النُّذُرُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ جَمْعَ نَذِيرٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا بِمَعْنى الإنْذارِ كَما تَقَدَّمَ، وهي الآياتُ الَّتِي أنْذَرَهم بِها مُوسى.
وهَذا أوْلى لِقَوْلِهِ: كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَإنَّهُ بَيانٌ لِذَلِكَ، والمُرادُ بِها الآياتُ التِّسْعُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُها فَأخَذْناهم أخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ أيْ أخَذْناهم بِالعَذابِ أخْذَ غالِبٍ في انْتِقامِهِ قادِرٍ عَلى إهْلاكِهِمْ لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ.
ثُمَّ خَوَّفَ سُبْحانَهُ كُفّارَ مَكَّةَ فَقالَ: ﴿أكُفّارُكم خَيْرٌ مِن أُوْلَئِكم﴾ والِاسْتِفْهامُ لِلْإنْكارِ، والمَعْنى النَّفْيُ: أيْ لَيْسَ كُفّارُكم يا أهْلَ مَكَّةَ، أوْ يا مَعْشَرَ العَرَبِ خَيْرٌ مِن كَفّارِ مَن تَقَدَّمَكم مِنَ الأُمَمِ الَّذِينَ أُهْلِكُوا بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، فَكَيْفَ تَطْمَعُونَ في السَّلامَةِ مِنَ العَذابِ وأنْتُمْ شَرٌّ مِنهم.
ثُمَّ أضْرَبَ سُبْحانَهُ عَنْ ذَلِكَ وانْتَقَلَ إلى تَبْكِيتِهِمْ بِوَجْهٍ آخَرَ هو أشَدُّ مِنَ التَّبْكِيتِ بِالوَجْهِ الأوَّلِ فَقالَ: ﴿أمْ لَكم بَراءَةٌ في الزُّبُرِ﴾ والزُّبُرُ هي الكُتُبُ المُنَزَّلَةُ عَلى الأنْبِياءِ، والمَعْنى: إنْكارُ أنْ تَكُونَ لَهم بَراءَةٌ مِن عَذابِ اللَّهِ في شَيْءٍ مِن كُتُبِ الأنْبِياءِ.
ثُمَّ أضْرَبَ عَنْ هَذا التَّبْكِيتِ وانْتَقَلَ إلى التَّبْكِيتِ لَهم بِوَجْهٍ آخَرَ فَقالَ: ﴿أمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ﴾ أيْ جَماعَةٌ لا تُطاقُ لِكَثْرَةِ عَدَدِنا وقُوَّتِنا أوْ أمْرُنا مُجْتَمِعٌ لا نُغْلَبُ، وأفْرَدَ مُنْتَصِرًا اعْتِبارًا بِلَفْظِ جَمِيعٍ.
قالَ الكَلْبِيُّ: المَعْنى نَحْنُ جَمِيعُ أمْرِنا نَنْتَصِرُ مِن أعْدائِنا.
فَرَدَّ اللَّهُ سُبْحانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿سَيُهْزَمُ الجَمْعُ﴾ أيْ جَمْعُ كَفّارِ مَكَّةَ، أوْ كُفّارِ العَرَبِ عَلى العُمُومِ.
قَرَأ الجُمْهُورُ " سَيُهْزَمُ " بِالتَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ.
وقَرَأ ورْشٌ عَنْ يَعْقُوبَ " سَنَهْزِمُ " بِالنُّونِ وكَسْرِ الزّايِ، ونَصَبَ " الجَمْعَ " .
وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ بِالتَّحْتِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، وقُرِئَ بِالفَوْقِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ " ويُوَلُّونَ الدُّبُرَ " قَرَأ الجُمْهُورُ يُوَلُّونَ بِالتَّحْتِيَّةِ، وقَرَأ عِيسى، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، ووَرْشٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِالفَوْقِيَّةِ عَلى الخِطابِ، والمُرادُ بِالدُّبُرِ الجِنْسُ، وهو في مَعْنى الإدْبارِ، (p-١٤٣٢)وقَدْ هَزَمَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ ووَلَّوُا الأدْبارَ، وقَتَلَ رُؤَساءَ الشِّرْكِ وأساطِيرَ الكُفْرِ، فَلِلَّهِ الحَمْدُ.
﴿بَلِ السّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ﴾ أيْ مَوْعِدُ عَذابِهِمُ الأُخْرَوِيِّ، ولَيْسَ هَذا العَذابُ الكائِنُ في الدُّنْيا بِالقَتْلِ والأسْرِ والقَهْرِ هو تَمامُ ما وُعِدُوا بِهِ مِنَ العَذابِ، وإنَّما هو مُقَدِّمَةٌ مِن مُقَدِّماتِهِ وطَلِيعَةٌ مِن طَلائِعِهِ، ولِهَذا قالَ: ﴿والسّاعَةُ أدْهى وأمَرُّ﴾ أيْ وعَذابُ السّاعَةِ أعْظَمُ في الضُّرِّ وأفْظَعُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الدَّهاءِ، وهو النُّكْرُ والفَظاعَةُ، ومَعْنى أمَرُّ: أشَدُّ مَرارَةً مِن عَذابِ الدُّنْيا، يُقالُ دَهاهُ أمْرُ كَذا: أيْ أصابَهُ دَهْوًا ودَهْيًا.
﴿إنَّ المُجْرِمِينَ في ضَلالٍ وسُعُرٍ﴾ أيْ في ذَهابٍ عَنِ الحَقِّ وبُعْدٍ عَنْهُ، وقَدْ تَقَدَّمَ في هَذِهِ السُّورَةِ تَفْسِيرُ " وسُعُرٍ " فَلا نُعِيدُهُ.
﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ في النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ﴾ والظَّرْفُ مُنْتَصِبٌ بِما قَبْلَهُ: أيْ كائِنُونَ في ضَلالٍ وسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ، أوْ بِقَوْلٍ مُقَدَّرٍ بَعْدَهُ: أيْ يَوْمَ يُسْحَبُونَ يُقالُ لَهم: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرٍ أيْ قاسُوا حَرَّها وشِدَّةَ عَذابِها، وسَقَرُ عَلَمٌ لِجَهَنَّمَ.
وقَرَأ أبُو عَمْرٍو في رِوايَةٍ عَنْهُ بِإدْغامِ سِينِ " مَسَّ " في سِينِ " سَقَرَ " .
﴿إنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ بِنَصْبِ " كُلَّ " عَلى الِاشْتِغالِ.
وقَرَأ أبُو السِّماكِ بِالرَّفْعِ، والمَعْنى: أنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ خَلَقَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ مُلْتَبِسًا بِقَدَرٍ قَدَّرَهُ وقَضاءٍ قَضاهُ سَبَقَ في عِلْمِهِ مَكْتُوبٌ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، والقَدَرُ التَّقْدِيرُ، وقَدْ قَدَّمْنا الكَلامَ عَلى تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ مُسْتَوْفًى.
﴿وما أمْرُنا إلّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالبَصَرِ﴾ أيْ إلّا مَرَّةٌ واحِدَةٌ أوْ كَلِمَةٌ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالبَصَرِ في سُرْعَتِهِ، واللَّمْحُ: النَّظَرُ عَلى العَجَلَةِ والسُّرْعَةِ.
وفِي الصِّحاحِ لَمَحَهُ وألْمَحَهُ: إذا أبْصَرَهُ بِنَظَرٍ خَفِيفٍ، والِاسْمُ اللَّمْحَةُ.
قالَ الكَلْبِيُّ: وما أمْرُنا بِمَجِيءِ السّاعَةِ في السُّرْعَةِ إلّا كَطَرْفِ البَصَرِ.
﴿ولَقَدْ أهْلَكْنا أشْياعَكم﴾ أيْ أشْباهَكم ونُظَراءَكم في الكُفْرِ مِنَ الأُمَمِ، وقِيلَ أتْباعَكم وأعْوانَكم فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ يَتَذَكَّرُ ويَتَّعِظُ بِالمَواعِظِ ويَعْلَمُ أنَّ ذَلِكَ حَقٌّ، فَيَخافُ العُقُوبَةَ وأنْ يَحِلَّ بِهِ ما حَلَّ بِالأُمَمِ السّالِفَةِ.
﴿وكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ في الزُّبُرِ﴾ أيْ جَمِيعُ ما فَعَلَتْهُ الأُمَمُ مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ مَكْتُوبٌ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، وقِيلَ في كُتُبِ الحَفَظَةِ.
﴿وكُلُّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ أيْ كُلُّ شَيْءٍ مِن أعْمالِ الخَلْقِ وأقْوالِهِمْ وأفْعالِهِمْ مَسْطُورٌ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ صَغِيرُهُ وكَبِيرُهُ وجَلِيلُهُ وحَقِيرُهُ، يُقالُ: سَطَرَ يَسْطُرُ سَطْرًا: كَتَبَ.
وأسْطَرَ مِثْلُهُ.
﴿إنَّ المُتَّقِينَ في جَنّاتٍ ونَهَرٍ﴾ أيْ في بَساتِينَ مُخْتَلِفَةٍ وجِنانٍ مُتَنَوِّعَةٍ وأنْهارٍ مُتَدَفِّقَةٍ.
قَرَأ الجُمْهُورُ " ونَهَرٍ " بِفَتْحِ الهاءِ عَلى الإفْرادِ، وهو جِنْسٌ يَشْمَلُ أنْهارَ الجَنَّةِ وقَرَأ مُجاهِدٌ، والأعْرَجُ، وأبُو السِّماكِ بِسُكُونِ الهاءِ وهُما لُغَتانِ، وقَرَأ أبُو مِجْلَزٍ، وأبُو نَهْشَلٍ، والأعْرَجُ، وطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، وقَتادَةُ " نُهُرٍ " بِضَمِّ النُّونِ والهاءِ عَلى الجَمْعِ.
﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾ أيْ في مَجْلِسِ حَقٍّ لا لَغْوَ فِيهِ ولا تَأْثِيمَ، وهو الجَنَّةُ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ أيْ قادِرٍ عَلى ما يَشاءُ لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، و" عِنْدَ " هاهُنا كِنايَةٌ عَنِ الكَرامَةِ وشَرَفِ المَنزِلَةِ، وقَرَأ عُثْمانُ البَتِّيُّ " في مَقاعِدِ صِدْقٍ " .
وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أكُفّارُكم خَيْرٌ مِن أُوْلَئِكم يَقُولُ: لَيْسَ كُفّارُكم خَيْرٌ مِن قَوْمِ نُوحٍ وقَوْمِ لُوطٍ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ مَنِيعٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿سَيُهْزَمُ الجَمْعُ ويُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ قالَ: كانَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ قالُوا: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ.
وفِي البُخارِيِّ وغَيْرِهِ عَنْهُ أيْضًا أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ وهو في قُبَّةٍ لَهُ يَوْمَ بَدْرٍ: «أنْشُدُكَ عَهْدَكَ ووَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ اليَوْمِ أبَدًا، فَأخَذَ أبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ وقالَ: حَسْبُكَ يا رَسُولَ اللَّهِ ألْحَحْتَ عَلى رَبِّكَ، فَخَرَجَ وهو يَثِبُ في الدِّرْعِ ويَقُولُ: سَيُهْزَمُ الجَمْعُ ويُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السّاعَةُ مَوْعِدُهم والسّاعَةُ أدْهى وأمَرُّ» .
وأخْرَجَ أحْمَدُ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، ومُسْلِمٌ، والتِّرْمِذِيُّ، وابْنُ ماجَهْ وغَيْرُهم عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «جاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ إلى النَّبِيِّ ﷺ يُخاصِمُونَهُ في القَدَرِ، فَنَزَلَتْ يَوْمَ يُسْحَبُونَ في النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ» .
وأخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كُلُّ شَيْءٍ بِقَدْرٍ حَتّى العَجْزِ والكَيْسِ» وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿وكُلُّ صَغِيرٍ وكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾ قالَ: مَسْطُورٌ في الكِتابِ اهـ.
{"ayahs_start":41,"ayahs":["وَلَقَدۡ جَاۤءَ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ ٱلنُّذُرُ","كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذۡنَـٰهُمۡ أَخۡذَ عَزِیزࣲ مُّقۡتَدِرٍ","أَكُفَّارُكُمۡ خَیۡرࣱ مِّنۡ أُو۟لَـٰۤىِٕكُمۡ أَمۡ لَكُم بَرَاۤءَةࣱ فِی ٱلزُّبُرِ","أَمۡ یَقُولُونَ نَحۡنُ جَمِیعࣱ مُّنتَصِرࣱ","سَیُهۡزَمُ ٱلۡجَمۡعُ وَیُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ","بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوۡعِدُهُمۡ وَٱلسَّاعَةُ أَدۡهَىٰ وَأَمَرُّ","إِنَّ ٱلۡمُجۡرِمِینَ فِی ضَلَـٰلࣲ وَسُعُرࣲ","یَوۡمَ یُسۡحَبُونَ فِی ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمۡ ذُوقُوا۟ مَسَّ سَقَرَ","إِنَّا كُلَّ شَیۡءٍ خَلَقۡنَـٰهُ بِقَدَرࣲ","وَمَاۤ أَمۡرُنَاۤ إِلَّا وَ ٰحِدَةࣱ كَلَمۡحِۭ بِٱلۡبَصَرِ","وَلَقَدۡ أَهۡلَكۡنَاۤ أَشۡیَاعَكُمۡ فَهَلۡ مِن مُّدَّكِرࣲ","وَكُلُّ شَیۡءࣲ فَعَلُوهُ فِی ٱلزُّبُرِ","وَكُلُّ صَغِیرࣲ وَكَبِیرࣲ مُّسۡتَطَرٌ","إِنَّ ٱلۡمُتَّقِینَ فِی جَنَّـٰتࣲ وَنَهَرࣲ","فِی مَقۡعَدِ صِدۡقٍ عِندَ مَلِیكࣲ مُّقۡتَدِرِۭ"],"ayah":"أَكُفَّارُكُمۡ خَیۡرࣱ مِّنۡ أُو۟لَـٰۤىِٕكُمۡ أَمۡ لَكُم بَرَاۤءَةࣱ فِی ٱلزُّبُرِ"}