الباحث القرآني

قالَ القُرْطُبِيُّ: هي مَدَنِيَّةٌ بِالإجْماعِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ قَتادَةَ قالَ: المائِدَةُ مَدَنِيَّةٌ. وأخْرَجَ أحْمَدُ، والنَّسائِيُّ، وابْنُ المُنْذِرِ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قالَ: حَجَجْتُ فَدَخَلْتُ عَلى عائِشَةَ، فَقالَتْ لِي: يا جُبَيْرُ تَقْرَأُ المائِدَةَ ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقالَتْ: أما إنَّها آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ، فَما وجَدْتُمْ فِيها مِن حَلالٍ فاسْتَحِلُّوهُ، وما وجَدْتُمْ مِن حَرامٍ فَحَرِّمُوهُ. وأخْرَجَ أحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قالَ: آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ سُورَةُ المائِدَةِ والفَتْحِ. وأخْرَجَ أحْمَدُ عَنْهُ قالَ: «أُنْزِلَتْ عَلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ سُورَةُ المائِدَةِ وهو راكِبٌ عَلى راحِلَتِهِ فَلَمْ تَسْتَطِعْ أنْ تَحْمِلَهُ، فَنَزَلَ عَنْها»، قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: تَفَرَّدَ بِهِ أحْمَدُ، قُلْتُ: وفي إسْنادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ. وأخْرَجَ أحْمَدُ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، ومُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ في كِتابِ الصَّلاةِ والطَّبَرانِيُّ، وأبُو نُعَيْمٍ في (p-٣٤٩)الدَّلائِلِ والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ، عَنْ أسْماءَ بِنْتِ يَزِيدَ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ في مُسْنَدِهِ والبَغَوِيُّ في مُعْجَمِهِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في دَلائِلِ النُّبُوَّةِ، عَنْ أُمِّ عَمْرٍو بِنْتِ عِيسى عَنْ عَمِّها نَحْوَهُ أيْضًا. وأخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ نَحْوَهُ. وزادَ أنَّها نَزَلَتْ في حَجَّةِ الوَداعِ فِيما بَيْنَ مَكَّةَ والمَدِينَةِ، وهَكَذا أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ بِهَذِهِ الزِّيادَةِ وأخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ، وعَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ قالا: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «المائِدَةُ مِن آخِرِ القُرْآنِ تَنْزِيلًا، فَأحِلُّوا حَلالَها وحَرِّمُوا حَرامَها» . وأخْرَجَ أبُو داوُدَ، والنَّحاسُ كِلاهُما في النَّسْخِ، عَنْ أبِي مَيْسَرَةَ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ قالَ: لَمْ يُنْسَخْ مِنَ المائِدَةِ شَيْءٌ، وكَذا أخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ، وكَذا أخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وأبُو داوُدَ في ناسِخِهِ وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وكَذا أخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وأبُو داوُدَ في ناسِخِهِ وابْنُ المُنْذِرِ، عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وأبُو داوُدَ في ناسِخِهِ وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قالَ: لَمْ يُنْسَخْ مِنَ المائِدَةِ إلّا هَذِهِ الآيَةُ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ ولا الشَّهْرَ الحَرامَ ولا الهَدْيَ ولا القَلائِدَ﴾ . وأخْرَجَ أبُو داوُدَ في ناسِخِهِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: نُسِخَ مِن هَذِهِ السُّورَةِ آيَتانِ، آيَةُ القَلائِدِ وقَوْلُهُ: ﴿فَإنْ جاءُوكَ فاحْكم بَيْنَهم أوْ أعْرِضْ عَنْهم﴾ [المائدة: ٤٢] وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ في مُسْنَدِهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قَرَأ في خُطْبَتِهِ سُورَةَ المائِدَةِ والتَّوْبَةِ، وذَكَرَ النَّقّاشُ، عَنْ أبِي سَلَمَةَ أنَّهُ قالَ: ( لَمّا رَجَعَ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ مِنَ الحُدَيْبِيَةِ قالَ: يا عَلِيُّ أشْعَرْتَ أنَّها نَزَلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ المائِدَةِ ؟ ونَعِمَتِ الفائِدَةُ ) قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: هَذا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ اعْتِقادُهُ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذا عِنْدِي لا يُشْبِهُ كَلامَ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ. * * * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بِالعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكم بَهِيمَةُ الأنْعامِ إلّا ما يُتْلى عَلَيْكم غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وأنْتُمْ حُرُمٌ إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ ولا الشَّهْرَ الحَرامَ ولا الهَدْيَ ولا القَلائِدَ ولا آمِّينَ البَيْتَ الحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِن رَبِّهِمْ ورِضْوانًا وإذا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا ولا يَجْرِمَنَّكم شَنَآنُ قَوْمٍ أنْ صَدُّوكم عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ أنْ تَعْتَدُوا وتَعاوَنُوا عَلى البِرِّ والتَّقْوى ولا تَعاوَنُوا عَلى الإثْمِ والعُدْوانِ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقابِ﴾ هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي افْتَتَحَ اللَّهُ بِها هَذِهِ السُّورَةَ إلى قَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ﴾ فِيها مِنَ البَلاغَةِ ما تَتَقاصَرُ عِنْدَهُ القُوى البَشَرِيَّةُ مَعَ شُمُولِها لِأحْكامٍ عِدَّةٍ: مِنها الوَفاءُ بِالعُقُودِ، ومِنها تَحْلِيلُ بَهِيمَةِ الأنْعامِ، ومِنها اسْتِثْناءُ ما سَيُتْلى مِمّا لا يَحِلُّ، ومِنها تَحْرِيمُ الصَّيْدِ عَلى المُحْرِمِ، ومِنها إباحَةُ الصَّيْدِ لِمَن لَيْسَ بِمُحْرِمٍ، وقَدْ حَكى النَّقّاشُ أنَّ أصْحابَ الفَيْلَسُوفِ الكِنْدِيِّ قالُوا لَهُ: أيُّها الحَكِيمُ اعْمَلْ لَنا مِثْلَ هَذا القُرْآنِ، فَقالَ: نَعَمْ أعْمَلُ مِثْلَ بَعْضِهِ، فاحْتَجَبَ أيّامًا كَثِيرَةً ثُمَّ خَرَجَ فَقالَ: واللَّهِ ما أقْدِرُ ولا يُطِيقُ هَذا أحَدٌ، إنِّي فَتَحْتُ المُصْحَفَ فَخَرَجَتْ سُورَةُ المائِدَةِ، فَنَظَرْتُ فَإذا هو قَدْ نَطَقَ بِالوَفاءِ ونَهى عَنِ النَّكْثِ، وحَلَّلَ تَحْلِيلًا عامًّا، ثُمَّ اسْتَثْنى بَعْدَ اسْتِثْناءٍ، ثُمَّ أخْبَرَ عَنْ قُدْرَتِهِ وحِكْمَتِهِ في سَطْرَيْنِ، ولا يَقْدِرُ أحَدٌ أنْ يَأْتِيَ بِهَذا. قَوْلُهُ: ﴿أوْفُوا بِالعُقُودِ﴾ يُقالُ: أوْفى ووَفى لُغَتانِ وقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُما الشّاعِرُ فَقالَ: ؎أمّا ابْنُ طَوْفٍ فَقَدْ أوْفى بِذِمَّتِهِ كَما وفى بِقِلاصِ النَّجْمِ حادِيها والعُقُودُ: العُهُودُ، وأصْلُ العُقُودِ الرُّبُوطُ، واحِدُها عَقْدٌ، يُقالُ: عَقَدْتُ الحَبْلَ والعَهْدَ، فَهو يُسْتَعْمَلُ في الأجْسامِ والمَعانِي، وإذا اسْتُعْمِلَ في المَعانِي كَما هُنا أفادَ أنَّهُ شَدِيدُ الإحْكامِ، قَوِيُّ التَّوْثِيقِ، قِيلَ: المُرادُ بِالعُقُودِ هي الَّتِي عَقَدَها اللَّهُ عَلى عِبادِهِ وألْزَمَهم بِها مِنَ الأحْكامِ، وقِيلَ: هي العُقُودُ الَّتِي يَعْقِدُونَها بَيْنَهم مِن عُقُودِ المُعامَلاتِ، والأوْلى شُمُولُ الآيَةِ لِلْأمْرَيْنِ جَمِيعًا، ولا وجْهَ لِتَخْصِيصِ بَعْضِها دُونَ بَعْضٍ، قالَ الزَّجّاجُ: المَعْنى: أوْفَوْا بِعَقْدِ اللَّهِ عَلَيْكم وبِعَقْدِكم بَعْضَكم عَلى بَعْضٍ، انْتَهى. والعَقْدُ الَّذِي يَجِبُ الوَفاءُ بِهِ ما وافَقَ كِتابَ اللَّهِ وسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، فَإنْ خالَفَهُما فَهو رَدٌّ لا يُجِبِ الوَفاءُ بِهِ ولا يَحِلُّ. قَوْلُهُ: ﴿أُحِلَّتْ لَكم بَهِيمَةُ الأنْعامِ﴾ الخِطابُ لِلَّذِينِ آمَنُوا، والبَهِيمَةُ: اسْمٌ لِكُلِّ ذِي أرْبَعٍ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِإبْهامِها مِن جِهَةِ نَقْصِ نُطْقِها وفَهْمِها وعَقْلِها، ومِنهُ بابٌ مُبْهَمٌ؛ أيْ: مُغْلَقٌ، ولَيْلٌ بَهِيمٌ، وبُهْمَةٌ لِلشُّجاعِ الَّذِي لا يَدْرِي مِن أيْنَ يُؤْتى، وحَلْقَةٌ مُبْهَمَةٌ: لا يُدْرى أيْنَ طَرَفاها، والأنْعامُ: اسْمٌ لِلْإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِما في مَشْيِها مِنَ اللِّينِ وقِيلَ: بَهِيمَةُ الأنْعامِ: وحْشِيُّها كالظِّباءِ وبَقَرِ الوَحْشِ والحُمُرِ الوَحْشِيَّةِ وغَيْرِ ذَلِكَ، حَكاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْمٍ، وحَكاهُ غَيْرُهُ عَنِ السُّدِّيِّ، والرَّبِيعِ، وقَتادَةَ، والضَّحّاكِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا قَوْلٌ حَسَنٌ، وذَلِكَ أنَّ الأنْعامَ هي الثَّمانِيَةُ الأزْواجُ، وما انْضافَ إلَيْها مِن سائِرِ الحَيَواناتِ يُقالُ لَهُ أنْعامٌ مَجْمُوعَةٌ مَعَها، وكَأنَّ المُفْتَرِسَ كالأسَدِ، وكُلُّ ذِي نابٍ خارِجٍ عَنْ حَدِّ الأنْعامِ، فَبَهِيمَةُ الأنْعامِ هي الرّاعِي مِن ذَواتِ الأرْبَعِ، وقِيلَ: بَهِيمَةُ الأنْعامِ: ما لَمْ تَكُنْ صَيْدًا؛ لِأنَّ الصَّيْدَ يُسَمّى وحْشًا لا بَهِيمَةً، وقِيلَ: بَهِيمَةُ الأنْعامِ: الأجِنَّةُ الَّتِي تَخْرُجُ عِنْدَ الذَّبْحِ مِن بُطُونِ الأنْعامِ فَهي تُؤْكَلُ مِن دُونِ ذَكاةٍ، وعَلى القَوْلِ الأوَّلِ أعْنِي تَخْصِيصَ الأنْعامِ بِالإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ تَكُونُ الإضافَةُ بَيانِيَّةٌ، ويَلْحَقُ بِها ما يَحِلُّ مِمّا هو خارِجٌ عَنْها بِالقِياسِ، بَلْ وبِالنُّصُوصِ الَّتِي في الكِتابِ والسُّنَّةِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلّا أنْ يَكُونَ مَيْتَةً﴾ الآيَةَ، وقَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «يَحْرُمُ كُلُّ ذِي نابٍ مِنَ السَّبُعِ ومِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ» فَإنَّهُ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلى أنَّ ما عَداهُ حَلالٌ، وكَذَلِكَ سائِرُ النُّصُوصِ الخاصَّةِ بِنَوْعٍ كَما في كُتُبِ السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ. قَوْلُهُ: ﴿إلّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ﴾ اسْتِثْناءٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿أُحِلَّتْ لَكم بَهِيمَةُ الأنْعامِ﴾ أيْ: إلّا مَدْلُولَ ما يُتْلى عَلَيْكم فَإنَّهُ لَيْسَ بِحَلالٍ، والمَتْلُوُّ: هو ما نَصَّ اللَّهُ عَلى تَحْرِيمِهِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ﴾ الآيَةَ، (p-٣٥٠)ويَلْحَقُ بِهِ ما صَرَّحَتِ السُّنَّةُ بِتَحْرِيمِهِ، وهَذا الِاسْتِثْناءُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِ إلّا ما يُتْلى عَلَيْكُمُ الآنَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِ في مُسْتَقْبَلِ الزَّمانِ، فَيَدُلُّ عَلى جَوازِ تَأْخِيرِ البَيانِ عَنْ وقْتِ الحاجَةِ، ويُحْتَمَلُ الأمْرَيْنِ جَمِيعًا. قَوْلُهُ: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ ذَهَبَ البَصْرِيُّونَ إلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إلّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ﴾ اسْتِثْناءٌ مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ وقَوْلَهُ: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ اسْتِثْناءٌ آخَرُ مِنهُ أيْضًا، فالِاسْتِثْناءانِ جَمِيعًا مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ، والتَّقْدِيرُ: أُحِلِّتْ لَكم بَهِيمَةُ الأنْعامِ إلّا ما يُتْلى عَلَيْكم إلّا الصَّيْدَ وأنْتُمْ مُحْرِمُونَ، وقِيلَ: الِاسْتِثْناءُ الأوَّلُ مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ، والِاسْتِثْناءُ الثّانِي هو مِنَ الِاسْتِثْناءِ الأوَّلِ، ورُدَّ بِأنَّ هَذا يَسْتَلْزِمُ إباحَةَ الصَّيْدِ في حالِ الإحْرامِ؛ لِأنَّهُ مُسْتَثْنى مِنَ المَحْظُورِ فَيَكُونُ مُباحًا، وأجازَ الفَرّاءُ أنْ يَكُونَ ( إلّا ما يُتْلى ) في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى البَدَلِ، ولا يُجِيزُهُ البَصْرِيُّونَ إلّا في النَّكِرَةِ وما قارَبَها مِنَ الأجْناسِ، قالَ: وانْتِصابُ ( غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ ) عَلى الحالِ مِن قَوْلِهِ: ( أوْفُوا بِالعُقُودِ ) وكَذا قالَ الأخْفَشُ، وقالَ غَيْرُهُما: حالٌ مِنَ الكافِ والمِيمِ في ( لَكم ) والتَّقْدِيرُ: أُحِلِّتْ لَكم بَهِيمَةُ الأنْعامِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ؛ أيْ: الِاصْطِيادِ في البَرِّ وأكْلِ صَيْدِهِ. ومَعْنى عَدَمِ إحْلالِهِمْ لَهُ تَقْرِيرُ حُرْمَتِهِ عَمَلًا واعْتِقادًا وهم حُرُمٌ؛ أيْ: مُحِرِمُونَ، وجُمْلَةُ ( وأنْتُمْ حُرُمٌ ) في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ في ( مُحِلِّي ) ومَعْنى هَذا التَّقْيِيدِ ظاهِرٌ عِنْدَ مَن يَخُصُّ بَهِيمَةَ الأنْعامِ بِالحَيَواناتِ الوَحْشِيَّةِ البَرِّيَّةِ الَّتِي يَحِلُّ أكْلَها كَأنَّهُ قالَ: أُحِلَّ لَكم صَيْدُ البَرِّ إلّا في حالِ الإحْرامِ، وأمّا عَلى قَوْلِ مَن يَجْعَلُ الإضافَةَ بَيانِيَّةٌ فالمَعْنى: أُحِلِّتْ لَكم بَهِيمَةٌ هي الأنْعامُ حالَ تَحْرِيمِ الصَّيْدِ عَلَيْكم بِدُخُولِكم في الإحْرامِ لِكَوْنِكم مُحْتاجِينَ إلى ذَلِكَ، فَيَكُونُ المُرادُ بِهَذا التَّقْيِيدِ الِامْتِنانُ عَلَيْهِمْ بِتَحْلِيلِ ما عَدا ما هو مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ في تِلْكَ الحالِ، والمُرادُ بِالحُرُمِ مَن هو مُحْرِمٌ بِالحَجِّ أوِ العُمْرَةِ أوْ بِهِما، وسُمِّيَ مُحْرِمًا لِكَوْنِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّيْدُ والطِّيبُ والنِّساءُ، وهَكَذا وجْهُ تَسْمِيَةِ الحُرُمِ حَرَمًا، والإحْرامُ إحْرامًا، وقَرَأ الحَسَنُ، والنَّخَعِيُّ، ويَحْيى بْنُ وثّابٍ ( حُرْمٌ ) بِسُكُونِ الرّاءِ وهي لُغَةٌ تَمِيمِيَّةٌ يَقُولُونَ في رُسُلٍ رُسْلٍ وفي كُتُبٍ كُتْبٍ ونَحْوِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ﴾ مِنَ الأحْكامِ المُخالِفَةِ لِما كانَتِ العَرَبُ تَعْتادُهُ، فَهو مالِكُ الكُلِّ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ويَحْكُمُ ما يُرِيدُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. قَوْلُهُ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ﴾ الشَّعائِرُ: جَمْعُ شَعِيرَةٍ عَلى وزْنِ فَعِيلَةٍ، قالَ ابْنُ فارِسٍ: ويُقالُ لِلْواحِدَةِ: شِعارٌ وهو أحْسَنُ، ومِنهُ الإشْعارُ لِلْهَدْيِ، والمَشاعِرُ: المَعالِمُ، واحِدُها مَشْعَرٌ، وهي المَواضِعُ الَّتِي قَدْ أُشْعِرَتْ بِالعَلاماتِ، قِيلَ: المُرادُ بِها هُنا جَمِيعُ مَناسِكِ الحَجِّ، وقِيلَ: الصَّفا والمَرْوَةُ، والهَدْيُ والبُنْيانُ، والمَعْنى عَلى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ: لا تُحِلُّوا هَذِهِ الأُمُورَ بِأنْ يَقَعَ مِنكُمُ الإخْلالُ بِشَيْءٍ مِنها أوْ بِأنْ تَحُولُوا بَيْنَها وبَيْنَ مَن أرادَ فِعْلَها. ذَكَرَ سُبْحانَهُ النَّهْيَ عَنْ أنْ يُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ عَقِبَ ذِكْرِهِ تَحْرِيمَ صَيْدِ المُحْرِمِ، وقِيلَ: المُرادُ بِالشَّعائِرِ هُنا فَرائِضُ اللَّهِ، ومِنهُ ﴿ومَن يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ﴾ وقِيلَ: هي حُرُماتُ اللَّهِ، ولا مانِعَ مِن حَمْلِ ذَلِكَ عَلى الجَمِيعِ اعْتِبارًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، ولا بِما يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّياقُ، قَوْلُهُ: ﴿ولا الشَّهْرَ الحَرامَ﴾ المُرادُ بِهِ الجِنْسُ، فَيَدْخُلُ في ذَلِكَ جَمِيعُ الأشْهُرِ الحُرُمِ وهي أرْبَعَةٌ: ذُو القِعْدَةِ، وذُو الحِجَّةِ ومُحَرَّمٌ، ورَجَبٌ؛ أيْ: لا تُحِلُّوها بِالقِتالِ فِيها، وقِيلَ: المُرادُ بِهِ هُنا شَهْرُ الحَجِّ فَقَطْ. قَوْلُهُ: ( ولا الهَدْيَ ) هو ما يُهْدى إلى بَيْتِ اللَّهِ مِن ناقَةٍ أوْ بَقَرَةٍ أوْ شاةٍ، الواحِدَةُ هَدِيَّةٌ، نَهاهم سُبْحانَهُ عَنْ أنْ يُحِلُّوا حُرْمَةَ الهَدْيَ بِأنْ يَأْخُذُوهُ عَلى صاحِبِهِ أوْ يَحُولُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ المَكانِ الَّذِي يُهْدى إلَيْهِ، وعَطَفَ الهَدْيَ عَلى الشَّعائِرِ مَعَ دُخُولِهِ تَحْتَها لِقَصْدِ التَّنْبِيهِ عَلى مَزِيدِ خُصُوصِيَّتِهِ والتَّشْدِيدِ في شَأْنِهِ. قَوْلُهُ: ( ولا القَلائِدَ ) جَمْعُ قِلادَةٍ، وهي ما يُقَلَّدُ بِهِ الهَدْيُ مِن نَعْلٍ أوْ نَحْوِهِ، وإحْلالُها بِأنْ تُؤْخَذَ غَصْبًا، وفي النَّهْيِ عَنْ إحْلالِ القَلائِدِ تَأْكِيدٌ لِلنَّهْيِ عَنْ إحْلالِ الهَدْيِ، وقِيلَ: المُرادُ بِالقَلائِدِ المُقَلَّداتُ بِها، ويَكُونُ عَطْفُهُ عَلى الهَدْيِ لِزِيادَةِ التَّوْصِيَةِ بِالهَدْيِ، والأوَّلُ أوْلى، وقِيلَ: المُرادُ بِالقَلائِدِ ما كانَ النّاسُ يَتَقَلَّدُونَهُ أمَنَةً لَهم، فَهو عَلى حَذْفِ مُضافٍ؛ أيْ: ولِأصْحابِ القَلائِدِ. قَوْلُهُ: ﴿ولا آمِّينَ البَيْتَ الحَرامَ﴾ أيْ: قاصِدِيهِ مِن قَوْلِهِمْ: أمَّمْتُ كَذا؛ أيْ: قَصَدْتُهُ، وقَرَأ الأعْمَشُ: ( ولا آمِّي البَيْتِ الحَرامِ ) بِالإضافَةِ، والمَعْنى: لا تَمْنَعُوا مَن قَصَدَ البَيْتَ الحَرامَ لِحَجٍّ أوْ عُمْرَةٍ أوْ لِيَسْكُنَ فِيهِ، وقِيلَ: إنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ المُشْرِكِينَ كانُوا يَحُجُّونَ ويَعْتَمِرُونَ ويَهْدُونَ فَأرادَ المُسْلِمُونَ أنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ، فَنَزَلَ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَنسُوخًا بِقَوْلِهِ: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ﴾، وقَوْلِهِ: ﴿فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذا﴾ وقَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «لا يَحُجَّنَّ بَعْدَ العامِ مُشْرِكٌ» وقالَ قَوْمٌ: الآيَةُ مُحْكَمَةٌ وهي في المُسْلِمِينَ. قَوْلُهُ: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِن رَبِّهِمْ ورِضْوانًا﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَتِرِ في ( آمِّينَ ) قالَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ: مَعْناهُ: يَبْتَغُونَ الفَضْلَ والأرْباحَ في التِّجارَةِ، ويَبْتَغُونَ مَعَ ذَلِكَ رِضْوانَ اللَّهِ، وقِيلَ: كانَ مِنهم مَن يَطْلُبُ التِّجارَةَ، ومِنهم مَن يَبْتَغِي بِالحَجِّ رِضْوانَ اللَّهِ، ويَكُونُ هَذا الِابْتِغاءُ لِلرِّضْوانِ بِحَسَبِ اعْتِقادِهِمْ وفي ظَنِّهِمْ عِنْدَ مَن جَعَلَ الآيَةَ في المُشْرِكِينَ، وقِيلَ: المُرادُ بِالفَضْلِ هُنا الثَّوابُ لا الأرْباحُ في التِّجارَةِ. قَوْلُهُ: ﴿وإذا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا﴾ هَذا تَصْرِيحٌ بِما أفادَهُ مَفْهُومُ ( وأنْتُمْ حُرُمٌ ) أباحَ لَهُمُ الصَّيْدَ بَعْدَ أنْ حَظَرَهُ عَلَيْهِمْ لِزَوالِ السَّبَبِ الَّذِي حُرِّمَ لِأجْلِهِ، وهو الإحْرامُ. قَوْلُهُ: ﴿ولا يَجْرِمَنَّكم شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ قالَ ابْنُ فارِسٍ: جَرَمَ وأجْرَمَ ولا جَرَمَ بِمَعْنى قَوْلِكَ: لا بُدَّ ولا مَحالَةَ، وأصْلُها مِن جَرَمَ أيْ: كَسَبَ، وقِيلَ: المَعْنى: لا يَحْمِلَنَّكم، قالَهُ الكِسائِيُّ، وثَعْلَبٌ وهو يَتَعَدّى إلى مَفْعُولَيْنِ يُقالُ: جَرَمَنِي كَذا عَلى بُغْضِكَ؛ أيْ: حَمَلَنِي عَلَيْهِ ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎ولَقَدْ طَعَنْتَ أبا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً ∗∗∗ جَرَمَتْ فَزارَةُ بَعْدَها أنْ يَغْضَبُوا أيْ: حَمَلْتَهم عَلى الغَضَبِ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ، والفَرّاءُ: مَعْنى (p-٣٥١)( لا يَجْرِمَنَّكم ) لا يَكْسِبَنَّكم بُغْضَ قَوْمٍ أنْ تَعْتَدُوا الحَقَّ إلى الباطِلِ، والعَدْلَ إلى الجَوْرِ والجَرِيمَةُ، والجارِمُ بِمَعْنى الكاسِبُ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎جَرِيمَةَ ناهِضٍ في رَأْسِ نِيقٍ ∗∗∗ يَرى لِعِظامِ ما جَمَعَتْ صَلِيبا مَعْناهُ كاسِبُ قُوتٍ، والصَّلِيبُ: الوَدَكُ، ومِنهُ قَوْلُ الآخَرِ: ؎يا أيُّها المُشْتَكِي عُكْلًا وما جَرَمَتْ ∗∗∗ إلى القَبائِلِ مِن قَتْلٍ وإيئاسِ أيْ: كَسَبَتْ، والمَعْنى في الآيَةِ: لا يَحْمِلَنَّكم بُغْضُ قَوْمٍ عَلى الِاعْتِداءِ عَلَيْهِمْ، أوْ لا يَكْسِبَنَّكم بُغْضُهُمُ اعْتِداءَكم لِلْحَقِّ إلى الباطِلِ، ويُقالُ: جَرَمَ يَجْرُمُ جَرْمًا: إذا قَطَعَ، قالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسى الرُّمّانِيُّ: وهو الأصْلُ، فَجَرَمَ بِمَعْنى حَمَلَ عَلى الشَّيْءِ لِقَطْعِهِ مِن غَيْرِهِ، وجَرَمَ بِمَعْنى كَسَبَ لِانْقِطاعِهِ إلى الكَسْبِ، ولا جَرَمَ بِمَعْنى حَقٍّ؛ لِأنَّ الحَقَّ يَقْطَعُ عَلَيْهِ. قالَ الخَلِيلُ: مَعْنى ﴿لا جَرَمَ أنَّ لَهُمُ النّارَ﴾ [النحل: ٦٢] لَقَدْ حَقَّ أنَّ لَهُمُ النّارَ، وقالَ الكِسائِيُّ: جَرَمَ وأجْرَمَ لُغَتانِ بِمَعْنًى واحِدٍ؛ أيْ: اكْتَسَبَ، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: ( لا يُجْرِمَنَّكم ) بِضَمِّ الياءِ، والمَعْنى: لا يُكْسِبَنَّكم ولا يَعْرِفُ البَصْرِيُّونَ أجْرَمَ، وإنَّما يَقُولُونَ: جَرَمَ لا غَيْرَ، والشَّنَآنُ: البُغْضُ، وقُرِئَ بِفَتْحِ النُّونِ وإسْكانِها، يُقالُ: شَنَيْتُ الرَّجُلَ أشَنُوهُ شَناءً ومَشْنَأةً وشَنَآنًا، كُلُّ ذَلِكَ إذا أبْغَضْتَهُ، وشَنَآنٌ هُنا مُضافٌ إلى المَفْعُولِ؛ أيْ: بُغْضُ قَوْمٍ مِنكم لا بُغْضُ قَوْمٍ لَكم. قَوْلُهُ: ( أنْ صَدُّوكم ) بِفَتْحِ الهَمْزَةِ مَفْعُولٌ لِأجْلِهِ؛ أيْ: لِأنْ صَدُّوكم، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، وابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ عَلى الشَّرْطِيَّةِ، وهو اخْتِيارُ أبِي عُبَيْدٍ، وقَرَأ الأعْمَشُ: ( أنْ يَصُدَّكم ) والمَعْنى عَلى قِراءَةِ الشَّرْطِيَّةِ: لا يَحْمِلَنَّكم بُغْضُهم إنْ وقَعَ مِنهُمُ الصَّدُّ لَكم عَنِ المَسْجِدِ الحَرامِ عَلى الِاعْتِداءِ عَلَيْهِمْ، قالَ النَّحّاسُ: وأمّا إنْ صَدُّوكم بِكَسْرِ ( إنْ )، فالعُلَماءُ الجُلَّةُ بِالنَّحْوِ والحَدِيثِ والنَّظَرِ يَمْنَعُونَ القِراءَةَ بِها لِأشْياءَ: مِنها أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ عامَ الفَتْحِ سَنَةَ ثَمانٍ، وكانَ المُشْرِكُونَ صَدُّوا المُؤْمِنِينَ عامَ الحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ، فالصَّدُّ كانَ قَبْلَ الآيَةِ، وإذا قُرِئَ بِالكَسْرِ لَمْ يَجُزْ أنْ يَكُونَ إلّا بَعْدَهُ كَما تَقُولُ: لا تُعْطِ فُلانًا شَيْئًا إنْ قاتَلَكَ، فَهَذا لا يَكُونُ إلّا لِلْمُسْتَقْبَلِ وإنْ فُتِحَتْ كانَ لِلْماضِي، وما أحْسَنَ هَذا الكَلامَ، وقَدْ أنْكَرَ أبُو حاتِمٍ، وأبُو عُبَيْدَةَ شَنْآنُ بِسُكُونِ النُّونِ؛ لِأنَّ المَصادِرَ إنَّما تَأْتِي في مِثْلِ هَذا مُتَحَرِّكَةً وخالَفَهُما غَيْرُهُما فَقالَ: لَيْسَ هَذا مَصْدَرًا، ولَكِنَّهُ اسْمُ فاعِلٍ عَلى وزْنِ كَسْلانَ وغَضْبانَ. ولَمّا نَهاهم عَنِ الِاعْتِداءِ أمَرَهم بِالتَّعاوُنِ عَلى البِرِّ والتَّقْوى كائِنًا ما كانَ، قِيلَ: إنَّ البِرَّ والتَّقْوى لَفْظانِ لِمَعْنًى واحِدٍ، وكُرِّرَ لِلتَّأكُّدِ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إنَّ البِرَّ يَتَناوَلُ الواجِبَ والمَندُوبَ، والتَّقْوى تَخْتَصُّ بِالواجِبِ، وقالَ الماوَرْدِيُّ: إنَّ في البِرِّ رِضا النّاسِ وفي التَّقْوى رِضا اللَّهِ، فَمَن جَمَعَ بَيْنَهُما فَقَدْ تَمَّتْ سَعادَتُهُ ثُمَّ نَهاهم سُبْحانَهُ عَنِ التَّعاوُنِ عَلى الإثْمِ والعُدْوانِ، فالإثْمُ: كُلُّ فِعْلٍ أوْ قَوْلٍ يُوجِبُ إثْمَ فاعِلِهِ أوْ قائِلِهِ، والعَدُوّانُ: التَّعَدِّي عَلى النّاسِ بِما فِيهِ ظُلْمٌ، فَلا يَبْقى نَوْعٌ مِن أنْواعِ المُوجِباتِ لِلْإثْمِ ولا نَوْعٌ مِن أنْواعِ الظُّلْمِ لِلنّاسِ الَّذِينَ مِن جُمْلَتِهِمُ النَّفْسُ إلّا وهو داخِلٌ تَحْتَ هَذا النَّهْيِ لِصِدْقِ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ عَلى كُلِّ ما يُوجَدُ فِيهِ مَعْناهُما، ثُمَّ أمَرَ عِبادَهُ بِالتَّقْوى وتَوَعَّدَ مَن خالَفَ ما أمَرَ بِهِ فَتَرَكَهُ أوْ خالَفَ ما نَهى عَنْهُ فَفَعَلَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقابِ﴾ . وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ( أوْفُوا بِالعُقُودِ ) قالَ: ما أحَلَّ اللَّهُ وما حَرَّمَ وما فَرَضَ وما حَدَّ في القُرْآنِ كُلَّهُ لا تَغْدِرُوا ولا تَنْكُثُوا. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ قَتادَةَ قالَ: هي عُقُودُ الجاهِلِيَّةِ الحِلْفُ. ورَوى عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ أنَّهُ قالَ: ذُكِرَ لَنا أنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ كانَ يَقُولُ: «وأوْفُوا بِعَقْدِ الجاهِلِيَّةِ ولا تُحْدِثُوا عَقْدًا في الإسْلامِ» وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنِ الحَسَنِ في قَوْلِهِ: ﴿أُحِلَّتْ لَكم بَهِيمَةُ الأنْعامِ﴾ قالَ: الإبِلُ والبَقَرُ والغَنَمُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ في قَوْلِهِ: ﴿أُحِلَّتْ لَكم بَهِيمَةُ الأنْعامِ﴾ قالَ: ما في بُطُونِها، قُلْتُ: إنْ خَرَجَ مَيِّتًا آكُلُهُ ؟ قالَ: نَعَمْ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿إلّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ﴾ قالَ: المَيْتَةُ والدَّمُ ولَحْمُ الخِنْزِيرِ وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ إلى آخِرِ الآيَةِ، فَهَذا ما حَرَّمَ اللَّهُ مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ﴾ قالَ: كانَ المُشْرِكُونَ يَحُجُّونَ البَيْتَ الحَرامَ ويَهْدُونَ الهَدايا ويُعَظِّمُونَ حُرْمَةَ المَشاعِرِ ويَنْحَرُونَ في حَجِّهِمْ، فَأرادَ المُسْلِمُونَ أنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ، فَقالَ اللَّهُ: ﴿لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ﴾ وفي قَوْلِهِ: ( ولا الشَّهْرَ الحَرامَ ) يَعْنِي: لا تَسْتَحِلُّوا قِتالًا فِيهِ ﴿ولا آمِّينَ البَيْتَ الحَرامَ﴾ يَعْنِي: مَن تَوَجَّهَ قِبَلَ البَيْتِ الحَرامِ، فَكانَ المُؤْمِنُونَ والمُشْرِكُونَ يَحُجُّونَ جَمِيعًا، فَنَهى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ أنْ يَمْنَعُوا أحَدًا حَجَّ البَيْتَ أوْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ مِن مُؤْمِنٍ أوْ كافِرٍ، ثُمَّ أنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿إنَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذا﴾ [التوبة: ٢٨] وفي قَوْلِهِ: ( يَبْتَغُونَ فَضْلًا ) يَعْنِي أنَّهم يُرْضُونَ اللَّهَ بِحَجِّهِمْ ( ولا يَجْرِمَنَّكم ) يَقُولُ: لا يَحْمِلَنَّكم ( شَنَآنُ قَوْمٍ ) يَقُولُ: عَداوَةُ قَوْمٍ ﴿وتَعاوَنُوا عَلى البِرِّ والتَّقْوى﴾ قالَ: البِرُّ ما أُمِرْتَ بِهِ، والتَّقْوى ما نُهِيتَ عَنْهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ في الآيَةِ قالَ: شَعائِرُ اللَّهِ ما نَهى اللَّهُ عَنْهُ أنْ تُصِيبَهُ وأنْتَ مُحْرِمٌ، والهَدْيُ: ما لَمْ يُقَلَّدْ والقَلائِدُ مُقَلَّداتُ الهَدْيِ ﴿ولا آمِّينَ البَيْتَ الحَرامَ﴾ يَقُولُ: مَن تَوَجَّهَ حاجًّا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ﴾ قالَ: مَناسِكُ الحَجِّ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ قالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ بِالحُدَيْبِيَةِ وأصْحابُهُ حِينَ صَدَّهُمُ المُشْرِكُونَ عَنِ البَيْتِ، وقَدِ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَمَرَّ بِهِمْ أُناسٌ مِنَ المُشْرِكِينَ مِن أهْلِ المَشْرِقِ يُرِيدُونَ العُمْرَةَ، فَقالَ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: نَصُدُّ هَؤُلاءِ كَما صَدَّنا أصْحابُنا، فَأنْزَلَ اللَّهُ: ( ولا يَجْرِمَنَّكم )» الآيَةَ. وأخْرَجَ أحْمَدُ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والبُخارِيُّ في تارِيخِهِ، عَنْ وابِصَةَ أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ لَهُ: «البِرُّ (p-٣٥٢)ما اطْمَأنَّ إلَيْهِ القَلْبُ واطْمَأنَّتْ إلَيْهِ النَّفْسُ، والإثْمُ ما حاكَ في القَلْبِ وتَرَدَّدَ في الصَّدْرِ وإنْ أفْتاكَ النّاسُ وأفْتَوْكَ» وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وأحْمَدُ، والبُخارِيُّ في الأدَبِ ومُسْلِمٌ، والتِّرْمِذِيُّ، والحاكِمُ، والبَيْهَقِيُّ، عَنِ النَّوّاسِ بْنِ سَمْعانَ قالَ: «سَألْتُ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ عَنِ البِرِّ والإثْمِ، فَقالَ: البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ، والإثْمُ ما حاكَ في نَفْسِكَ وكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النّاسُ» . وأخْرَجَ أحْمَدُ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ حِبّانَ، والطَّبَرانِيُّ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ والبَيْهَقِيُّ، عَنْ أبِي أُمامَةَ «أنَّ رَجُلًا سَألَ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ عَنِ الإثْمِ، فَقالَ: ما حاكَ في نَفْسِكَ فَدَعْهُ، قالَ: فَما الإيمانُ ؟ قالَ: مَن ساءَتْهُ سَيِّئَتُهُ وسَرَتْهُ حَسَنَتُهُ فَهو مُؤْمِنٌ» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب