الباحث القرآني
ضَمِيرُ الفَصْلِ في قَوْلِهِ: ( هو المَسِيحُ ) يُفِيدُ الحَصْرَ، قِيلَ: وقَدْ قالَ بِذَلِكَ بَعْضُ طَوائِفِ النَّصارى، وقِيلَ: لَمْ يَقُلْ بِهِ أحَدٌ مِنهم، ولَكِنِ اسْتَلْزَمَ قَوْلَهم: ( إنَّ اللَّهَ هو المَسِيحُ ) لا غَيْرَهُ، وقَدْ تَقَدَّمَ في آخِرِ سُورَةِ النِّساءِ ما يَكْفِي ويُغْنِي عَنِ التَّكْرارِ.
قَوْلُهُ: ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ الِاسْتِفْهامُ لِلتَّوْبِيخِ والتَّقْرِيعِ، والمِلْكُ: الضَّبْطُ والحِفْظُ والقُدْرَةُ، مِن قَوْلِهِمْ: مَلَكْتُ عَلى فُلانٍ أمْرَهُ؛ أيْ: قَدَرْتُ عَلَيْهِ؛ أيْ: فَمَن يَقْدِرُ أنْ يَمْنَعَ ﴿إنْ أرادَ أنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وأُمَّهُ ومَن في الأرْضِ جَمِيعًا﴾ وإذا لَمْ يَقْدِرْ أحَدٌ أنْ يَمْنَعَ مِن ذَلِكَ فَلا إلَهَ إلّا اللَّهُ ولا رَبَّ غَيْرُهُ ولا مَعْبُودَ بِحَقٍّ سِواهُ، ولَوْ كانَ المَسِيحُ إلَهًا كَما تَزْعُمُ النَّصارى لَكانَ لَهُ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ، ولَقَدَرَ عَلى أنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ أقَلَّ حالٍ ولَمْ يَقْدِرْ عَلى أنْ يَدْفَعَ عَنْ أُمِّهِ المَوْتَ عِنْدَ نُزُولِهِ بِها، وتَخْصِيصِها بِالذِّكْرِ مَعَ دُخُولِها في عُمُومِ مَن في الأرْضِ لِكَوْنِ الدَّفْعِ مِنهُ عَنْها أوْلى وأحَقَّ مِن غَيْرِها، فَهو إذا لَمْ يَقْدِرْ عَلى الدَّفْعِ عَنْها أعْجَزُ عَنْ أنْ يَدْفَعَ عَنْ غَيْرِها، وذَكَرَ مَن في الأرْضِ لِلدَّلالَةِ عَلى شُمُولِ قُدْرَتِهِ، وأنَّهُ إذا أرادَ شَيْئًا كانَ لا مُعارِضَ لَهُ في أمْرِهِ ولا مُشارِكَ لَهُ في قَضائِهِ ﴿ولِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما﴾ أيْ ما بَيْنَ النَّوْعَيْنِ مِنَ المَخْلُوقاتِ. قَوْلُهُ: ( يَخْلُقُ ما يَشاءُ ) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيانِ أنَّهُ سُبْحانَهُ خالِقُ الخَلْقِ بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ، وأنَّهُ يَقْدِرُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ لا يَسْتَصْعِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ.
قَوْلُهُ: ﴿وقالَتِ اليَهُودُ والنَّصارى نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ﴾ أثْبَتَتِ اليَهُودُ لِأنْفُسِها ما أثْبَتَتْهُ لِعُزَيْرٍ حَيْثُ قالُوا: ( عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ) [التوبة: ٣٠] وأثْبَتَتِ النَّصارى لِأنْفُسِها ما أثْبَتَتْهُ لِلْمَسِيحِ حَيْثُ قالُوا: ( المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ) [التوبة: ٣٠] وقِيلَ: هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ؛ أيْ: نَحْنُ أتْباعُ أبْناءِ اللَّهِ، وهَكَذا أثْبَتُوا لِأنْفُسِهِمْ أنَّهم أحِبّاءُ اللَّهِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوى الباطِلَةِ والأمانِي العاطِلَةِ، فَأمَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ رَسُولَهُ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ أنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ، فَقالَ: ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكم بِذُنُوبِكُمْ﴾ أيْ: إنْ كُنْتُمْ كَما تَزْعُمُونَ، فَما بالُهُ يُعَذِّبُكم بِما تَقْتَرِفُونَهُ مِنَ الذُّنُوبِ بِالقَتْلِ والمَسْخِ وبِالنّارِ في يَوْمِ القِيامَةِ كَما تَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ لِقَوْلِكم: ﴿لَنْ تَمَسَّنا النّارُ إلّا أيّامًا مَعْدُودَةً﴾ فَإنَّ الِابْنَ مِن جِنْسِ أبِيهِ لا يَصْدُرُ عَنْهُ ما يَسْتَحِيلُ عَلى الأبِ وأنْتُمْ تُذْنِبُونَ، والحَبِيبُ لا يُعَذِّبُ حَبِيبَهُ وأنْتُمْ تُعَذَّبُونَ، فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّكم كاذِبُونَ في هَذِهِ الدَّعْوى، وهَذا البُرْهانُ هو المُسَمّى عِنْدَ الجَدَلِيِّينَ بِبُرْهانِ الخَلْفِ.
قَوْلُهُ: ﴿بَلْ أنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾ عَطْفٌ عَلى مُقَدَّرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الكَلامُ؛ أيْ: فَلَسْتُمْ حِينَئِذٍ كَذَلِكَ ﴿بَلْ أنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾ أيْ: مِن جِنْسِ مَن خَلَقَهُ اللَّهُ تَعالى يُحاسِبُهم عَلى الخَيْرِ والشَّرِّ، ويُجازِي كُلَّ عامِلٍ بِعَمَلِهِ ﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ ويُعَذِّبُ مَن يَشاءُ ولِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما﴾ مِنَ المَوْجُوداتِ ( وإلَيْهِ المَصِيرُ ) أيْ: تَصِيرُونَ إلَيْهِ عِنْدَ انْتِقالِكم مِن دارِ الدُّنْيا إلى دارِ الآخِرَةِ، وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «أتى رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ نُعْمانُ بْنُ أضاءٍ وبَحْرِيُّ بْنُ عَمْرٍو وشاسُ بْنُ عَدِيٍّ فَكَلَّمُوهُ وكَلَّمَهم رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ودَعاهم إلى اللَّهِ وحَذَّرَهم نِقْمَتَهُ، فَقالُوا: ما تُخَوِّفُنا يا مُحَمَّدُ ﴿نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ﴾ كَقَوْلِ النَّصارى فَأنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿وقالَتِ اليَهُودُ والنَّصارى﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ» .
وأخْرَجَ أحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، عَنْ أنَسٍ قالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ في نَفَرٍ مِن أصْحابِهِ وصَبِيٍّ في الطَّرِيقِ، فَلَمّا رَأتْ أُمُّهُ القَوْمَ خَشِيَتْ عَلى ولَدِها أنْ يُوطَأ، فَأقْبَلَتْ تَسْعى وتَقُولُ: ابْنِي ابْنِي، فَسَعَتْ فَأخَذَتْهُ، فَقالَ القَوْمُ: يا رَسُولَ اللَّهِ ما كانَتْ هَذِهِ لِتُلْقِيَ ابْنَها في النّارِ ؟ فَقالَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: لا، واللَّهُ لا يُلْقِي حَبِيبَهُ في النّارِ» وإسْنادُهُ في المُسْنَدِ هَكَذا: حَدَّثَنا ابْنُ أبِي عَدِيٍّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أنَسٍ فَذَكَرَهُ.
ومَعْنى الآيَةِ يُشِيرُ إلى مَعْنى هَذا الحَدِيثِ، ولِهَذا قالَ بَعْضُ مَشايِخِ الصُّوفِيَّةِ لِبَعْضِ الفُقَهاءِ: أيْنَ تَجِدُ في القُرْآنِ أنَّ الحَبِيبَ لا يُعَذِّبُ حَبِيبَهُ ؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ، فَتَلا الصُّوفِيُّ هَذِهِ الآيَةَ. وأخْرَجَ أحْمَدُ في الزُّهْدِ عَنِ الحَسَنِ أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: «لا واللَّهِ لا يُعَذِّبُ اللَّهُ حَبِيبَهُ، ولَكِنْ قَدْ يَبْتَلِيهِ في الدُّنْيا» . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ في قَوْلِهِ: ﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشاءُ ويُعَذِّبُ مَن يَشاءُ﴾ يَقُولُ: يَهْدِي مِنكم مَن يَشاءُ في الدُّنْيا فَيَغْفِرُ لَهُ، ويُمِيتُ مَن يَشاءُ مِنكم عَلى كُفْرِهِ فَيُعَذِّبُهُ.
{"ayahs_start":17,"ayahs":["لَّقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِینَ قَالُوۤا۟ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِیحُ ٱبۡنُ مَرۡیَمَۚ قُلۡ فَمَن یَمۡلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَیۡـًٔا إِنۡ أَرَادَ أَن یُهۡلِكَ ٱلۡمَسِیحَ ٱبۡنَ مَرۡیَمَ وَأُمَّهُۥ وَمَن فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰاۗ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَیۡنَهُمَاۚ یَخۡلُقُ مَا یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ","وَقَالَتِ ٱلۡیَهُودُ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ نَحۡنُ أَبۡنَـٰۤؤُا۟ ٱللَّهِ وَأَحِبَّـٰۤؤُهُۥۚ قُلۡ فَلِمَ یُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُمۖ بَلۡ أَنتُم بَشَرࣱ مِّمَّنۡ خَلَقَۚ یَغۡفِرُ لِمَن یَشَاۤءُ وَیُعَذِّبُ مَن یَشَاۤءُۚ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَیۡنَهُمَاۖ وَإِلَیۡهِ ٱلۡمَصِیرُ"],"ayah":"لَّقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِینَ قَالُوۤا۟ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡمَسِیحُ ٱبۡنُ مَرۡیَمَۚ قُلۡ فَمَن یَمۡلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَیۡـًٔا إِنۡ أَرَادَ أَن یُهۡلِكَ ٱلۡمَسِیحَ ٱبۡنَ مَرۡیَمَ وَأُمَّهُۥ وَمَن فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰاۗ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَیۡنَهُمَاۚ یَخۡلُقُ مَا یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق