمْلَةِ ما عَهِدَهُ إلَيْكم ما تَلاهُ عَلَيْكم رَسُولُهُ بِأمْرِهِ في هَذا المَقامِ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِهِ كُلُّ عَهْدٍ، ولَوْ كانَ بَيْنَ المَخْلُوقِينَ، لِأنَّ اللَّهَ (p-٤٥٨)سُبْحانَهُ لَمّا أمَرَ بِالوَفاءِ بِهِ في كَثِيرٍ مِنَ الآياتِ القُرْآنِيَّةِ كانَ ذَلِكَ مُسَوِّغًا لِإضافَتِهِ إلَيْهِ، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكم إلى ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ﴿وصّاكم بِهِ﴾ أمَرَكم بِهِ أمْرًا مُؤَكَّدًا ﴿لَعَلَّكم تَذَكَّرُونَ﴾ فَتَتَّعِظُونَ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ: ﴿وأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا﴾ أنَّ في مَوْضِعِ نَصْبٍ: أيْ واتْلُ أنَّ هَذا صِراطِي قالَهُ الفَرّاءُ والكِسائِيُّ.
قالَ الفَرّاءُ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ خَفْضًا: أيْ وصّاكم بِهِ، وبِأنَّ هَذا.
وقالَ الخَلِيلُ وسِيبَوَيْهِ: إنَّ التَّقْدِيرَ ولِأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا كَما في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وأنَّ المَساجِدَ لِلَّهِ﴾ ( الجِنِّ: ١٨ ) .
وقَرَأ الأعْمَشُ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ: " وإنَّ هَذا " بِكَسْرِ الهَمْزَةِ عَلى الِاسْتِئْنافِ، والتَّقْدِيرُ: الَّذِي ذُكِرَ في هَذِهِ الآياتِ صِراطِي.
وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحاقَ ويَعْقُوبُ " وإنْ هَذا صِراطِي " بِالتَّخْفِيفِ عَلى تَقْدِيرِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ.
وقَرَأ الأعْمَشُ " هَذا صِراطِي " وفي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ( وهَذا صِراطُ رَبِّكم ) وفي مُصْحَفِ أُبَيٍّ ( وهَذا صِراطُ رَبِّكَ ) والصِّراطُ: الطَّرِيقُ، وهو طَرِيقُ دِينِ الإسْلامِ، ونَصْبُ مَسْتَقِيمًا عَلى الحالِ، والمُسْتَقِيمُ المُسْتَوِي الَّذِي لا اعْوِجاجَ فِيهِ، ثُمَّ أمَرَهم بِاتِّباعِهِ ونَهاهم عَنِ اتِّباعِ سائِرِ السُّبُلِ: أيِ الأدْيانِ المُتَبايِنَةِ طُرُقُها ﴿فَتَفَرَّقَ بِكُمْ﴾ أيْ تَمِيلَ بِكم ﴿عَنْ سَبِيلِهِ﴾ أيْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ المُسْتَقِيمِ الَّذِي هو دِينُ الإسْلامِ.
قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذِهِ السُّبُلُ تَعُمُّ اليَهُودِيَّةَ والنَّصْرانِيَّةَ والمَجُوسِيَّةَ وسائِرَ أهْلِ المِلَلِ وأهْلِ البِدَعِ والضَّلالاتِ مِن أهْلِ الأهْواءِ والشُّذُوذِ في الفُرُوعِ وغَيْرَ ذَلِكَ مِن أهْلِ التَّعَمُّقِ في الجَدَلِ والخَوْضِ في الكَلامِ، هَذِهِ كُلُّها عُرْضَةٌ لِلزَّلَلِ ومَظِنَّةٌ لِسُوءِ المُعْتَقَدِ، والإشارَةُ بِـ ذَلِكم إلى ما تَقَدَّمَ وهو مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ ﴿وصّاكم بِهِ﴾ أيْ أكَّدَ عَلَيْكُمُ الوَصِيَّةَ بِهِ ﴿لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ ما نَهاكم عَنْهُ.
وقَدْ أخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وحَسَّنَهُ وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والطَّبَرانِيُّ وأبُو الشَّيْخِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «أيُّكم يُبايِعُنِي عَلى هَؤُلاءِ الآياتِ الثَّلاثِ ؟ ثُمَّ تَلا ﴿قُلْ تَعالَوْا﴾ إلى ثَلاثِ آياتٍ، ثُمَّ قالَ: فَمَن وفّى بِهِنَّ فَأجْرُهُ عَلى اللَّهِ ومَنِ انْتَقَصَ مِنهُنَّ شَيْئًا فَأدْرَكَهُ اللَّهُ في الدُّنْيا كانَتْ عُقُوبَتَهُ، ومَن أخَّرَهُ إلى الآخِرَةِ كانَ أمْرُهُ إلى اللَّهِ إنْ شاءَ أخَذَهُ وإنْ شاءَ عَفا عَنْهُ» .
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ الضَّرِيسِ وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ كَعْبِ الأحْبارِ قالَ: أوَّلُ ما أُنْزِلَ في التَّوْراةِ عَشْرُ آياتٍ، وهي العَشْرُ الَّتِي أُنْزِلَتْ مِن آخِرِ الأنْعامِ ﴿قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكم عَلَيْكم﴾ إلى آخِرِها.
وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الخِيارِ قالَ: سَمِعَ كَعْبٌ رَجُلًا يَقْرَأُ ﴿قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكم عَلَيْكم ألّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وبِالوالِدَيْنِ﴾ فَقالَ كَعْبٌ: والَّذِي نَفْسُ كَعْبٍ بِيَدِهِ إنَّها لَأوَّلُ آيَةٍ في التَّوْراةِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿قُلْ تَعالَوْا أتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكم عَلَيْكم﴾ إلى آخِرِ الآياتِ انْتَهى.
قُلْتُ: هي الوَصايا العَشْرُ الَّتِي في التَّوْراةِ، وأوَّلُها أنا الرَّبُّ إلَهُكَ الَّذِي أخْرَجَكَ مِن أرْضِ مِصْرَ مِن بَيْتِ العُبُودِيَّةِ لا يَكُنْ لَكَ إلَهٌ آخَرُ غَيْرِي.
ومِنها: أكْرِمْ أباكَ وأُمَّكَ لِيَطُولَ عُمُرُكَ في الأرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إلَهُكَ، لا تَقْتُلْ، لا تَزْنِ، لا تَسْرِقْ، لا تَشْهَدْ عَلى قَرِيبِكَ شَهادَةَ زُورٍ، لا تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ، ولا تَشْتَهِ امْرَأةَ قَرِيبِكَ ولا عَبْدَهُ، ولا أمَتَهُ، ولا ثَوْرَهُ، ولا حِمارَهُ، ولا شَيْئًا مِمّا لِقَرِيبِكَ، فَلَعَلَّ مُرادُ كَعْبِ الأحْبارِ هَذا، ولِلْيَهُودِ بِهَذِهِ الوَصايا عِنايَةٌ عَظِيمَةٌ وقَدْ كَتَبَها أهْلُ الزَّبُورِ في آخِرِ زَبُورِهِمْ، وأهْلُ الإنْجِيلِ في أوَّلِ إنْجِيلِهِمْ.
وهِيَ مَكْتُوبَةٌ في لَوْحَيْنِ، وقَدْ تَرَكْنا مِنها ما يَتَعَلَّقُ بِالسَّبْتِ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ قَتادَةَ، ﴿ولا تَقْتُلُوا أوْلادَكم مِن إمْلاقٍ﴾ قالَ: مِن خَشْيَةِ الفاقَةِ، قالَ: وكانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يَقْتُلُ أحَدُهُمُ ابْنَتَهُ مَخافَةَ الفاقَةِ عَلَيْها والسَّبْيِ ﴿ولا تَقْرَبُوا الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ﴾ قالَ: سِرَّها وعَلانِيَتَها.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ﴿ولا تَقْتُلُوا أوْلادَكم مِن إمْلاقٍ﴾ قالَ: خَشْيَةَ الفَقْرِ ﴿ولا تَقْرَبُوا الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ﴾ قالَ: كانُوا في الجاهِلِيَّةِ لا يَرَوْنَ بِالزِّنا بَأْسًا في السِّرِّ ويَسْتَقْبِحُونَهُ في العَلانِيَةِ فَحَرَّمَ اللَّهُ الزِّنا في السِّرِّ والعَلانِيَةِ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ قَتادَةَ، في قَوْلِهِ: ﴿وأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا﴾ قالَ: اعْلَمُوا أنَّ السَّبِيلَ سَبِيلٌ واحِدٌ، جَماعَةُ الهُدى ومَصِيرُهُ الجَنَّةُ، وأنَّ إبْلِيسَ اشْتَرَعَ سُبُلًا مُتَفَرِّقَةً، جَماعَةَ الضَّلالَةِ ومَصِيرُها النّارُ.
وأخْرَجَ أحْمَدُ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والبَزّارُ، والنِّسائِيُّ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: «خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - خَطّا بِيَدِهِ ثُمَّ قالَ: هَذا سَبِيلُ اللَّهِ مُسْتَقِيمًا، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِ ذَلِكَ الخَطِّ وعَنْ شِمالِهِ ثُمَّ قالَ: وهَذِهِ السُّبُلُ لَيْسَ مِنها سَبِيلٌ إلّا عَلَيْهِ شَيْطانٌ يَدْعُو إلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأ: ﴿وأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكم عَنْ سَبِيلِهِ﴾» .
وأخْرَجَ أحْمَدُ، وابْنُ ماجَهْ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، مِن حَدِيثِ جابِرٍ نَحْوَهُ.
وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّ رَجُلًا سَألَهُ: ما الصِّراطُ المُسْتَقِيمُ ؟ قالَ: تَرَكْنا مُحَمَّدًا صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ في أدْناهُ وطَرَفُهُ الجَنَّةُ، وعَنْ يَمِينِهِ جَوادٌ وعَنْ شِمالِهِ جَوادٌ، وثَمَّ رِجالٌ يَدْعُونَ مَن مَرَّ بِهِمْ، فَمَن أخَذَ في تِلْكَ الجَوادِ انْتَهَتْ بِهِ إلى النّارِ، ومَن أخَذَ عَلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ انْتَهى بِهِ إلى الجَنَّةِ، ثُمَّ قَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: ﴿وأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ﴾ الآيَةَ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ﴿ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾ قالَ: الضَّلالاتُ.
{"ayahs_start":151,"ayahs":["۞ قُلۡ تَعَالَوۡا۟ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَیۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُوا۟ بِهِۦ شَیۡـࣰٔاۖ وَبِٱلۡوَ ٰلِدَیۡنِ إِحۡسَـٰنࣰاۖ وَلَا تَقۡتُلُوۤا۟ أَوۡلَـٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَـٰقࣲ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِیَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُوا۟ ٱلۡفَوَ ٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُوا۟ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِی حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَ ٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ","وَلَا تَقۡرَبُوا۟ مَالَ ٱلۡیَتِیمِ إِلَّا بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ یَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُوا۟ ٱلۡكَیۡلَ وَٱلۡمِیزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ لَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَاۖ وَإِذَا قُلۡتُمۡ فَٱعۡدِلُوا۟ وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰۖ وَبِعَهۡدِ ٱللَّهِ أَوۡفُوا۟ۚ ذَ ٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ","وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَ ٰطِی مُسۡتَقِیمࣰا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُوا۟ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِیلِهِۦۚ ذَ ٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ"],"ayah":"۞ قُلۡ تَعَالَوۡا۟ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَیۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُوا۟ بِهِۦ شَیۡـࣰٔاۖ وَبِٱلۡوَ ٰلِدَیۡنِ إِحۡسَـٰنࣰاۖ وَلَا تَقۡتُلُوۤا۟ أَوۡلَـٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَـٰقࣲ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِیَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُوا۟ ٱلۡفَوَ ٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُوا۟ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِی حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَ ٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق