الباحث القرآني

شَرَعَ - سُبْحانَهُ - في بَيانِ بَعْضِ آياتِهِ البَدِيعَةِ الدّالَّةِ عَلى كَمالِ قُدْرَتِهِ وقُوَّةِ تَصَرُّفِهِ لِلِاسْتِدْلالِ بِها عَلى تَوْحِيدِهِ فَقالَ: ﴿ومِن آياتِهِ اللَّيْلُ والنَّهارُ والشَّمْسُ والقَمَرُ﴾ ثُمَّ لَمّا بَيَّنَ أنَّ ذَلِكَ مِن آياتِهِ نَهاهم عَنْ عِبادَةِ الشَّمْسِ والقَمَرِ، وأمَرَهم بِأنْ يَسْجُدُوا لِلَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - فَقالَ ﴿لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ ولا لِلْقَمَرِ﴾ لِأنَّهُما مَخْلُوقانِ مِن مَخْلُوقاتِهِ، فَلا يَصِحُّ أنْ يَكُونا شَرِيكَيْنِ لَهُ في رُبُوبِيَّتِهِ ﴿واسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ﴾ أيْ: خَلَقَ هَذِهِ الأرْبَعَةَ المَذْكُورَةَ؛ لِأنَّ جَمْعَ ما لا يَعْقِلُ حُكْمُهُ حُكْمُ جَمْعِ الإناثِ، أوِ الآياتِ، أوِ الشَّمْسِ والقَمَرِ؛ لِأنَّ الِاثْنَيْنِ جَمْعٌ عِنْدَ جَماعَةٍ مِنَ الأئِمَّةِ ﴿إنْ كُنْتُمْ إيّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ قِيلَ: كانَ ناسٌ يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ والقَمَرِ كالصّابِئِينَ في عِبادَتِهِمُ الكَواكِبَ، ويَزْعُمُونَ أنَّهم يَقْصِدُونَ بِالسُّجُودِ لَهُما السُّجُودَ لِلَّهِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، فَهَذا وجْهُ تَخْصِيصِ ذِكْرِ السُّجُودِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ. وقِيلَ: وجْهُ تَخْصِيصِهِ أنَّهُ مِن أقْصى مَراتِبِ العِبادَةِ، وهَذِهِ الآيَةُ مِن آياتِ السُّجُودِ بِلا خِلافٍ، وإنَّما اخْتَلَفُوا في مَواضِعِ السَّجْدَةِ، فَقِيلَ: مَوْضِعُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿إنْ كُنْتُمْ إيّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ لِأنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالأمْرِ، وقِيلَ: عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿وهم لا يَسْأمُونَ﴾ لِأنَّهُ تَمامُ الكَلامِ. ﴿فَإنِ اسْتَكْبَرُوا فالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ والنَّهارِ وهم لا يَسْأمُونَ﴾ أيْ: إنِ اسْتَكْبَرَ هَؤُلاءِ عَنِ الِامْتِثالِ فالمَلائِكَةُ يُدِيمُونَ التَّسْبِيحَ لِلَّهِ - سُبْحانَهُ - بِاللَّيْلِ والنَّهارِ وهم لا يَمَلُّونَ ولا يَفْتُرُونَ. ﴿ومِن آياتِهِ أنَّكَ تَرى الأرْضَ خاشِعَةً﴾ الخِطابُ هُنا لِكُلِّ مَن يَصْلُحُ لَهُ أوْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - والخاشِعَةُ: اليابِسَةُ الجَدْبَةُ. وقِيلَ: الغَبْراءُ الَّتِي لا تَنْبُتُ. قالَ الأزْهَرِيُّ: إذا يَبِسَتِ الأرْضُ ولَمْ تُمْطِرْ قِيلَ: قَدْ خَشَعَتْ ﴿فَإذا أنْزَلْنا عَلَيْها الماءَ اهْتَزَّتْ ورَبَتْ﴾ أيْ: ماءَ المَطَرِ، ومَعْنى اهْتَزَّتْ: تَحَرَّكَتْ بِالنَّباتِ، يُقالُ: اهْتَزَّ الإنْسانُ: إذا تَحَرَّكَ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎تَراهُ كَنَصْلِ السَّيْفِ يَهْتَزُّ لِلنَّدى إذا لَمْ تَجِدْ عِنْدَ امْرِئِ السُّوءِ مَطْعَما ومَعْنى رَبَتْ: انْتَفَخَتْ وعَلَتْ قَبْلَ أنْ تَنْبُتَ: قالَهُ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ، وعَلى هَذا فَفي الكَلامِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ، وتَقْدِيرُهُ: رَبَتْ واهْتَزَّتْ، وقِيلَ: الِاهْتِزازُ والرَّبْوُ قَدْ يَكُونانِ قَبْلَ خُرُوجِ النَّباتِ وقَدْ يَكُونانِ بَعْدَهُ، ومَعْنى الرَّبْوِ لُغَةً: الِارْتِفاعُ، كَما يُقالُ: لِلْمَوْضِعِ المُرْتَفِعِ رَبْوَةٌ ورابِيَةٌ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ مُسْتَوْفًى في سُورَةِ الحَجِّ، وقِيلَ: اهْتَزَّتِ اسْتَبْشَرَتْ بِالمَطَرِ، ورَبَتِ انْتَفَخَتْ بِالنَّباتِ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ وخالِدٌ " ورَبَأتْ " . ﴿إنَّ الَّذِي أحْياها لَمُحْيِي المَوْتى﴾ بِالبَعْثِ والنُّشُورِ ﴿إنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ كائِنًا ما كانَ. ﴿إنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ في آياتِنا﴾ أيْ: يَمِيلُونَ عَنِ الحَقِّ، والإلْحادُ المَيْلُ والعُدُولُ، ومِنهُ اللَّحْدُ في القَبْرِ لِأنَّهُ أُمِيلَ إلى ناحِيَةٍ مِنهُ: يُقالُ: ألْحَدَ في دِينِ اللَّهِ أيْ: مالَ وعَدَلَ عَنْهُ، ويُقالُ: لَحَدَ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الإلْحادِ. قالَ مُجاهِدٌ: مَعْنى الآيَةِ: يَمِيلُونَ عَنِ الإيمانِ بِالقُرْآنِ. وقالَ مُجاهِدٌ: يَمِيلُونَ عِنْدَ تِلاوَةِ القُرْآنِ بِالمُكاءِ والتَّصْدِيَةِ واللَّغْوِ والغِناءِ. وقالَ قَتادَةُ: يَكْذِبُونَ في آياتِنا. وقالَ السُّدِّيُّ: يُعانِدُونَ ويُشاقُّونَ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ يُشْرِكُونَ ﴿لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا﴾ بَلْ نَحْنُ نَعْلَمُهم فَنُجازِيهِمْ بِما يَعْمَلُونَ. ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ الجَزاءِ والتَّفاوُتِ بَيْنَ المُؤْمِنِ والكافِرِ فَقالَ: ﴿أفَمَن يُلْقى في النّارِ خَيْرٌ أمْ مَن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ القِيامَةِ﴾ هَذا الِاسْتِفْهامُ لِلتَّقْرِيرِ: والغَرَضُ مِنهُ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ المُلْحِدِينَ في الآياتِ يُلْقَوْنَ في النّارِ، وأنَّ (p-١٣١٨)المُؤْمِنِينَ بِها يَأْتُونَ آمِنِينَ يَوْمَ القِيامَةِ. وظاهِرُ الآيَةِ العُمُومُ اعْتِبارًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وقِيلَ: المُرادُ بِمَن يُلْقى في النّارِ: أبُو جَهْلٍ، ومَن يَأْتِي آمِنًا: النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - وقِيلَ: حَمْزَةُ، وقِيلَ: عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ، وقِيلَ: أبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الأسَدِ المَخْزُومِيُّ ﴿اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ هَذا أمْرُ تَهْدِيدٍ أيِ: اعْمَلُوا مِن أعْمالِكُمُ الَّتِي تُلْقِيكم في النّارِ ما شِئْتُمْ إنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، فَهو مُجازِيكم عَلى كُلِّ ما تَعْمَلُونَ. قالَ الزَّجّاجُ لَفْظُهُ لَفْظُ الأمْرِ، ومَعْناهُ الوَعِيدُ. ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمّا جاءَهُمْ﴾ الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِما قَبْلَها، وخَبَرُ إنَّ مَحْذُوفٌ: أيْ: إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالقُرْآنِ لَمّا جاءَهم يُجازَوْنَ بِكُفْرِهِمْ، أوْ هالِكُونَ، أوْ يُعَذَّبُونَ، وقِيلَ: هو قَوْلُهُ: ﴿يُنادَوْنَ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ﴾ وهَذا بَعِيدٌ وإنْ رَجَّحَهُ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ. وقالَ الكِسائِيُّ: إنَّهُ سَدَّ مَسَدَّهُ الخَبَرُ السّابِقُ، وهو ﴿لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا﴾ . وقِيلَ: إنَّ الجُمْلَةَ بَدَلٌ مِنَ الجُمْلَةِ الأُولى وهي: الَّذِينَ يُلْحِدُونَ في آياتِنا، وخَبَرُ إنَّ هو الخَبَرُ السّابِقُ ﴿وإنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ﴾ أيِ: القُرْآنُ الَّذِي كانُوا يُلْحِدُونَ فِيهِ أيْ: عَزِيزٌ عَنْ أنْ يُعارَضَ أوْ يَطْعَنَ فِيهِ الطّاعِنُونَ، مَنِيعٌ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ. ثُمَّ وصَفَهُ بِأنَّهُ حَقٌّ لا سَبِيلَ لِلْباطِلِ إلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، فَقالَ: ﴿لا يَأْتِيهِ الباطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ولا مِن خَلْفِهِ﴾ . قالَ الزَّجّاجُ: مَعْناهُ أنَّهُ مَحْفُوظٌ مِن أنْ يُنْقَصَ مِنهُ فَيَأْتِيهِ الباطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ، أوْ يُزادَ فِيهِ فَيَأْتِيهِ الباطِلُ مِن خَلْفِهِ، وبِهِ قالَ قَتادَةُ والسُّدِّيُّ. ومَعْنى الباطِلِ عَلى هَذا: الزِّيادَةُ والنُّقْصانُ. وقالَ مُقاتِلٌ: لا يَأْتِيهِ التَّكْذِيبُ مِنَ الكُتُبِ الَّتِي قَبْلَهُ، ولا يَجِيءُ مِن بَعْدِهِ كِتابٌ فَيُبْطِلُهُ، وبِهِ قالَ الكَلْبِيُّ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وقِيلَ: الباطِلُ هو الشَّيْطانُ أيْ: لا يَسْتَطِيعُ أنْ يَزِيدَ فِيهِ ولا يَنْقُصَ مِنهُ. وقِيلَ: لا يُزادُ فِيهِ ولا يُنْقَصُ مِنهُ، لا مِن جِبْرِيلَ ولا مِن مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - ﴿تَنْزِيلٌ مِن حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ هو خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أوْ صِفَةٌ أُخْرى لِكِتابٍ عِنْدَ مَن يُجَوِّزُ تَقْدِيمَ غَيْرِ الصَّرِيحِ مِنَ الصِّفاتِ عَلى الصَّرِيحِ، وقِيلَ: إنَّهُ الصِّفَةُ لِكِتابٍ، وجُمْلَةُ لا يَأْتِيهِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ المَوْصُوفِ والصِّفَةِ. ثُمَّ سَلّى - سُبْحانَهُ - رَسُولَهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - عَلى ما كانَ يَتَأثَّرُ لَهُ مِن أذِيَّةِ الكُفّارِ فَقالَ: ﴿ما يُقالُ لَكَ إلّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ﴾ أيْ: ما يُقالُ لَكَ مِن هَؤُلاءِ الكُفّارِ مِن وصْفِكَ بِالسِّحْرِ والكَذِبِ والجُنُونِ إلّا مِثْلُ ما قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ، فَإنَّ قَوْمَهم كانُوا يَقُولُونَ لَهم مِثْلَ ما يَقُولُ لَكَ هَؤُلاءِ، وقِيلَ: المَعْنى: ما يُقالُ لَكَ مِنَ التَّوْحِيدِ وإخْلاصِ العِبادَةِ لِلَّهِ إلّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ، فَإنَّ الشَّرائِعَ كُلَّها مُتَّفِقَةٌ عَلى ذَلِكَ، وقِيلَ: هو اسْتِفْهامٌ أيْ: أيُّ شَيْءٍ يُقالُ لَكَ إلّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ ﴿إنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ﴾ لِمَن يَسْتَحِقُّ مَغْفِرَتَهُ مِنَ المُوَحِّدِينَ الَّذِينَ بايَعُوكَ وبايَعُوا مَن قَبْلَكَ مِنَ الأنْبِياءِ ﴿وذُو عِقابٍ ألِيمٍ﴾ لِلْكُفّارِ المُكَذِّبِينَ المُعادِينَ لِرُسُلِ اللَّهِ، وقِيلَ: لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلْأنْبِياءِ، وذُو عِقابٍ لِأعْدائِهِمْ. ﴿ولَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنًا أعْجَمِيًّا﴾ أيْ: لَوْ جَعَلْنا القُرْآنَ الَّذِي تَقْرَأُهُ عَلى النّاسِ بِغَيْرِ لُغَةِ العَرَبِ ﴿لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ﴾ أيْ: بُيِّنَتْ بِلُغَتِنا فَإنَّنا عَرَبٌ لا نَفْهَمُ لُغَةَ العَجَمِ، والِاسْتِفْهامُ في قَوْلِهِ: ﴿أأعْجَمِيٌّ وعَرَبِيٌّ﴾ لِلْإنْكارِ، وهو مِن جُمْلَةِ قَوْلِ المُشْرِكِينَ أيْ: لَقالُوا أكَلامٌ أعْجَمِيٌّ ورَسُولٌ عَرَبِيٌّ. والأعْجَمِيُّ: الَّذِي لا يُفْصِحُ سَواءٌ كانَ مِنَ العَرَبِ أوْ مِنَ العَجَمِ. والأعْجَمُ ضِدُّ الفَصِيحِ: وهو الَّذِي لا يُبَيِّنُ كَلامَهُ، ويُقالُ لِلْحَيَوانِ غَيْرِ النّاطِقِ: أعْجَمٌ. قَرَأ أبُو بَكْرٍ، وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ " ءَأعْجَمِيٌّ " بِهَمْزَتَيْنِ مُحَقَّقَتَيْنِ. وقَرَأ الحَسَنُ، وأبُو العالِيَةِ ونَصْرُ بْنُ عاصِمٍ وهِشامٌ بِهَمْزَةٍ واحِدَةٍ عَلى الخَبَرِ، وقَرَأ الباقُونَ بِتَسْهِيلِ الثّانِيَةِ بَيْنَ بَيْنَ، وقِيلَ: المُرادُ: هَلّا فُصِّلَتْ آياتُهُ فَجُعِلَ بَعْضُها أعْجَمِيًّا لِإفْهامِ العَجَمِ وبَعْضُها عَرَبِيًّا لِإفْهامِ العَرَبِ. ثُمَّ أمَرَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - رَسُولَهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - أنْ يُجِيبَهم فَقالَ: ﴿قُلْ هو لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وشِفاءٌ﴾ أيْ: يَهْتَدُونَ بِهِ إلى الحَقِّ ويَشْتَفُونَ بِهِ مِن كُلِّ شَكٍّ وشُبْهَةٍ، ومِنَ الأسْقامِ والآلامِ ﴿والَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ في آذانِهِمْ وقْرٌ﴾ أيْ: صَمَمٌ عَنْ سَماعِهِ وفَهْمِ مَعانِيهِ، ولِهَذا تَواصَوْا بِاللَّغْوِ فِيهِ ﴿وهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ قالَ قَتادَةُ: عَمُوا عَنِ القُرْآنِ وصَمُّوا عَنْهُ. وقالَ السُّدِّيُّ: عَمِيَتْ قُلُوبُهم عَنْهُ والمَعْنى: وهو عَلَيْهِمْ ذُو عَمًى، أوْ وُصِفَ بِالمَصْدَرِ لِلْمُبالِغَةِ، والمَوْصُولُ في قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ ﴿فِي آذانِهِمْ وقْرٌ﴾ أوِ المَوْصُولُ الثّانِي عُطِفَ عَلى المَوْصُولِ الأوَّلِ، ووَقْرٌ عُطِفَ عَلى هُدًى عِنْدَ مَن جَوَّزَ العَطْفَ عَلى عامِلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، والتَّقْدِيرُ: هو لِلْأوَّلِينَ هُدًى وشِفاءٌ، ولِلْآخِرِينَ وقْرٌ في آذانِهِمْ. قَرَأ الجُمْهُورُ عَمًى بِفَتْحِ المِيمِ مُنَوَّنَةً عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وعَمْرُو بْنُ العاصِ وابْنُ عُمَرَ بِكَسْرِ المِيمِ مُنَوَّنَةً عَلى أنَّهُ اسْمٌ مَنقُوصٌ عَلى أنَّهُ وُصِفَ بِهِ مَجازًا. وقَرَأ عَمْرُو بْنُ دِينارٍ بِكَسْرِ المِيمِ وفَتْحِ الياءِ عَلى أنَّهُ فِعْلٌ ماضٍ، واخْتارَ أبُو عُبَيْدَةَ القِراءَةَ الأُولى لِقَوْلِهِ أوَّلًا ﴿هُدًى وشِفاءٌ﴾ ولَمْ يَقُلْ هادٍ وشافٍ، وقِيلَ: المَعْنى: والوَقْرُ عَلَيْهِمْ عَمًى، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولَئِكَ إلى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ وما في حَيِّزِهِ، وخَبَرُهُ ﴿يُنادَوْنَ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ﴾ مَثَّلَ حالَهم بِاعْتِبارِ عَدَمِ فَهْمِهِمْ لِلْقُرْآنِ بِحالِ مَن يُنادى مِن مَسافَةٍ بَعِيدَةٍ لا يَسْمَعُ صَوْتَ مَن يُنادِيهِ مِنها. قالَ الفَرّاءُ: تَقُولُ لِلرَّجُلِ الَّذِي لا يَفْهَمُ كَلامَكَ: أنْتَ تُنادى مِن مَكانٍ بَعِيدٍ. وقالَ الضَّحّاكُ: يُنادَوْنَ يَوْمَ القِيامَةِ بِأقْبَحِ أسْمائِهِمْ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ. وقالَ مُجاهِدٌ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ مِن قُلُوبِهِمْ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ مِن طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ كانَ يَسْجُدُ بِآخِرِ الآيَتَيْنِ مِن حم السَّجْدَةِ، وكانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَسْجُدُ بِالأُولى مِنهُما. وأخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ مِن طَرِيقِ نافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّهُ كانَ يَسْجُدُ بِالأُولى. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ عَنْهُ أنَّهُ كانَ يَسْجُدُ في الآيَةِ الأخِيرَةِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ في آياتِنا﴾ قالَ: هو أنْ يَضَعَ الكَلامَ عَلى غَيْرِ مَوْضِعِهِ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿أفَمَن يُلْقى في النّارِ﴾ (p-١٣١٩)قالَ: أبُو جَهْلِ بْنُ هِشامٍ ﴿أمْ مَن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ القِيامَةِ﴾ قالَ: أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ. وأخْرَجَ، عَبْدُ الرَّزّاقِ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ عَساكِرَ عَنْ بَشِيرِ بْنِ تَمِيمٍ قالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في أبِي جَهْمٍ، وعَمّارِ بْنِ ياسِرٍ. وأخْرَجَ ابْنُ عَساكِرَ عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ﴾ قالَ: هَذا لِأهْلِ بَدْرٍ خاصَّةً. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ولَوْ جَعَلْناهُ قُرْآنًا أعْجَمِيًّا﴾ الآيَةَ يَقُولُ: لَوْ جَعَلْنا القُرْآنَ أعْجَمِيًّا، ولِسانُكَ يا مُحَمَّدُ عَرَبِيٌّ، لَقالُوا: أعْجَمِيٌّ وعَرَبِيٌّ تَأْتِينا بِهِ مُخْتَلِفًا أوْ مُخْتَلِطًا ﴿لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ﴾ هَلّا بُيِّنَتْ آياتُهُ فَكانَ القُرْآنُ مِثْلَ اللِّسانِ. يَقُولُ: فَلَمْ نَفْعَلْ لِئَلّا يَقُولُوا فَكانَتْ حُجَّةً عَلَيْهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب