الباحث القرآني
قالَ القُرْطُبِيُّ: هي مَكِّيَّةٌ بِالإجْماعِ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ حم الزُّخْرُفِ بِمَكَّةَ قالَ مُقاتِلٌ: إلّا قَوْلَهُ: ﴿واسْألْ مَن أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رُسُلِنا﴾ [الزخرف: ٤٥] يَعْنِي فَإنَّها نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ.
(p-١٣٣٥)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَوْلُهُ: ﴿حم﴾ ﴿والكِتابِ المُبِينِ﴾ الكَلامُ هاهُنا في الإعْرابِ كالكَلامِ الَّذِي قَدَّمْناهُ في ﴿يس﴾ ﴿والقُرْآنِ الحَكِيمِ﴾ فَإنْ جُعِلَتْ حم قَسَمًا كانَتِ الواوُ عاطِفَةً، وإنْ لَمْ تُجْعَلْ قَسَمًا فالواوُ لِلْقَسَمِ.
وجَوابُ القَسَمِ ﴿إنّا جَعَلْناهُ﴾ وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: مَن جَعَلَ جَوابَ والكِتابِ حم كَما تَقُولُ: نَزَلَ واللَّهِ، وجَبَ واللَّهِ وقَفَ عَلى الكِتابِ المُبِينِ، ومَعْنى جَعَلْناهُ أيْ: سَمَّيْناهُ ووَصَفْناهُ، ولِذَلِكَ تَعَدّى إلى مَفْعُولَيْنِ. وقالَ السُّدِّيُّ: المَعْنى: أنْزَلْناهُ قُرْآنًا وقالَ مُجاهِدٌ: قُلْناهُ. وقالَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ: بَيَّنّاهُ عَرَبِيًّا وكَذا قالَ الزَّجّاجُ أيْ: أُنْزِلَ بِلِسانِ العَرَبِ؛ لِأنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أُنْزِلَ كِتابُهُ بِلِسانِ قَوْمِهِ. وقالَ مُقاتِلٌ: لِأنَّ لِسانَ أهْلِ الجَنَّةِ عَرَبِيٌّ ﴿لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾ أيْ: جَعَلْنا ذَلِكَ الكِتابَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِكَيْ تَفْهَمُوهُ وتَتَعَقَّلُوا مَعانِيَهُ وتُحِيطُوا بِما فِيهِ. قالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَعَلَّكم تَتَفَكَّرُونَ.
﴿وإنَّهُ في أُمِّ الكِتابِ﴾ أيْ: وإنَّ القُرْآنَ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ لَدَيْنا أيْ: عِنْدَنا ﴿لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ رَفِيعُ القَدْرِ مُحْكَمُ النَّظْمِ لا يُوجَدُ فِيهِ اخْتِلافٌ ولا تَناقُصٌ والجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلى الجُمْلَةِ المُقْسَمِ بِها داخِلَةٌ تَحْتَ مَعْنى القَسَمِ، أوْ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِما قَبْلَها.
قالَ الزَّجّاجُ: أُمُّ الكِتابِ: أصْلُ الكِتابِ، وأصْلُ كُلِّ شَيْءٍ أُمُّهُ، والقُرْآنُ مُثْبَتٌ عِنْدَ اللَّهِ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ كَما قالَ: ﴿بَلْ هو قُرْآنٌ مَجِيدٌ في لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [البروج: ٢٢، ٢١] وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: المُرادُ بِقَوْلِهِ وإنَّهُ أعْمالُ الخَلْقِ مِن إيمانٍ وكُفْرٍ وطاعَةٍ ومَعْصِيَةٍ.
قالَ قَتادَةُ أخْبَرَ عَنْ مَنزِلَتِهِ وشَرَفِهِ وفَضْلِهِ أيْ: إنْ كَذَّبْتُمْ بِهِ يا أهْلَ مَكَّةَ فَإنَّهُ عِنْدَنا شَرِيفٌ رَفِيعٌ مُحْكَمٌ مِنَ الباطِلِ.
﴿أفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا﴾ يُقالُ: ضَرَبْتُ عَنْهُ وأضْرَبْتُ عَنْهُ: إذا تَرَكْتُهُ وأمْسَكْتُ عَنْهُ، كَذا قالَ الفَرّاءُ والزَّجّاجُ وغَيْرُهُما، وانْتِصابُ صَفْحًا عَلى المَصْدَرِيَّةِ، وقِيلَ: عَلى الحالِ عَلى مَعْنى: أفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صافِحِينَ، والصَّفْحُ مَصْدَرُ قَوْلِهِمْ: صَفَحْتُ عَنْهُ إذا أعْرَضْتُ عَنْهُ، وذَلِكَ أنَّكَ تُوَلِّيهِ صَفْحَةَ وجْهِكَ وعُنُقِكَ، المُرادُ بِالذِّكْرِ هُنا القُرْآنُ، والِاسْتِفْهامُ لِلْإنْكارِ والتَّوْبِيخِ.
قالَ الكِسائِيُّ: المَعْنى أفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ طَيًّا فَلا تُوعَظُونَ ولا تُؤْمَرُونَ.
وقالَ مُجاهِدٌ وأبُو صالِحٍ والسُّدِّيُّ: أفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ العَذابَ ولا نُعاقِبُكم عَلى إسْرافِكم وكُفْرِكم. وقالَ قَتادَةُ: المَعْنى أنُهْلِكُكم ولا نَأْمُرُكم ولا نَنْهاكم. ورُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: المَعْنى أفَنُمْسِكُ عَنْ إنْزالِ القُرْآنِ مِن قِبَلِ أنَّكم لا تُؤْمِنُونَ بِهِ.
وقِيلَ: الذِّكْرُ التَّذْكِيرُ، كَأنَّهُ قالَ: أنَتْرُكُ تَذْكِيرَكم ﴿أنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ﴾، قَرَأ نافِعٌ، وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ " إنْ كُنْتُمْ " بِكَسْرِ إنَّ عَلى أنَّها الشَّرْطِيَّةُ والجَزاءُ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ.
وقَرَأ الباقُونَ بِفَتْحِها عَلى التَّعْلِيلِ أيْ: لِأنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُنْهَمِكِينَ في الإسْرافِ مُصِرِّينَ عَلَيْهِ، واخْتارَ أبُو عُبَيْدٍ قِراءَةَ الفَتْحِ.
ثُمَّ سَلّى - سُبْحانَهُ - رَسُولَهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَقالَ: ﴿وكَمْ أرْسَلْنا مِن نَبِيٍّ في الأوَّلِينَ﴾ كَمْ هي الخَبَرِيَّةُ الَّتِي مَعْناها التَّكْثِيرُ، والمَعْنى: ما أكْثَرَ ما أرْسَلْنا مِنَ الأنْبِياءِ في الأُمَمِ السّابِقَةِ.
﴿وما يَأْتِيهِمْ مِن نَبِيٍّ إلّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ كاسْتِهْزاءِ قَوْمِكَ بِكَ.
﴿فَأهْلَكْنا أشَدَّ مِنهم بَطْشًا﴾ أيْ: أهْلَكْنا قَوْمًا أشَدَّ قُوَّةً مِن هَؤُلاءِ القَوْمِ، وانْتِصابُ بَطْشًا عَلى التَّمْيِيزِ أوِ الحالِ أيْ: باطِشِينَ ﴿ومَضى مَثَلُ الأوَّلِينَ﴾ أيْ: سَلَفَ في القُرْآنِ ذِكْرُهم غَيْرَ مَرَّةٍ. وقالَ قَتادَةُ: عُقُوبَتُهم، وقِيلَ: صِفَتُهم، والمَثَلُ الوَصْفُ والخَبَرُ.
وفِي هَذا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ؛ لِأنَّهُ يَتَضَمَّنُ أنَّ الأوَّلِينَ أُهْلِكُوا بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، وهَؤُلاءِ إنِ اسْتَمَرُّوا عَلى تَكْذِيبِكَ والكُفْرِ بِما جِئْتَ بِهِ هَلَكُوا مِثْلَهم.
﴿ولَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ﴾ أيْ: لَئِنْ سَألْتَ هَؤُلاءِ الكُفّارَ مِن قَوْمِكَ مَن خَلَقَ هَذِهِ الأجْرامَ العُلْوِيَّةَ والسُّفْلِيَّةَ أقَرُّوا بِأنَّ اللَّهَ خالِقُهُنَّ ولَمْ يُنْكِرُوا، وذَلِكَ أسْوَأُ لِحالِهِمْ وأشَدُّ لِعُقُوبَتِهِمْ، لِأنَّهم عَبَدُوا بَعْضَ مَخْلُوقاتِ اللَّهِ وجَعَلُوهُ شَرِيكًا لَهُ، بَلْ عَمَدُوا إلى ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ ولا يَنْفَعُ ولا يَضُرُّ مِنَ المَخْلُوقاتِ وهي الأصْنامُ فَجَعَلُوها شُرَكاءَ اللَّهِ.
ثُمَّ وصَفَ - سُبْحانَهُ - نَفْسَهُ بِما يَدُلُّ عَلى عَظِيمِ نِعْمَتِهِ عَلى عِبادِهِ وكَمالِ قُدْرَتِهِ في مَخْلُوقاتِهِ فَقالَ: " الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مِهادًا " وهَذا كَلامٌ مُبْتَدَأٌ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِما قَبْلَهُ، ولَوْ كانَ مُتَّصِلًا بِما قَبْلَهُ مِن جُمْلَةِ مَقُولِ الكُفّارِ لَقالُوا: الَّذِي جَعَلَ لَنا الأرْضَ مِهادًا، والمِهادُ الفِراشُ والبِساطُ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُهُ، قَرَأ الجُمْهُورُ " مِهادًا " وقَرَأ الكُوفِيُّونَ مَهْدًا ﴿وجَعَلَ لَكم فِيها سُبُلًا﴾ أيْ: طُرُقًا تَسْلُكُونَها إلى حَيْثُ تُرِيدُونَ، وقِيلَ: مَعايِشَ تَعِيشُونَ بِها ﴿لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ﴾ بِسُلُوكِها إلى مَقاصِدِكم ومَنافِعِكم.
﴿والَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ﴾ أيْ: بِقَدْرِ الحاجَةِ وحَسْبَما تَقْتَضِيهِ المَصْلَحَةُ ولَمْ يُنْزِلْ عَلَيْكم مِنهُ فَوْقَ حاجَتِكم حَتّى يُهْلِكَ زَرائِعَكم ويَهْدِمَ مَنازِلَكم ويُهْلِكَكم بِالغَرَقِ، ولا دُونَها حَتّى تَحْتاجُوا إلى الزِّيادَةِ، وعَلى حَسَبِ ما تَقْتَضِيهِ مَشِيئَتُهُ في أرْزاقِ عِبادِهِ بِالتَّوْسِيعِ تارَةً والتَّقْتِيرِ أُخْرى ﴿فَأنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا﴾ أيْ: أحْيَيْنا بِذَلِكَ الماءِ بَلْدَةً مُقْفِرَةً مِنَ النَّباتِ.
قَرَأ الجُمْهُورُ مَيْتًا بِالتَّخْفِيفِ.
وقَرَأ عِيسى وأبُو جَعْفَرٍ بِالتَّشْدِيدِ ﴿كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ مِن قُبُورِكم أيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الإحْياءِ لِلْأرْضِ بِإخْراجِ نَباتِها بَعْدَ أنْ كانَتْ لا نَباتَ بِها تُبْعَثُونَ مِن قُبُورِكم أحْياءً، فَإنَّ مَن قَدَرَ عَلى هَذا قَدَرَ عَلى ذَلِكَ، وقَدْ مَضى بَيانُ هَذا في آلِ عِمْرانَ والأعْرافِ.
قَرَأ الجُمْهُورُ تُخْرَجُونَ مَبْنِيًّا (p-١٣٣٦)لِلْمَفْعُولِ وقَرَأ الأعْمَشُ ويَحْيى بْنُ وثّابٍ، وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ، وابْنُ ذَكْوانَ عَنِ ابْنِ عامِرٍ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ.
﴿والَّذِي خَلَقَ الأزْواجَ كُلَّها﴾ المُرادُ بِالأزْواجِ هُنا الأصْنافُ، قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الأصْنافُ كُلُّها.
وقالَ الحَسَنُ: الشِّتاءُ والصَّيْفُ واللَّيْلُ والنَّهارُ والسَّماواتُ والأرْضُ والجَنَّةُ والنّارُ، وقِيلَ: أزْواجُ الحَيَوانِ مِن ذَكَرٍ وأُنْثى، وقِيلَ: أزْواجُ النَّباتِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وأنْبَتْنا فِيها مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [ق: ٧] و﴿مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ [ الشُّعَراءِ: ٧، لُقْمانَ: ١٠ ] وقِيلَ: ما يَتَقَلَّبُ فِيهِ الإنْسانُ مِن خَيْرٍ وشَرٍّ وإيمانٍ وكُفْرٍ، والأوَّلُ أوْلى ﴿وجَعَلَ لَكم مِنَ الفُلْكِ والأنْعامِ ما تَرْكَبُونَ﴾ في البَحْرِ والبَرِّ أيْ: ما تَرْكَبُونَهُ.
﴿لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ﴾ الضَّمِيرُ راجِعٌ إلى ما قالَهُ أبُو عُبَيْدٍ.
وقالَ الفَرّاءُ: أضافَ الظُّهُورَ إلى واحِدٍ؛ لِأنَّ المُرادَ بِهِ الجِنْسُ، فَصارَ الواحِدُ في مَعْنى الجَمْعِ بِمَنزِلَةِ الجِنْسِ فَلِذَلِكَ ذُكِرَ، وجُمِعَ الظَّهْرُ لِأنَّ المُرادَ ظُهُورُ هَذا الجِنْسِ، والِاسْتِواءُ الِاسْتِعْلاءُ أيْ: لِتَسْتَعْلُوا عَلى ظُهُورِ ما تَرْكَبُونَ مِنَ الفُلْكِ والأنْعامِ ﴿ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكم إذا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ﴾ أيْ: هَذِهِ النِّعْمَةَ الَّتِي أنْعَمَ بِها عَلَيْكم مِن تَسْخِيرِ ذَلِكَ المَرْكَبِ في البَحْرِ والبَرِّ.
وقالَ مُقاتِلٌ والكَلْبِيُّ: هو أنْ يَقُولَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَزَقَنِي هَذا وحَمَلَنِي عَلَيْهِ ﴿وتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا﴾ أيْ: ذَلَّلَ لَنا هَذا المَرْكَبَ، وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ " سُبْحانَ مَن سَخَّرَ لَنا هَذا " .
قالَ قَتادَةُ: قَدْ عَلَّمَكم كَيْفَ تَقُولُونَ إذا رَكِبْتُمْ، ومَعْنى ﴿وما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ ما كُنّا لَهُ مُطِيقِينَ، يُقالُ: أقْرَنَ هَذا البَعِيرَ: إذا أطاقَهُ. وقالَ الأخْفَشُ وأبُو عُبَيْدَةَ: مُقْرِنِينَ ضابِطِينَ، وقِيلَ: مُماثِلِينَ لَهُ في القُوَّةِ، مِن قَوْلِهِمْ: هو قِرْنُ فُلانٍ إذا كانَ مِثْلَهُ في القُوَّةِ، وأنْشَدَ قُطْرُبٌ قَوْلَ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ:
؎لَقَدْ عَلِمَ القَبائِلُ ما عُقَيْلٌ لَنا في النّائِباتِ بِمُقْرِنِينا
قالَ آخَرُ:
؎رَكِبْتُمْ صَعْبَتَيْ أشَرٍ وجُبْنٍ ∗∗∗ ولَسْتُمْ لِلصِّعابِ بِمُقْرِنِينا
والمُرادُ بِالأنْعامِ هُنا: الإبِلُ خاصَّةً، وقِيلَ: الإبِلُ والبَقَرُ، والأوَّلُ أوْلى.
﴿وإنّا إلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ﴾ أيْ: راجِعُونَ إلَيْهِ، وهَذا تَمامُ ما يُقالُ عِنْدَ رُكُوبِ الدّابَّةِ أوِ السَّفِينَةِ.
ثُمَّ رَجَعَ - سُبْحانَهُ - إلى ذِكْرِ الكُفّارِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهم، فَقالَ: ﴿وجَعَلُوا لَهُ مِن عِبادِهِ جُزْءًا﴾ قالَ قَتادَةُ أيْ: عِدْلًا، يَعْنِي ما عُبِدَ مِن دُونِ اللَّهِ.
وقالَ الزَّجّاجُ والمُبَرِّدُ: الجُزْءُ هُنا البَناتُ، والجُزْءُ عِنْدَ أهْلِ العَرَبِيَّةِ البَناتُ، يُقالُ: قَدْ أجَزَأتِ المَرْأةُ: إذا ولَدَتِ البَناتِ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎إنْ أجْزَأتْ حُرَّةٌ يَوْمًا فَلا عَجَبٌ ∗∗∗ قَدْ تُجْزِئُ الحُرَّةُ المِذْكارَ أحْيانًا
وقَدْ جَعَلَ صاحِبُ الكَشّافِ تَفْسِيرَ الجُزْءِ بِالبَناتِ مِن بِدَعِ التَّفْسِيرِ، وصَرَّحَ بِأنَّهُ مَكْذُوبٌ عَلى العَرَبِ.
ويُجابُ عَنْهُ بِأنَّهُ قَدْ رَواهُ الزَّجّاجُ والمُبَرِّدُ، وهُما إماما اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ وحافِظاها ومَن إلَيْهِما المُنْتَهى في مَعْرِفَتِها، ويُؤَيِّدُ تَفْسِيرَ الجُزْءِ بِالبَناتِ ما سَيَأْتِي مِن قَوْلِهِ: ﴿أمِ اتَّخَذَ مِمّا يَخْلُقُ بَناتٍ﴾ وقَوْلِهِ: ﴿وإذا بُشِّرَ أحَدُهم بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ﴾ وقَوْلِهِ: ﴿وجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هم عِبادُ الرَّحْمَنِ إناثًا﴾ وقِيلَ: المُرادُ بِالجُزْءِ هُنا المَلائِكَةُ فَإنَّهم جَعَلُوهم أوْلادَ اللَّهِ - سُبْحانَهُ - قالَهُ مُجاهِدٌ، والحَسَنُ.
قالَ الأزْهَرِيُّ: ومَعْنى الآيَةِ أنَّهم جَعَلُوا لِلَّهِ مِن عِبادِهِ نَصِيبًا عَلى مَعْنى: أنَّهم جَعَلُوا نَصِيبَ اللَّهِ مِنَ الوِلْدانِ ﴿إنَّ الإنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ﴾ أيْ: ظاهِرُ الكُفْرانِ مُبالِغٌ فِيهِ، قِيلَ: المُرادُ بِالإنْسانِ هُنا الكافِرُ، فَإنَّهُ الَّذِي يَجْحَدُ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ جُحُودًا بَيِّنًا.
ثُمَّ أنْكَرَ عَلَيْهِمْ هَذا فَقالَ: ﴿أمِ اتَّخَذَ مِمّا يَخْلُقُ بَناتٍ﴾ وهَذا اسْتِفْهامُ تَقْرِيعٍ وتَوْبِيخٍ.
وأمْ هي المُنْقَطِعَةُ، والمَعْنى: أتَّخَذَ رَبُّكم لِنَفْسِهِ البَناتِ ﴿وأصْفاكم بِالبَنِينَ﴾ ؟ فَجَعَلَ لِنَفْسِهِ المَفْضُولَ مِنَ الصِّنْفَيْنِ ولَكُمُ الفاضِلُ مِنهُما، يُقالُ: أصْفَيْتُهُ بِكَذا أيْ: آثَرْتُهُ بِهِ، وأصْفَيْتُهُ الوُدَّ: أخْلَصْتُهُ لَهُ، ومِثْلُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ: ﴿ألَكُمُ الذَّكَرُ ولَهُ الأُنْثى تِلْكَ إذًا قِسْمَةٌ ضِيزى﴾ [النجم: ٢١] وقَوْلُهُ: ﴿أفَأصْفاكم رَبُّكم بِالبَنِينَ﴾ [الإسراء: ٤٠] وجُمْلَةُ وأصْفاكم مَعْطُوفَةٌ عَلى اتَّخَذَ داخِلَةٌ مَعَها تَحْتَ الإنْكارِ.
ثُمَّ زادَ في تَقْرِيعِهِمْ وتَوْبِيخِهِمْ فَقالَ: ﴿وإذا بُشِّرَ أحَدُهم بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا﴾ أيْ: بِما جَعَلَهُ لِلرَّحْمَنِ - سُبْحانَهُ - مِن كَوْنِهِ جَعَلَ لِنَفْسِهِ البَناتِ، والمَعْنى: أنَّهُ إذا بُشِّرَ أحَدُهم بِأنَّها وُلِدَتْ لَهُ بِنْتٌ اغْتَمَّ لِذَلِكَ وظَهَرَ عَلَيْهِ أثَرُهُ، وهو مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿ظَلَّ وجْهُهُ مُسْوَدًّا﴾ أيْ: صارَ وجْهُهُ مُسْوَدًّا بِسَبَبِ حُدُوثِ الأُنْثى لَهُ حَيْثُ لَمْ يَكُنِ الحادِثُ لَهُ ذَكَرًا مَكانَها ﴿وهُوَ كَظِيمٌ﴾ أيْ: شَدِيدُ الحُزْنِ كَثِيرُ الكَرْبِ مَمْلُوءٌ مِنهُ.
قالَ قَتادَةُ: حَزِينٌ. وقالَ عِكْرِمَةُ: مَكْرُوبٌ، وقِيلَ: ساكِتٌ، وجُمْلَةُ ﴿وهُوَ كَظِيمٌ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ.
ثُمَّ زادَ في تَوْبِيخِهِمْ وتَقْرِيعِهِمْ فَقالَ ﴿أوَمَن يُنَشَّأُ في الحِلْيَةِ وهو في الخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾ مَعْنى يُنَشَّؤُ يُرَبّى، والنُّشُوءُ التَّرْبِيَةُ، والحِلْيَةُ الزِّينَةُ، ومَن في مَحَلِّ نَصْبٍ بِتَقْدِيرِ مُقَدَّرٍ مَعْطُوفٍ عَلى جَعَلُوا، والمَعْنى: أوَجَعَلُوا لَهُ - سُبْحانَهُ - مَن شَأْنُهُ أنْ يُرَبّى في الزِّينَةِ وهو عاجِزٌ عَنْ أنْ يَقُومَ بِأُمُورِ نَفْسِهِ، وإذا خُوصِمَ لا يَقْدِرُ عَلى إقامَةِ حُجَّتِهِ ودَفْعِ ما يُجادِلُهُ بِهِ خَصْمُهُ لِنُقْصانِ عَقْلِهِ وضَعْفِ رَأْيِهِ.
قالَ المُبَرِّدُ: تَقْدِيرُ الآيَةِ: أوَيَجْعَلُونَ لَهُ مَن يَنْشَأُ في الحِلْيَةِ أيْ: يَنْبُتُ في الزِّينَةِ.
قَرَأ الجُمْهُورُ " يَنْشَأُ " بِفَتْحِ الياءِ وإسْكانِ النُّونِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، والضَّحّاكُ، وابْنُ وثّابٍ وحَفْصٌ، وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ وخَلَفٌ بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ النُّونِ وتَشْدِيدِ الشِّينِ.
واخْتارَ القِراءَةَ الأُولى أبُو حاتِمٍ، واخْتارَ الثّانِيَةَ أبُو عُبَيْدٍ.
قالَ الهَرَوِيُّ: الفِعْلُ عَلى القِراءَةِ الأُولى لازِمٌ، وعَلى الثّانِيَةِ مُتَعَدٍّ. والمَعْنى: يُرَبّى ويَكْبُرُ في الحِلْيَةِ.
قالَ قَتادَةُ: قَلَّما تَتَكَلَّمُ امْرَأةٌ بِحُجَّتِها إلّا تَكَلَّمَتْ بِالحُجَّةِ عَلَيْها. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ، والضَّحّاكُ: الَّذِي يُنَشَّؤُ في الحِلْيَةِ أصْنامُهُمُ الَّتِي صاغُوها مِن ذَهَبٍ وفِضَّةٍ.
" ﴿وجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هم عِبادُ الرَّحْمَنِ إناثًا﴾ " الجَعْلُ هُنا: بِمَعْنى القَوْلِ والحُكْمِ عَلى الشَّيْءِ كَما تَقُولُ: جَعَلْتُ زَيْدًا أفْضَلَ النّاسِ أيْ: قُلْتَ بِذَلِكَ وحَكَمْتَ لَهُ بِهِ.
قَرَأ الكُوفِيُّونَ عِبادُ بِالجَمْعِ، وبِها قَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ. وقَرَأ الباقُونَ: " عِنْدَ الرَّحْمَنِ " بِنُونٍ ساكِنَةٍ، واخْتارَ القِراءَةَ الأُولى أبُو عُبَيْدٍ؛ لِأنَّ الإسْنادَ فِيها أعْلى، ولِأنَّ اللَّهَ إنَّما كَذَّبَهم في قَوْلِهِ: إنَّهم بَناتُ اللَّهِ، (p-١٣٣٧)فَأخْبَرَهم أنَّهم عِبادُهُ، ويُؤَيِّدُ هَذِهِ القِراءَةَ قَوْلُهُ: ﴿بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٦] واخْتارَ أبُو حاتِمٍ القِراءَةَ الثّانِيَةَ، قالَ: وتَصْدِيقُ هَذِهِ القِراءَةِ قَوْلُهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ﴾ [الأعراف: ٢٠٦] .
ثُمَّ وبَّخَهم وقَرَّعَهم فَقالَ: ﴿أشَهِدُوا خَلْقَهُمْ﴾ أيْ: أحَضَرُوا خَلْقَ اللَّهِ إيّاهم فَهو مِنَ الشَّهادَةِ الَّتِي هي الحُضُورُ، وفي هَذا تَهَكُّمٌ بِهِمْ وتَجْهِيلٌ لَهم.
قَرَأ الجُمْهُورُ أشَهِدُوا عَلى الِاسْتِفْهامِ بِدُونِ واوٍ. وقَرَأ نافِعٌ " أوَشَهِدُوا " .
وقَرَأ الجُمْهُورُ " سَتُكْتَبُ شَهادَتُهم " بِضَمِّ التّاءِ الفَوْقِيَّةِ وبِناءِ الفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ ورَفْعِ شَهادَتِهِمْ، وقَرَأ السُّلَمِيُّ وابْنُ السَّمَيْفَعِ وهُبَيْرَةُ عَنْ حَفْصٍ بِالنُّونِ وبِناءِ الفِعْلِ لِلْفاعِلِ ونَصْبِ شَهادَتِهِمْ، وقَرَأ أبُو رَجاءٍ " شَهاداتُهم " بِالجَمْعِ، والمَعْنى: سَنَكْتُبُ هَذِهِ الشَّهادَةَ الَّتِي شَهِدُوا بِها في دِيوانِ أعْمالِهِمْ لِنُجازِيَهم عَلى ذَلِكَ ويُسْألُونَ عَنْها يَوْمَ القِيامَةِ.
﴿وقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمَنُ ما عَبَدْناهم﴾ هَذا فَنٌّ آخَرُ مِن فُنُونِ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ جاءُوا بِهِ لِلِاسْتِهْزاءِ والسُّخْرِيَةِ، ومَعْناهُ: لَوْ شاءَ الرَّحْمَنُ في زَعْمِكم ما عَبَدْنا هَذِهِ المَلائِكَةَ، وهَذا كَلامٌ حَقٌّ يُرادُ بِهِ باطِلٌ، وقَدْ مَضى بَيانُهُ في الأنْعامِ، فَبَيَّنَ - سُبْحانَهُ - جَهْلَهم بِقَوْلِهِ: ﴿ما لَهم بِذَلِكَ مِن عِلْمٍ﴾ أيْ: ما لَهم بِما قالُوهُ مِن أنَّ اللَّهَ لَوْ شاءَ عَدَمَ عِبادَتِهِمْ لِلْمَلائِكَةِ ما عَبَدُوهم مِن عِلْمٍ، بَلْ تَكَلَّمُوا بِذَلِكَ جَهْلًا، وأرادُوا بِما صُورَتُهُ صُورَةُ الحَقِّ باطِلًا، وزَعَمُوا أنَّهُ إذا شاءَ فَقَدْ رَضِيَ.
ثُمَّ بَيَّنَ انْتِفاءَ عِلْمِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿إنْ هم إلّا يَخْرُصُونَ﴾ أيْ: ما هم إلّا يَكْذِبُونَ فِيما قالُوا ويَتَمَحَّلُونَ تَمَحُّلًا باطِلًا.
وقِيلَ: الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ إلى قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هم عِبادُ الرَّحْمَنِ إناثًا﴾ .
قالَهُ قَتادَةُ ومُقاتِلٌ والكَلْبِيُّ، وقالَ مُجاهِدٌ وابْنُ جُرَيْجٍ أيْ: ما لَهم بِعِبادَةِ الأوْثانِ مِن عِلْمٍ.
وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: إنَّ أوَّلَ ما خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ القَلَمُ وأمَرَهُ أنْ يَكْتُبَ ما هو كائِنٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ والكِتابُ عِنْدَهُ، ثُمَّ قَرَأ ﴿وإنَّهُ في أُمِّ الكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ .
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ نَحْوَهُ عَنْ أنَسٍ مَرْفُوعًا.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿أفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا﴾ قالَ: أحْبَبْتُمْ أنْ يُصْفَحَ عَنْكم ولَمْ تَفْعَلُوا ما أُمِرْتُمْ بِهِ.
وأخْرَجَ مُسْلِمٌ وأبُو داوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ والحاكِمُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - كانَ إذا سافَرَ رَكِبَ راحِلَتَهُ ثُمَّ كَبَّرَ ثَلاثًا ثُمَّ قالَ: ﴿سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا وما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ وإنّا إلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ﴾» .
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وما كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ قالَ: مُطِيقِينَ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ ﴿أوَمَن يُنَشَّأُ في الحِلْيَةِ﴾ قالَ: هو النِّساءُ فَرَّقَ بَيْنَ زِيِّهِنَّ وزِيِّ الرِّجالِ، ونَقَصَهُنَّ مِنَ المِيراثِ وبِالشَّهادَةِ، وأمَرَهُنَّ بِالقَعْدَةِ، وسَمّاهُنَّ الخَوالِفَ.
وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قالَ: كُنْتُ أقْرَأُ هَذا الحَرْفَ: ﴿الَّذِينَ هم عِبادُ الرَّحْمَنِ إناثًا﴾، فَسَألْتُ ابْنَ عَبّاسٍ فَقالَ: عِبادُ الرَّحْمَنِ ؟ قُلْتُ: فَإنَّها في مُصْحَفِي " عِنْدَ الرَّحْمَنِ " قالَ: فامْحُها واكْتُبْها عِبادَ الرَّحْمَنِ.
* * *
(p-١٣٦١)وهِيَ مَكِّيَّةٌ.
قالَ القُرْطُبِيُّ: في قَوْلِ جَمِيعِهِمْ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ الزُّبَيْرِ، قالا: نَزَلَتْ سُورَةُ ( حم الأحْقافِ ) بِمَكَّةَ.
وأخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ، والحاكِمُ، وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: «أقْرَأنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - سُورَةَ الأحْقافِ وأقْرَأها آخَرَ فَخالَفَ قِراءَتَهُ، فَقُلْتُ مَن أقْرَأكَها ؟ قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَقُلْتُ: واللَّهِ لَقَدْ أقْرَأنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - غَيْرَ ذا، فَأتَيْنا رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -، فَقُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ، ألَمْ تُقْرِئْنِي كَذا وكَذا ؟ قالَ: بَلى، وقالَ الآخَرُ: ألَمْ تُقْرِئْنِي كَذا وكَذا ؟ قالَ: بَلى، فَتَمَعَّرَ وجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -، فَقالَ: لِيَقْرَأْ كُلُّ واحِدٍ مِنكُما ما سَمِعَ، فَإنَّما هَلَكَ مَن كانَ قَبْلَكم بِالِاخْتِلافِ» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَوْلُهُ: ١ - ﴿حم﴾ ﴿تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى هَذا في سُورَةِ غافِرٍ وما بَعْدَها مُسْتَوْفًى، وذَكَرْنا وجْهَ الإعْرابِ وبَيانَ ما هو الحَقُّ مِن أنَّ فَواتِحَ السُّوَرِ مِنَ المُتَشابِهِ الَّذِي يَجِبُ أنْ يُوكَلَ عِلْمُهُ إلى مَن أنْزَلَهُ.
﴿ما خَلَقْنا السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما﴾ مِنَ المَخْلُوقاتِ بِأسْرِها إلّا بِالحَقِّ هو اسْتِثْناءٌ مُفَرَّغٌ مِن أعَمِّ الأحْوالِ أيْ: إلّا خَلْقًا مُلْتَبِسًا بِالحَقِّ الَّذِي تَقْتَضِيهِ المَشِيئَةُ الإلَهِيَّةُ، وقَوْلُهُ: ﴿وأجَلٍ مُسَمًّى﴾ مَعْطُوفٌ عَلى الحَقِّ: أيْ إلّا بِالحَقِّ، وبِأجَلٍ مُسَمًّى عَلى تَقْدِيرِ مُضافٍ مَحْذُوفٍ: أيْ وبِتَقْدِيرِ أجَلٍ مُسَمًّى، وهَذا الأجَلُ هو يَوْمُ القِيامَةِ، فَإنَّها تَنْتَهِي فِيهِ السَّماواتُ والأرْضُ وما بَيْنَهُما وتُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ والسَّماواتُ.
وقِيلَ المُرادُ بِالأجَلِ المُسَمّى هو انْتِهاءُ أجَلِ كُلِّ فَرْدٍ مِن أفْرادِ المَخْلُوقاتِ، والأوَّلُ أوْلى. وهَذا إشارَةٌ إلى قِيامِ السّاعَةِ وانْقِضاءِ مُدَّةِ الدُّنْيا، وأنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقَهُ باطِلًا وعَبَثًا لِغَيْرِ شَيْءٍ، بَلْ خَلَقَهُ لِلثَّوابِ والعِقابِ ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا عَمّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ﴾ أيْ: عَمّا أُنْذِرُوا وخُوِّفُوا بِهِ في القُرْآنِ مِنَ البَعْثِ والحِسابِ والجَزاءِ مُعْرِضُونَ مُوَلُّونَ غَيْرَ مُسْتَعِدِّينَ لَهُ. والجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ، أيْ والحالُ أنَّهم مُعْرِضُونَ عَنْهُ غَيْرَ مُؤْمِنِينَ بِهِ، و" ما " في قَوْلِهِ: ما أُنْذِرُوا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ المَوْصُولَةَ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ المَصْدَرِيَّةَ.
﴿قُلْ أرَأيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ أيْ أخْبِرُونِي ما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِنَ الأصْنامِ ﴿أرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ﴾ أيْ أيُّ شَيْءٍ خَلَقُوا مِنها، وقَوْلُهُ: أرُونِي يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ " أرَأيْتُمْ ": أيْ أخْبِرُونِي أرُونِي والمَفْعُولُ الثّانِي لِ أرَأيْتُمْ ماذا خَلَقُوا، ويُحْتَمَلُ أنْ لا يَكُونَ تَأْكِيدًا، بَلْ يَكُونُ هَذا مِن بابِ التَّنازُعِ؛ لِأنَّ " أرَأيْتُمْ " يَطْلُبُ مَفْعُولًا ثانِيًا، و( أرُونِي ) كَذَلِكَ ﴿أمْ لَهم شِرْكٌ في السَّماواتِ﴾ " أمْ " هَذِهِ هي المُنْقَطِعَةُ المُقَدَّرَةُ بِبَلْ والهَمْزَةِ، والمَعْنى: بَلْ ألَهم شَرِكَةٌ مَعَ اللَّهِ فِيها، والِاسْتِفْهامُ لِلتَّوْبِيخِ والتَّقْرِيعِ ﴿اِئْتُونِي بِكِتابٍ مِن قَبْلِ هَذا﴾ هَذا تَبْكِيتٌ لَهم وإظْهارٌ لِعَجْزِهِمْ وقُصُورِهِمْ عَنِ الإتْيانِ بِذَلِكَ، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: هَذا، إلى القُرْآنِ، فَإنَّهُ قَدْ صَرَّحَ بِبُطْلانِ الشِّرْكِ، وأنَّ اللَّهَ واحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ، وأنَّ السّاعَةَ حَقٌّ لا رَيْبَ فِيها، فَهَلْ لِلْمُشْرِكِينَ مِن كِتابٍ يُخالِفُ هَذا الكِتابَ، أوْ حُجَّةٌ تُنافِي هَذِهِ الحُجَّةَ
﴿أوْ أثارَةٍ مِن عِلْمٍ﴾ قالَ في الصِّحاحِ: " أوْ أثارَةٍ مِن عِلْمِ " بَقِيَّةٍ مِنهُ، وكَذا الأثَرَةُ بِالتَّحْرِيكِ.
قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أيْ: بَقِيَّةٍ مِن عِلْمِ الأوَّلِينَ.
وقالَ الفَرّاءُ، والمُبَرِّدُ: يَعْنِي ما يُؤْثَرُ عَنْ كُتُبِ الأوَّلِينَ.
قالَ الواحِدِيُّ: وهو مَعْنى قَوْلِ المُفَسِّرِينَ.
قالَ عَطاءٌ: أوْ شَيْءٌ تَأْثُرُونَهُ عَنْ نَبِيٍّ كانَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - .
قالَ مُقاتِلٌ: أوْ رِوايَةٍ مِن عِلْمٍ عَنِ الأنْبِياءِ.
وقالَ الزَّجّاجُ: أوْ أثارَةٍ: أيْ: عَلامَةٍ، والأثارَةُ: مَصْدَرٌ كالسَّماحَةِ والشَّجاعَةِ. وأصْلُ الكَلِمَةِ مِنَ الأثَرِ وهي الرِّوايَةُ. يُقالُ أثَرْتُ الحَدِيثَ آثُرُهُ أثْرَةً وأثارَةً وأثْرًا: إذا ذَكَرْتَهُ عَنْ غَيْرِكَ.
قَرَأ الجُمْهُورُ ( أثارَةٍ ) عَلى المَصْدَرِ كالسَّماحَةِ والغَوايَةِ.
وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وعِكْرِمَةُ، والسُّلَمِيُّ، والحَسَنُ، وأبُو رَجاءٍ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ والثّاءِ مِن غَيْرِ ألِفٍ.
وقَرَأ الكِسائِيُّ " أُثْرَةٍ " بِضَمِّ الهَمْزَةِ وسُكُونِ الثّاءِ ﴿إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ في دَعْواكُمُ الَّتِي تَدْعُونَها، وهي قَوْلُكم: إنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا ولَمْ تَأْتُوا بِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ فَتَبَيَّنَ بُطْلانُ قَوْلِهِمْ لِقِيامِ البُرْهانِ العَقْلِيِّ والنَّقْلِيِّ عَلى خِلافِهِ.
﴿ومَن أضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ﴾ أيْ لا أحَدَ أضَلُّ مِنهُ ولا أجْهَلُ، فَإنَّهُ دَعا مَن لا يَسْمَعُ، فَكَيْفَ يَطْمَعُ في الإجابَةِ فَضْلًا عَنْ جَلْبِ نَفْعٍ أوْ دَفْعِ ضُرٍّ ؟ فَتَبَيَّنَ بِهَذا أنَّهُ (p-١٣٦٢)أجْهَلُ الجاهِلِينَ وأضَلُّ الضّالِّينَ، والِاسْتِفْهامُ لِلتَّقْرِيعِ والتَّوْبِيخِ، وقَوْلُهُ: ﴿إلى يَوْمِ القِيامَةِ﴾ غايَةٌ لِعَدَمِ الِاسْتِجابَةِ ﴿وهم عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ﴾ الضَّمِيرُ الأوَّلُ لِلْأصْنامِ، والثّانِي لِعابِدِيها، والمَعْنى: والأصْنامُ الَّتِي يَدْعُونَها عَنْ دُعائِهِمْ إيّاها غافِلُونَ عَنْ ذَلِكَ، لا يَسْمَعُونَ ولا يَعْقِلُونَ لِكَوْنِهِمْ جَماداتٍ، والجَمْعُ في الضَّمِيرَيْنِ بِاعْتِبارِ مَعْنى مَن، وأجْرى عَلى الأصْنامِ ما هو لِلْعُقَلاءِ لِاعْتِقادِ المُشْرِكِينَ فِيها أنَّها تَعْقِلُ.
﴿وإذا حُشِرَ النّاسُ كانُوا لَهم أعْداءً﴾ أيْ: إذا حَشَرَ النّاسَ العابِدِينَ لِلْأصْنامِ كانَ الأصْنامُ لَهم أعْداءً يَتَبَرَّأُ بَعْضُهم مِن بَعْضٍ، ويَلْعَنُ بَعْضُهم بَعْضًا، وقَدْ قِيلَ إنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الحَياةَ في الأصْنامِ، فَتُكَذِّبُهم.
وقِيلَ المُرادُ أنَّها تُكَذِّبُهم وتُعادِيهِمْ بِلِسانِ الحالِ لا بِلِسانِ المَقالِ.
وأمّا المَلائِكَةُ، والمَسِيحُ، وعُزَيْرٌ، والشَّياطِينُ، فَإنَّهم يَتَبَرَّءُونَ مِمَّنْ عَبَدَهم يَوْمَ القِيامَةِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿تَبَرَّأْنا إلَيْكَ ما كانُوا إيّانا يَعْبُدُونَ﴾ [القصص: ٦٣] ﴿وكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ﴾ أيْ كانَ المَعْبُودُونَ بِعِبادَةِ المُشْرِكِينَ إيّاهم كافِرِينَ: أيْ جاحِدِينَ مُكَذِّبِينَ، وقِيلَ الضَّمِيرُ في ( كانُوا ) لِلْعابِدِينَ كَما في قَوْلِهِ: ﴿واللَّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣] والأوَّلُ أوْلى.
﴿وإذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا﴾ أيْ: آياتُ القُرْآنِ حالَ كَوْنِها بَيِّناتٍ واضِحاتِ المَعانِي ظاهِراتِ الدَّلالاتِ ﴿قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ﴾ أيْ لِأجْلِهِ، وفي شَأْنِهِ، وهو عِبارَةٌ عَنِ الآياتِ ﴿لَمّا جاءَهُمْ﴾ أيْ وقْتَ أنْ جاءَهم ﴿هَذا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ أيْ ظاهِرُ السِّحْرِيَّةِ.
﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ﴾ " أمْ " هي المُنْقَطِعَةُ: أيْ بَلْ أيَقُولُونَ افْتَراهُ، والِاسْتِفْهامُ لِلْإنْكارِ والتَّعَجُّبِ مِن صَنِيعِهِمْ، وبَلْ لِلِانْتِقالِ عَنْ تَسْمِيَتِهِمُ الآياتِ سِحْرًا إلى قَوْلِهِمْ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ افْتَرى ما جاءَ بِهِ، وفي ذَلِكَ مِنَ التَّوْبِيخِ والتَّقْرِيعِ ما لا يَخْفى.
ثُمَّ أمَرَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ أنْ يُجِيبَ عَنْهم، فَقالَ: ﴿قُلْ إنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ أيْ قُلْ إنِ افْتَرَيْتُهُ عَلى سَبِيلِ الفَرْضِ والتَّقْدِيرِ - كَما تَدَّعُونَ - فَلا تَقْدِرُونَ عَلى أنْ تَرُدُّوا عَنِّي عِقابَ اللَّهِ، فَكَيْفَ أفْتَرِي عَلى اللَّهِ لِأجْلِكم وأنْتُمْ لا تَقْدِرُونَ عَلى دَفْعِ عِقابِهِ عَنِّي ﴿هو أعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ أيْ تَخُوضُونَ فِيهِ مِنَ التَّكْذِيبِ، والإفاضَةُ في الشَّيْءِ الخَوْضُ فِيهِ والِانْدِفاعُ فِيهِ، يُقالُ أفاضُوا في الحَدِيثِ: أيِ انْدَفَعُوا فِيهِ، وأفاضَ البَعِيرُ: إذا دَفَعَ جَرَّتَهُ مِن كَرِشِهِ.
والمَعْنى: اللَّهُ أعْلَمُ بِما تَقُولُونَ في القُرْآنِ وتَخُوضُونَ فِيهِ مِنَ التَّكْذِيبِ لَهُ والقَوْلِ بِأنَّهُ سِحْرٌ وكِهانَةٌ ﴿كَفى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وبَيْنَكُمْ﴾ فَإنَّهُ يَشْهَدُ لِي بِأنَّ القُرْآنَ مِن عِنْدِهِ، وأنِّي قَدْ بَلَّغْتُكم، ويَشْهَدُ عَلَيْكم بِالتَّكْذِيبِ والجُحُودِ، وفي هَذا وعِيدٌ شَدِيدٌ ﴿وهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ لِمَن تابَ وآمَنَ وصَدَّقَ بِالقُرْآنِ، وعَمِلَ بِما فِيهِ: أيْ كَثِيرُ المَغْفِرَةِ، والرَّحْمَةِ بَلِيغُهُما.
﴿قُلْ ما كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ البِدْعُ مِن كُلِّ شَيْءٍ المَبْدَأُ: أيْ: ما أنا بِأوَّلِ رَسُولٍ، قَدْ بَعَثَ اللَّهُ قَبْلِي كَثِيرًا مِنَ الرُّسُلِ.
قِيلَ: البِدْعُ بِمَعْنى البَدِيعِ، كالخُفِّ والخَفِيفِ، والبَدِيعُ ما لَمْ يُرَ لَهُ مِثْلٌ، مِنَ الِابْتِداعِ وهو الِاخْتِراعُ، وشَيْءٌ بِدْعٌ بِالكَسْرِ: أيْ: مُبْتَدَعٌ، وفُلانٌ بِدْعٌ في هَذا الأمْرِ: أيْ: بَدِيعٌ، كَذا قالَ الأخْفَشُ، وأنْشَدَ قُطْرُبٌ:
؎فَما أنا بِدْعٌ مِن حَوادِثَ تَعْتَرِي رِجالًا غَدَتْ مِن بَعْدِ مُوسى وأسْعَدا
وقَرَأ عِكْرِمَةُ، وأبُو حَيْوَةَ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ " بِدَعًا " بِفَتْحِ الدّالِّ عَلى تَقْدِيرِ حَذْفِ المُضافِ: أيْ: ما كُنْتُ ذا بِدَعٍ، وقَرَأ مُجاهِدٌ بِفَتْحِ الباءِ وكَسْرِ الدّالِ عَلى الوَصْفِ ﴿وما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ﴾ أيْ ما يُفْعَلُ بِي فِيما يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمانِ هَلْ أبْقى في مَكَّةَ أوْ أُخْرَجُ مِنها ؟ وهَلْ أمُوتُ أوْ أُقْتَلُ ؟ وهَلْ تُعَجَّلُ لَكُمُ العُقُوبَةُ أمْ تُمْهَلُونَ ؟ وهَذا إنَّما هو في الدُّنْيا.
وأمّا في الآخِرَةِ فَقَدْ عَلِمَ أنَّهُ وأُمَّتَهُ في الجَنَّةِ وأنَّ الكافِرِينَ في النّارِ.
وقِيلَ إنَّ المَعْنى: ما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكم يَوْمَ القِيامَةِ، وإنَّها لَمّا نَزَلَتْ فَرِحَ المُشْرِكُونَ وقالُوا: كَيْفَ نَتَّبِعُ نَبِيًّا لا يَدْرِي ما يُفْعَلُ بِهِ ولا بِنا، وأنَّهُ لا فَضْلَ لَهُ عَلَيْنا ؟ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ﴾ [الفتح: ٢] والأوَّلُ أوْلى ﴿إنْ أتَّبِعُ إلّا ما يُوحى إلَيَّ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ ( يُوحى ) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ: أيْ: ما أتَّبِعُ إلّا القُرْآنَ ولا أبْتَدِعُ مِن عِنْدِي شَيْئًا، والمَعْنى: قَصْرُ أفْعالِهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - عَلى الوَحْيِ لا قَصْرُ اتِّباعِهِ عَلى الوَحْيِ ﴿وما أنا إلّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ أيْ أُنْذِرُكم عِقابَ اللَّهِ وأُخَوِّفُكم عَذابَهُ عَلى وجْهِ الإيضاحِ.
وقَدْ أخْرَجَ أحْمَدُ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والطَّبَرانِيُّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن طَرِيقِ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿أوْ أثارَةٍ مِن عِلْمٍ﴾ قالَ: الخَطُّ.
قالَ سُفْيانُ: لا أعْلَمُ إلّا عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -، يَعْنِي أنَّ الحَدِيثَ مَرْفُوعٌ لا مَوْقُوفٌ عَلى ابْنِ عَبّاسٍ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «كانَ نَبِيٌّ مِنَ الأنْبِياءِ يَخُطُّ، فَمَن صادَفَ مِثْلَ خَطِّهِ عَلِمَ» ومَعْنى هَذا ثابِتٌ في الصَّحِيحِ ولِأهْلِ العِلْمِ فِيهِ تَفاسِيرُ مُخْتَلِفَةٌ.
ومِن أيْنَ لَنا أنَّ هَذِهِ الخُطُوطَ الرَّمْلِيَّةَ مُوافِقَةٌ لِذَلِكَ الخَطِّ، وأيْنَ السَّنَدُ الصَّحِيحُ إلى ذَلِكَ النَّبِيِّ، أوْ إلى نَبِيِّنا - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -، أنَّ هَذا الخَطَّ هو عَلى صُورَةِ كَذا، فَلَيْسَ ما يَفْعَلُهُ أهْلُ الرَّمْلِ إلّا جَهالاتٌ وضَلالاتٌ.
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أبِي سَعِيدٍ «عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: ﴿أوْ أثارَةٍ مِن عِلْمٍ﴾ قالَ: حُسْنُ الخَطِّ» .
وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ والحاكِمُ مِن طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: ﴿أوْ أثارَةٍ مِن عِلْمٍ﴾ قالَ: خَطٌّ كانَ يَخُطُّهُ العَرَبُ في الأرْضِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿أوْ أثارَةٍ مِن عِلْمٍ﴾ يَقُولُ: بَيِّنَةٌ مِنَ الأمْرِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿قُلْ ما كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ يَقُولُ: لَسْتُ بِأوَّلِ الرُّسُلِ ﴿وما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكم﴾ فَأنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ هَذا ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ﴾ [الفتح: ٢] وقَوْلُهُ: ﴿لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ﴾ [الفتح: ٥] الآيَةَ، فَأعْلَمَ سُبْحانَهُ نَبِيَّهُ ما يُفْعَلُ بِهِ وبِالمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا.
وأخْرَجَ أبُو داوُدَ في ناسِخِهِ عَنْهُ أيْضًا أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ﴾ وقَدْ ثَبَتَ في صَحِيحِ البُخارِيِّ وغَيْرِهِ مِن حَدِيثِ أُمِّ العَلاءِ قالَتْ: «لَمّا ماتَ عُثْمانُ بْنُ مَظْعُونٍ قُلْتُ: رَحِمَكَ اللَّهُ أبا (p-١٣٦٣)السّائِبِ» شَهادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أكْرَمَكَ اللَّهُ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: وما يُدْرِيكِ أنَّ اللَّهَ أكْرَمَهُ ؟ أمّا هو فَقَدْ جاءَهُ اليَقِينُ مِن رَبِّهِ وإنِّي لَأرْجُو لَهُ الخَيْرَ، واللَّهِ ما أدْرِي وأنا رَسُولُ اللَّهِ ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكم، قالَتْ أُمُّ العَلاءِ: فَواللَّهِ لا أُزَكِّي بَعْدَهُ أحَدًا.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["حمۤ","وَٱلۡكِتَـٰبِ ٱلۡمُبِینِ","إِنَّا جَعَلۡنَـٰهُ قُرۡءَ ٰ نًا عَرَبِیࣰّا لَّعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ","وَإِنَّهُۥ فِیۤ أُمِّ ٱلۡكِتَـٰبِ لَدَیۡنَا لَعَلِیٌّ حَكِیمٌ","أَفَنَضۡرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكۡرَ صَفۡحًا أَن كُنتُمۡ قَوۡمࣰا مُّسۡرِفِینَ","وَكَمۡ أَرۡسَلۡنَا مِن نَّبِیࣲّ فِی ٱلۡأَوَّلِینَ","وَمَا یَأۡتِیهِم مِّن نَّبِیٍّ إِلَّا كَانُوا۟ بِهِۦ یَسۡتَهۡزِءُونَ","فَأَهۡلَكۡنَاۤ أَشَدَّ مِنۡهُم بَطۡشࣰا وَمَضَىٰ مَثَلُ ٱلۡأَوَّلِینَ","وَلَىِٕن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَیَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡعَلِیمُ","ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ مَهۡدࣰا وَجَعَلَ لَكُمۡ فِیهَا سُبُلࣰا لَّعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ","وَٱلَّذِی نَزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءَۢ بِقَدَرࣲ فَأَنشَرۡنَا بِهِۦ بَلۡدَةࣰ مَّیۡتࣰاۚ كَذَ ٰلِكَ تُخۡرَجُونَ","وَٱلَّذِی خَلَقَ ٱلۡأَزۡوَ ٰجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ ٱلۡفُلۡكِ وَٱلۡأَنۡعَـٰمِ مَا تَرۡكَبُونَ"],"ayah":"وَإِنَّهُۥ فِیۤ أُمِّ ٱلۡكِتَـٰبِ لَدَیۡنَا لَعَلِیٌّ حَكِیمٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق