الباحث القرآني

ووَجْهُ اتِّصالِ هَذا بِما قَبْلَهُ التَّنْبِيهُ مِنَ اللَّهِ عَلى أنَّ ظُلْمَ اليَهُودِ ونَقْضَهُمُ المَواثِيقَ والعُهُودَ هو كَظُلْمِ ابْنِ آدَمَ لِأخِيهِ، فالدّاءُ قَدِيمٌ، والشَّرُّ أصِيلٌ، وقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في ابْنَيْ آدَمَ المَذْكُورَيْنِ هَلْ هُما لِصُلْبِهِ أمْ لا ؟ فَذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى الأوَّلِ، وذَهَبَ الحَسَنُ والضَّحّاكُ إلى الثّانِي، وقالا: إنَّهُما كانا مِن بَنِي إسْرائِيلَ (p-٣٦٦)فَضُرِبَ بِهِما المَثَلُ في إبانَةِ حَسَدِ اليَهُودِ، وكانَتْ بَيْنَهُما خُصُومَةٌ فَتَقَرَّبا بِقُرْبانَيْنِ ولَمْ تَكُنِ القَرابِينُ إلّا في بَنِي إسْرائِيلَ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا وهْمٌ كَيْفَ يَجْهَلُ صُورَةَ الدَّفْنِ أحَدٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ حَتّى يَقْتَدِيَ بِالغُرابِ ؟ قالَ الجُمْهُورُ مِنَ الصَّحابَةِ فَمَن بَعْدَهم: واسْمُهُما قابِيلُ وهابِيلُ، وكانَ قُرْبانُ قابِيلَ حِزْمَةٌ مِن سُنْبُلٍ؛ لِأنَّهُ كانَ صاحِبَ زَرْعٍ واخْتارَها مِن أرْدَأِ زَرْعِهِ، حَتّى إنَّهُ وجَدَ فِيها سُنْبُلَةً طَيِّبَةً فَفَرَكَها وأكَلَها، وكانَ قُرْبانُ هابِيلَ كَبْشًا لِأنَّهُ كانَ صاحِبُ غَنَمٍ أخَذَهُ مِن أجْوَدِ غَنَمِهِ، فَتُقُبِّلَ قُرْبانُ هابِيلَ فَرُفِعَ إلى الجَنَّةِ فَلَمْ يَزَلْ يَرْعى فِيها إلى أنْ فُدِيَ بِهِ الذَّبِيحُ عَلَيْهِ السَّلامُ، كَذا قالَ جَماعَةٌ مِنَ السَّلَفِ، ولَمْ يُتَقَبَّلْ قُرْبانُ قابِيلَ، فَحَسَدَهُ وقالَ: لَأقْتُلَنَّكَ. وقِيلَ: سَبَبُ هَذا القُرْبانِ أنَّ حَوّاءَ كانَتْ تَلِدُ في كُلِّ بَطْنٍ ذَكَرًا وأُنْثى، إلّا شِيثًا عَلَيْهِ السَّلامُ فَإنَّها ولَدَتْهُ مُنْفَرِدًا، وكانَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ يُزَوِّجُ الذَّكَرَ مِن هَذا البَطْنِ بِالأُنْثى مِنَ البَطْنِ الآخَرِ، ولا تَحِلُّ لَهُ أُخْتُهُ الَّتِي وُلِدَتْ مَعَهُ، فَوُلِدَتْ مَعَ قابِيلَ أُخْتٌ جَمِيلَةٌ واسْمُها إقْلِيما، ومَعَ هابِيلَ أُخْتٌ لَيْسَتْ كَذَلِكَ واسْمُها لِيُوذا فَلَمّا أرادَ آدَمُ تَزْوِيجَها قالَ قابِيلُ: أنا أحَقُّ بِأُخْتِي، فَأمَرَهُ آدَمُ فَلَمْ يَأْتَمِرْ وزَجَرَهُ فَلَمْ يَنْزَجِرْ، فاتَّفَقُوا عَلى القُرْبانِ وأنْ يَتَزَوَّجَها مَن يُقْبَلُ قُرْبانُهُ. قَوْلُهُ: ( بِالحَقِّ ) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لِمَصْدَرٍ ( واتْلُ ) أيْ: تِلاوَةً مُتَلَبِّسَةً بِالحَقِّ، أوْ صِفَةٌ لِ ( نَبَأ ) أيْ: نَبَأً مُتَلَبِّسًا بِالحَقِّ، والمُرادُ بِأحَدِهِما هابِيلُ وبِالآخَرِ قابِيلُ، و( قالَ لَأقْتُلَنَّكَ ) اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ كَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا حالُ الَّذِي لَمْ يُتَقَبَّلْ قُرْبانُهُ ؟ وقَوْلُهُ: ﴿قالَ إنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ﴾ اسْتِئْنافٌ كالأوَّلِ كَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا قالَ الَّذِي تُقُبِّلَ قُرْبانُهُ ؟ وإنَّما لِلْحَصْرِ؛ أيْ: إنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ القُرْبانَ مِنَ المُتَّقِينَ لا مِن غَيْرِهِمْ، وكَأنَّهُ يَقُولُ لِأخِيهِ: إنَّما أُتِيتَ مِن قِبَلِ نَفْسِكَ لا مِن قِبَلِي، فَإنَّ عَدَمَ تَقَبُّلِ قُرْبانِكَ بِسَبَبِ عَدَمِ تَقْواكَ. قَوْلُهُ: ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي﴾ أيْ: لَئِنْ قَصَدْتَ قَتْلِي، واللّامُ هي المُوَطِّئَةُ، و( ما أنا بِباسِطٍ ) جَوابُ القَسَمِ سادَّ مَسَدَّ جَوابِ الشَّرْطِ، وهَذا اسْتِسْلامٌ لِلْقَتْلِ مِن هابِيلَ، كَما ورَدَ في الحَدِيثِ: «إذا كانَتِ الفِتْنَةُ فَكُنْ كَخَيْرِ ابْنَيْ آدَمَ، وتَلا النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ» قالَ مُجاهِدٌ: كانَ الفَرْضُ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ أنْ لا يَسِلَّ أحَدٌ سَيْفًا وأنْ لا يَمْتَنِعَ مِمَّنْ يُرِيدُ قَتْلَهُ، قالَ القُرْطُبِيُّ: قالَ عُلَماؤُنا: وذَلِكَ مِمّا يَجُوزُ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِهِ، إلّا أنَّ في شَرْعِنا يَجُوزُ دَفْعُهُ إجْماعًا، وفي وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ خِلافٌ، والأصَحُّ وُجُوبُ ذَلِكَ لِما فِيهِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ. وفِي الحَشْوِيَّةِ قَوْمٌ لا يُجَوِّزُونَ لِلْمَصُولِ عَلَيْهِ الدَّفْعَ، واحْتَجُّوا بِحَدِيثِ أبِي ذَرٍّ، وحَمَلَهُ العُلَماءُ عَلى تَرْكِ القِتالِ في الفِتْنَةِ وكَفِّ اليَدِ عِنْدَ الشُّبْهَةِ عَلى ما بَيَّنّاهُ في كِتابِ التَّذْكِرَةِ، انْتَهى كَلامُ القُرْطُبِيِّ، وحَدِيثُ أبِي ذَرٍّ المُشارُ إلَيْهِ هو عِنْدَ مُسْلِمٍ وأهْلِ السُّنَنِ إلّا النَّسائِيَّ، وفِيهِ: «أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ لَهُ: يا أبا ذَرٍّ أرَأيْتَ إنْ قَتَلَ النّاسُ بَعْضُهم بَعْضًا كَيْفَ تَصْنَعُ ؟ قُلْتُ: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ، قالَ: اقْعُدْ في بَيْتِكَ وأغْلِقْ عَلَيْكَ بابَكَ، قالَ: فَإنْ لَمْ أتْرُكْ، قالَ: فائِتِ مَن أنْتَ مِنهم فَكُنْ فِيهِمْ، قالَ: فَآخُذُ سِلاحِي ؟ قالَ: إذَنْ تُشارِكُهم فِيما هم فِيهِ، ولَكِنْ إذا خَشِيتَ أنْ يَرْدَعَكَ شُعاعُ السَّيْفِ فَألْقِ طَرَفَ رِدائِكَ عَلى وجْهِكَ كَيْ يَبُوءَ بِإثْمِهِ وإثْمِكَ» وفي مَعْناهُ أحادِيثُ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ وأبِي هُرَيْرَةَ وخَبّابِ بْنِ الأرَتِّ وأبِي بَكْرٍ وابْنِ مَسْعُودٍ وأبِي واقِدٍ وأبِي مُوسى. قَوْلُهُ: ﴿إنِّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بِإثْمِي وإثْمِكَ فَتَكُونَ مِن أصْحابِ النّارِ﴾ هَذا تَعْلِيلٌ لِامْتِناعِهِ مِنَ المُقاتَلَةِ بَعْدَ التَّعْلِيلِ الأوَّلِ وهو ﴿إنِّي أخافُ اللَّهَ رَبَّ العالَمِينَ﴾ . اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في المَعْنى فَقِيلَ: أرادَ هابِيلُ إنِّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بِالإثْمِ الَّذِي كانَ يَلْحَقُنِي لَوْ كُنْتُ حَرِيصًا عَلى قَتْلِكَ، وبِإثْمِكَ الَّذِي تَحَمَّلْتَهُ بِسَبَبِ قَتْلِي، وقِيلَ: المُرادُ بِإثْمِي الَّذِي يَخْتَصُّ بِي بِسَبَبٍ سَيَأْتِي فَيُطْرَحُ عَلَيْكَ بِسَبَبِ ظُلْمِكَ لِي وتَبُوءَ بِإثْمِكَ في قَتْلِي، وهَذا يُوافِقُ مَعْناهُ مَعْنى ما ثَبَتَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِن قَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «يُؤْتى يَوْمَ القِيامَةِ بِالظّالِمِ والمَظْلُومِ، فَيُؤْخَذُ مِن حَسَناتِ الظّالِمِ فَتُزادُ في حَسَناتِ المَظْلُومِ حَتّى يَنْتَصِفَ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَناتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئاتِ المَظْلُومِ فَتُطْرَحُ عَلَيْهِ»، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَيَحْمِلُنَّ أثْقالَهم وأثْقالًا مَعَ أثْقالِهِمْ﴾ [العنكبوت: ١٣] وقِيلَ: المَعْنى: إنِّي أُرِيدُ أنْ لا تَبُوءَ بِإثْمِي وإثْمِكَ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وألْقى في الأرْضِ رَواسِيَ أنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ [النحل: ١٥] أيْ: أنْ لا تَمِيدَ بِكم. وقَوْلُهُ: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكم أنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء: ١٦٧] أيْ: أنْ لا تَضِلُّوا، وقالَ أكْثَرُ العُلَماءِ: إنَّ المَعْنى ﴿إنِّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بِإثْمِي﴾ أيْ: بِإثْمِ قَتْلِكَ لِي: ( وإثْمِكَ ) الَّذِي قَدْ صارَ عَلَيْكَ بِذُنُوبِكَ مِن قَبْلِ قَتْلِي، قالَ الثَّعْلَبِيُّ: هَذا قَوْلُ عامَّةِ المُفَسِّرِينَ وقِيلَ: هو عَلى وجْهِ الإنْكارِ؛ أيْ: أوْ إنِّي أُرِيدُ عَلى وجْهِ الإنْكارِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ( وتِلْكَ نِعْمَةٌ ) [الشعراء: ٢٢] أيْ: أوْ تِلْكَ نِعْمَةٌ، قالَهُ القُشَيْرِيُّ، ووَجْهُهُ بِأنَّ إرادَةَ القَتْلِ مَعْصِيَةٌ. وسُئِلَ أبُو الحَسَنِ بْنُ كِيسانَ كَيْفَ يُرِيدُ المُؤْمِنُ أنْ يَأْثَمَ أخُوهُ وأنْ يَدْخُلَ النّارَ ؟ فَقالَ: وقَعَتِ الإرادَةُ بَعْدَما بَسَطَ يَدَهُ إلَيْهِ بِالقَتْلِ، وهَذا بَعِيدٌ جِدًّا، وكَذَلِكَ الَّذِي قَبْلَهُ، وأصْلُ باءَ رَجَعَ إلى المَباءَةِ، وهي المَنزِلُ: ( وباءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ) [آل عمران: ١١٢] أيْ: رَجَعُوا. قَوْلُهُ: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أخِيهِ﴾ أيْ سَهَّلَتْ نَفْسُهُ عَلَيْهِ الأمْرَ وشَجَّعَتْهُ وصَوَّرَتْ لَهُ أنَّ قَتْلَ أخِيهِ طَوْعَ يَدِهِ سَهْلٌ عَلَيْهِ، يُقالُ تَطَوَّعَ الشَّيْءُ؛ أيْ: سَهُلَ وانْقادَ وطَوَّعَهُ فُلانٌ لَهُ؛ أيْ: سَهَّلَهُ، قالَ الهَرَوِيُّ: طَوَّعَتْ وطاوَعَتْ واحِدٌ، يُقالُ طاعَ لَهُ كَذا: إذا أتاهُ طَوْعًا، وفي ذِكْرِ تَطْوِيعِ نَفْسِهِ لَهُ بَعْدَما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِ قابِيلَ: ( لَأقْتُلَنَّكَ ) وقَوْلِ هابِيلَ: ( لِتَقْتُلَنِي ) دَلِيلٌ عَلى أنَّ التَّطْوِيعَ لَمْ يَكُنْ قَدْ حَصَلَ لَهُ عِنْدَ تِلْكَ المُقاوَلَةِ. قَوْلُهُ: ( فَقَتَلَهُ ) قالَ ابْنُ جَرِيرٍ ومُجاهِدٌ وغَيْرُهُما: رُوِيَ أنَّهُ جَهِلَ كَيْفَ يَقْتُلُ أخاهُ فَجاءَهُ إبْلِيسُ بِطائِرٍ أوْ حَيَوانٍ غَيْرِهِ، فَجَعَلَ يَشْدَخُ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ لِيَقْتَدِيَ بِهِ قابِيلَ فَفَعَلَ، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمّا يَحْتاجُ إلى تَصْحِيحِ الرِّوايَةِ. قَوْلُهُ: ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ غُرابًا يَبْحَثُ في الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأةَ أخِيهِ﴾ قِيلَ: إنَّهُ لَمّا قَتَلَ أخاهُ لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يُوارِيهِ لِكَوْنِهِ أوَّلَ مَيِّتٍ ماتَ مِن بَنِي آدَمَ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرابَيْنِ أخَوَيْنِ فاقْتَتَلا فَقَتَلَ أحَدُهُما صاحِبَهُ فَحَفَرَ لَهُ ثُمَّ حَثا عَلَيْهِ، فَلَمّا رَآهُ قابِيلُ ﴿قالَ ياوَيْلَتا أعَجَزْتُ أنْ أكُونَ مِثْلَ هَذا الغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأةَ أخِي﴾ فَواراهُ، والضَّمِيرُ المُسْتَكِنُّ في ( لِيُرِيَهُ ) لِلْغُرابِ، وقِيلَ: لِلَّهِ سُبْحانَهُ، و( كَيْفَ ) في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِن ضَمِيرِ ( يُوارِي ) والجُمْلَةُ ثانِي مَفْعُولَيْ ( يُرِيَهُ ) والمُرادُ بِالسَّوْءَةِ هُنا ذاتُهُ كُلُّها لِكَوْنِها مَيْتَةً، و( قالَ ) اسْتِئْنافُ جَوابِ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ مِن سَوْقِ الكَلامِ، كَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا قالَ عِنْدَ أنْ شاهَدَ الغُرابَ يَفْعَلُ ذَلِكَ ؟ و( يا ويْلَتى ) كَلِمَةُ تَحَسُّرٍ وتَحَزُّنٍ، والألِفُ بَدَلٌ مِن ياءِ المُتَكَلِّمِ كَأنَّهُ دَعا ويْلَتَهُ بِأنْ تَحْضُرَ في ذَلِكَ الوَقْتِ، والوَيْلَةُ الهَلَكَةُ، والكَلامُ خارِجٌ مَخْرَجَ التَّعَجُّبِ مِنهُ مِن عَدَمِ اهْتِدائِهِ لِمُواراةِ أخِيهِ كَما اهْتَدى الغُرابُ إلى ذَلِكَ ( فَأُوارِيَ ) بِالنَّصْبِ عَلى أنَّهُ جَوابُ الِاسْتِفْهامِ، وقُرِئَ بِالسُّكُونِ عَلى تَقْدِيرِ فَأنا أُوارِي ﴿فَأصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ﴾ عَلى قَتْلِهِ، وقِيلَ: لَمْ يَكُنْ نَدَمُهُ نَدَمَ تَوْبَةٍ بَلْ نَدِمَ لِفَقْدِهِ، لا عَلى قَتْلِهِ، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ عَساكِرَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: ( نَهى أنْ تَنْكِحَ المَرْأةُ أخاها تَوْأمَها، وأنْ يَنْكِحَها غَيْرُهُ مِن إخْوَتِها، وكانَ يُولَدُ لَهُ في كُلِّ بَطْنٍ رَجُلٌ وامْرَأةٌ، فَبَيْنَما هم كَذَلِكَ وُلِدَ لَهُ امْرَأةٌ وضِيئَةٌ، ووَلَدٌ لَهُ أُخْرى قَبِيحَةٌ دَمِيمَةٌ، فَقالَ أخُو الدَّمِيمَةِ: أنْكِحْنِي أُخْتُكَ وأنْكِحُكَ أُخْتِي، فَقالَ: لا، أنا أحَقُّ بِأُخْتِي، فَقَرَّبا قُرْبانًا، فَجاءَ صاحِبُ الغَنَمِ بِكَبْشٍ أعْيَنَ أقْرَنَ أبْيَضَ، وصاحِبُ الحَرْثِ بِصُبْرَةٍ مِن طَعامٍ فَتُقُبِّلَ مِن صاحِبِ الكَبْشِ، ولَمْ يُتَقَبَّلْ مِن صاحِبِ الزَّرْعِ ) قالَ ابْنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِهِ: إسْنادُهُ جَيِّدٌ، وكَذا قالَ السُّيُوطِيُّ في الدُّرِّ المَنثُورِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قالَ: كانَ مِن شَأْنِ بَنِي آدَمَ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِسْكِينٌ يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وإنَّما كانَ القُرْبانُ يُقَرِّبُهُ الرَّجُلُ، فَبَيْنَما ابْنا آدَمَ قاعِدانِ إذْ قالا: لَوْ قَرَّبْنا قُرْبانًا ثُمَّ ذَكَرا ما قَرَّباهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ( لَئِنْ بَسَطْتَ إلَيَّ يَدَكَ ) قالَ: كَتَبَ عَلَيْهِمْ إذا أرادَ الرَّجُلُ أنْ يَقْتُلَ رَجُلًا تَرَكَهُ ولا يَمْتَنِعَ مِنهُ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿إنِّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بِإثْمِي وإثْمِكَ﴾ يَقُولُ: إنِّي أُرِيدُ أنْ تَكُونَ عَلَيْكَ خَطِيئَتَكَ ودَمِي فَتَبُوءَ بِهِما جَمِيعًا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ ( بِإثْمِي ) قالَ: بِقَتْلِكَ إيّايَ ( وإثْمِكَ ) قالَ: بِما كانَ مِنكَ قَبْلَ ذَلِكَ. وأخْرَجَ عَنْ قَتادَةَ والضَّحّاكِ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أخِيهِ﴾ قالَ: شَجَّعَتْهُ عَلى قَتْلِ أخِيهِ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ قَتادَةَ في الآيَةِ قالَ: زَيَّنَتْ لَهُ نَفْسُهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وناسٍ مِنَ الصَّحابَةِ في قَوْلِهِ: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أخِيهِ﴾ فَطَلَبَهُ لِيَقْتُلَهُ فَراغَ الغُلامُ مِنهُ في رُءُوسِ الجِبالِ فَأتاهُ يَوْمًا مِنَ الأيّامِ وهو يَرْعى غَنَمًا لَهُ وهو نائِمٌ، فَرَفَعَ صَخْرَةً فَشَدَخَ بِها رَأْسَهُ فَماتَ، فَتَرَكَهُ بِالعَراءِ ولا يَعْلَمُ كَيْفَ يَدْفِنُ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرابَيْنِ أخَوَيْنِ فاقْتَتَلا فَقَتَلَ أحَدُهُما صاحِبَهُ فَحَفَرَ لَهُ (p-٣٦٧)ثُمَّ حَثا عَلَيْهِ، فَلَمّا رَآهُ ﴿قالَ ياوَيْلَتا أعَجَزْتُ أنْ أكُونَ مِثْلَ هَذا الغُرابِ﴾ وقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما مِن حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إلّا كانَ عَلى ابْنِ آدَمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِن دَمِها؛ لِأنَّهُ أوَّلُ مَن سَنَّ القَتْلَ» وقَدْ رُوِيَ في صِفَةِ قَتْلِهِ لِأخِيهِ رِواياتٌ اللَّهُ أعْلَمُ بِصِحَّتِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب