الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ( ﴿عَلى شَيْءٍ﴾ ) فِيهِ تَحْقِيرٌ وتَقْلِيلٌ لِما هم عَلَيْهِ؛ أيْ: لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ حَتّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ والإنْجِيلَ: أيْ تَعْمَلُوا بِما فِيهِما مِن أوامِرِ اللَّهِ ونَواهِيهِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها أمْرُكم بِاتِّباعِ مُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ونَهْيُكم عَنْ مُخالَفَتِهِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ النَّسْخِ لَهُما. قَوْلُهُ: وما أُنْزِلَ إلَيْكم مِن رَبِّكم قِيلَ: هو القُرْآنُ، فَإنَّ إقامَةَ الكِتابَيْنِ لا تَصِحُّ بِغَيْرِ إقامَتِهِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ ما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ عَلى لِسانِ الأنْبِياءِ مِن غَيْرِ الكِتابَيْنِ. قَوْلُهُ: ﴿ولَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنهم ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ طُغْيانًا وكُفْرًا﴾ أيْ: كُفْرًا إلى كُفْرِهِمْ وطُغْيانًا عَلى طُغْيانِهِمْ، والمُرادُ بِالكَثِيرِ مِنهم مَن لَمْ يُسْلِمْ، واسْتَمَرَّ عَلى المُعانَدَةِ، وقِيلَ: المُرادُ بِهِ العُلَماءُ مِنهم، وتَصْدِيرُ هَذِهِ الجُمْلَةِ بِالقَسَمِ لِتَأْكِيدِ مَضْمُونِها، قَوْلُهُ: ﴿فَلا تَأْسَ عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ﴾ أيْ: دَعْ عَنْكَ التَّأسُّفَ عَلى هَؤُلاءِ، فَإنَّ ضَرَرَ ذَلِكَ راجِعٌ إلَيْهِمْ ونازِلٌ بِهِمْ، وفي المُتَّبِعِينَ لَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غِنًى لَكَ عَنْهم. قَوْلُهُ: ( ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ) إلَخْ، جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَرْغِيبِ مَن عَداهم مِنَ المُؤْمِنِينَ. والمُرادُ بِالمُؤْمِنِينَ هُنا الَّذِينَ آمَنُوا بِألْسِنَتِهِمْ وهُمُ المُنافِقُونَ ( ﴿والَّذِينَ هادُوا﴾ ) أيْ دَخَلُوا في دِينِ اليَهُودِ ( والصّابِئُونَ ) مُرْتَفِعٌ عَلى الِابْتِداءِ وخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، والتَّقْدِيرُ: والصّابِئُونَ والنَّصارى كَذَلِكَ. قالَ الخَلِيلُ وسِيبَوَيْهِ: الرَّفْعُ مَحْمُولٌ عَلى التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، والتَّقْدِيرُ: إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ والصّابِئُونَ والنَّصارى كَذَلِكَ، وأنْشَدَ سِيبَوَيْهِ، قَوْلَ الشّاعِرِ: ؎وإلّا فاعْلَمُوا أنّا وأنْتُمْ بُغاةٌ ما بَقِينا في شِقاقِ أيْ وإلّا فاعْلَمُوا أنّا بُغاةٌ وأنْتُمْ كَذَلِكَ، ومِثْلُهُ قَوْلُ ضابِي البُرْجُمِيِّ: ؎فَمَن يَكُ أمْسى بِالمَدِينَةِ رَحْلُهُ ∗∗∗ فَإنِّي وقَيّارٌ بِها لَغَرِيبُ أيْ فَإنِّي لَغَرِيبٌ وقَيّارٌ كَذَلِكَ. وقالَ الكِسائِيُّ والأخْفَشُ: إنَّ ( الصّابِئُونَ ) مَعْطُوفٌ عَلى المُضْمَرِ في ( هادُوا ) قالَ النَّحّاسُ: سَمِعْتُ الزَّجّاجَ يَقُولُ وقَدْ ذُكِرَ لَهُ قَوْلُ الكِسائِيِّ والأخْفَشِ: هَذا خَطَأٌ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما أنَّ المُضْمَرَ المَرْفُوعَ لا يُعْطَفُ عَلَيْهِ حَتّى يُؤَكَّدَ. وثانِيهُما أنَّ المَعْطُوفَ شَرِيكُ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ المَعْنى: إنَّ الصّابِئِينَ قَدْ دَخَلُوا في اليَهُودِيَّةِ، وهَذا مُحالٌ. وقالَ الفَرّاءُ: إنَّما جازَ الرَّفْعُ؛ لِأنَّ " إنَّ " ضَعِيفَةٌ فَلا تُؤَثِّرُ إلّا في الِاسْمِ دُونَ الخَبَرِ، فَعَلى هَذا هو عِنْدَهُ مَعْطُوفٌ عَلى مَحَلِّ اسْمِ إنَّ، أوْ عَلى مَجْمُوعِ إنَّ واسْمِها، وقِيلَ: إنَّ خَبَرَ إنَّ مُقَدَّرٌ، والجُمْلَةَ الآتِيَةَ خَبَرٌ الصّابِئُونَ والنَّصارى، كَما في قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎نَحْنُ بِما عِنْدَنا وأنْتَ بِما ∗∗∗ عِنْدَكَ راضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ وقِيلَ: إنَّ " إنَّ " هُنا بِمَعْنى نَعَمْ: فالصّابِئُونَ مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِداءِ، ومِثْلُهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الرُّقَيّاتِ: ؎بَكَرَ العَواذِلُ في الصَّبا ∗∗∗ حِ يَلُمْنَنِي وألُومُهُنَّهْ ؎ويَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلا ∗∗∗ كَ وقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إنَّهْ قالَ الأخْفَشُ: " إنَّهْ " بِمَعْنى نَعَمْ والهاءُ لِلسَّكْتِ. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى الصّابِئِينَ والنَّصارى في البَقَرَةِ، وقُرِئَ الصّابِيُونَ بِياءٍ صَرِيحَةٍ تَخْفِيفًا لِلْهَمْزَةِ، وقُرِئَ الصّابُونَ بِدُونِ ياءٍ، وهو مِن صَبا يَصْبُو؛ لِأنَّهم صَبَوْا إلى اتِّباعِ الهَوى، (p-٣٨٦)وقُرِئَ والصّابِئِينَ عَطْفًا عَلى اسْمِ إنَّ. قَوْلُهُ: ( مَن آمَنَ بِاللَّهِ ) مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ ﴿فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ والمُبْتَدَأُ وخَبَرُهُ خَبَرٌ لِإنَّ، ودُخُولُ الفاءِ لِتَضَمُّنِ المُبْتَدَأِ مَعْنى الشَّرْطِ، والعائِدُ إلى اسْمِ إنَّ مَحْذُوفٌ؛ أيْ: مَن آمَنَ مِنهم، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَن آمَنَ بَدَلًا مِنِ اسْمِ إنَّ وما عُطِفَ عَلَيْهِ، ويَكُونَ خَبَرُ إنَّ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ. والمَعْنى عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ المُرادِ بِالَّذِينَ آمَنُوا المُنافِقِينَ كَما قَدَّمْنا: أنَّ مَن آمَنَ مِن هَذِهِ الطَّوائِفِ إيمانًا خالِصًا عَلى الوَجْهِ المَطْلُوبِ وعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا، فَهو الَّذِي لا خَوْفٌ عَلَيْهِ ولا حُزْنٌ، وأمّا عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ المُرادِ بِالَّذِينَ آمَنُوا جَمِيعَ أهْلِ الإسْلامِ: المُخْلِصَ والمُنافِقَ، فالمُرادُ بِمَن آمَنَ مَنِ اتَّصَفَ بِالإيمانِ الخالِصِ واسْتَمَرَّ عَلَيْهِ، ومَن أحْدَثَ إيمانًا خالِصًا بَعْدَ نِفاقِهِ. قَوْلُهُ: ﴿لَقَدْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ كَلامٌ مُبْتَدَأٌ لِبَيانِ بَعْضِ أفْعالِهِمُ الخَبِيثَةِ. وقَدْ تَقَدَّمَ في البَقَرَةِ بَيانُ مَعْنى المِيثاقِ ( ﴿وأرْسَلْنا إلَيْهِمْ رُسُلًا﴾ ) لِيُعَرِّفُوهم بِالشَّرائِعِ ويُنْذِرُوهم ﴿كُلَّما جاءَهم رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أنْفُسُهم﴾ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ وقَعَتْ جَوابًا لِسُؤالِ ناسٍ مِنَ الأحْبارِ بِإرْسالِ الرُّسُلِ كَأنَّهُ قِيلَ: ماذا فَعَلُوا بِالرُّسُلِ ؟ وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ؛ أيْ: عَصَوْهُ. وقَوْلُهُ: ﴿فَرِيقًا كَذَّبُوا وفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ أيْضًا جَوابٌ عَنْ سُؤالِ ناسٍ عَنِ الجَوابِ الأوَّلِ كَأنَّهُ قِيلَ: كَيْفَ فَعَلُوا بِهِمْ ؟ فَقِيلَ: فَرِيقًا مِنهم كَذَّبُوهم ولَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهم بِضَرَرٍ، وفَرِيقًا آخَرَ مِنهم قَتَلُوهم، وإنَّما قالَ: ( ﴿وفَرِيقًا يَقْتُلُونَ﴾ ) لِمُراعاةِ رُءُوسِ الآيِ، فَمَن كَذَّبُوهُ عِيسى وأمْثالُهُ مِنَ الأنْبِياءِ، ومِمَّنْ قَتَلُوهُ زَكَرِيّا ويَحْيى. قَوْلُهُ ﴿وحَسِبُوا ألّا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ أيْ: حَسِبَ هَؤُلاءِ الَّذِينَ أخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ المِيثاقَ أنْ لا يَقَعَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ ابْتِلاءٌ واخْتِبارٌ بِالشَّدائِدِ اغْتِرارًا بِقَوْلِهِمْ: ﴿نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨] . قَرَأ أبُو عَمْرٍو وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ ( تَكُونُ ) بِالرَّفْعِ عَلى أنَّ " أنْ " هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وحَسِبَ بِمَعْنى عَلِمَ؛ لِأنَّ " أنْ " مَعْناها التَّحْقِيقُ. وقَرَأ الباقُونَ بِالنَّصْبِ عَلى أنَّ " أنْ " ناصِبَةٌ لِلْفِعْلِ، وحَسِبَ بِمَعْنى الظَّنِّ، قالَ النَّحّاسُ: والرَّفْعُ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ في حَسِبَتْ وأخَواتِها أجْوَدُ، ومِثْلُهُ: ؎ألا زَعَمَتْ بَسْباسَةُ اليَوْمَ أنَّنِي ∗∗∗ كَبِرْتُ وأنْ لا يَشْهَدَ اللَّهْوَ أمْثالِي قَوْلُهُ: ( ﴿فَعَمُوا وصَمُّوا﴾ ) أيْ: عَمُوا عَنْ إبْصارِ الهُدى، وصَمُّوا عَنِ اسْتِماعِ الحَقِّ، وهَذِهِ إشارَةٌ إلى ما وقَعَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ في الِابْتِداءِ مِن مُخالَفَةِ أحْكامِ التَّوْراةِ، وقَتْلِ شِعْيا، ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِينَ تابُوا، فَكَشَفَ عَنْهُمُ القَحْطَ ﴿ثُمَّ عَمُوا وصَمُّوا كَثِيرٌ مِنهُمْ﴾ وهَذا إشارَةٌ إلى ما وقَعَ مِنهم بَعْدَ التَّوْبَةِ مِن قَتْلِ يَحْيى بْنِ زَكَرِيّا وقَصْدِهِمْ لِقَتْلِ عِيسى، وارْتِفاعُ ( كَثِيرٌ ) عَلى البَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ في الفِعْلَيْنِ. قالَ الأخْفَشُ: كَما تَقُولُ رَأيْتُ قَوْمَكَ ثَلاثَتَهم، وإنْ شِئْتَ كانَ عَلى إضْمارِ مُبْتَدَأٍ؛ أيِ: العُمْيُ والصُّمُّ كَثِيرٌ مِنهم، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ كَثِيرٌ مُرْتَفِعًا عَلى الفاعِلِيَّةِ عَلى لُغَةِ مَن قالَ: أكَلُونِي البَراغِيثُ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ولَكِنْ دَفافِيٌّ أبُوهُ وأُمُّهُ ؎بِحَوْرانَ يَعْصِرْنَ السَّلِيطَ أقارِبُهُ وقُرِئَ ( عُمُوا وصُمُّوا ) بِالبِناءِ لِلْمَفْعُولِ؛ أيْ: أعْماهُمُ اللَّهُ وأصَمَّهم. قَوْلُهُ: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إنَّ اللَّهَ هو المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ هَذا كَلامٌ مُبْتَدَأٌ يَتَضَمَّنُ بَيانَ بَعْضِ فَضائِحِ أهْلِ الكِتابِ، والقائِلُونَ بِهَذِهِ المَقالَةِ هم فِرْقَةٌ مِنهم: يُقالُ لَهُمُ اليَعْقُوبِيَّةُ، وقِيلَ: هُمُ المِلْكانِيَّةُ، قالُوا: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ حَلَّ في ذاتِ عِيسى، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿وقالَ المَسِيحُ يابَنِي إسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكم﴾ أيْ: والحالُ أنَّهُ قَدْ قالَ المَسِيحُ هَذِهِ المَقالَةَ، فَكَيْفَ يَدَّعُونَ الإلَهِيَّةَ لِمَن يَعْتَرِفُ عَلى نَفْسِهِ بِأنَّهُ عَبْدٌ مِثْلُهم ؟ قَوْلُهُ: ﴿إنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ﴾ الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ، وهَذا كَلامٌ مُبْتَدَأٌ يَتَضَمَّنُ بَيانَ أنَّ الشِّرْكَ يُوجِبُ تَحْرِيمَ دُخُولِ الجَنَّةِ، وقِيلَ هو مِن قَوْلِ عِيسى: ﴿وما لِلظّالِمِينَ مِن أنْصارٍ﴾ يَنْصُرُونَهم فَيُدْخِلُونَهُمُ الجَنَّةَ أوْ يُخَلِّصُونَهم مِنَ النّارِ. قَوْلُهُ: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ﴾ وهَذا كَلامٌ أيْضًا مُبْتَدَأٌ لِبَيانِ بَعْضِ مَخازِيهِمْ، والمُرادُ بِثالِثِ ثَلاثَةٍ واحِدٌ مِن ثَلاثَةٍ، ولِهَذا يُضافُ إلى ما بَعْدَهُ، ولا يَجُوزُ التَّنْوِينُ كَما قالَ الزَّجّاجُ وغَيْرُهُ، وإنَّما يُنَوَّنُ ويُنْصَبُ ما بَعْدَهُ إذا كانَ ما بَعْدَهُ دُونَهُ بِمَرْتَبَةٍ نَحْوَ ثالِثُ اثْنَيْنِ ورابِعُ ثَلاثَةٍ، والقائِلُ بِأنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى ثالِثُ ثَلاثَةٍ هُمُ النَّصارى، والمُرادُ بِالثَّلاثَةِ: اللَّهُ سُبْحانَهُ، وعِيسى، ومَرْيَمُ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّيَ إلَهَيْنِ﴾ [المائدة: ١١٦] وهَذا هو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ثَلاثَةُ أقانِيمَ: إقْنِيمُ الأبِ وإقْنِيمُ الِابْنِ، وإقْنِيمُ رُوحِ القُدُسِ، وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ النِّساءِ كَلامٌ في هَذا، ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ سُبْحانَهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الدَّعْوى الباطِلَةَ فَقالَ: وما مِن إلَهٍ إلّا اللَّهُ الواحِدُ أيْ: لَيْسَ في الوُجُودِ إلّا اللَّهُ سُبْحانَهُ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ حالِيَّةٌ، والمَعْنى: قالُوا تِلْكَ المَقالَةَ، والحالُ أنَّهُ لا مَوْجُودَ إلّا اللَّهُ، ومِن في قَوْلِهِ: ( مِن إلَهٍ ) لِتَأْكِيدِ الِاسْتِغْراقِ المُسْتَفادِ مِنَ النَّفْيِ ﴿وإنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمّا يَقُولُونَ﴾ مِنَ الكُفْرِ ﴿لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ جَوابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ سادٌّ مَسَدَّ جَوابِ الشَّرْطِ، ومِن في ( مِنهم ) بَيانِيَّةٌ أوْ تَبْعِيضِيَّةٌ. ﴿أفَلا يَتُوبُونَ إلى اللَّهِ ويَسْتَغْفِرُونَهُ﴾ الفاءُ لِلْعَطْفِ عَلى مُقَدَّرٍ، والهَمْزَةُ لِلْإنْكارِ. قَوْلُهُ: ﴿ما المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ أيْ هو مَقْصُورٌ عَلى الرِّسالَةِ، لا يُجاوِزُها كَما زَعَمْتُمْ. وجُمْلَةُ ( ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ ) صِفَةٌ لِرَسُولٍ؛ أيْ: ما هو إلّا رَسُولٌ مِن جِنْسِ الرُّسُلِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِ، وما وقَعَ مِنهُ مِنَ المُعْجِزاتِ لا يُوجِبُ كَوْنَهُ إلَهًا، فَقَدْ كانَ لِمَن قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ مِثْلُها، فَإنَّ اللَّهَ أحْيا العَصا في يَدِ مُوسى وخَلَقَ آدَمَ مِن غَيْرِ أبٍ، فَكَيْفَ جَعَلْتُمْ إحْياءَ عِيسى لِلْمَوْتى ووُجُودَهُ مِن غَيْرِ أبٍ يُوجِبانِ كَوْنَهُ إلَهًا، فَإنْ كانَ كَما تَزْعُمُونَ إلَهًا لِذَلِكَ فَمَن قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ الَّذِينَ جاءُوا بِمِثْلِ ما جاءَ بِهِ آلِهَةٌ، وأنْتُمْ لا تَقُولُونَ بِذَلِكَ. قَوْلُهُ: ( ﴿وأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ ) عَطْفٌ عَلى المَسِيحِ؛ أيْ: وما أُمُّهُ إلّا صِدِّيقَةٌ؛ أيْ: صادِقَةٌ فِيما تَقُولُهُ أوْ مُصَدِّقَةٌ لِما جاءَ بِهِ ولَدُها مِنَ الرِّسالَةِ، وذَلِكَ لا يَسْتَلْزِمُ الإلَهِيَّةَ لَها، بَلْ هي كَسائِرِ مَن يَتَّصِفُ بِهَذا الوَصْفِ مِنَ النِّساءِ. قَوْلُهُ: (p-٣٨٧)﴿كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ﴾ اسْتِئْنافٌ يَتَضَمَّنُ التَّقْرِيرَ لِما أُشِيرَ إلَيْهِ مِن أنَّهُما كَسائِرِ أفْرادِ البَشَرِ؛ أيْ: مَن كانَ يَأْكُلُ الطَّعامَ كَسائِرِ المَخْلُوقِينَ فَلَيْسَ بِرَبٍّ، بَلْ هو عَبْدٌ مَرْبُوبٌ ولَدَتْهُ النِّساءُ، فَمَتى يَصْلُحُ لِأنْ يَكُونَ رَبًّا ؟ ! وأمّا قَوْلُكم إنَّهُ كانَ يَأْكُلُ الطَّعامَ بِناسُوتِهِ لا بِلاهُوتِهِ، فَهو كَلامٌ باطِلٌ يَسْتَلْزِمُ اخْتِلاطَ الإلَهِ بِغَيْرِ الإلَهِ واجْتِماعَ النّاسُوتِ واللّاهُوتِ، ولَوْ جازَ اخْتِلاطُ القَدِيمِ بِالحادِثِ لَجازَ أنْ يَكُونَ القَدِيمُ حادِثًا، ولَوْ صَحَّ هَذا في حَقِّ عِيسى لَصَحَّ في حَقِّ غَيْرِهِ مِنَ العِبادِ ﴿انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآياتِ﴾ أيِ: الدَّلالاتِ، وفِيهِ تَعْجِيبٌ مِن حالِ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ تِلْكَ الأوْصافَ مُسْتَلْزَمَةً لِلْإلَهِيَّةِ ويَغْفُلُونَ عَنْ كَوْنِها مَوْجُودَةً في زَمَنٍ لا يَقُولُونَ بِأنَّهُ إلَهٌ ( ﴿ثُمَّ انْظُرْ أنّى يُؤْفَكُونَ﴾ ) أيْ: كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ الحَقِّ بَعْدَ هَذا البَيانِ ؟ يُقالُ: أفَكَهُ يَأْفِكُهُ إذا صَرَفَهُ، وكَرَّرَ الأمْرَ بِالنَّظَرِ لِلْمُبالَغَةِ في التَّعْجِيبِ، وجاءَ بِثُمَّ لِإظْهارِ ما بَيْنَ العَجَبَيْنِ مِنَ التَّفاوُتِ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «جاءَ نافِعُ بْنُ حارِثَةَ وسَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ ومالِكُ بْنُ الصَّيْفِ ورافِعُ بْنُ حَرْمَلَةَ فَقالُوا: يا مُحَمَّدُ ألَسْتَ تَزْعُمُ أنَّكَ عَلى مِلَّةِ إبْراهِيمَ ودِينِهِ وتُؤْمِنُ بِما عِنْدَنا مِنَ التَّوْراةِ وتَشْهَدُ أنَّها مِنَ اللَّهِ حَقٌّ ؟ فَقالَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: بَلى ولَكِنَّكم أحْدَثْتُمْ وجَحَدْتُمْ ما فِيها مِمّا أُخِذَ عَلَيْكم مِنَ المِيثاقِ وكَفَرْتُمْ مِنها بِما أُمِرْتُمْ أنْ تُبَيِّنُوهُ لِلنّاسِ، فَبَرِئْتُ مِن أحْداثِكم، قالُوا: فَإنّا نُؤْخَذُ بِما في أيْدِينا وإنّا عَلى الهُدى والحَقِّ ولا نُؤْمِنُ بِكَ ولا نَتَّبِعُكَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿قُلْ ياأهْلَ الكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ والإنْجِيلَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿القَوْمِ الكافِرِينَ﴾» . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ الحَسَنِ في قَوْلِهِ: ﴿وحَسِبُوا ألّا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ قالَ: بَلاءٌ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتادَةَ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ﴾ قالَ: النَّصارى يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وكَذَبُوا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ قالَ: تَفَرَّقَتْ بَنُو إسْرائِيلَ ثَلاثَ فِرَقٍ في عِيسى، فَقالَتْ فِرْقَةٌ: هو اللَّهُ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: هو ابْنُ اللَّهِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: هو عَبْدُ اللَّهِ ورُوحُهُ، وهي المُقْتَصِدَةُ وهي مُسْلِمَةُ أهْلِ الكِتابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب