الباحث القرآني

لَمّا فَرَغَ سُبْحانَهُ مِن ذِكْرِ الطَّبَقاتِ الثَّلاثِ مِنَ المُؤْمِنِينَ، ذَكَرَ ما جَرى بَيْنَ المُنافِقِينَ واليَهُودِ مِنَ المُقاوَلَةِ لِتَعْجِيبِ المُؤْمِنِينَ مِن حالِهِمْ، فَقالَ: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ نافَقُوا﴾ والخِطابُ لِرَسُولِ اللَّهِ، أوْ لِكُلِّ مَن يَصْلُحُ لَهُ، والَّذِينَ نافَقُوا هم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وأصْحابُهُ، وجُمْلَةُ ﴿يَقُولُونَ لِإخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيانِ المُتَعَجَّبِ مِنهُ، والتَّعْبِيرُ بِالمُضارِعِ لِاسْتِحْضارِ الصُّورَةِ أوْ لِلدَّلالَةِ (p-١٤٧٨)عَلى الِاسْتِمْرارِ، وجَعَلَهم إخْوانًا لَهم لِكَوْنِ الكُفْرِ قَدْ جَمَعَهم، وإنِ اخْتَلَفَ نَوْعُ كُفْرِهِمْ فَهم إخْوانٌ في الكُفْرِ، واللّامُ في ﴿لِإخْوانِهِمُ﴾ هي لامُ التَّبْلِيغِ، وقِيلَ: هو مِن قَوْلِ بَنِي النَّضِيرِ لِبَنِي قُرَيْظَةَ، والأوَّلُ أوْلى؛ لِأنَّ بَنِي النَّضِيرِ وبَنِي قُرَيْظَةَ هم يَهُودُ، والمُنافِقُونَ غَيْرُهم، واللّامُ في قَوْلِهِ: ﴿لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ﴾ هي المُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ: أيْ واللَّهِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ مِن دِيارِكم لِنَخْرُجَنَّ مَعَكم، هَذا جَوابُ القَسَمِ: أيْ لِنَخْرُجَنَّ مِن دِيارِنا في صُحْبَتِكم ﴿ولا نُطِيعُ فِيكُمْ﴾ أيْ في شَأْنِكم، ومِن أجْلِكم أحَدًا مِمَّنْ يُرِيدُ أنْ يَمْنَعَنا مِنَ الخُرُوجِ مَعَكم وإنْ طالَ الزَّمانُ، وهو مَعْنى قَوْلِهِ: أبَدًا ثُمَّ لَمّا وعَدُوهم بِالخُرُوجِ مَعَهم وعَدُوهم بِالنُّصْرَةِ لَهم، فَقالُوا: ﴿وإنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ﴾ عَلى عَدِوِّكم. ثُمَّ كَذَّبَهم سُبْحانَهُ فَقالَ: ﴿واللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهم لَكاذِبُونَ﴾ فِيما وعَدُوهم بِهِ مِنَ الخُرُوجِ مَعَهم والنُّصْرَةِ لَهم. ثُمَّ لَمّا أجَمَلَ كَذِبَهم فِيما وعَدُوا بِهِ فَصَّلَ ما كَذَبُوا فِيهِ فَقالَ: ﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهم ولَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهم﴾ وقَدْ كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ، فَإنَّ المُنافِقِينَ لَمْ يَخْرُجُوا مَعَ مَن أُخْرِجَ مِنَ اليَهُودِ وهم بَنُو النَّضِيرِ ومَن مَعَهم ولَمْ يَنْصُرُوا مَن قُوتِلَ مِنَ اليَهُودِ وهم بَنُو قُرَيْظَةَ وأهْلُ خَيْبَرَ ﴿ولَئِنْ نَصَرُوهُمْ﴾ أيْ لَوْ قُدِّرَ وُجُودُ نَصْرِهِمْ إيّاهم؛ لِأنَّ ما نَفاهُ اللَّهُ لا يَجُوزُ وُجُودُهُ. قالَ الزَّجّاجُ: مَعْناهُ لَوْ قَصَدُوا نَصْرَ اليَهُودِ لَيُوَلُّنَّ الأدْبارَ مُنْهَزِمِينَ ﴿ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ﴾ يَعْنِي اليَهُودَ لا يَصِيرُونَ مَنصُورِينَ إذا انْهَزَمَ ناصِرُهم، وهُمُ المُنافِقُونَ، وقِيلَ: يَعْنِي لا يَصِيرُ المُنافِقُونَ مَنصُورِينَ بَعْدَ ذَلِكَ، بَلْ يُذِلُّهُمُ اللَّهُ ولا يَنْفَعُهم نِفاقُهم، وقِيلَ: مَعْنى الآيَةِ: لا يَنْصُرُونَهم طائِعِينَ ﴿ولَئِنْ نَصَرُوهُمْ﴾ مُكْرَهِينَ لِيُوَلُّنَّ الأدْبارَ، وقِيلَ: مَعْنى ﴿لا يَنْصُرُونَهُمْ﴾: لا يَدُومُونَ عَلى نَصْرِهِمْ، والأوَّلُ أوْلى، ويَكُونُ مِن بابِ قَوْلِهِ: ﴿ولَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ﴾ . ﴿لَأنْتُمْ أشَدُّ رَهْبَةً في صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ﴾ أيْ لَأنْتَمْ يا مَعاشِرَ المُسْلِمِينَ أشَدُّ خَوْفًا وخَشْيَةً في صُدُورِ المُنافِقِينَ، أوْ صُدُورِ اليَهُودِ، أوْ صُدُورِ الجَمِيعِ مِنَ اللَّهِ: أيْ مِن رَهْبَةِ اللَّهِ، والرَّهْبَةُ هُنا بِمَعْنى المَرْهُوبِيَّةِ، لِأنَّها مَصْدَرٌ مِنَ المَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، وانْتِصابُها عَلى التَّمْيِيزِ ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ﴾ أيْ ما ذُكِرَ مِنَ الرَّهْبَةِ المَوْصُوفَةِ بِسَبَبِ عَدَمِ فِقْهِهِمْ لِشَيْءٍ مِنَ الأشْياءَ ولَوْ كانَ لَهم فِقْهٌ لَعَلِمُوا أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ هو الَّذِي سَلَّطَكم عَلَيْهِمْ، فَهو أحَقُّ بِالرَّهْبَةِ مِنهُ دُونَكم. ثُمَّ أخْبَرَ سُبْحانَهُ بِمَزِيدِ فَشَلِهِمْ وضَعْفِ نِكايَتِهِمْ فَقالَ: ﴿لا يُقاتِلُونَكم جَمِيعًا﴾ يَعْنِي لا يَبْرُزُ اليَهُودُ والمُنافِقُونَ مُجْتَمِعِينَ لِقِتالِكم ولا يَقْدِرُونَ عَلى ذَلِكَ إلّا في قُرًى مُحَصَّنَةٍ بِالدُّرُوبِ والدُّورِ ﴿أوْ مِن وراءِ جُدُرٍ﴾ أيْ مِن خَلْفِ الحِيطانِ الَّتِي يَسْتَتِرُونَ بِها لِجُبْنِهِمْ ورَهْبَتِهِمْ. قَرَأ الجُمْهُورُ جُدُرٍ بِالجَمْعِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، وابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو " جِدارٍ " بِالإفْرادِ. واخْتارَ القِراءَةَ الأُولى أبُو عُبِيدٍ، وأبُو حاتِمٍ لِأنَّها مُوافِقَةٌ لِقَوْلِهِ ﴿قُرًى مُحَصَّنَةٍ﴾ . وقَرَأ بَعْضُ المَكِّيِّينَ " جَدْرٍ " بِفَتْحِ الجِيمِ وإسْكانِ الدّالِّ، وهي لُغَةٌ في الجِدارِ. ﴿بَأْسُهم بَيْنَهم شَدِيدٌ﴾ أيْ بَعْضُهم غَلِيظٌ فَظٌّ عَلى بَعْضٍ، قُلُوبُهم مُخْتَلِفَةٌ ونِيّاتُهم مُتَبايِنَةٌ. قالَ السُّدِّيُّ: المُرادُ اخْتِلافُ قُلُوبِهِمْ حَتّى لا يَتَّفِقُوا عَلى أمْرٍ واحِدٍ. وقالَ مُجاهِدٌ: بَأْسُهم بَيْنَهم شَدِيدٌ بِالكَلامِ والوَعِيدِ لِيَفْعَلُنَّ كَذا. والمَعْنى: أنَّهم إذا انْفَرَدُوا نَسَبُوا أنْفُسَهم إلى الشِّدَّةِ والبَأْسِ، وإذا لاقُوا عَدُوًّا ذَلُّوا وخَضَعُوا وانْهَزَمُوا، وقِيلَ: المَعْنى أنَّ بَأْسَهم بِالنِّسْبَةِ إلى أقْرانِهِمْ شَدِيدٌ، وإنَّما ضَعْفُهم بِالنِّسْبَةِ إلَيْكم لِما قَذَفَ اللَّهُ في قُلُوبِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ، والأوَّلُ أوْلى لِقَوْلِهِ: ﴿تَحْسَبُهم جَمِيعًا وقُلُوبُهم شَتّى﴾ فَإنَّهُ يَدُلُّ عَلى أنَّ اجْتِماعَهم إنَّما هو في الظّاهِرِ مَعَ تَخالُفِ قُلُوبِهِمْ في الباطِنِ، وهَذا التَّخالُفُ هو البَأْسُ الَّذِي بَيْنَهُمُ المَوْصُوفُ بِالشِّدَّةِ، ومَعْنى " شَتّى " مُتَفَرِّقَةٌ، قالَ مُجاهِدٌ: يَعْنِي اليَهُودَ والمُنافِقِينَ تَحْسَبُهم جَمِيعًا وقُلُوبُهم شَتّى. ورُوِيَ عَنْهُ أيْضًا أنَّهُ قالَ: المُرادُ المُنافِقُونَ. وقالَ الثَّوْرِيُّ: هُمُ المُشْرِكُونَ وأهْلُ الكِتابِ. قالَ قَتادَةَ: ﴿تَحْسَبُهم جَمِيعًا﴾ أيْ: مُجْتَمِعِينَ عَلى أمْرٍ ورَأْيٍ، ﴿وقُلُوبُهم شَتّى﴾ مُتَفَرِّقَةٌ، فَأهْلُ الباطِلِ مُخْتَلِفَةٌ آراؤُهم مُخْتَلِفَةٌ شَهادَتُهم مُخْتَلِفَةٌ أهْواؤُهم، وهم مُجْتَمِعُونَ في عَداوَةِ أهْلِ الحَقِّ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ " وقُلُوبُهم أشَتُّ " أيْ أشَدُّ اخْتِلافًا ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ﴾ أيْ: ذَلِكَ الِاخْتِلافَ والتَّشَتُّتِ بِسَبَبِ أنَّهم قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا ولَوْ عَقَلُوا لَعَرَفُوا الحَقَّ واتَّبَعُوهُ. ﴿كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ أيْ مِثَلُهم كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ، والمَعْنى: أنَّ مَثَلَ المُنافِقِينَ واليَهُودِ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِن كُفّارِ المُشْرِكِينَ قَرِيبًا يَعْنِي في زَمانٍ قَرِيبٍ، وانْتِصابُ قَرِيبًا عَلى الظَّرْفِيَّةِ أيْ: يُشْبِهُونَهم في زَمَنٍ قَرِيبٍ، وقِيلَ: العامِلُ فِيهِ " ذاقُوا "، أيْ: ذاقُوا في زَمَنٍ قَرِيبٍ، ومَعْنى ﴿ذاقُوا وبالَ أمْرِهِمْ﴾ أيْ سُوءَ عاقِبَةِ كُفْرِهِمْ في الدُّنْيا بِقَتْلِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وكانَ ذَلِكَ قَبْلَ غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ بِسِتَّةِ أشْهُرٍ، قالَهُ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ، وقِيلَ: المُرادُ بَنُو النَّضِيرِ حَيْثُ أمْكَنَ اللَّهُ مِنهم، قالَهُ قَتادَةُ. وقِيلَ: قَتْلُ بَنِي قُرَيْظَةَ، قالَهُ الضَّحّاكُ. وقِيلَ: هو عامٌّ في كُلِّ مَنِ انْتَقَمَ اللَّهُ مِنهُ بِسَبَبِ كُفْرِهِ، والأوَّلُ أوْلى ﴿ولَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ أيْ في الآخِرَةِ. ثُمَّ ضَرَبَ لِلْيَهُودَ والمُنافِقِينَ مَثَلًا آخَرَ فَقالَ: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إذْ قالَ لِلْإنْسانِ اكْفُرْ﴾ أيْ مَثَلُهم في تَخاذُلِهِمْ وعَدَمِ تَناصُرِهِمْ، فَهو إمّا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أوْ خَبَرٌ آخَرُ لِلْمُبْتَدَأِ المُقَدَّرِ قَبْلَ قَوْلِهِ: ﴿كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ عَلى تَقْدِيرِ حَذْفِ حَرْفِ العَطْفِ كَما تَقُولُ: أنْتَ عاقِلٌ، أنْتَ عامِلٌ، أنْتَ كَرِيمٌ. وقِيلَ: المَثَلُ الأوَّلُ خاصٌّ بِاليَهُودِ، والثّانِي خاصٌّ بِالمُنافِقِينَ، وقِيلَ: المَثَلُ الثّانِي بَيانٌ لِلْمَثَلِ الأوَّلِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ وجْهَ الشَّبَهِ فَقالَ: إذْ قالَ لِلْإنْسانِ اكْفُرْ أيْ أغْراهُ بِالكُفْرِ وزَيَّنَهُ لَهُ وحَمَلَهُ عَلَيْهِ، والمُرادُ بِالإنْسانِ هُنا جِنْسُ مَن أطاعَ الشَّيْطانَ مِن نَوْعِ الإنْسانِ، وقِيلَ: هو عابِدٌ كانَ في بَنِي إسْرائِيلَ حَمَلَهُ الشَّيْطانُ عَلى الكُفْرِ فَأطاعَهُ ﴿فَلَمّا كَفَرَ قالَ إنِّي بَرِيءٌ مِنكَ﴾ أيْ فَلَمّا كَفَرَ الإنْسانُ مُطاوَعَةً لِلشَّيْطانِ، وقَبُولًا لِتَزْيِينِهِ قالَ الشَّيْطانُ إنِّي بَرِيءٌ مِنكَ، وهِذا يَكُونُ مِنهُ يَوْمَ القِيامَةِ، وجُمْلَةُ ﴿إنِّي أخافُ اللَّهَ رَبَّ العالَمِينَ﴾ تَعْلِيلٌ (p-١٤٧٩)لِبَراءَتِهِ مِنَ الإنْسانِ بَعْدَ كُفْرِهِ، وقِيلَ: المُرادُ بِالإنْسانِ هُنا أبُو جَهْلٍ، والأوَّلُ أوْلى. قالَ مُجاهِدٌ: المُرادُ بِالإنْسانِ هُنا جَمِيعُ النّاسِ في غُرُورِ الشَّيْطانِ إيّاهم، قِيلَ: ولَيْسَ قَوْلُ الشَّيْطانِ إنِّي أخافُ اللَّهَ عَلى حَقِيقَتِهِ، إنَّما هو عَلى وجْهِ التَّبَرِّي مِنَ الإنْسانِ فَهو تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: ﴿إنِّي بَرِيءٌ مِنكَ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ " إنِّي " بِإسْكانِ الياءِ. وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو بِفَتْحِها. ﴿فَكانَ عاقِبَتَهُما أنَّهُما في النّارِ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ ﴿عاقِبَتَهُما﴾ بِالنَّصْبِ عَلى أنَّهُ خَبَرُ " كانَ "، واسْمُها: ﴿أنَّهُما في النّارِ﴾ . وقَرَأ الحَسَنُ، وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ بِالرَّفْعِ عَلى أنَّها اسْمُ كانَ، والخَبَرُ ما بَعْدَهُ، والمَعْنى فَكانَ عاقِبَةُ الشَّيْطانِ، وذَلِكَ الإنْسانِ الَّذِي كَفَرَ أنَّهُما صائِرانِ إلى النّارِ خالِدَيْنِ فِيها قَرَأ الجُمْهُورُ خالِدَيْنِ بِالنَّصْبِ عَلى الحالِ، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، والأعْمَشُ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ " خالِدانِ " عَلى أنَّهُ خَبَرُ " أنَّ " والظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ ﴿وذَلِكَ جَزاءُ الظّالِمِينَ﴾ أيِ الخُلُودُ في النّارِ جَزاءُ الظّالِمِينَ، ويَدْخُلُ هَؤُلاءِ فِيهِمْ دُخُولًا أوَلِيًّا. ثُمَّ رَجَعَ سُبْحانَهُ إلى خِطابِ المُؤْمِنِينَ بِالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ فَقالَ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ أيِ اتَّقُوا عِقابَهُ بِفِعْلِ ما أمَرَكم بِهِ وتَرْكِ ما نَهاكم عَنْهُ ﴿ولْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ أيْ لِتَنْظُرَ أيَّ شَيْءٍ قَدَّمَتْ مِنَ الأعْمالِ لِيَوْمِ القِيامَةِ، والعَرَبُ تُكَنِّي عَنِ المُسْتَقْبَلِ بِالغَدِ، وقِيلَ: ذِكْرُ الغَدِ تَنْبِيهًا عَلى قُرْبِ السّاعَةِ ﴿واتَّقُوا اللَّهَ﴾ كَرَّرَ الأمْرَ بِالتَّقْوى لِلتَّأْكِيدِ ﴿إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾ لا تَخْفى عَلَيْهِ مِن ذَلِكَ خافِيَةٌ، فَهو مُجازِيكم بِأعْمالِكم إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وإنْ شَرًّا فَشَرٌّ. ﴿ولا تَكُونُوا كالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ﴾ أيْ تَرَكُوا أمْرَهُ، أوْ ما قَدَرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ، أوْ لَمْ يَخافُوهُ، أوْ جَمِيعُ ذَلِكَ ﴿فَأنْساهم أنْفُسَهُمْ﴾ أيْ جَعَلَهم ناسِينَ لَها بِسَبَبِ نِسْيانِهِمْ لَهُ، فَلَمْ يَشْتَغِلُوا بِالأعْمالِ الَّتِي تُنْجِيهم مِنَ العَذابِ، ولَمْ يَكُفُّوا عَنِ المَعاصِي الَّتِي تُوقِعُهم فِيهِ، فَفي الكَلامِ مُضافٌ مَحْذُوفٌ: أيْ أنْساهم حُظُوظَ أنْفُسِهِمْ. قالَ سُفْيانُ: نَسُوا حَقَّ اللَّهِ فَأنْساهم حَقَّ أنْفُسِهِمْ، وقِيلَ: نَسُوا اللَّهَ في الرَّخاءِ فَأنْساهم أنْفُسَهم في الشَّدائِدِ ﴿أُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ أيِ الكامِلُونَ في الخُرُوجِ عَنْ طاعَةِ اللَّهِ. ﴿لا يَسْتَوِي أصْحابُ النّارِ وأصْحابُ الجَنَّةِ﴾ في الفَضْلِ والرُّتْبَةِ، والمُرادُ الفَرِيقانِ عَلى العُمُومِ، فَيَدْخُلُ في فَرِيقِ أهْلِ النّارِ مَن نَسِيَ اللَّهَ مِنهم دُخُولًا أوَلِيًّا، ويَدْخُلُ في فَرِيقِ أهْلِ الجَنَّةِ الَّذِينَ اتَّقَوْا دُخُولًا أوَلِيًّا لِأنَّ السِّياقَ فِيهِمْ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ في مَعْنى مِثْلِ هَذِهِ الآيَةِ في سُورَةِ المائِدَةِ، وفي سُورَةِ السَّجْدَةِ، وفي سُورَةِ ص. ثُمَّ أخْبَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى عَنْ أصْحابِ الجَنَّةِ بَعْدَ نَفْيِ التَّساوِي بَيْنَهم وبَيْنَ أهْلِ النّارِ، فَقالَ: ﴿أصْحابُ الجَنَّةِ هُمُ الفائِزُونَ﴾ أيِ الظّافِرُونَ بِكُلِّ مَطْلُوبٍ النّاجُونَ مِن كُلِّ مَكْرُوهٍ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ نافَقُوا﴾ قالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولٍ، ورِفاعَةُ بْنُ تابُوتٍ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتَلَ، وأوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ، وإخْوانُهم بَنُو النَّضِيرِ. وأخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ، وابْنُ المُنْذِرِ، وأبُو نُعَيْمٍ في الدَّلائِلِ عَنْهُ «أنَّ رَهْطًا مِن بَنِي عَوْفِ بْنِ الحارِثِ مِنهم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولٍ، ووَدِيعَةُ بْنُ مالِكٍ، وسُوِيدٌ، وداعِسٌ بُعِثُوا إلى بَنِي النَّضِيرِ أنِ اثْبَتُوا وتَمَنَّعُوا فَإنَّنا لا نُسَلِّمُكم وإنْ قُوتِلْتُمْ قاتَلْنا مَعَكم وإنْ أُخْرِجْتُمْ خَرَجْنا مَعَكم، فَتَرَبَّصُوا ذَلِكَ مِن نَصْرِهِمْ فَلَمْ يَفْعَلُوا، وقَذَفَ اللَّهُ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَسَألُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أنْ يُجْلِيَهم ويَكُفَّ عَنْ دِمائِهِمْ، عَلى أنَّ لَهم ما حَمَلَتِ الإبِلُ إلّا الحَلْقَةَ، فَفَعَلَ فَكانَ الرَّجُلُ مِنهم يَهْدِمُ بَيْتَهُ فَيَضَعُهُ عَلى ظَهْرِ بَعِيرٍ فَيَنْطَلِقُ بِهِ، فَخَرَجُوا إلى خَيْبَرَ، ومِنهم مَن سارَ إلى الشّامِ» . وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿تَحْسَبُهم جَمِيعًا وقُلُوبُهم شَتّى﴾ قالَ: هُمُ المُشْرِكُونَ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وابْنُ راهَوَيْهِ، وأحْمَدُ في الزُّهْدِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والبُخارِيُّ في تارِيخِهِ وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ أنَّ رَجُلًا كانَ يَتَعَبَّدُ في صَوْمَعَةٍ وأنَّ امْرَأةً كانَ لَها إخْوَةٌ، فَعَرَضَ لَها شَيْءٌ فَأتَوْهُ بِها فَزَيَّنَتْ لَهُ نَفْسُهُ فَوَقَعَ عَلَيْها فَحَمَلَتْ، فَجاءَهُ الشَّيْطانُ، فَقالَ: اقْتُلْها فَإنَّهم إنْ ظَهَرُوا عَلَيْكَ افْتَضَحْتَ فَقَتَلَها ودَفَنَها، فَجاءُوا فَأخَذُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ، فَبَيْنَما هم يَمْشُونَ إذْ جاءَهُ الشَّيْطانُ فَقالَ: إنِّي أنا الَّذِي زَيَّنْتُ لَكَ فاسْجُدْ لِي سَجْدَةً أُنْجِكَ، فَسَجَدَ لَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إذْ قالَ لِلْإنْسانِ اكْفُرْ﴾ الآيَةَ. قُلْتُ: وهَذا لا يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذا الإنْسانَ هو المَقْصُودُ بِالآيَةِ، بَلْ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ مِن جُمْلَةِ مَن تَصْدُقُ عَلَيْهِ. وقَدْ أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ بِأطْوَلَ مِن هَذا، ولَيْسَ فِيهِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ المَقْصُودُ بِالآيَةِ. وأخْرَجَهُ بِنَحْوِهِ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ في قَوْلِهِ: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطانِ﴾ قالَ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَ الكُفّارِ والمُنافِقِينَ الَّذِينَ كانُوا عَلى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إذْ قالَ لِلْإنْسانِ اكْفُرْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب