الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ فاخْتُلِفَ فِيهِ﴾ هَذا كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ يَتَضَمَّنُ تَسْلِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - عَمّا كانَ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الِاغْتِمامِ بِكُفْرِ قَوْمِهِ وطَعْنِهِمْ في القُرْآنِ، فَأخْبَرَهُ أنَّ هَذا عادَةٌ قَدِيمَةٌ في أُمَمِ الرُّسُلِ، فَإنَّهم يَخْتَلِفُونَ في الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ إلَيْهِمْ، والمُرادُ بِالكِتابِ التَّوْراةُ، والضَّمِيرُ مِن قَوْلِهِ فِيهِ راجِعٌ إلَيْهِ، وقِيلَ: يَرْجِعُ إلى مُوسى، والأوَّلُ أوْلى ﴿ولَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَبِّكَ﴾ في تَأْخِيرِ العَذابِ عَنِ المُكَذِّبِينَ مِن أُمَّتِكَ كَما في قَوْلِهِ: ﴿ولَكِنْ يُؤَخِّرُهم إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾ [ النَّمْلِ: ٦١، فاطِرٍ: ٤٥ ]، ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهم﴾ بِتَعْجِيلِ العَذابِ لِمَن كَذَّبَ مِنهم ﴿وإنَّهم لَفي شَكٍّ مِنهُ مُرِيبٍ﴾ أيْ: مِن كِتابِكَ المُنَزَّلِ عَلَيْكَ وهو القُرْآنُ، ومَعْنى الشَّكِّ المُرِيبِ: المُوقِعِ في الرِّيبَةِ، أوِ الشَّدِيدِ الرِّيبَةِ. وقِيلَ: إنَّ المُرادَ اليَهُودُ، وأنَّهم في شَكٍّ مِنَ التَّوْراةِ مُرِيبٍ، والأوَّلُ أوْلى. ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا فَلِنَفْسِهِ﴾ أيْ: مَن أطاعَ اللَّهَ وآمَنَ بِرَسُولِهِ ولَمْ يُكَذِّبْهم فَثَوابُ ذَلِكَ راجِعٌ إلَيْهِ ونَفْعُهُ خاصٌّ بِهِ ﴿ومَن أساءَ فَعَلَيْها﴾ أيْ: عِقابُ إساءَتِهِ عَلَيْهِ لا عَلى غَيْرِهِ ﴿وما رَبُّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ فَلا يُعَذِّبُ أحَدًا إلّا بِذَنْبِهِ، ولا يَقَعُ مِنهُ الظُّلْمُ لِأحَدٍ كَما في قَوْلِهِ - سُبْحانَهُ -: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النّاسَ شَيْئًا﴾ [يونس: ٤٤] وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿وأنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [آل عمران: ١٨٢] وفي سُورَةِ الأنْفالِ أيْضًا. ثُمَّ أخْبَرَ - سُبْحانَهُ - أنَّ عِلْمَ القِيامَةِ ووَقْتَ قِيامِها لا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، فَقالَ: ﴿إلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السّاعَةِ﴾ فَإذا وقَعَ السُّؤالُ عَنْها وجَبَ عَلى المَسْئُولِ أنْ يَرُدَّ عِلْمَها إلَيْهِ لا إلى غَيْرِهِ، وقَدْ «رُوِيَ أنَّ المُشْرِكِينَ قالُوا: يا مُحَمَّدُ إنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَخَبِّرْنا مَتى تَقُومُ السّاعَةُ ؟ فَنَزَلَتْ»، و" ما " في قَوْلِهِ: ﴿وما تَخْرُجُ مِن ثَمَراتٍ مِن أكْمامِها﴾ نافِيَةٌ، ومِن الأُولى لِلِاسْتِغْراقِ، ومِن الثّانِيَةُ لِابْتِداءِ الغايَةِ، وقِيلَ: هي مَوْصُولَةٌ في مَحَلِّ جَرٍّ عَطْفًا عَلى السّاعَةِ أيْ: عِلْمُ السّاعَةِ وعِلْمُ الَّتِي تَخْرُجُ، والأوَّلُ أوْلى. والأكْمامُ جَمْعُ كِمٍّ بِكَسْرِ الكافِ، وهو وِعاءُ الثَّمَرَةِ ويُطْلَقُ عَلى كُلِّ ظَرْفٍ لِمالٍ أوْ غَيْرِهِ. قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: أكْمامُها أوْعِيَتُها، وهي ما كانَتْ فِيهِ الثَّمَرَةُ واحِدُها كِمٌّ وكِمَّةٌ. قالَ الرّاغِبُ: الكُمُّ ما يُغَطِّي اليَدَ مِنَ القَمِيصِ، وما يُغَطِّي الثَّمَرَةَ، وجَمْعُهُ أكْمامٌ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الكُمَّ بِضَمِّ الكافِ لِأنَّهُ جَعَلَهُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ كُمِّ القَمِيصِ وكُمِّ الثَّمَرَةِ، ولا خِلافَ في كُمِّ القَمِيصِ أنَّهُ بِالضَّمِّ. ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ في الكِمِّ الَّذِي هو وِعاءُ الثَّمَرِ لُغَتَيْنِ ؟ قَرَأ الجُمْهُورُ " مِن ثَمَرَةٍ " بِالإفْرادِ، وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ وحَفْصٌ بِالجَمْعِ ﴿وما تَحْمِلُ مِن أُنْثى ولا تَضَعُ إلّا بِعِلْمِهِ﴾ أيْ: ما تَحْمِلُ أُنْثى حَمْلًا في بَطْنِها ولا تَضَعُ ذَلِكَ الحَمْلَ إلّا بِعِلْمِ اللَّهِ - سُبْحانَهُ - والِاسْتِثْناءُ مُفَرَّغٌ مِن أعَمِّ الأحْوالِ أيْ: ما يَحْدُثُ شَيْءٌ مِن خُرُوجِ ثَمَرَةٍ ولا حَمْلِ حامِلٍ ولا وضْعِ واضِعٍ في حالٍ مِنَ الأحْوالِ إلّا كائِنًا بِعِلْمِ اللَّهِ فَإلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السّاعَةِ كَما إلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ هَذِهِ الأُمُورِ ﴿ويَوْمَ يُنادِيهِمْ﴾ أيْ: يُنادِي اللَّهُ - سُبْحانَهُ - المُشْرِكِينَ، وذَلِكَ يَوْمَ القِيامَةِ فَيَقُولُ لَهم: ﴿أيْنَ شُرَكائِي﴾ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنَّهم شُرَكائِي في الدُّنْيا مِنَ الأصْنامِ وغَيْرِها فادْعُوهُمُ الآنَ فَلْيَشْفَعُوا لَكم أوْ يَدْفَعُوا عَنْكُمُ العَذابَ، وهَذا عَلى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ. قَرَأ الجُمْهُورُ شُرَكائِي، بِسُكُونِ الياءِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ بِفَتْحِها، والعامِلُ في يَوْمَ مَحْذُوفٌ أيِ: اذْكُرْ ﴿قالُوا آذَنّاكَ ما مِنّا مِن شَهِيدٍ﴾ يُقالُ: آذَنَ يَأْذَنُ: إذا أعْلَمَ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎آذَنَتْنا بِبَيْنِها أسْماءُ رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ مِنهُ الثَّواءُ والمَعْنى: أعْلَمْناكَ ما مَنّا أحَدٌ يَشْهَدُ بِأنَّ لَكَ شَرِيكًا، وذَلِكَ أنَّهم لَمّا عايَنُوا القِيامَةَ تَبَرَّءُوا مِنَ الشُّرَكاءِ وتَبَرَّأتْ مِنهم تِلْكَ الأصْنامُ الَّتِي كانُوا يَعْبُدُونَها. وقِيلَ: إنَّ القائِلَ بِهَذا هي: المَعْبُوداتُ الَّتِي كانُوا يَعْبُدُونَها أيْ: ما مِنّا مِن شَهِيدٍ يَشْهَدُ لَهم بِأنَّهم كانُوا مُحِقِّينَ، والأوَّلُ أوْلى. ﴿وضَلَّ عَنْهم ما كانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ﴾ أيْ: زالَ وبَطَلَ في الآخِرَةِ ما كانُوا يَعْبُدُونَ في الدُّنْيا مِنَ الأصْنامِ ونَحْوِها ﴿وظَنُّوا ما لَهم مِن مَحِيصٍ﴾ أيْ: أيْقَنُوا وعَلِمُوا أنَّهُ لا مَحِيصَ لَهم، يُقالُ: حاصَ يَحِيصُ حَيْصًا: إذا هَرَبَ. وقِيلَ: الظَّنُّ عَلى مَعْناهُ (p-١٣٢٠)الحَقِيقِيِّ لِأنَّهُ بَقِيَ لَهم في تِلْكَ الأحْوالِ ظَنٌّ ورَجاءٌ، والأوَّلُ أوْلى. ثُمَّ ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - بَعْضَ أحْوالِ الإنْسانِ فَقالَ: ﴿لا يَسْأمُ الإنْسانُ مِن دُعاءِ الخَيْرِ﴾ أيْ: لا يَمَلُّ مِن دُعاءِ الخَيْرِ لِنَفْسِهِ وجَلْبِهِ إلَيْهِ، والخَيْرُ هُنا: المالُ والصِّحَّةُ والسُّلْطانُ والرِّفْعَةُ. قالَ السُّدِّيُّ: والإنْسانُ هُنا يُرادُ بِهِ الكافِرُ، وقِيلَ: الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ، وقِيلَ: عُتْبَةُ وشَيْبَةُ ابْنا رَبِيعَةَ وأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ. والأوْلى حَمْلُ الآيَةِ عَلى العُمُومِ بِاعْتِبارِ الغالِبِ فَلا يُنافِيهِ خُرُوجُ خُلَّصِ العِبادِ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ " لا يَسْأمُ الإنْسانُ مِن دُعاءِ المالِ " ﴿وإنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ﴾ أيْ: وإنْ مَسَّهُ البَلاءُ والشِّدَّةُ والفَقْرُ والمَرَضُ فَيَئُوسٌ مِن رَوْحِ اللَّهِ قَنُوطٌ مِن رَحْمَتِهِ. وقِيلَ: يَئُوسٌ مِن إجابَةِ دُعائِهِ قَنُوطٌ بِسُوءِ الظَّنِّ بِرَبِّهِ. وقِيلَ: يَئُوسٌ مِن زَوالِ ما بِهِ مِنَ المَكْرُوهِ قَنُوطٌ بِما يَحْصُلُ لَهُ مِن ظَنِّ دَوامِهِ، وهُما صِيغَتا مُبالَغَةٍ يَدُلّانِ عَلى أنَّهُ شَدِيدُ اليَأْسِ عَظِيمُ القُنُوطِ. ﴿ولَئِنْ أذَقْناهُ رَحْمَةً مِنّا مِن بَعْدِ ضَرّاءَ مَسَّتْهُ﴾ أيْ: ولَئِنْ آتَيْناهُ خَيْرًا وعافِيَةً وغِنًى مِن بَعْدِ شِدَّةٍ ومَرَضٍ وفَقْرٍ ﴿لَيَقُولَنَّ هَذا لِي﴾ أيْ: هَذا شَيْءٌ أسْتَحِقُّهُ عَلى اللَّهِ لِرِضاهُ بِعَمَلِي، فَظَنَّ أنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ الَّتِي صارَ فِيها وصَلَتْ إلَيْهِ بِاسْتِحْقاقِهِ لَها ولَمْ يَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ يَبْتَلِي عِبادَهُ بِالخَيْرِ والشَّرِّ لِيَتَبَيَّنَ لَهُ الشّاكِرُ مِنَ الجاحِدِ، والصّابِرُ مِنَ الجَزِعِ. قالَ مُجاهِدٌ: مَعْناهُ هَذا بِعَمَلِي وأنا مَحْقُوقٌ بِهِ ﴿وما أظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً﴾ أيْ: ما أظُنُّها تَقُومُ كَما يُخْبِرُنا بِهِ الأنْبِياءُ، أوْ لَسْتُ عَلى يَقِينٍ مِنَ البَعْثِ، وهَذا خاصٌّ بِالكافِرِينَ والمُنافِقِينَ، فَيَكُونُ المُرادُ بِالإنْسانِ المَذْكُورِ في صَدْرِ الآيَةِ الجِنْسَ بِاعْتِبارِ غالِبِ أفْرادِهِ؛ لِأنَّ اليَأْسَ مِن رَحْمَةِ اللَّهِ، والقُنُوطَ مِن خَيْرِهِ، والشَّكَّ في البَعْثِ لا يَكُونُ إلّا مِنَ الكافِرِينَ أوِ المُتَزَلْزِلِينَ في الدِّينِ المُتَظَهِّرِينَ بِالإسْلامِ المُبْطِنِينَ لِلْكُفْرِ ﴿ولَئِنْ رُجِعْتُ إلى رَبِّي﴾ عَلى تَقْدِيرِ صِدْقِ ما يُخْبِرُنا بِهِ الأنْبِياءُ مِن قِيامِ السّاعَةِ وحُصُولِ البَعْثِ والنُّشُورِ ﴿إنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى﴾ أيْ: لَلْحالَةُ الحُسْنى مِنَ الكَرامَةِ، فَظَنَّ أنَّهُ اسْتَحَقَّ خَيْرَ الدُّنْيا بِما فِيهِ مِنَ الخَيْرِ، واسْتَحَقَّ خَيْرَ الآخِرَةِ بِذَلِكَ الَّذِي اعْتَقَدَهُ في نَفْسِهِ وأثْبَتَهُ لَها، وهو اعْتِقادٌ باطِلٌ وظَنٌّ فاسِدٌ ﴿فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا﴾ أيْ: لَنُخْبِرَنَّهم بِها يَوْمَ القِيامَةِ ﴿ولَنُذِيقَنَّهم مِن عَذابٍ غَلِيظٍ﴾ شَدِيدٍ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ، واللّامُ هَذِهِ والَّتِي قَبْلَها هي المُوطِئَةُ لِلْقَسَمِ. ﴿وإذا أنْعَمْنا عَلى الإنْسانِ﴾ أيْ: عَلى هَذا الجِنْسِ بِاعْتِبارِ غالِبِ أفْرادِهِ أعْرَضَ عَنِ الشُّكْرِ ﴿ونَأى بِجانِبِهِ﴾ أيْ: تَرَفَّعَ عَنِ الِانْقِيادِ لِلْحَقِّ وتَكَبَّرَ وتَجَبَّرَ، والجانِبُ هُنا مَجازٌ عَنِ النَّفْسِ، ويُقالُ: نَأيْتُ وتَناءَيْتُ أيْ: بَعُدْتُ وتَباعَدْتُ، والمُنْتَأى: المَوْضِعُ البَعِيدُ. ومِنهُ قَوْلُ النّابِغَةِ: ؎فَإنَّكَ كاللَّيْلِ الَّذِي هو مُدْرِكِي ∗∗∗ وإنْ خِلْتُ أنَّ المُنْتَأى عَنْكَ واسِعُ وقَرَأ يَزِيدُ بْنُ القَعْقاعِ وناءَ بِجانِبِهِ بِالألِفِ قَبْلَ الهَمْزَةِ ﴿وإذا مَسَّهُ الشَّرُّ﴾ أيِ: البَلاءُ والجَهْدُ والفَقْرُ والمَرَضُ ﴿فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ﴾ أيْ: كَثِيرٍ، والعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ الطُّولَ والعَرْضَ في الكَثْرَةِ مَجازًا، يُقالُ: أطالَ فُلانٌ في الكَلامِ وأعْرَضَ في الدُّعاءِ: إذا أكْثَرَ، والمَعْنى: أنَّهُ إذا مَسَّهُ الشَّرُّ تَضَرَّعَ إلى اللَّهِ واسْتَغاثَ بِهِ أنْ يَكْشِفَ عَنْهُ ما نَزَلَ بِهِ واسْتَكْثَرَ مِن ذَلِكَ، فَذَكَرَهُ في الشِّدَّةِ ونَسِيَهُ في الرَّخاءِ واسْتَغاثَ بِهِ عِنْدَ نُزُولِ النِّقْمَةِ وتَرَكَهُ عِنْدَ حُصُولِ النِّعْمَةِ، وهَذا صَنِيعُ الكافِرِينَ ومَن كانَ غَيْرَ ثابِتِ القَدَمِ مِنَ المُسْلِمِينَ. ثُمَّ رَجَعَ - سُبْحانَهُ - إلى مُخاطَبَةِ الكُفّارِ ومُحاجَّتِهِمْ فَقالَ ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ﴾ أيْ: أخْبِرُونِي ﴿إنْ كانَ مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ أيِ: القُرْآنُ ﴿ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ﴾ أيْ: كَذَّبْتُمْ بِهِ ولَمْ تَقْبَلُوهُ ولا عَمِلْتُمْ بِما فِيهِ ﴿مَن أضَلُّ مِمَّنْ هو في شِقاقٍ بَعِيدٍ﴾ أيْ: لا أحَدَ أضَلُّ مِنكم لِفَرْطِ شَقاوَتِكم وشِدَّةِ عَداوَتِكم، والأصْلُ: أيُّ شَيْءٍ أضَلُّ مِنكم، فَوُضِعَ ﴿مِمَّنْ هو في شِقاقٍ﴾ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِبَيانِ حالِهِمْ في المُشاقَّةِ، وأنَّها السَّبَبُ الأعْظَمُ في ضَلالِهِمْ. ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ﴾ أيْ: سَنُرِيهِمْ دَلالاتِ صِدْقِ القُرْآنِ وعَلاماتِ كَوْنِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ في الآفاقِ ﴿وفِي أنْفُسِهِمْ﴾ الآفاقُ جَمْعُ أُفُقٍ وهو النّاحِيَةُ. والأُفُقُ بِضَمِّ الهَمْزَةِ والفاءِ، وكَذا قالَ أهْلُ اللُّغَةِ. ونَقَلَ الرّاغِبُ أنَّهُ يُقالُ: أفَقٌ بِفَتْحِهِما، والمَعْنى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا في النَّواحِي وفي أنْفُسِهِمْ حَوادِثَ الأرْضِ. وقالَ مُجاهِدٌ: في الآفاقِ: فَتْحُ القُرى الَّتِي يَسَّرَ اللَّهُ فَتْحَها لِرَسُولِهِ ولِلْخُلَفاءِ مِن بَعْدِهِ وأنْصارِ دِينِهِ في آفاقِ الدُّنْيا شَرْقًا وغَرْبًا، ومِنَ الظُّهُورِ عَلى الجَبابِرَةِ والأكاسِرَةِ، وفي أنْفُسِهِمْ: فَتْحِ مَكَّةَ، ورَجَّحَ هَذا ابْنُ جَرِيرٍ. وقالَ قَتادَةُ، والضَّحّاكُ: في الآفاقِ: وقائِعِ اللَّهِ في الأُمَمِ، وفي أنْفُسِهِمْ في يَوْمِ بَدْرٍ. وقالَ عَطاءٌ: في الآفاقِ: يَعْنِي أقْطارَ السَّماواتِ والأرْضِ مِنَ الشَّمْسِ والقَمَرِ والنُّجُومِ واللَّيْلِ والنَّهارِ والرِّياحِ والأمْطارِ والرَّعْدِ والبَرْقِ والصَّواعِقِ والنَّباتِ والأشْجارِ والجِبالِ والبِحارِ وغَيْرِ ذَلِكَ، وفي أنْفُسِهِمْ مِن لَطِيفِ الصَّنْعَةِ وبَدِيعِ الحِكْمَةِ، كَما في قَوْلِهِ: ﴿وفِي أنْفُسِكم أفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: ٢١] ﴿حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهم أنَّهُ الحَقُّ﴾ الضَّمِيرُ راجِعٌ إلى القُرْآنِ، وقِيلَ: إلى الإسْلامِ الَّذِي جاءَهم بِهِ رَسُولُ اللَّهِ، وقِيلَ: إلى ما يُرِيهِمُ اللَّهُ ويَفْعَلُ مِن ذَلِكَ، وقِيلَ: إلى مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - أنَّهُ الرَّسُولُ الحَقُّ مِن عِنْدِ اللَّهِ، والأوَّلُ أوْلى ﴿أوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ الجُمْلَةُ مَسُوقَةٌ لِتَوْبِيخِهِمْ وتَقْرِيعِهِمْ و" بِرَبِّكَ " في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى أنَّهُ الفاعِلُ لِ يَكْفِ، والباءُ زائِدَةٌ، وأنَّهُ بَدَلٌ مِن رَبِّكَ والهَمْزَةُ لِلْإنْكارِ. والمَعْنى: ألَمْ يُغْنِهِمْ عَنِ الآياتِ المَوْعُودَةِ المُبَيِّنَةِ لِحَقِّيَّةِ القُرْآنِ أنَّهُ - سُبْحانَهُ - شَهِيدٌ عَلى جَمِيعِ الأشْياءِ. وقِيلَ: المَعْنى: أوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ يا مُحَمَّدُ أنَّهُ شاهِدٌ عَلى أعْمالِ الكُفّارِ. وقِيلَ: أوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ شاهِدًا عَلى أنَّ القُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِن عِنْدِهِ، والشَّهِيدُ بِمَعْنى العالِمِ، أوْ هو بِمَعْنى الشَّهادَةِ الَّتِي هي الحُضُورُ. قالَ الزَّجّاجُ: ومَعْنى الكِنايَةِ هاهُنا أنَّ اللَّهَ - عَزَّ وجَلَّ - قَدْ بَيَّنَ لَهم ما فِيهِ كِفايَةٌ في الدَّلالَةِ، والمَعْنى: أوَلَمْ يَكْفِ رَبَّكَ أنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ شاهِدٌ لِلْأشْياءِ لا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ. ﴿ألا إنَّهم في مِرْيَةٍ مِن لِقاءِ رَبِّهِمْ﴾ أيْ: في شَكٍّ مِنَ البَعْثِ والحِسابِ والثَّوابِ والعِقابِ. (p-١٣٢١)﴿ألا إنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾ أحاطَ عِلْمُهُ بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ وأحاطَتْ قُدْرَتُهُ بِجَمِيعِ المَقْدُوراتِ، يُقالُ: أحاطَ يُحِيطُ إحاطَةً وحِيطَةً، وفي هَذا وعِيدٌ شَدِيدٌ لِأنَّ مَن أحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ بِحَيْثُ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ جازى المُحْسِنَ بِإحْسانِهِ والمُسِيءَ بِإساءَتِهِ. وقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتادَةَ قالَ: في قَوْلِهِ: ﴿ولَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَبِّكَ﴾ سَبَقَ لَهم مِنَ اللَّهِ حِينٌ وأجَلٌ هم بالِغُوهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿وما تَخْرُجُ مِن ثَمَراتٍ مِن أكْمامِها﴾ قالَ: حِينَ تَطْلُعُ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿آذَنّاكَ﴾ قالَ: أعْلَمْناكَ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ في قَوْلِهِ: ﴿لا يَسْأمُ الإنْسانُ﴾ قالَ: لا يَمَلُّ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ﴾ قالَ: مُحَمَّدًا - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - . وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْهُ في الآيَةِ قالَ: ما يَفْتَحُ اللَّهُ مِنَ القُرى ﴿وفِي أنْفُسِهِمْ﴾ قالَ: فَتْحُ مَكَّةَ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ في الآيَةِ قالَ: أمْسَكَ المَطَرَ عَنِ الأرْضِ كُلِّها ﴿وفِي أنْفُسِهِمْ﴾ قالَ: البَلايا الَّتِي تَكُونُ في أجْسامِهِمْ. وأخْرَجَ، عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في الآيَةِ قالَ: كانُوا يُسافِرُونَ فَيَرَوْنَ آثارَ عادٍ وثَمُودَ، فَيَقُولُونَ: واللَّهِ لَقَدْ صَدَقَ مُحَمَّدٌ. وما أراهم في أنْفُسِهِمْ: قالَ: الأمْراضُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب