الباحث القرآني

وهي مَكِّيَّةٌ في قَوْلِ الحَسَنِ، وعِكْرِمَةَ، وجابِرٍ، وعَطاءٍ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ: إلّا آيَةً مِنها نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ وهي قَوْلُهُ تَعالى: " وتَجْعَلُونَ رِزْقَكم أنَّكم تُكَذِّبُونَ " وقالَ الكَلْبِيُّ: إنَّها مَكِّيَّةٌ إلّا أرْبَعَ آياتٍ مِنها، وهي أفَبِهَذا الحَدِيثِ أنْتُمْ مُدْهِنُونَ وتَجْعَلُونَ رِزْقَكم أنَّكم تُكَذِّبُونَ وقَوْلُهُ: ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ وقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ وأخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ، والنَّحّاسُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الواقِعَةِ بِمَكَّةَ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ في فَضائِلِهِ وابْنُ الضُّرَيْسِ، والحارِثُ بْنُ أبِي أُسامَةَ، وأبُو يَعْلى، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَن قَرَأ سُورَةَ الواقِعَةِ كُلَّ لَيْلَةٍ لَمْ تُصِبْهُ فاقَةٌ أبَدًا» . وأخْرَجَ ابْنُ عَساكِرَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قالَ: «سُورَةُ الواقِعَةِ سُورَةُ الغِنى، فاقْرَءُوها وعَلِّمُوها أوْلادَكم» . وأخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أنَسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «عَلِّمُوا نِسائَكم سُورَةَ الواقِعَةِ فَإنَّها سُورَةُ الغِنى»، وقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ ﷺ: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ والواقِعَةُ» اهـ. (p-١٤٤٣)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْلُهُ ﴿إذا وقَعَتِ الواقِعَةُ﴾، الواقِعَةُ اسْمٌ لِلْقِيامَةِ كالآزِفَةِ وغَيْرِها، وسُمِّيَتْ واقِعَةً لِأنَّها كائِنَةٌ لا مَحالَةَ، أوْ لِقُرْبِ وُقُوعِها، أوْ لِكَثْرَةِ ما يَقَعُ فِيها مِنَ الشَّدائِدِ، وانْتِصابُ " إذا " بِمُضْمَرٍ: أيِ اذْكُرْ وقْتَ وُقُوعِ الواقِعَةِ. أوْ بِالنَّفْيِ المَفْهُومِ مِن قَوْلِهِ: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ أيْ لا يَكُونُ عِنْدَ وُقُوعِها تَكْذِيبٌ، والكاذِبَةُ مَصْدَرٌ كالعاقِبَةِ: أيْ لَيْسَ لِمَجِيئِها وظُهُورِها كَذِبٌ أصْلًا، وقِيلَ إذا شَرْطِيَّةٌ وجَوابُها مُقَدَّرٌ: أيْ إذا وقَعَتْ كانَ كَيْتَ وكَيْتَ، والجَوابُ هَذا هو العامِلُ فِيها، وقِيلَ إنَّها شَرْطِيَّةٌ، والعامِلُ فِيها الفِعْلُ الَّذِي بَعْدَها، واخْتارَ هَذا أبُو حَيّانَ، وقَدْ سَبَقَهُ إلى هَذا مَكِّيٌّ فَقالَ: والعامِلُ " وقَعَتْ " . قالَ المُفَسِّرُونَ: والواقِعَةُ هُنا هي النَّفْخَةُ الآخِرَةُ، ومَعْنى الآيَةِ: أنَّها إذا وقَعَتِ النَّفْخَةُ الآخِرَةُ عِنْدَ البَعْثِ لَمْ يَكُنْ هُناكَ تَكْذِيبٌ بِها أصْلًا، أوْ لا يَكُونُ هُناكَ نَفْسٌ تَكْذِبُ عَلى اللَّهِ وتُكَذِّبُ بِما أخْبَرَ عَنْهُ مِن أُمُورِ الآخِرَةِ. قالَ الزَّجّاجُ: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ: أيْ لا يَرُدُّها شَيْءٌ، وبِهِ قالَ الحَسَنُ، وقَتادَةُ. وقالَ النَّوَوِيُّ: لَيْسَ لِوَقْعَتِها أحَدٌ يُكَذِّبُ بِها. وقالَ الكِسائِيُّ: لَيْسَ لَها تَكْذِيبٌ: أيْ لا يَنْبَغِي أنْ يُكَذِّبَ بِها أحَدٌ. خافِضَةٌ رافِعَةٌ قَرَأ الجُمْهُورُ بِرَفْعِهِما عَلى إضْمارِ مُبْتَدَأٍ: أيْ هي خافِضَةٌ رافِعَةٌ. وقَرَأ الحَسَنُ، وعِيسى الثَّقَفِيُّ بِنَصْبِهِما عَلى الحالِ. قالَ عِكْرِمَةُ، والسُّدِّيُّ، ومُقاتِلٌ: خَفَضَتِ الصَّوْتَ فَأسْمَعَتْ مَن دَنا، ورَفَعَتِ الصَّوْتَ فَأسْمَعَتْ مَن نَأى: أيْ أسْمَعَتِ القَرِيبَ والبَعِيدَ. وقالَ قَتادَةُ: خَفَضَتْ أقْوامًا في عَذابِ اللَّهِ، ورَفَعَتْ أقْوامًا إلى طاعَةِ اللَّهِ. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: خَفَضَتْ أقْوامًا كانُوا في الدُّنْيا مَرْفُوعِينَ، ورَفَعَتْ أقْوامًا كانُوا في الدُّنْيا مَخْفُوضِينَ، والعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ الخَفْضَ والرَّفْعَ في المَكانِ والمَكانَةِ والعِزِّ والإهانَةِ، ونِسْبَةُ الخَفْضِ والرَّفْعِ إلَيْها عَلى طَرِيقِ المَجازِ، والخافِضُ الرّافِعُ في الحَقِيقَةِ هو اللَّهُ سُبْحانَهُ. إذا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا أيْ إذا حُرِّكَتْ حَرَكَةً شَدِيدَةً، يُقالُ رَجَّهُ يَرُجُّهُ رَجًّا إذا حَرَّكَهُ، والرَّجَّةُ الِاضْطِرابُ، وارْتَجَّ البَحْرُ اضْطَرَبَ. قالَ المُفَسِّرُونَ: تَرْتَجُّ كَما يَرْتَجُّ الصَّبِيُّ في المَهْدِ حَتّى يَنْهَدِمَ كُلُّ ما عَلَيْها ويَنْكَسِرَ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الجِبالِ وغَيْرِها. قالَ قَتادَةُ، ومُقاتِلٌ، ومُجاهِدٌ: مَعْنى " رُجَّتْ " زُلْزِلَتْ، والظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ خافِضَةٌ رافِعَةٌ أيْ تَخْفِضُ وتَرْفَعُ وقْتَ رَجِّ الأرْضِ وبَسِّ الجِبالِ؛ لِأنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ يَرْتَفِعُ ما هو مُنْخَفِضٌ ويَنْخَفِضُ ما هو مُرْتَفِعٌ. وقِيلَ إنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الظَّرْفِ والأوَّلُ ذَكَرَهُ الزَّجّاجُ، فَيَكُونُ مَعْنى وُقُوعِ الواقِعَةِ هو رَجُّ الأرْضِ، وبَسُّ الجِبالِ. ﴿وبُسَّتِ الجِبالُ بَسًّا﴾، البَسُّ: الفَتُّ، يُقالُ: بَسَّ الشَّيْءَ إذا فَتَّهُ حَتّى يَصِيرَ فُتاتًا، ويُقالُ بَسَّ السَّوِيقَ: إذا لَتَّهُ بِالسَّمْنِ أوْ بِالزَّيْتِ. قالَ مُجاهِدٌ، ومُقاتِلٌ: المَعْنى أنَّ الجِبالَ فُتِّتَتْ فَتًّا. وقالَ السُّدِّيُّ: كُسِرَتْ كَسْرًا. وقالَ الحَسَنُ: قُلِعَتْ مِن أصْلِها. وقالَ مُجاهِدٌ أيْضًا: بُسَّتْ كَما يُبَسُّ الدَّقِيقُ بِالسَّمْنِ أوْ بِالزَّيْتِ، والمَعْنى: أنَّها خُلِطَتْ فَصارَتْ كالدَّقِيقِ المَلْتُوتِ. وقالَ أبُو زَيْدٍ: البَسُّ السَّوْقُ، والمَعْنى عَلى هَذا: سِيقَتِ الجِبالُ سَوْقًا. قالَ أبُو عُبَيْدٍ: بَسَّ الإبِلَ وأبَسَّها لُغَتانِ: إذا زَجَرَها. وقالَ عِكْرِمَةُ: المَعْنى هُدَّتْ هَدًّا. فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا أيْ غُبارًا مُتَفَرِّقًا مُنْتَشِرًا. قالَ مُجاهِدٌ: الهَباءُ الشُّعاعُ الَّذِي يَكُونُ في الكُوَّةِ كَهَيْئَةِ الغُبارِ، وقِيلَ هو الرَّهَجُ الَّذِي يَسْطَعُ مِن حَوافِرِ الدَّوابِّ ثُمَّ يَذْهَبُ، وقِيلَ ما تَطايَرَ مِنَ النّارِ إذا اضْطَرَمَتْ عَلى سَوْرَةِ الشَّرَرِ، فَإذا وقَعَ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُهُ في الفُرْقانِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنثُورًا﴾ [الفرقان: ٢٣] قَرَأ الجُمْهُورُ " مُنْبَثًا " بِالمُثَلَّثَةِ. وقَرَأ مَسْرُوقٌ، والنَّخَعِيُّ، وأبُو حَيْوَةَ بِالتّاءِ المُثَنّاةِ مِن فَوْقُ: أيْ مُنْقَطِعًا، مِن قَوْلِهِمْ بَتَّهُ اللَّهُ: أيْ قَطَعَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ أحْوالَ النّاسِ واخْتِلافَهم فَقالَ: " ﴿وكُنْتُمْ أزْواجًا ثَلاثَةً﴾ " والخِطابُ لِجَمِيعِ النّاسِ أوْ لِلْأُمَّةِ الحاضِرَةِ، والأزْواجُ الأصْنافُ، والمَعْنى: وكُنْتُمْ في ذَلِكَ اليَوْمِ أصْنافًا ثَلاثَةً. ثُمَّ فَسَّرَ سُبْحانَهُ هَذِهِ الأصْنافَ فَقالَ: ﴿فَأصْحابُ المَيْمَنَةِ ما أصْحابُ المَيْمَنَةِ﴾ أيْ أصْحابُ اليَمِينِ، وهُمُ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ كُتُبَهم بِأيْمانِهِمْ، أوِ الَّذِينَ يُؤْخَذُ بِهِمْ ذاتَ اليَمِينِ إلى الجَنَّةِ، أصْحابُ المَيْمَنَةِ مُبْتَدَأٌ، وخَبَرُهُ: ما أصْحابُ المَيْمَنَةِ: أيْ: أيُّ شَيْءٍ هم في حالِهِمْ وصِفَتِهِمْ، والِاسْتِفْهامُ لِلتَّعْظِيمِ والتَّفْخِيمِ، وتَكْرِيرُ المُبْتَدَأِ هُنا بِلَفْظِهِ مُغْنٍ عَنِ الضَّمِيرِ الرّابِطِ، كَما في قَوْلِهِ: ﴿الحاقَّةُ﴾ ﴿ما الحاقَّةُ﴾ [الحاقة: ٢، ١] ﴿القارِعَةُ﴾ ﴿ما القارِعَةُ﴾ [القارعة: ٢، ١] ولا يَجُوزُ مِثْلُ هَذا إلّا في مَواضِعِ التَّفْخِيمِ والتَّعْظِيمِ. والكَلامُ في ﴿وأصْحابُ المَشْأمَةِ ما أصْحابُ المَشْأمَةِ﴾ كالكَلامِ في " أصْحابُ المَيْمَنَةِ ما أصْحابُ المَيْمَنَةِ "، والمُرادُ الَّذِي يُؤْخَذُ بِهِمْ ذاتَ الشِّمالِ إلى النّارِ أوْ يَأْخُذُونَ صَحائِفَ أعْمالِهِمْ بِشِمالِهِمْ، والمُرادُ تَعْجِيبُ السّامِعِ مِن حالِ الفَرِيقَيْنِ في الفَخامَةِ والفَظاعَةِ، كَأنَّهُ قِيلَ: فَأصْحابُ المَيْمَنَةِ في نِهايَةِ السَّعادَةِ وحُسْنِ الحالِ، وأصْحابُ المَشْأمَةِ في نِهايَةِ الشَّقاوَةِ وسُوءِ الحالِ. وقالَ السُّدِّيُّ: أصْحابُ المَيْمَنَةِ هُمُ الَّذِينَ كانُوا عَنْ يَمِينِ آدَمَ حِينَ أُخْرِجَتِ الذَّرِّيَّةُ مِن صُلْبِهِ وأصْحابُ المَشْأمَةِ هُمُ الَّذِينَ كانُوا عَنْ شِمالِهِ. وقالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ: أصْحابُ المَيْمَنَةِ هُمُ الَّذِينَ أُخِذُوا مِن شِقِّ آدَمَ الأيْمَنِ، وأصْحابُ المَشْأمَةِ هُمُ الَّذِينَ أُخِذُوا مَن شِقِّهِ الأيْسَرِ. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أصْحابُ المَيْمَنَةِ هم أهْلُ الحَسَناتِ، وأصْحابُ المَشْأمَةِ هم أهْلُ السَّيِّئاتِ. وقالَ الحَسَنُ، والرَّبِيعُ: (p-١٤٤١)أصْحابُ المَيْمَنَةِ هُمُ المَيامِينُ عَلى أنْفُسِهِمْ بِالأعْمالِ الصّالِحَةِ، وأصْحابُ المَشْأمَةِ هُمُ المَشائِيمُ عَلى أنْفُسِهِمْ بِالأعْمالِ القَبِيحَةِ. وقالَ المُبَرِّدُ: أصْحابُ المَيْمَنَةِ أصْحابُ التَّقَدُّمِ، وأصْحابُ المَشْأمَةِ أصْحابُ التَّأخُّرِ، والعَرَبُ تَقُولُ: اجْعَلْنِي في يَمِينِكَ ولا تَجْعَلْنِي في شِمالِكَ: أيِ اجْعَلْنِي مِنَ المُتَقَدِّمِينَ ولا تَجْعَلْنِي مِنَ المُتَأخِّرِينَ، ومِنهُ قَوْلُ ابْنِ الدُّمَيْنَةِ: ؎أبُنَيَّتِي أفِي يُمْنى يَدَيْكِ جَعَلْتِنِي فَأفْرَحُ أمْ صَيَّرْتِنِي في شِمالِكِ ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ الصِّنْفَ الثّالِثَ فَقالَ: ﴿والسّابِقُونَ السّابِقُونَ﴾ والتَّكْرِيرُ فِيهِ لِلتَّفْخِيمِ والتَّعْظِيمِ كَما مَرَّ في القِسْمَيْنِ الأوَّلَيْنِ، كَما تَقُولُ أنْتَ أنْتَ وزَيْدٌ، زَيْدٌ، والسّابِقُونَ مُبْتَدَأٌ، وخَبَرُهُ السّابِقُونَ. وفِيهِ تَأْوِيلانِ: أحَدُهُما أنَّهُ بِمَعْنى: السّابِقُونَ هُمُ الَّذِينَ اشْتُهِرَتْ حالُهم بِذَلِكَ. والثّانِي: أنَّ مُتَعَلَّقَ السّابِقِينَ مُخْتَلِفٌ، والتَّقْدِيرُ: والسّابِقُونَ إلى الإيمانِ السّابِقُونَ إلى الجَنَّةِ. والأوَّلُ أوْلى لِما فِيهِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى التَّفْخِيمِ والتَّعْظِيمِ. قالَ الحَسَنُ، وقَتادَةُ: هُمُ السّابِقُونَ إلى الإيمانِ مِن كَلامِهِ. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: إنَّهُمُ الأنْبِياءُ. وقالَ ابْنُ سِيرِينَ: هُمُ الَّذِينَ صَلَّوْا إلى القِبْلَتَيْنِ. وقالَ مُجاهِدٌ: هُمُ الَّذِينَ سَبَقُوا إلى الجِهادِ، وبِهِ قالَ الضَّحّاكُ: وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُمُ السّابِقُونَ إلى التَّوْبَةِ وأعْمالِ البِرِّ. وقالَ الزَّجّاجُ: المَعْنى والسّابِقُونَ إلى طاعَةِ اللَّهِ هُمُ السّابِقُونَ إلى رَحْمَةِ اللَّهِ. ﴿أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ﴾ . قِيلَ ووَجْهُ تَأْخِيرِ هَذا الصِّنْفِ الثّالِثِ مَعَ كَوْنِهِ أشْرَفَ مِنَ الصِّنْفَيْنِ الأوَّلَيْنِ هو أنْ يَقْتَرِنَ بِهِ ما بَعْدَهُ، وهو قَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ﴾ ﴿فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ﴾ فالإشارَةُ هي إلَيْهِمْ: أيِ المُقَرَّبُونَ إلى جَزِيلِ ثَوابِ اللَّهِ وعَظِيمِ كَرامَتِهِ، أوِ الَّذِينَ قَرُبَتْ دَرَجاتُهم وأُعْلِيَتْ مَراتِبُهم عِنْدَ اللَّهِ. وقَوْلُهُ ﴿فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِـ " المُقَرَّبُونَ ": أيْ مُقَرَّبُونَ عِنْدَ اللَّهِ في جَنّاتِ النَّعِيمِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا ثانِيًا لِأُولَئِكَ، وأنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ في المُقَرَّبُونَ: أيْ كائِنِينَ فِيها. قَرَأ الجُمْهُورُ ﴿فِي جَنّاتِ﴾ بِالجَمْعِ، وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ " في جَنَّةِ " بِالإفْرادِ، وإضافَةُ الجَنّاتِ إلى النَّعِيمِ مِن إضافَةِ المَكانِ إلى ما يَكُونُ فِيهِ كَما يُقالُ: دارُ الضِّيافَةِ ودارُ الدَّعْوَةِ ودارُ العَدْلِ. وارْتِفاعُ ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ﴾ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ: أيْ هم ثُلَّةٌ، والثُّلَّةُ الجَماعَةُ الَّتِي لا يُحْصَرُ عَدَدُها. قالَ الزَّجّاجُ: مَعْنى ثُلَّةٍ مَعْنى فِرْقَةٍ، مِن ثَلَلْتُ الشَّيْءَ: إذا قَطَعْتَهُ، والمُرادُ بِالأوَّلِينَ هُمُ الأُمَمُ السّابِقَةُ مِن لَدُنْ آدَمَ إلى نَبِيِّنا ﷺ . ﴿وقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ﴾ أيْ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ، وسُمُّوا قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إلى مَن كانَ قَبْلَهم، وهم كَثِيرُونَ لِكَثْرَةِ الأنْبِياءِ فِيهِمْ وكَثْرَةِ مَن أجابَهم. قالَ الحَسَنُ: سابِقُو مَن مَضى أكْثَرُ مِن سابِقِينا. قالَ الزَّجّاجُ: الَّذِينَ عايَنُوا جَمِيعَ الأنْبِياءِ وصَدَّقُوا بِهِمْ أكْثَرُ مِمَّنْ عايَنَ النَّبِيَّ ﷺ، ولا يُخالِفُ هَذا ما ثَبَتَ في الصَّحِيحِ مِن قَوْلِهِ ﷺ «إنِّي لَأرْجُو أنْ تَكُونُوا رُبُعَ أهْلِ الجَنَّةِ، ثُمَّ قالَ: " ثُلُثَ أهْلِ الجَنَّةِ "، ثُمَّ قالَ: " نِصْفَ أهْلِ الجَنَّةِ "» لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ﴾ ﴿وقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ﴾ إنَّما هو تَفْضِيلٌ لِلسّابِقِينَ فَقَطْ كَما سَيَأْتِي في ذِكْرِ أصْحابِ اليَمِينِ أنَّهم ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ وثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ، فَلا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ في أصْحابِ اليَمِينِ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ مَن هو أكْثَرُ مِن أصْحابِ اليَمِينِ مِن غَيْرِهِمْ، فَيَجْتَمِعُ مِن قَلِيلِ سابِقِي هَذِهِ الأُمَّةِ ومِن ثُلَّةِ أصْحابِ اليَمِينِ مِنها مَن يَكُونُ نِصْفَ أهْلِ الجَنَّةِ، والمُقابَلَةُ بَيْنَ الثُّلَّتَيْنِ في أصْحابِ اليَمِينِ لا تَسْتَلْزِمُ اسْتِواءَهُما لِجَوازِ أنْ يُقالَ: هَذِهِ الثُّلَّةُ أكْثَرُ مِن هَذِهِ الثُّلَّةِ كَما يُقالُ: هَذِهِ الجَماعَةُ أكْثَرُ مِن هَذِهِ الجَماعَةِ، وهَذِهِ الفِرْقَةُ أكْثَرُ مِن هَذِهِ الفِرْقَةِ، وهَذِهِ القِطْعَةُ أكْثَرُ مِن هَذِهِ القِطْعَةِ. وبِهَذا تَعْرِفُ أنَّهُ لَمْ يُصِبْ مَن قالَ إنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنسُوخَةٌ بِالحَدِيثِ المَذْكُورِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ حالَةً أُخْرى لِلسّابِقِينَ المُقَرَّبِينَ فَقالَ: ﴿عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ سُرُرٍ بِضَمِّ السِّينِ والرّاءِ الأُولى، وقَرَأ أبُو السِّماكِ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِفَتْحِ الرّاءِ، وهي لُغَةٌ كَما تَقَدَّمَ، والمَوْضُونَةُ المَنسُوجَةُ، والوَضْنُ: النَّسْجُ المُضاعَفُ. قالَ الواحِدِيُّ: قالَ المُفَسِّرُونَ: مَنسُوجَةٌ بِقُضْبانِ الذَّهَبِ، وقِيلَ: مُشَبَّكَةٌ بِالدُّرِّ والياقُوتِ والزَّبَرْجَدِ، وقِيلَ إنَّ المَوْضُونَةَ المَصْفُوفَةَ. وقالَ مُجاهِدٌ: المَوْضُونَةُ المَرْمُولَةُ بِالذَّهَبِ. وانْتِصابُ ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَيْها﴾ عَلى الحالِ، وكَذا انْتِصابُ ﴿مُتَقابِلِينَ﴾ والمَعْنى: مُسْتَقِرِّينَ عَلى سُرُرٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ لا يَنْظُرُ بَعْضُهم قَفا بَعْضٍ. ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ﴾ الجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِنَ المُقَرَّبِينَ، أوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيانِ بَعْضِ ما أعَدَّ اللَّهُ لَهم مِنَ النَّعِيمِ، والمَعْنى يَدُورُ حَوْلَهم لِلْخِدْمَةِ غِلْمانٌ لا يَهْرَمُونَ ولا يَتَغَيَّرُونَ، بَلْ شَكْلُهم شَكْلُ الوِلْدانِ دائِمًا. قالَ مُجاهِدٌ: المَعْنى لا يَمُوتُونَ. وقالَ الحَسَنُ، والكَلْبِيُّ: لا يَهْرَمُونَ ولا يَتَغَيَّرُونَ. قالَ الفَرّاءُ: والعَرَبُ تَقُولُ لِلرَّجُلِ إذا كَبِرَ ولَمْ يُمَشَّطْ إنَّهُ لَمُخَلَّدٌ. وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مُخَلَّدُونَ مُقَرَّطُونَ. قالَ الفَرّاءُ: ويُقالُ مُخَلَّدُونَ مُقَرَّطُونَ، يُقالُ خَلَّدَ جارِيَتَهُ: إذا حَلّاها بِالخَلَدَةِ، وهي القِرَطَةُ. وقالَ عِكْرِمَةُ: مُخَلَّدُونَ مُنَعَّمُونَ، ومِنهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ: ؎وهَلْ يَنْعَمْنَ إلّا سَعِيدٌ مُخَلَّدٌ ∗∗∗ قَلِيلُ الهُمُومِ ما يَبِيتُ بِأوْجالِ وقِيلَ مَسْتُورُونَ بِالحِلْيَةِ، ورُوِيَ نَحْوَهُ عَنِ الفَرّاءِ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎ومُخَلَّداتٌ بِاللُّجَيْنِ كَأنَّما ∗∗∗ أعْجازُهُنَّ أقاوِزُ الكُثْبانِ وقِيلَ مُخَلَّدُونَ مُمَنطَقُونَ، قِيلَ وهم وِلْدانُ المُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ صِغارًا ولا حَسَنَةَ لَهم ولا سَيِّئَةَ، وقِيلَ هم أطْفالُ المُشْرِكِينَ، ولا يَبْعُدُ أنْ يَكُونُوا مَخْلُوقِينَ في الجَنَّةِ لِلْقِيامِ بِهَذِهِ الخِدْمَةِ، والأكْوابُ: هي الأقْداحُ المُسْتَدِيرَةُ الأفْواهِ الَّتِي لا آذانَ لَها ولا عُرًى، وقَدْ مَضى بَيانُ مَعْناها في سُورَةِ الزُّخْرُفِ، والأبارِيقُ: هي ذاتُ العُرى والخَراطِيمِ، واحِدُها إبْرِيقٌ، وهو الَّذِي يَبْرُقُ لَوْنُهُ مِن صَفائِهِ. ﴿وكَأْسٍ مِن مَعِينٍ﴾ أيْ مِن خَمْرٍ جارِيَةٍ أوْ ماءٍ جارٍ، والمُرادُ بِهِ هاهُنا الخَمْرُ الجارِيَةُ مِنَ العُيُونِ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ مَعْنى الكَأْسِ في سُورَةِ الصّافّاتِ. ﴿لا يُصَدَّعُونَ عَنْها﴾ أيْ لا تَتَصَدَّعُ رُؤُوسُهم مِن شُرْبِها كَما تَتَصَدَّعُ مِن شُرْبِ خَمْرِ الدُّنْيا. والصُّداعُ هو الدّاءُ المَعْرُوفُ الَّذِي يَلْحَقُ الإنْسانَ في رَأْسِهِ، وقِيلَ مَعْنى لا يُصَدَّعُونَ لا يَتَفَرَّقُونَ كَما يَتَفَرَّقُ الشُّرّابُ، (p-١٤٤٥)ويُقَوِّي هَذا المَعْنى قِراءَةُ مُجاهِدٍ " يَصَّدَّعُونَ " بِفَتْحِ الياءِ وتَشْدِيدِ الصّادِ، والأصْلُ يَتَصَدَّعُونَ: أيْ يَتَفَرَّقُونَ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيانِ ما أعَدَّ اللَّهُ لَهم مِنَ النَّعِيمِ، أوْ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ، وجُمْلَةُ ﴿ولا يُنْزِفُونَ﴾ مَعْطُوفَةٌ عَلى الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها، وقَدْ تَقَدَّمَ اخْتِلافُ القُرّاءِ في هَذا الحَرْفِ مِن سُورَةِ الصّافّاتِ، وكَذَلِكَ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ: أيْ لا يَسْكَرُونَ فَتَذْهَبُ عُقُولُهم، مِن أنْزَفَ الشّارِبُ: إذا نَفِدَ عَقْلُهُ أوْ شَرابُهُ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎لَعَمْرِي لَئِنْ أنَزَفْتُمُ أوْ صَحَوْتُمْ ∗∗∗ لَبِئْسَ النَّدامى كُنْتُمُ آلَ أبْجَرا ﴿وفاكِهَةٍ مِمّا يَتَخَيَّرُونَ﴾ أيْ يَخْتارُونَهُ، يُقالُ: تَخَيَّرْتُ الشَّيْءَ إذا أخَذْتَ خَيْرَهُ. قَرَأ الجُمْهُورُ " وفاكِهَةٍ " بِالجَرِّ. وكَذا " لَحْمِ " عَطْفًا عَلى أكْوابٍ: أيْ يَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الأشْياءِ المَأْكُولِ والمَشْرُوبِ والمُتَفَكَّهِ بِهِ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وأبُو عَلِيٍّ، وأبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِرَفْعِها عَلى الِابْتِداءِ، والخَبَرُ مُقَدَّرٌ: أيْ ولَهم فاكِهَةٌ ولَحْمٌ، ومَعْنى مِمّا يَشْتَهُونَ مِمّا يَتَمَنَّوْنَهُ وتَشْتَهِيهِ أنْفُسُهم. ﴿وحُورٌ عِينٌ﴾ ﴿كَأمْثالِ اللُّؤْلُؤِ المَكْنُونِ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ حُورٌ عِينٌ بِرَفْعِهِما عَطْفًا عَلى " وِلْدانٌ " أوْ عَلى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ: أيْ نِساؤُهم حُورٌ عِينٌ، أوْ عَلى تَقْدِيرِ خَبَرٍ: أيْ ولَهم حُورٌ عِينٌ، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ بِجَرِّهِما عَطْفًا عَلى أكْوابٍ. قالَ الزَّجّاجُ: وجائِزٌ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى جَنّاتٍ: أيْ هم في جَنّاتٍ وفي حُورٍ عَلى تَقْدِيرِ مُضافٍ مَحْذُوفٍ: أيْ وفي مُعاشَرَةِ حُورٍ. قالَ الفَرّاءُ: في تَوْجِيهِ العَطْفِ عَلى أكْوابٍ إنَّهُ يَجُوزُ الجَرُّ عَلى الإتْباعِ في اللَّفْظِ وإنِ اخْتَلَفا في المَعْنى، لِأنَّ الحُورَ لا يُطافُ بِهِنَّ، كَما في قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎إذا ما الغانِياتُ بَرَزْنَ يَوْمًا ∗∗∗ وزَجَّجْنَ الحَواجِبَ والعُيُونا والعَيْنُ لا تُزَجَّجُ وإنَّما تُكَحَّلُ، ومِن هَذا قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎عَلَفْتُها تِبْنًا وماءً بارِدًا وقَوْلُ الآخَرِ: ؎مُتَقَلِّدًا سَيْفًا ورُمْحًا قالَ قُطْرُبٌ: هو مَعْطُوفٌ عَلى الأكْوابِ والأبارِيقِ مِن غَيْرِ حَمْلٍ عَلى المَعْنى. قالَ: ولا يُنْكَرُ أنْ يُطافَ عَلَيْهِمْ بِالحُورِ: ويَكُونُ لَهم في ذَلِكَ لَذَّةٌ. وقَرَأ الأشْهَبُ العُقَيْلِيُّ، والنَّخَعِيُّ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ بِنَصْبِهِما عَلى تَقْدِيرِ إضْمارِ فِعْلٍ، كَأنَّهُ قِيلَ: ويُزَوَّجُونَ حُورًا عِينًا، أوْ ويُعْطَوْنَ، ورَجَّحَ أبُو عُبَيْدٍ، وأبُو حاتِمٍ قِراءَةَ الجُمْهُورِ. ثُمَّ شَبَّهَهُنَّ سُبْحانَهُ بِاللُّؤْلُؤِ المَكْنُونِ، وهو الَّذِي لَمْ تَمَسَّهُ الأيْدِي ولا وقَعَ عَلَيْهِ الغُبارُ، فَهو أشَدُّ ما يَكُونُ صَفاءً. وانْتِصابُ جَزاءً في قَوْلِهِ ﴿جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ: أيْ يَفْعَلُ بِهِمْ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلْجَزاءِ بِأعْمالِهِمْ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مُؤَكِّدًا لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ: أيْ يُجْزَوْنَ جَزاءً، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الحُورِ العِينِ في سُورَةِ الطُّورِ وغَيْرِها. ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا ولا تَأْثِيمًا﴾ اللَّغْوُ: الباطِلُ مِنَ الكَلامِ، والتَّأْثِيمُ النِّسْبَةُ إلى الإثْمِ. قالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لا يُؤَثِّمُ بَعْضُهم بَعْضًا، وقالَ مُجاهِدٌ: لا يَسْمَعُونَ شَتْمًا ولا مَأْثَمًا، والمَعْنى: أنَّهُ لا يَقُولُ بَعْضُهم لِبَعْضِهِمْ أثِمْتَ لِأنَّهم لا يَتَكَلَّمُونَ بِما فِيهِ إثْمٌ. ﴿إلّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا﴾ القِيلُ القَوْلُ، والِاسْتِثْناءُ مُنْقَطِعٌ: أيْ لَكِنْ يَقُولُونَ قِيلًا، أوْ يَسْمَعُونَ قِيلًا، وانْتِصابُ " سَلامًا سَلامًا " عَلى أنَّهُ بَدَلٌ مِن " قِيلًا "، أوْ صِفَةٌ لَهُ، أوْ هو مَفْعُولٌ بِهِ لِقِيلًا: أيْ إلّا أنْ يَقُولُوا سَلامًا سَلامًا، واخْتارَ هَذا الزَّجّاجُ: أوْ عَلى أنَّهُ مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ هو مَحْكِيٌّ بِقِيلًا: أيْ إلّا قِيلًا سَلِّمُوا سَلامًا سَلامًا، والمَعْنى في الآيَةِ: أنَّهم لا يَسْمَعُونَ إلّا تَحِيَّةَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ. قالَ عَطاءٌ: يُحَيِّي بَعْضُهم بَعْضًا بِالسَّلامِ، وقِيلَ إنَّ الِاسْتِثْناءَ مُتَّصِلٌ وهو بَعِيدٌ، لِأنَّ التَّحِيَّةَ لَيْسَتْ مِمّا يَنْدَرِجُ تَحْتَ اللَّغْوِ والتَّأْثِيمِ، قُرِئَ " سَلامٌ سَلامٌ " بِالرَّفْعِ. قالَ مَكِّيٌّ: ويَجُوزُ الرَّفْعُ عَلى مَعْنى: " ﴿سَلامٌ عَلَيْكم﴾ "، مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿إذا وقَعَتِ الواقِعَةُ﴾ قالَ: يَوْمُ القِيامَةِ ﴿لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ﴾ قالَ: لَيْسَ لَها مَرَدٌّ يَرُدُّ ﴿خافِضَةٌ رافِعَةٌ﴾ قالَ: تَخْفِضُ ناسًا وتَرْفَعُ آخَرِينَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ ﴿خافِضَةٌ رافِعَةٌ﴾ قالَ: أسْمَعَتِ القَرِيبَ والبَعِيدَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ ﴿خافِضَةٌ رافِعَةٌ﴾ قالَ: السّاعَةُ خَفَضَتْ أعْداءَ اللَّهِ إلى النّارِ، ورَفَعَتْ أوْلِياءَ اللَّهِ إلى الجَنَّةِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿إذا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا﴾ قالَ: زُلْزِلَتْ ﴿وبُسَّتِ الجِبالُ بَسًّا﴾ قالَ: فُتِّتَتْ ﴿فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا﴾ قالَ: شُعاعُ الشَّمْسِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ ﴿فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا﴾ قالَ: الهَباءُ الَّذِي يَطِيرُ مِنَ النّارِ إذا أُضْرِمَتْ يَطِيرُ مِنها الشَّرَرُ، فَإذا وقَعَ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ أيْضًا قالَ: الهَباءُ ما يَثُورُ مَعَ شُعاعِ الشَّمْسِ، وانْبِثاثُهُ تَفَرُّقُهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ قالَ: الهَباءُ المُنْبَثُّ رَهَجُ الدَّوابِّ، والهَباءُ المَنثُورُ غُبارُ الشَّمْسِ الَّذِي تَراهُ في شُعاعِ الكُوَّةَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿وكُنْتُمْ أزْواجًا﴾ قالَ: أصْنافًا. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿وكُنْتُمْ أزْواجًا ثَلاثَةً﴾ قالَ: هي الَّتِي في سُورَةِ المَلائِكَةِ ﴿ثُمَّ أوْرَثْنا الكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِن عِبادِنا فَمِنهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ومِنهم مُقْتَصِدٌ ومِنهم سابِقٌ بِالخَيْراتِ﴾ [فاطر: ٣٢] . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿والسّابِقُونَ السّابِقُونَ﴾ قالَ: يُوشَعُ بْنُ نُونٍ سَبَقَ إلى مُوسى، ومُؤْمِنُ آلِ ياسِينَ سَبَقَ إلى عِيسى، وعَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ سَبَقَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أيْضًا في الآيَةِ قالَ: نَزَلَتْ في حَزْقِيلَ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، وحَبِيبٍ النَّجّارِ الَّذِي ذُكِرَ في " يس "، وعَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ، وكُلُّ رَجُلٍ مِنهم سابِقُ أُمَّتِهِ، وعَلِيٌّ أفْضَلُهم سَبْقًا. وأخْرَجَ أحْمَدُ عَنْ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «تَلا هَذِهِ الآيَةَ وأصْحابُ اليَمِينِ وأصْحابُ الشِّمالِ فَقَبَضَ بِيَدَيْهِ قَبْضَتَيْنِ فَقالَ: هَذِهِ في الجَنَّةِ ولا أُبالِي، وهَذِهِ في النّارِ ولا أُبالِي» . وأخْرَجَ أحْمَدُ أيْضًا عَنْ عائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ (p-١٤٤٦)أنَّهُ قالَ: «أتَدْرُونَ مَنِ السّابِقُونَ إلى ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ القِيامَةِ ؟ قالُوا: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ، قالَ: الَّذِينَ إذا أُعْطُوا الحَقَّ قَبِلُوهُ، وإذا سُئِلُوا بَذَلُوا، وحَكَمُوا لِلنّاسِ كَحُكْمِهِمْ لِأنْفُسِهِمْ» . وأخْرَجَ أحْمَدُ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ﴾ ﴿وقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ﴾ شَقَّ عَلى أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَنَزَلَتْ ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الأوَّلِينَ﴾ ﴿وثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ﴾ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: إنِّي لَأرْجُوَ أنْ تَكُونُوا رُبُعَ أهْلِ الجَنَّةِ، ثُلُثَ الجَنَّةِ، بَلْ أنْتُمْ نِصْفُ أهْلِ الجَنَّةِ أوْ شَطْرُ أهْلِ الجَنَّةِ وتُقاسِمُونَهُمُ النِّصْفَ الثّانِيَ» . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، والبَيْهَقِيُّ في البَعْثِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ﴾ قالَ: مَصْفُوفَةٍ. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وهَنّادٌ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والبَيْهَقِيُّ في البَعْثِ عَنْهُ. قالَ: مَرْمُولَةٍ بِالذَّهَبِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا في صِفَةِ الجَنَّةِ والبَزّارُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في البَعْثِ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قالَ: قالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إنَّكَ لَتَنْظُرُ إلى الطَّيْرِ في الجَنَّةِ فَتَشْتَهِيهِ فَيَخِرُّ بَيْنَ يَدَيْكَ مَشْوِيًّا» . وأخْرَجَ أحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ والضِّياءُ عَنْ أنَسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ طَيْرَ الجَنَّةِ كَأمْثالِ البُخْتِ تَرْعى في شَجَرِ الجَنَّةِ، فَقالَ أبُو بَكْرٍ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذِهِ الطَّيْرَ لَناعِمَةٌ، قالَ: آكِلُها أنْعَمُ مِنها، وإنِّي لَأرْجُوَ أنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَأْكُلُ مِنها» وفي البابِ أحادِيثُ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿كَأمْثالِ اللُّؤْلُؤِ المَكْنُونِ﴾ قالَ: الَّذِي في الصُّدَفِ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا﴾ قالَ: باطِلًا ﴿ولا تَأْثِيمًا﴾ قالَ: كَذِبًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب