الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ﴿وإذْ قالَ اللَّهُ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى ما قَبْلَهُ في مَحَلِّ نَصْبٍ بِعامِلِهِ أوْ بِعامِلٍ مُقَدَّرٍ هُنا؛ أيِ: اذْكُرْ. وقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ إلى أنَّ هَذا القَوْلَ مِنهُ سُبْحانَهُ هو يَوْمُ القِيامَةِ. والنُّكْتَةُ تَوْبِيخُ عُبّادِ المَسِيحِ وأُمِّهِ مِنَ النَّصارى. وقالَ السُّدِّيُّ وقُطْرُبٌ: إنَّهُ قالَ لَهُ هَذا القَوْلَ عِنْدَ رَفْعِهِ إلى السَّماءِ لَمّا قالَتِ النَّصارى فِيهِ ما قالَتْ، والأوَّلُ أوْلى: قِيلَ: " وإذْ " هُنا بِمَعْنى إذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَوْ تَرى إذْ فَزِعُوا﴾ [سبأ: ٥١] أيْ إذا فَزِعُوا، وقَوْلِ أبِي النَّجْمِ: ؎ثُمَّ جَزاكَ اللَّهُ عَنِّي إذْ جَزى جَنّاتِ عَدْنٍ في السَّماواتِ العُلى أيْ إذا جَزى، وقَوْلِ الأسْوَدِ بْنِ جَعْفَرٍ الأسَدِيِّ: ؎فِي الآنِ إذْ هازَلْتُهُنَّ فَإنَّما ∗∗∗ يَقُلْنَ ألا لَمْ يَذْهَبِ الشَّيْخُ مَذْهَبًا أيْ إذا هازَلْتُهُنَّ تَعْبِيرًا عَنِ المُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الماضِي تَنْبِيهًا عَلى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ. وقَدْ قِيلَ في تَوْجِيهِ هَذا الِاسْتِفْهامِ مِنهُ تَعالى إنَّهُ لِقَصْدِ التَّوْبِيخِ كَما سَبَقَ، وقِيلَ لِقَصْدِ تَعْرِيفِ المَسِيحِ بِأنَّ قَوْمَهُ غَيَّرُوا بَعْدَهُ وادَّعَوْا عَلَيْهِ ما (p-٤٠٦)لَمْ يَقُلْهُ. وقَوْلُهُ: ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: اتَّخِذُونِي عَلى أنَّهُ حالٌ؛ أيْ: مُتَجاوِزِينَ الحَدَّ، ويَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ هو صِفَةٌ لِإلَهَيْنِ؛ أيْ: كائِنِينَ مِن دُونِ اللَّهِ. قَوْلُهُ: سُبْحانَكَ تَنْزِيهٌ لَهُ سُبْحانَهُ؛ أيْ: أُنَزِّهُكَ تَنْزِيهًا ﴿ما يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾ أيْ: ما يَنْبَغِي لِي أنْ أدَّعِيَ لِنَفْسِي ما لَيْسَ مِن حَقِّها ﴿إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾ رَدَّ ذَلِكَ إلى عِلْمِهِ سُبْحانَهُ، وقَدْ عَلِمَ أنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ عَدَمُ القَوْلِ مِنهُ. قَوْلُهُ: ﴿تَعْلَمُ ما في نَفْسِي ولا أعْلَمُ ما في نَفْسِكَ﴾ هَذِهِ الجُمْلَةُ في حُكْمِ التَّعْلِيلِ لِما قَبْلَها؛ أيْ: تَعْلَمُ مَعْلُومِي ولا أعْلَمُ مَعْلُومَكَ، وهَذا الكَلامُ مِن بابِ المُشاكَلَةِ كَما هو مَعْرُوفٌ عِنْدَ عُلَماءِ المَعانِي والبَيانِ، وقِيلَ: المَعْنى: تَعْلَمُ ما في غَيْبِي ولا أعْلَمُ ما في غَيْبِكَ، وقِيلَ: تَعْلَمُ ما أُخْفِيهِ ولا أعْلَمُ ما تُخْفِيهِ، وقِيلَ: تَعْلَمُ ما أُرِيدُ ولا أعْلَمُ ما تُرِيدُ. قَوْلُهُ: ﴿ما قُلْتُ لَهم إلّا ما أمَرْتَنِي بِهِ﴾ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ ما تَقَدَّمَ؛ أيْ: ما أمَرْتُهم إلّا بِما أمَرْتَنِي ﴿أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ﴾ هَذا تَفْسِيرٌ لِمَعْنى ﴿ما قُلْتُ لَهُمْ﴾ أيْ ما أمَرْتُهم، وقِيلَ: عَطْفُ بَيانٍ لِلْمُضْمَرِ في " بِهِ " وقِيلَ بَدَلٌ مِنهُ ﴿وكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا﴾ أيْ: حَفِيظًا ورَقِيبًا أرْعى أحْوالَهم وأمْنَعُهم عَنْ مُخالَفَةِ أمْرِكَ ﴿ما دُمْتُ فِيهِمْ﴾ أيْ: مُدَّةَ دَوّامِي فِيهِمْ. ﴿فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي﴾ قِيلَ: هَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ تَوَفّاهُ قَبْلَ أنْ يَرْفَعَهُ، ولَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ الأخْبارَ قَدْ تَظافَرَتْ بِأنَّهُ لَمْ يَمُتْ، وأنَّهُ باقٍ في السَّماءِ عَلى الحَياةِ الَّتِي كانَ عَلَيْها في الدُّنْيا حَتّى يَنْزِلَ إلى الأرْضِ آخِرَ الزَّمانِ، وإنَّما المَعْنى: فَلَمّا رَفَعْتَنِي إلى السَّماءِ. قِيلَ الوَفاةُ في كِتابِ اللَّهِ سُبْحانَهُ جاءَتْ عَلى ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: بِمَعْنى المَوْتِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِها﴾ [الزمر: ٤٢] وبِمَعْنى النَّوْمِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهُوَ الَّذِي يَتَوَفّاكم بِاللَّيْلِ﴾ [الأنعام: ٦٠] أيْ يُنِيمُكم، وبِمَعْنى الرَّفْعِ، ومِنهُ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي، ﴿إذْ قالَ اللَّهُ ياعِيسى إنِّي مُتَوَفِّيكَ﴾ [آل عمران: ٥٥] ﴿كُنْتَ أنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾ أصْلُ المُراقَبَةِ: المُراعاةُ، أيْ: كُنْتَ الحافِظَ لَهم والعالِمَ بِهِمْ والشّاهِدَ عَلَيْهِمْ. ﴿إنْ تُعَذِّبْهم فَإنَّهم عِبادُكَ﴾ تَصْنَعُ بِهِمْ ما شِئْتَ وتَحْكُمُ فِيهِمْ بِما تُرِيدُ ﴿وإنْ تَغْفِرْ لَهم فَإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ أيِ القادِرُ عَلى ذَلِكَ الحَكِيمُ في أفْعالِهِ، قِيلَ قالَهُ عَلى وجْهِ الِاسْتِعْطافِ كَما يَسْتَعْطِفُ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ. ولِهَذا لَمْ يَقُلْ إنْ تُعَذِّبْهم فَإنَّهم عَصَوْكَ، وقِيلَ: قالَهُ عَلى وجْهِ التَّسْلِيمِ لِأمْرِ اللَّهِ والِانْقِيادِ لَهُ، ولِهَذا عَدَلَ عَنِ الغَفُورِ الرَّحِيمِ إلى العَزِيزِ الحَكِيمِ. قَوْلُهُ: ﴿قالَ اللَّهُ هَذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهم﴾ أيْ صِدْقُهم في الدُّنْيا، وقِيلَ في الآخِرَةِ، والأوَّلُ أوْلى. قَرَأ نافِعٌ وابْنُ مُحَيْصِنٍ " يَوْمَ " بِالنَّصْبِ، وقَرَأ الباقُونَ بِالرَّفْعِ، فَوَجْهُ النَّصْبِ أنَّهُ ظَرْفٌ لِلْقَوْلِ؛ أيْ: قالَ اللَّهُ هَذا القَوْلَ يَوْمَ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ، ووَجْهُ الرَّفْعِ أنَّهُ خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ هو وما أُضِيفَ إلَيْهِ. وقالَ الكِسائِيُّ نُصِبَ " يَوْمَ " هاهُنا لِأنَّهُ مُضافٌ إلى الجُمْلَةِ، وأنْشَدَ: ؎عَلى حِينِ عاتَبْتُ المَشِيبَ عَلى الصِّبا ∗∗∗ وقُلْتُ ألَمّا أصْحُ والشَّيْبُ وازِعُ وبِهِ قالَ الزَّجّاجُ، ولا يُجِيزُ البَصْرِيُّونَ ما قالاهُ إلّا إذا أُضِيفَ الظَّرْفُ إلى فِعْلٍ ماضٍ. وقَرَأ الأعْمَشُ ( هَذا يَوْمٌ يَنْفَعُ ) بِتَنْوِينِ يَوْمٍ كَما في قَوْلِهِ: ﴿واتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا﴾ فَكِلاهُما مَقْطُوعٌ عَنِ الإضافَةِ بِالتَّنْوِينِ. وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: ﴿لَهم جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبَدًا﴾ . قَوْلُهُ: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم ورَضُوا عَنْهُ﴾ أيْ رَضِيَ عَنْهم بِما عَمِلُوهُ مِنَ الطّاعاتِ الخالِصَةِ لَهُ، ورَضُوا عَنْهُ بِما جازاهم بِهِ مِمّا لا يَخْطُرُ لَهم عَلى بالٍ ولا تَتَصَوَّرُهُ عُقُولُهم، والرِّضا مِنهُ سُبْحانَهُ هو أرْفَعُ دَرَجاتِ النَّعِيمِ وأعْلى مَنازِلَ الكَرامَةِ، والإشارَةُ بِذَلِكَ إلى نَيْلِ ما نالُوهُ مِن دُخُولِ الجَنَّةِ والخُلُودِ فِيها أبَدًا، ورِضْوانِ اللَّهِ عَنْهم. والفَوْزُ: الظَّفَرُ بِالمَطْلُوبِ عَلى أتَمِّ الأحْوالِ. قَوْلُهُ: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ وما فِيهِنَّ وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ جاءَ سُبْحانَهُ بِهَذِهِ الخاتِمَةِ دَفْعًا لِما سَبَقَ مِن إثْباتِ مَن أثْبَتَ إلَهِيَّةِ عِيسى وأُمِّهِ، وأخْبَرَ بِأنَّ مُلْكَ السَّماواتِ والأرْضِ لَهُ دُونَ عِيسى وأُمِّهِ ودُونَ سائِرِ مَخْلُوقاتِهِ، وأنَّهُ القادِرُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ دُونَ غَيْرِهِ، وقِيلَ المَعْنى: أنَّ لَهُ مُلْكَ السَّماواتِ والأرْضِ يُعْطِي الجَنّاتِ لِلْمُطِيعِينَ، جَعَلَنا اللَّهُ مِنهم. وقَدْ أخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ والنَّسائِيُّ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «تَلَقّى عِيسى حُجَّتَهُ واللَّهُ لَقّاهُ في قَوْلِهِ: ﴿وإذْ قالَ اللَّهُ ياعِيسى ابْنَ مَرْيَمَ أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ . قالَ أبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَلَقّاهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ: ﴿ما يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾» الآيَةَ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ في الآيَةِ قالَ: يَقُولُ اللَّهُ هَذا يَوْمَ القِيامَةِ، ألا تَرى أنَّهُ يَقُولُ: ﴿هَذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾ . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قالَ: قالَ اللَّهُ ذَلِكَ لَمّا رَفَعَ عِيسى إلَيْهِ، وقالَتِ النَّصارى ما قالَتْ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكم﴾ قالَ: سَيِّدِي وسَيِّدَكم. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿كُنْتَ أنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾ قالَ: الحَفِيظَ. وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: «قالَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: ﴿وكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ما دُمْتُ فِيهِمْ﴾ قالَ: ما كُنْتُ فِيهِمْ» . وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿إنْ تُعَذِّبْهم فَإنَّهم عِبادُكَ﴾ يَقُولُ: عَبِيدُكَ قَدِ اسْتَوْجَبُوا العَذابَ بِمَقالَتِهِمْ ﴿وإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ أيْ مَن تَرَكْتَ مِنهم ومُدَّ في عُمْرِهِ حَتّى أهْبِطَ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ لِقَتْلِ الدَّجّالِ، فَزالُوا عَنْ مَقالَتِهِمْ ووَحَّدُوكَ ﴿فَإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿هَذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهم﴾ يَقُولُ: هَذا يَوْمٌ يَنْفَعُ المُوَحِّدِينَ تَوْحِيدُهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب