الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ﴿كُلُّ مَن عَلَيْها فانٍ﴾ أيْ كُلُّ مَن عَلى الأرْضِ مِنَ الحَيَواناتِ هالِكٌ، وغَلَّبَ العُقَلاءَ عَلى غَيْرِهِمْ فَعَبَّرَ عَنِ الجَمِيعِ بِلَفْظِ " مَن " وقِيلَ أرادَ مَن عَلَيْها مِنَ الجِنِّ والإنْسِ. ﴿ويَبْقى وجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ والإكْرامِ﴾ الوَجْهُ عِبارَةٌ عَنْ ذاتِهِ سُبْحانَهُ ووُجُودِهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ بَيانُ مَعْنى هَذا، وقِيلَ: مَعْنى " يَبْقى وجْهُ رَبِّكَ " تَبْقى حُجَّتُهُ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِها إلَيْهِ، والجَلالُ: العَظَمَةُ والكِبْرِياءُ واسْتِحْقاقُ صِفاتِ المَدْحِ، يُقالُ جَلَّ الشَّيْءُ: أيْ عَظُمَ، وأجْلَلْتُهُ أيْ: أعْظَمْتُهُ، وهو اسْمٌ مِن جَلَّ. ومَعْنى ذُو الإكْرامِ: أنَّهُ يُكَرَّمُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ لا يَلِيقُ بِهِ، وقِيلَ إنَّهُ ذُو الإكْرامِ لِأوْلِيائِهِ، والخِطابُ في قَوْلِهِ رَبِّكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ أوْ لِكُلِّ مَن يَصْلُحُ لَهُ. قَرَأ الجُمْهُورُ ذُو الجَلالِ عَلى أنَّهُ صِفَةٌ لِوَجْهٍ، وقَرَأ أُبَيٌّ، وابْنُ مَسْعُودٍ: " ذِي الجَلالِ " عَلى أنَّهُ صِفَةٌ لِرَبِّ. " ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ " وجْهُ النِّعْمَةِ في فَناءِ الخَلْقِ أنَّ المَوْتَ سَبَبُ النُّقْلَةِ إلى دارِ الجَزاءِ والثَّوابِ. وقالَ مُقاتِلٌ: وجْهُ النِّعْمَةِ في فَناءِ الخَلْقِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهم في المَوْتِ، ومَعَ المَوْتِ تَسْتَوِي الأقْدامُ. ﴿يَسْألُهُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ أيْ يَسْألُونَهُ جَمِيعًا لِأنَّهم مُحْتاجُونَ إلَيْهِ لا يَسْتَغْنِي عَنْهُ أحَدٌ مِنهم. قالَ أبُو صالِحٍ: يَسْألُهُ أهْلُ السَّماواتِ المَغْفِرَةَ ولا يَسْألُونَهُ الرِّزْقَ، وأهْلُ الأرْضِ يَسْألُونَهُ الأمْرَيْنِ جَمِيعًا. وقالَ مُقاتِلٌ: يُسْألُهُ أهْلُ الأرْضِ الرِّزْقَ والمَغْفِرَةَ وتَسْألُ لَهُمُ المَلائِكَةُ أيْضًا الرِّزْقَ والمَغْفِرَةَ، وكَذا قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ. وقِيلَ يَسْألُونَهُ الرَّحْمَةَ. قالَ قَتادَةُ: لا يَسْتَغْنِي عَنْهُ أهْلُ السَّماءِ ولا أهْلُ الأرْضِ. والحاصِلُ أنَّهُ يَسْألُهُ كُلُّ مَخْلُوقٍ مِن مَخْلُوقاتِهِ بِلِسانِ المَقالِ أوْ لِسانِ الحالِ ما يَطْلُبُونَهُ مِن خَيْرَيِ الدّارَيْنِ أوْ مِن خَيْرَيْ إحْداهُما " ﴿كُلَّ يَوْمٍ هو في شَأْنٍ﴾ " انْتِصابُ ٣٠ " كُلَّ " بِالِاسْتِقْرارِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الخَبَرُ، والتَّقْدِيرُ: اسْتَقَرَّ سُبْحانَهُ في شَأْنٍ كُلَّ وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ، واليَوْمُ عِبارَةٌ عَنِ الوَقْتِ، والشَّأْنُ هو الأمْرُ، ومِن جُمْلَةِ شُؤُونِهِ سُبْحانَهُ إعْطاءُ أهْلِ السَّماواتِ والأرْضِ ما يَطْلُبُونَهُ مِنهُ عَلى اخْتِلافِ حاجاتِهِمْ وتَبايُنِ أغْراضِهِمْ. قالَ المُفَسِّرُونَ: مِن شَأْنِهِ أنَّهُ يُحْيِي ويُمِيتُ، ويَرْزُقُ ويُفْقِرُ، ويَعِزُّ ويُذِلُّ ويُمْرِضُ ويَشْفِي، ويُعْطِي ويَمْنَعُ، ويَغْفِرُ ويُعاقِبُ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا لا يُحْصى. وقِيلَ المُرادُ بِاليَوْمِ المَذْكُورِ هو يَوْمُ الدُّنْيا ويَوْمُ الآخِرَةِ. قالَ ابْنُ بَحْرٍ: الدَّهْرُ كُلُّهُ يَوْمانِ: أحَدُهُما مُدَّةُ أيّامِ الدُّنْيا، والآخَرُ يَوْمُ القِيامَةِ. وقِيلَ المُرادُ كُلُّ يَوْمٍ مِن أيّامِ الدُّنْيا. ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ فَإنَّ اخْتِلافَ شُؤُونِهِ سُبْحانَهُ في تَدْبِيرِ عِبادِهِ نِعْمَةٌ لا يُمْكِنُ جَحْدُها ولا يَتَيَسَّرُ لِمُكَذِّبٍ تَكْذِيبُها. ﴿سَنَفْرُغُ لَكم أيُّها الثَّقَلانِ﴾ هَذا وعِيدٌ شَدِيدٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ لِلْجِنِّ والإنْسِ. قالَ الزَّجّاجُ، والكِسائِيُّ، وابْنُ الأعْرابِيِّ، وأبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: إنَّ الفَراغَ هاهُنا لَيْسَ هو الفَراغُ مِن شُغُلٍ، ولَكِنَّ تَأْوِيلَهُ القَصْدُ: أيْ سَنَقْصِدُ لِحِسابِكم. قالَ الواحِدِيُّ حاكِيًا عَنِ المُفَسِّرِينَ: إنَّ هَذا تَهْدِيدٌ مِنهُ سُبْحانَهُ لِعِبادِهِ، ومِن هَذا قَوْلُ القائِلِ لِمَن يُرِيدُ تَهْدِيدَهُ: إذَنْ أتَفَرَّغُ لَكَ أيْ أقْصِدُ قَصْدَكَ، وفَرَغَ يَجِيءُ بِمَعْنى قَصَدَ، وأنْشَدَ ابْنُ الأنْبارِيِّ قَوْلَ الشّاعِرِ: ؎الآنَ وقَدْ فَرَغْتَ إلى نُمَيْرٍ فَهَذا حِينَ كُنْتَ لَهُ عَذابًا يُرِيدُ وقَدْ قَصَدْتَ، وأنْشَدَ النَّحّاسُ قَوْلَ الشّاعِرِ: ؎فَرَغَتْ إلى العَبْدِ المُقَيَّدِ في الحَجَلِ أيْ قَصَدَتْ وقِيلَ: إنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وعَدَ عَلى التَّقْوى وأوْعَدَ عَلى المَعْصِيَةِ، ثُمَّ قالَ: " سَنَفْرُغُ لَكم " مِمّا وعَدْناكم ونُوصِلُ كُلًّا إلى ما وعَدْناهُ، وبِهِ قالَ الحَسَنُ، ومُقاتِلٌ، وابْنُ زَيْدٍ، ويَكُونُ الكَلامُ عَلى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ. قَرَأ الجُمْهُورُ " سَنَفْرُغُ " بِالنُّونِ وضَمِّ الرّاءَ، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ بِالتَّحْتِيَّةِ مَفْتُوحَةً مَعَ ضَمِّ الرّاءِ: أيْ سَيَفْرُغُ اللَّهُ. وقَرَأ الأعْرَجُ بِالنُّونِ مَعَ فَتْحِ الرّاءِ. قالَ الكِسائِيُّ: هي لُغَةُ تَمِيمٍ، وقَرَأ عِيسى الثَّقَفِيُّ بِكَسْرِ النُّونِ وفَتْحِ الرّاءِ، وقَرَأ الأعْمَشُ، وإبْراهِيمُ بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ الرّاءِ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ، وسُمِّيَ الجِنُّ والإنْسُ ثَقَلَيْنِ لِعَظَمِ شَأْنِهِما بِالنِّسْبَةِ إلى غَيْرِهِما مِن حَيَواناتِ الأرْضِ، وقِيلَ سُمُّوا بِذَلِكَ لِأنَّهم ثِقْلٌ عَلى الأرْضِ أحْياءً وأمْواتًا كَما في قَوْلِهِ: ﴿وأخْرَجَتِ الأرْضُ أثْقالَها﴾ [الزلزلة: ٢] وقالَ جَعْفَرٌ الصّادِقُ: سُمِّيا ثَقَلَيْنِ لِأنَّهُما مُثْقَلانِ بِالذُّنُوبِ، وجَمَعَ في قَوْلِهِ لَكم ثُمَّ قالَ أيُّها الثَّقَلانِ لِأنَّهُما فَرِيقانِ، وكُلُّ فَرِيقٍ جَمْعٌ. قَرَأ الجُمْهُورُ " أيُّها الثَّقَلانِ " بِفَتْحِ الهاءِ، وقَرَأ أهْلُ الشّامِ بِضَمِّها. ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ فَإنَّ مِن جُمْلَتِها ما في هَذا التَّهْدِيدِ مِنَ النِّعَمِ، فَمِن ذَلِكَ أنَّهُ يَنْزَجِرُ بِهِ المُسِيءُ عَنْ إساءَتِهِ، ويَزْدادُ بِهِ المُحْسِنُ إحْسانًا فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْفَوْزِ بِنَعِيمِ الدّارِ الآخِرَةِ الَّذِي هو النَّعِيمُ في الحَقِيقَةِ. ﴿يامَعْشَرَ الجِنِّ والإنْسِ﴾ قَدَّمَ الجِنَّ هُنا لِكَوْنِ خَلْقِ أبِيهِمْ مُتَقَدِّمًا عَلى خَلْقِ آدَمَ، ولِوُجُودِ جِنْسِهِمْ قَبْلَ جِنْسِ الإنْسِ " إنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ تَنْفُذُوا مِن أقْطارِ السَّماواتِ والأرْضِ " أيْ إنْ قَدَرْتُمْ أنْ تَخْرُجُوا مِن جَوانِبِ (p-١٤٣٧)السَّماواتِ والأرْضِ ونَواحِيهِما هَرَبًا مِن قَضاءِ اللَّهِ وقَدَرِهُ فانْفُذُوا مِنها وخَلِّصُوا أنْفُسَكم، يُقالُ نَفَذَ الشَّيْءُ مِنَ الشَّيْءِ: إذا خَلَصَ مِنهُ كَما يَخْلُصُ السَّهْمُ " لا تَنْفُذُونَ إلّا بِسُلْطانٍ " أيْ لا تَقْدِرُونَ عَلى النُّفُوذِ إلّا بِقُوَّةٍ وقَهْرٍ ولا قُوَّةَ لَكم عَلى ذَلِكَ ولا قُدْرَةَ، والسُّلْطانُ: القُوَّةُ الَّتِي يَتَسَلَّطُ بِها صاحِبُها عَلى الأمْرِ، والأمْرُ بِالنُّفُوذِ: أمْرُ تَعْجِيزٍ. قالَ الضَّحّاكُ: بَيْنَما النّاسُ في أسْواقِهِمْ إذِ انْفَتَحَتِ السَّماءُ ونَزَلَتِ المَلائِكَةُ فَهَرَبَ الجِنُّ والإنْسُ فَتُحْدِقُ بِهِمُ المَلائِكَةُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لا تَنْفُذُونَ إلّا بِسُلْطانٍ﴾ . قالَ ابْنُ المُبارَكِ: إنَّ ذَلِكَ يَكُونُ في الآخِرَةِ. وقالَ الضَّحّاكُ أيْضًا: مَعْنى الآيَةِ: إنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ تَهْرُبُوا مِنَ المَوْتِ فاهْرُبُوا. وقِيلَ إنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ تَعْلَمُوا ما في السَّماواتِ والأرْضِ فاعْلَمُوهُ ولَنْ تَعْلَمُوهُ إلّا بِسُلْطانٍ: أيْ بِبَيِّنَةٍ مِنَ اللَّهِ. وقالَ قَتادَةُ: مَعْناها لا تَنْفُذُوا إلّا بِمُلْكٍ ولَيْسَ لَكم مُلْكٌ. وقِيلَ الباءُ بِمَعْنى إلى: أيْ لا تَنْفُذُونَ إلّا إلى سُلْطانٍ. ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ ومِن جُمْلَتِها هَذِهِ النِّعْمَةُ الحاصِلَةُ بِالتَّحْذِيرِ والتَّهْدِيدِ، فَإنَّها تَزِيدُ المُحْسِنَ إحْسانًا، وتَكُفُّ المُسِيءَ عَنْ إساءَتِهِ، مَعَ أنَّ مَن حَذَّرَكم وأنْذَرَكم قادِرٌ عَلى الإيقاعِ بِكم مِن دُونِ مُهْلَةٍ. ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِن نارٍ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ يُرْسَلُ بِالتَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِالنُّونِ ونَصْبِ شُواظٍ. والشُّواظُ: اللَّهَبُ الَّذِي لا دُخانَ مَعَهُ. وقالَ مُجاهِدٌ: الشُّواظُ: اللَّهَبُ الأخْضَرُ المُتَقَطِّعُ مِنَ النّارِ. وقالَ الضَّحّاكُ: هو الدُّخانُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ اللَّهَبِ لَيْسَ بِدُخانِ الحَطَبِ. وقالَ الأخْفَشُ، وأبُو عَمْرٍو: هو النّارُ والدُّخانُ جَمِيعًا. قَرَأ الجُمْهُورُ شُواظٌ بِضَمِّ الشِّينِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِها وهُما لُغَتانِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ ونُحاسٌ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلى شُواظٍ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، ومُجاهِدٌ، وأبُو عَمْرٍو بِخَفْضِهِ عَطْفًا عَلى نارٍ، وقَرَأ الجُمْهُورُ نُحاسٌ بِضَمِّ النُّونِ، وقَرَأ مُجاهِدٌ، وعِكْرِمَةُ، وحُمَيْدٌ، وأبُو العالِيَةِ بِكَسْرِها. وقَرَأ مُسْلِمُ بْنُ جُنْدَبٍ، والحَسَنُ " ونُحُسٌ " والنَّحّاسُ: الصُّفْرُ المُذابُ يُصَبُّ عَلى رُؤُوسِهِمْ، قالَهُ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ وغَيْرُهُما. وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هو الدُّخانُ الَّذِي لا لَهَبَ لَهُ، وبِهِ قالَ الخَلِيلُ. وقالَ الضَّحّاكُ: هو دُرْدِيُّ الزَّيْتِ المَغْلِيِّ. وقالَ الكِسائِيُّ: هو النّارُ الَّتِي لَها رِيحٌ شَدِيدَةٌ. وقِيلَ هو المُهْلُ فَلا تَنْتَصِرانِ أيْ لا تَقْدِرانِ عَلى الِامْتِناعِ مِن عَذابِ اللَّهِ. ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ فَإنَّ مِن جُمْلَتِها هَذا الوَعِيدَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الِانْزِجارُ عَنِ الشَّرِّ والرُّغُوبُ في الخَيْرِ. ﴿فَإذا انْشَقَّتِ السَّماءُ﴾ أيِ انْصَدَعَتْ بِنُزُولِ المَلائِكَةِ يَوْمَ القِيامَةِ ﴿فَكانَتْ ورْدَةً كالدِّهانِ﴾ أيْ كَوَرْدَةٍ حَمْراءَ. قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وقَتادَةُ: المَعْنى فَكانَتْ حَمْراءَ. وقِيلَ فَكانَتْ كَلَوْنِ الفَرَسِ الوَرْدِ، وهو الأبْيَضُ الَّذِي يَضْرِبُ إلى الحُمْرَةِ أوِ الصُّفْرَةِ. قالَ الفَرّاءُ، وأبُو عُبَيْدَةَ: تَصِيرُ السَّماءُ كالأدِيمِ لِشِدَّةِ حَرِّ النّارِ. وقالَ الفَرّاءُ أيْضًا: شَبَّهَ تَلَوُّنَ السَّماءِ بِتَلَوُّنِ الوَرْدِ مِنَ الخَيْلِ. وشَبَّهَ الوَرْدَ في ألْوانِها بِالدُّهْنِ واخْتِلافِ ألْوانِهِ، والدِّهانُ جَمْعُ دُهْنٍ، وقِيلَ المَعْنى تَصِيرُ السَّماءُ في حُمْرَةِ الوَرْدِ، وجَرَيانِ الدُّهْنِ: أيْ تَذُوبُ مَعَ الِانْشِقاقِ حَتّى تَصِيرَ حَمْراءَ مِن حَرارَةِ نارِ جَهَنَّمَ، وتَصِيرَ مِثْلَ الدُّهْنِ لِذَوَبانِها، وقِيلَ الدِّهانُ الجِلْدُ الأحْمَرُ. وقالَ الحَسَنُ كالدِّهانِ: أيْ كَصَبِيبِ الدُّهْنِ، فَإنَّكَ إذا صَبَبْتَهُ تَرى فِيهِ ألْوانًا. وقالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ: إنَّها تَصِيرُ كَعَصِيرِ الزَّيْتِ. قالَ الزَّجّاجُ: إنَّها اليَوْمَ خَضْراءُ وسَيَكُونُ لَها لَوْنٌ أحْمَرُ. قالَ الماوَرْدِيُّ: وزَعَمَ المُتَقَدِّمُونَ أنَّ أصْلَ لَوْنِ السَّماءِ الحُمْرَةُ، وأنَّها لِكَثْرَةِ الحَوائِلِ وبُعْدِ المَسافَةِ تُرى بِهَذا اللَّوْنِ الأزْرَقِ. ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ فَإنَّ مِن جُمْلَتِها ما في هَذا التَّهْدِيدِ والتَّخْوِيفِ مِن حُسْنِ العاقِبَةِ بِالإقْبالِ عَلى الخَيْرِ والإعْراضِ عَنِ الشَّرِّ. ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْألُ عَنْ ذَنْبِهِ إنْسٌ ولا جانٌّ﴾ أيْ يَوْمَ تَنْشَقُّ السَّماءُ لا يُسْألُ أحَدٌ مِنَ الإنْسِ ولا مِنَ الجِنِّ عَنْ ذَنْبِهِ، لِأنَّهم يُعْرَفُونَ بِسِيماهم عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِن قُبُورِهِمْ، والجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الآيَةِ وبَيْنَ مِثْلِ قَوْلِهِ: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهم أجْمَعِينَ﴾ [الحجر: ٩٢] أنَّ ما هُنا يَكُونُ في مَوْقِفٍ والسُّؤالُ في مَوْقِفٍ آخَرَ مِن مَواقِفِ القِيامَةِ. وقِيلَ إنَّهم لا يُسْألُونَ هُنا سُؤالَ اسْتِفْهامٍ عَنْ ذُنُوبِهِمْ، لِأنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ قَدْ أحْصى الأعْمالَ وحَفِظَها عَلى العِبادِ، ولَكِنْ يُسْألُونَ سُؤالَ تَوْبِيخٍ وتَقْرِيعٍ، ومِثْلُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ: ﴿ولا يُسْألُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ﴾ [القصص: ٧٨] قالَ أبُو العالِيَةِ: المَعْنى لا يُسْألُ غَيْرُ المُجْرِمِ عَنْ ذَنْبِ المُجْرِمِ. وقِيلَ إنَّ عَدَمَ السُّؤالِ هو عِنْدَ البَعْثِ، والسُّؤالُ هو في مَوْقِفِ الحِسابِ. ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ فَإنَّ مِن جُمْلَتِها هَذا الوَعِيدَ الشَّدِيدَ لِكَثْرَةِ ما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الفَوائِدِ. ﴿يُعْرَفُ المُجْرِمُونَ بِسِيماهم﴾ هَذِهِ الجُمْلَةُ جارِيَةٌ مَجْرى التَّعْلِيلِ لِعَدَمِ السُّؤالِ. السِّيما: العَلامَةُ. قالَ الحَسَنُ: سِيماهم سَوادُ الوُجُوهِ وزُرْقَةُ الأعْيُنِ، كَما في قَوْلِهِ: ﴿ونَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ [طه: ١٠٢] وقالَ: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران: ١٠٦] وقِيلَ سِيماهم ما يَعْلُوهم مِنَ الحُزْنِ والكَآبَةِ ﴿فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي والأقْدامِ﴾ الجارُّ والمَجْرُورُ في مَحَلِّ رَفْعٍ عَلى أنَّهُ النّائِبُ، والنَّواصِي شُعُورُ مُقَدَّمِ الرُؤُوسِ، والمَعْنى: أنَّها تُجْعَلُ الأقْدامُ مَضْمُومَةً إلى النَّواصِي، وتُلْقِيهِمُ المَلائِكَةُ في النّارِ. قالَ الضَّحّاكُ: يُجْمَعُ بَيْنَ ناصِيَتِهِ وقَدَمِهِ في سِلْسِلَةٍ مِن وراءِ ظَهْرِهِ، وقِيلَ تَسْحَبُهُمُ المَلائِكَةُ إلى النّارِ، تارَةً تَأْخُذُ بِنَواصِيهِمْ وتَجُرُّهم عَلى وُجُوهِهِمْ، وتارَةً تَأْخُذُ بِأقْدامِهِمْ وتَجُرُّهم عَلى رُؤُوسِهِمْ. ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ فَإنَّ مِن جُمْلَتِها هَذا التَّرْهِيبَ الشَّدِيدَ والوَعِيدَ البالِغَ الَّذِي تَرْجُفُ لَهُ القُلُوبُ وتَضْطَرِبُ لِهَوْلِهِ الأحْشاءُ. ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِها المُجْرِمُونَ﴾ أيْ يُقالُ لَهم عِنْدَ ذَلِكَ هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي تُشاهِدُونَها وتَنْظُرُونَ إلَيْها مَعَ أنَّكم كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِها وتَقُولُونَ إنَّها لا تَكُونُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوابُ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ، كَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا يُقالُ لَهم عِنْدَ الأخْذِ بِالنَّواصِي والأقْدامِ. فَقِيلَ يُقالُ لَهم هَذِهِ جَهَنَّمُ تَقْرِيعًا لَهم وتَوْبِيخًا. ﴿يَطُوفُونَ بَيْنَها﴾ أيْ بَيْنَ جَهَنَّمَ فَتُحْرِقُهم ﴿وبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾ فَتُصَبُّ عَلى وُجُوهِهِمْ، والحَمِيمُ: الماءُ الحارُّ، والآنُ: الَّذِي قَدِ انْتَهى حَرُّهُ وبَلَغَ غايَتَهُ. (p-١٤٣٨)كَذا قالَ الفَرّاءُ: قالَ الزَّجّاجُ: أنى يَأْنى أنًى فَهو آنٍ: إذا انْتَهى في النُّضْجِ والحَرارَةِ، ومِنهُ قَوْلُ النّابِغَةِ الذُّبْيانِيِّ: ؎وتُخْضَبُ لِحْيَةٌ غَدَرَتْ وخانَتْ ∗∗∗ بِأحْمَرَ مِن نَجِيعِ الجَوْفِ آنِ وقِيلَ هو وادٍ مِن أوْدِيَةِ جَهَنَّمَ فِيهِ صَدِيدُ أهْلِ النّارِ، فَيُغْمَسُونَ فِيهِ. قالَ قَتادَةُ: يَطُوفُونَ مَرَّةً في الحَمِيمِ ومَرَّةً بَيْنَ الجَحِيمِ. ٤٥ - ﴿فَبِأيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ فَإنَّ مِن جِلْمَتِها النِّعْمَةَ الحاصِلَةَ بِهَذا التَّخْوِيفِ وما يَحْصُلُ بِهِ مِنَ التَّرْغِيبِ في الخَيْرِ والتَّرْهِيبِ عَنِ الشَّرِّ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ في العَظَمَةِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في الأسْماءِ والصِّفاتِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ذُو الجَلالِ والإكْرامِ﴾ قالَ ذُو الكِبْرِياءِ والعَظَمَةِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ ﴿يَسْألُهُ مَن في السَّماواتِ﴾ قالَ: مَسْألَةُ عِبادِهِ إيّاهُ الرِّزْقَ والمَوْتَ والحَياةَ كُلَّ يَوْمٍ هو في ذَلِكَ. وأخْرَجَ الحَسَنُ بْنُ سُفْيانَ في مُسْنَدِهِ والبَزّارُ، وابْنُ جَرِيرٍ، والطَّبَرانِيُّ، وأبُو الشَّيْخِ في العَظَمَةِ وابْنُ مَندَهْ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وأبُو نُعَيْمٍ، وابْنُ عَساكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُنِيبٍ قالَ: «تَلا عَلَيْنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هو في شَأْنٍ﴾ فَقُلْنا: يا رَسُولَ اللَّهِ وما ذَلِكَ الشَّأْنُ ؟ قالَ: أنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا ويُفَرِّجَ كَرْبًا، ويَرْفَعَ قَوْمًا ويَضَعَ آخَرِينَ» وأخْرَجَ البُخارِيُّ في تارِيخِهِ وابْنُ ماجَهْ، وابْنُ أبِي عاصِمٍ، والبَزّارُ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ حِبّانَ، والطَّبَرانِيُّ، وأبُو الشَّيْخِ في العَظَمَةِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وابْنُ عَساكِرَ، والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في الآيَةِ قالَ: «مِن شَأْنِهِ أنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا ويُفَرِّجَ كَرْبًا ويَرْفَعَ قَوْمًا ويَضَعَ آخَرِينَ» زادَ البَزّارُ: ويُجِيبَ داعِيًا وقَدْ رَواهُ البُخارِيُّ تَعْلِيقًا، وجَعَلَهُ مِن كَلامِ أبِي الدَّرْداءِ. وأخْرَجَ البَزّارُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في الآيَةِ قالَ: «يَغْفِرُ ذَنْبًا ويُفَرِّجُ كَرْبًا» . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والبَيْهَقِيُّ في الأسْماءِ والصِّفاتِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿سَنَفْرُغُ لَكم أيُّها الثَّقَلانِ﴾ قالَ: هَذا وعِيدٌ مِنَ اللَّهِ لِعِبادِهِ، ولَيْسَ بِاللَّهِ شُغُلٌ، وفي قَوْلِهِ: ﴿لا تَنْفُذُونَ إلّا بِسُلْطانٍ﴾ يَقُولُ: لا تَخْرُجُونَ مِن سُلْطانِي. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِن نارٍ﴾ قالَ: لَهَبُ النّارِ ونُحاسٌ قالَ: دُخانُ النّارِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أيْضًا و" نُحاسٌ ": قالَ الصُّفْرُ يُعَذَّبُونَ بِهِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ فَكانَتْ ورْدَةً يَقُولُ حَمْراءَ كالدِّهانِ قالَ: هو الأدِيمُ الأحْمَرُ. وأخْرَجَ الفِرْيابِيُّ، وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا ﴿فَكانَتْ ورْدَةً كالدِّهانِ﴾ قالَ: مِثْلَ لَوْنِ الفَرَسِ الوَرْدِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْألُ عَنْ ذَنْبِهِ إنْسٌ ولا جانٌّ﴾ قالَ: لا يَسْألُهم هَلْ عَمِلْتُمْ كَذا وكَذا؛ لِأنَّهُ أعْلَمُ بِذَلِكَ مِنهم، ولَكِنْ يَقُولُ لَهم لِمَ عَمِلْتُمْ كَذا وكَذا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في البَعْثِ والنُّشُورِ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي والأقْدامِ﴾ قالَ: تَأْخُذُ الزَّبانِيَةُ بِناصِيَتِهِ وقَدَمَيْهِ ويُجْمَعُ فَيُكْسَرُ كَما يُكْسَرُ الحَطَبُ في التَّنُّورِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿وبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾ قالَ: هو الَّذِي انْتَهى حَرُّهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب