قَوْلُهُ: ﴿أفَغَيْرَ اللَّهِ﴾ الِاسْتِفْهامُ لِلْإنْكارِ، والفاءُ لِلْعَطْفِ عَلى فِعْلٍ مُقَدَّرٍ، والكَلامُ هو عَلى إرادَةِ القَوْلِ، والتَّقْدِيرُ: قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ كَيْفَ أضِلُّ وأبْتَغِي غَيْرَ اللَّهِ حَكَمًا ؟ و" غَيْرَ " مَفْعُولٌ لِأبْتَغِيَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، و" حَكَمًا " المَفْعُولُ الثّانِي أوِ العَكْسِ.
ويَجُوزُ أنْ يَنْتَصِبَ " حَكَمًا " عَلى الحالِ، والحَكَمُ أبْلَغُ مِنَ الحاكِمِ كَما تَقَرَّرَ في مِثْلِ هَذِهِ الصِّفَةِ المُشْتَقَّةِ.
أمَرَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ ما طَلَبُوهُ مِنهُ مِن أنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وبَيْنَهم حَكَمًا فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ، وإنَّ اللَّهَ هو الحَكَمُ العَدْلُ بَيْنَهُ وبَيْنَهم، وجُمْلَةُ ﴿وهُوَ الَّذِي أنْزَلَ إلَيْكُمُ الكِتابَ مُفَصَّلًا﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ: أيْ كَيْفَ أطْلُبُ حَكَمًا غَيْرَ اللَّهِ وهو الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكُمُ القُرْآنَ مُفَصَّلًا مُبَيَّنًا واضِحًا مُسْتَوْفِيًا لِكُلِّ قَضِيَّةٍ عَلى التَّفْصِيلِ، ثُمَّ أخْبَرَ نَبِيَّهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - بِأنَّ أهْلَ الكِتابِ وإنْ أظْهَرُوا الجُحُودَ والمُكابَرَةَ، فَإنَّهم يَعْلَمُونَ أنَّ القُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ بِما دَلَّتْهم عَلَيْهِ كُتُبُ اللَّهِ المُنَزَّلَةُ كالتَّوْراةِ والإنْجِيلِ مِن أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وأنَّهُ خاتَمُ الأنْبِياءِ، وبِالحَقِّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا: أيْ مُتَلِبِّسًا بِالحَقِّ الَّذِي لا شَكَّ فِيهِ ولا شُبْهَةَ ثُمَّ نَهاهُ عَنْ أنْ يَكُونَ مِنَ المُمْتَرِينَ في أنَّ أهْلَ الكِتابِ يَعْلَمُونَ بِأنَّ القُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ بِالحَقِّ أوْ نَهاهُ عَنْ مُطْلَقِ الِامْتِراءِ ويَكُونُ ذَلِكَ تَعْرِيضًا لِأُمَّتِهِ عَنْ أنْ يَمْتَرِيَ أحَدٌ مِنهم، أوِ الخِطابُ لِكُلِّ مَن يَصْلُحُ لَهُ: أيْ فَلا يَكُونَنَّ أحَدٌ مِنَ النّاسِ مِنَ المُمْتَرِينَ ولا يَقْدَحُ في ذَلِكَ كَوْنُ الخِطابِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَإنَّ خِطابَهُ خِطابٌ لِأُمَّتِهِ.
قَوْلُهُ: ( وتَمَّتْ كَلِماتُ رَبِّكَ صِدْقًا وعَدَلا ) .
قَرَأ أهْلُ الكُوفَةِ كَلِمَةً بِالتَّوْحِيدِ، وقَرَأ الباقُونَ بِالجَمْعِ، والمُرادُ بِالكَلِماتِ العِباراتُ أوْ مُتَعَلِّقاتُها مِنَ الوَعْدِ والوَعِيدِ.
والمَعْنى: أنَّ اللَّهَ قَدْ أتَمَّ وعْدَهُ ووَعِيدَهُ، فَظَهَرَ الحَقُّ وانْطَمَسَ الباطِلُ، وقِيلَ: المُرادُ بِالكَلِمَةِ أوِ الكَلِماتِ القُرْآنُ، و﴿صِدْقًا وعَدْلًا﴾ مُنْتَصِبانِ عَلى التَّمْيِيزِ أوِ الحالِ أوْ عَلى أنَّهُما نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ: أيْ تَمامُ صِدْقٍ وعَدْلٍ ﴿لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ﴾ لا خُلْفَ فِيها ولا مُغَيِّرَ لِما حَكَمَ بِهِ، والجُمْلَةُ المَنفِيَّةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ أوْ مُسْتَأْنَفَةٌ ﴿وهُوَ السَّمِيعُ﴾ لِكُلِّ مَسْمُوعٍ ﴿العَلِيمُ﴾ بِكُلِّ مَعْلُومٍ.
قَوْلُهُ: ١١٦ - ﴿وإنْ تُطِعْ أكْثَرَ مَن في الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أخْبَرَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ بِأنَّهُ إذا رامَ طاعَةَ أكْثَرَ مَن في الأرْضِ أضَلُّوهُ، لِأنَّ الحَقَّ لا يَكُونُ إلّا بِيَدِ الأقَلِّينَ، ومِنهُمُ الطّائِفَةُ الَّتِي تَزالُ عَلى الحَقِّ ولا يَضُرُّها خِلافُ مَن يُخالِفُها، كَما ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -، وقِيلَ: المُرادُ بِالأكْثَرِ الكُفّارُ، وقِيلَ: (p-٤٤٤)المُرادُ بِالأرْضِ مَكَّةَ: أيْ أكْثَرَ أهْلِ مَكَّةَ، ثُمَّ عَلَّلَ ذَلِكَ سُبْحانَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنْ يَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ﴾ أيْ ما يَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ الَّذِي لا أصْلَ لَهُ، وهو ظَنُّهم أنَّ مَعْبُوداتِهِمْ تَسْتَحِقُّ العِبادَةَ وأنَّها تُقَرِّبُهم إلى اللَّهِ ﴿وإنْ هم إلّا يَخْرُصُونَ﴾ أيْ وما هم إلّا يَخْرُصُونَ: أيْ يَحْدِسُونَ ويُقَدِّرُونَ، وأصْلُ الخَرْصِ القَطْعُ، ومِنهُ خَرَصَ النَّخْلَ يَخْرُصُ: إذا حَزَرَهُ لِيَأْخُذَ مِنهُ الزَّكاةَ، فالخارِصُ يَقْطَعُ بِما لا يَجُوزُ القَطْعُ بِهِ إذْ لا يَقِينَ مِنهُ، وإذا كانَ هَذا حالَ أكْثَرِ مَن في الأرْضِ فالعِلْمُ الحَقِيقِيُّ هو عِنْدَ اللَّهِ، فاتَّبِعْ ما أمَرَكَ بِهِ ودَعْ عَنْكَ طاعَةَ غَيْرِهِ، وهو العالِمُ بِمَن يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ ومَن يَهْتَدِي إلَيْهِ.
قالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: إنَّ أعْلَمُ في المَوْضِعَيْنِ بِمَعْنى يَعْلَمُ، قالَ ومِنهُ قَوْلُ حاتِمٍ الطّائِيِّ:
؎فَحالَفَتْ طَيُّ مِن دُونِنا حِلْفًا واللَّهُ أعْلَمُ ما كُنّا لَهم خُولا
والوَجْهُ في هَذا التَّأْوِيلِ أنْ أفْعَلَ التَّفْضِيلِ لا يَنْصِبُ الِاسْمَ الظّاهِرَ، فَتَكُونُ مِن مَنصُوبَةً بِالفِعْلِ الَّذِي جُعِلَ أفْعَلُ التَّفْضِيلِ نائِبًا عَنْهُ، وقِيلَ: إنَّ أفْعَلَ التَّفْضِيلِ عَلى بابِهِ والنَّصْبُ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، وقِيلَ: إنَّها مَنصُوبَةٌ بِأفْعَلِ التَّفْضِيلِ أيْ إنَّ رَبَّكَ أعْلَمُ أيُّ النّاسِ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ، وقِيلَ: في مَحَلِّ نَصْبٍ بِنَزْعِ الخافِضِ: أيْ بِمَن يَضِلُّ قالَهُ بَعْضُ البَصْرِيِّينَ، وقِيلَ: في مَحَلِّ جَرِّ بِإضافَةِ أفْعَلِ التَّفْضِيلِ إلَيْها.
وقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ قَتادَةَ، في قَوْلِهِ: ﴿مُفَصَّلًا﴾ قالَ: مُبَيَّنًا.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ قَتادَةَ، في قَوْلِهِ: ﴿صِدْقًا وعَدْلًا﴾ قُلْ: صِدْقًا فِيما وعَدَ، وعَدْلًا فِيما حَكَمَ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، وأبُو نَصْرٍ السَّجْزِيُّ في الإنابَةِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ في قَوْلِهِ: ﴿لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ﴾ قالَ: لا تَبْدِيلَ لِشَيْءٍ قالَهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ لِقَوْلِهِ: ﴿ما يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ﴾ [ق: ٢٩] .
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وابْنُ النَّجّارِ عَنْ أنَسٍ «عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - في قَوْلِهِ: ﴿وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وعَدْلًا﴾ قالَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ» .
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ أبِي اليَمانِ عامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ المَسْجِدَ الحَرامَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ومَعَهُ مِخْصَرَةٌ، ولِكُلِّ قَوْمٍ صَنَمٌ يَعْبُدُونَهُ، فَجَعَلَ يَأْتِيها صَنَمًا صَنَمًا ويَطْعَنُ في صَدْرِ الصَّنَمِ بِعَصا ثُمَّ يَعْقِرُهُ، فَكُلَّما طَعَنَ صَنَمًا أتْبَعَهُ ضَرْبًا بِالقَوْسِ حَتّى يَكْسِرُوهُ ويَطْرَحُوهُ خارِجًا مِنَ المَسْجِدِ، والنَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - يَقُولُ: ﴿وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وهو السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾» .
{"ayahs_start":114,"ayahs":["أَفَغَیۡرَ ٱللَّهِ أَبۡتَغِی حَكَمࣰا وَهُوَ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ إِلَیۡكُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ مُفَصَّلࣰاۚ وَٱلَّذِینَ ءَاتَیۡنَـٰهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ یَعۡلَمُونَ أَنَّهُۥ مُنَزَّلࣱ مِّن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُمۡتَرِینَ","وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقࣰا وَعَدۡلࣰاۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَـٰتِهِۦۚ وَهُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ","وَإِن تُطِعۡ أَكۡثَرَ مَن فِی ٱلۡأَرۡضِ یُضِلُّوكَ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِۚ إِن یَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ هُمۡ إِلَّا یَخۡرُصُونَ","إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ مَن یَضِلُّ عَن سَبِیلِهِۦۖ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِینَ"],"ayah":"إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ مَن یَضِلُّ عَن سَبِیلِهِۦۖ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِینَ"}