الباحث القرآني

قالَ القُرْطُبِيُّ: وهي مَكِّيَّةٌ في قَوْلِ الجَمِيعِ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ الزُّبَيْرِ أنَّها نَزَلَتْ بِمَكَّةَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وأبُو يَعْلى والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ وأبُو نُعَيْمٍ، والبَيْهَقِيُّ كِلاهُما في الدَّلائِلِ وابْنُ عَساكِرَ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ «اجْتَمَعَ قُرَيْشٌ يَوْمًا فَقالُوا: انْظُرُوا أعْلَمَكم بِالسِّحْرِ والكِهانَةِ والشِّعْرِ فَلْيَأْتِ هَذا الرَّجُلَ الَّذِي قَدْ فَرَّقَ جَماعَتَنا وشَتَّتَ أمْرَنا وعابَ دِينَنا، فَلْيُكَلِّمْهُ ولْيَنْظُرْ ماذا يَرُدُّ عَلَيْهِ ؟ فَقالُوا: ما نَعْلَمُ أحَدًا غَيْرَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، فَقالُوا ائْتِ يا أبا الوَلِيدِ، فَأتاهُ فَقالَ: يا مُحَمَّدُ أنْتَ خَيْرٌ أمْ عَبْدُ اللَّهِ، أنْتَ خَيْرٌ أمْ عَبْدُ المُطَّلِبِ ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - قالَ: فَإنْ كُنْتَ تَزْعُمُ أنَّ هَؤُلاءِ خَيْرٌ مِنكَ فَقَدْ عَبَدُوا الآلِهَةَ الَّتِي عِبْتَ، وإنْ كُنْتَ تَزْعُمُ أنَّكَ خَيْرٌ مِنهم فَتَكَلَّمْ حَتّى نَسْمَعَ قَوْلَكَ، أما واللَّهِ ما رَأيْنا سَخْلَةً قَطُّ أشْأمَ عَلى قَوْمِكَ مِنكَ، فَرَّقْتَ جَماعَتَنا وشَتَّتَّ أمْرَنا وعِبْتَ دِينَنا وفَضَحَتَنا في العَرَبِ، حَتّى لَقَدْ طارَ فِيهِمْ أنَّ في قُرَيْشٍ ساحِرًا وأنَّ في قُرَيْشٍ كاهِنًا، واللَّهِ ما تَنْتَظِرُ إلّا مِثْلَ صَيْحَةِ الحُبْلى أنْ يَقُومَ بَعْضُنا إلى بَعْضٍ بِالسُّيُوفِ، يا رَجُلُ إنْ كانَ إنَّما بِكَ الحاجَةُ جَمَعْنا لَكَ حَتّى تَكُونَ أغْنى قُرَيْشٍ رَجُلًا، وإنْ كانَ إنَّما بِكَ الباءَةُ فاخْتَرْ أيَّ نِساءِ قُرَيْشٍ شِئْتَ فَلَنُزَوِّجَنَّكَ عَشْرًا، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: فَرَغْتَ ؟ قالَ: نَعَمْ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿حم﴾ ﴿تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ ﴿كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ﴾ حَتّى بَلَغَ ﴿فَإنْ أعْرَضُوا فَقُلْ أنْذَرْتُكم صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وثَمُودَ﴾ [فصلت: ١ ١٣] فَقالَ عُتْبَةُ: حَسْبُكَ حَسْبُكَ ما عِنْدَكَ غَيْرَ هَذا ؟ قالَ: لا، فَرَجَعَ إلى قُرَيْشٍ فَقالُوا ما وراءَكَ ؟ قالَ: ما تَرَكْتُ شَيْئًا أرى أنَّكم تُكَلِّمُونَهُ بِهِ إلّا كَلَّمْتُهُ، فَقالُوا: (p-١٣٠٩)فَهَلْ أجابَكَ قالَ: والَّذِي نَصَبَها بِنْيَةً ما فَهِمْتُ شَيْئًا مِمّا قالَ، غَيْرَ أنَّهُ أنْذَرَكم صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وثَمُودَ، قالُوا: ويْلَكَ يُكَلِّمُكَ الرَّجُلُ بِالعَرَبِيَّةِ وما تَدْرِي ما قالَ ؟ قالَ: لا واللَّهِ ما فَهِمْتُ شَيْئًا مِمّا قالَ غَيْرَ ذِكْرِ الصّاعِقَةِ» . وأخْرَجَ أبُو نُعَيْمٍ، والبَيْهَقِيُّ كِلاهُما في الدَّلائِلِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: «لَمّا قَرَأ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - عَلى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ﴿حم﴾ ﴿تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ أتى أصْحابَهُ فَقالَ: يا قَوْمِ أطِيعُونِي في هَذا اليَوْمِ واعْصُونِي بَعْدَهُ، فَواللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ مِن هَذا الرَّجُلِ كَلامًا ما سَمِعَتْ أُذُنِي قَطُّ كَلامًا مِثْلَهُ، وما دَرَيْتُ ما أرادَ عَلَيْهِ» . وفِي هَذا البابِ رِواياتٌ تَدُلُّ عَلى اجْتِماعِ قُرَيْشٍ وإرْسالِهِمْ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وتِلاوَتِهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - أوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَيْهِ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْلُهُ: ﴿حم﴾ قَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى إعْرابِهِ ومَعْناهُ في السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ فَلا نُعِيدُهُ. وكَذَلِكَ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى مَعْنى تَنْزِيلٌ وإعْرابِهِ. قالَ الزَّجّاجُ والأخْفَشُ: تَنْزِيلٌ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِداءِ وخَبَرُهُ ﴿كِتابٌ فُصِّلَتْ﴾ وقالَ الفَرّاءُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَلى إضْمارِ هَذا ويَجُوزُ أنْ يُقالَ: كِتابٌ بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ تَنْزِيلٌ، و﴿مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِـ تَنْزِيلٌ. ومَعْنى ﴿فُصِّلَتْ آياتُهُ﴾ بُيِّنَتْ أوْ جُعِلَتْ أسالِيبَ مُخْتَلِفَةً، قالَ قَتادَةُ: فُصِّلَتْ بِبَيانِ حَلالِهِ مِن حَرامِهِ وطاعَتِهِ مِن مَعْصِيَتِهِ. وقالَ الحَسَنُ: بِالوَعْدِ والوَعِيدِ. وقالَ سُفْيانُ: بِالثَّوابِ والعِقابِ ولا مانِعَ مِنَ الحَمْلِ عَلى الكُلِّ. والجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ صِفَةً لِكِتابٍ. وقُرِئَ فُصِلَتْ بِالتَّخْفِيفِ أيْ: فَرَّقَتْ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، وانْتِصابُ ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ عَلى الحالِ أيْ: فُصِّلَتْ آياتُهُ حالَ كَوْنِهِ قُرْآنًا عَرَبِيًّا. وقالَ الأخْفَشُ: نُصِبَ عَلى المَدْحِ وقِيلَ: عَلى المَصْدَرِيَّةِ أيْ: يَقْرَأُهُ قُرْآنًا، وقِيلَ: مَفْعُولٌ ثانٍ لِفُصِّلَتْ، وقِيلَ: عَلى إضْمارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فُصِّلَتْ أيْ: فَصَّلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أيْ: يَعْلَمُونَ مَعانِيَهُ ويَفْهَمُونَها: وهم أهْلُ اللِّسانِ العَرَبِيِّ. قالَ الضَّحّاكُ أيْ: يَعْلَمُونَ أنَّ القُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ. وقالَ مُجاهِدٌ أيْ: يَعْلَمُونَ أنَّهُ إلَهٌ واحِدٌ في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، واللّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ صِفَةٌ أُخْرى لِقُرْآنٍ أيْ: كائِنًا لِقَوْمٍ أوْ مُتَعَلِّقٌ بِـ فُصِّلَتْ، والأوَّلُ أوْلى. وكَذَلِكَ بَشِيرًا ونَذِيرًا صِفَتانِ أُخْرَيانِ لَقُرْآنًا أوْ حالانِ مِن كِتابٍ، والمَعْنى بَشِيرًا لِأوْلِياءِ اللَّهِ ونَذِيرًا لِأعْدائِهِ. وقُرِئَ " بَشِيرٌ ونَذِيرٌ " بِالرَّفْعِ عَلى أنَّهُما صِفَةٌ لِكِتابٍ أوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ﴿فَأعْرَضَ أكْثَرُهُمْ﴾ المُرادُ بِالأكْثَرِ هُنا الكُفّارُ أيْ: فَأعْرَضَ الكُفّارُ عَمّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ النِّذارَةِ ﴿فَهم لا يَسْمَعُونَ﴾ سَماعًا يَنْتَفِعُونَ بِهِ لِإعْراضِهِمْ عَنْهُ. ﴿وقالُوا قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ﴾ أيْ: في أغْطِيَةٍ مِثْلَ الكِنانَةِ الَّتِي فِيها السِّهامُ فَهي لا تَفْقَهُ ما تَقُولُ ولا يَصِلُ إلَيْها قَوْلُكَ، والأكِنَّةُ جَمْعُ كِنانٍ وهو الغِطاءُ، قالَ مُجاهِدٌ: الكِنانُ لِلْقَلْبِ كالجُنَّةِ لِلنُّبْلِ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ هَذا في البَقَرَةِ ﴿وفِي آذانِنا وقْرٌ﴾ أيْ: صَمَمٌ وأصْلُ الوَقْرِ الثِّقَلُ. وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ " وِقْرٌ " بِكَسْرِ الواوِ وقُرِئَ بِفَتْحِ الواوِ والقافِ، و" مِن " في ﴿ومِن بَيْنِنا وبَيْنِكَ حِجابٌ﴾ لِابْتِداءِ الغايَةِ، والمَعْنى: أنَّ الحِجابَ ابْتَدَأ مِنّا وابْتَدَأ مِنكَ، فالمَسافَةُ المُتَوَسِّطَةُ بَيْنَ جِهَتِنا وجِهَتِكَ مُسْتَوْعَبَةٌ بِالحِجابِ لا فَراغَ فِيها، وهَذِهِ تَمْثِيلاتٌ لِنُبُوِّ قُلُوبِهِمْ عَنْ إدْراكِ الحَقِّ ومَجِّ أسْماعِهِمْ لَهُ وامْتِناعِ المُواصَلَةِ بَيْنَهم وبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - ﴿فاعْمَلْ إنَّنا عامِلُونَ﴾ أيِ: اعْمَلْ عَلى دِينِكَ إنَّنا عامِلُونَ عَلى دِينِنا. وقالَ الكَلْبِيُّ: اعْمَلْ في هَلاكِنا فَإنّا عامِلُونَ في هَلاكِكَ. وقالَ مُقاتِلٌ: اعْمَلْ لِإلَهِكَ الَّذِي أرْسَلَكَ فَإنّا نَعْمَلُ لِآلِهَتِنا الَّتِي نَعْبُدُها، وقِيلَ: اعْمَلْ لِآخِرَتِكَ فَإنّا عامِلُونَ لِدُنْيانا. ثُمَّ أمَرَهُ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - أنْ يُجِيبَ عَنْ قَوْلِهِمْ هَذا فَقالَ: ﴿قُلْ إنَّما أنا بَشَرٌ مِثْلُكم يُوحى إلَيَّ أنَّما إلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ﴾ أيْ: إنَّما أنا كَواحِدٍ مِنكم لَوْلا الوَحْيُ، ولَمْ أكُنْ مِن جِنْسٍ مُغايِرٍ لَكم حَتّى تَكُونَ قُلُوبُكم في أكِنَّةٍ مِمّا أدْعُوكم إلَيْهِ وفي آذانِكم وقْرٌ ومِن بَيْنِي وبَيْنِكم حِجابٌ، ولَمْ أدْعُكم إلى ما يُخالِفُ العَقْلَ، وإنَّما أدْعُوكم إلى التَّوْحِيدِ قَرَأ الجُمْهُورُ يُوحى مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وقَرَأ الأعْمَشُ والنَّخَعِيُّ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ أيْ: يُوحِي اللَّهُ إلَيَّ. وقِيلَ: ومَعْنى الآيَةِ: أنِّي لا أقْدِرُ عَلى أنْ أحْمِلَكم عَلى الإيمانِ قَسْرًا فَإنِّي بَشَرٌ مِثْلُكم ولا امْتِيازَ لِي عَنْكم إلّا أنِّي أُوحِيَ إلَيَّ التَّوْحِيدُ والأمْرُ بِهِ، فَعَلَيَّ البَلاغُ وحْدَهُ فَإنْ قَبِلْتُمْ رَشَدْتُمْ وإنْ أبَيْتُمْ هَلَكْتُمْ. وقِيلَ: المَعْنى: إنِّي لَسْتُ بِمَلَكٍ وإنَّما أنا بَشَرٌ مِثْلُكم وقَدْ أُوحِيَ إلَيَّ دُونَكم، فَصِرْتُ بِالوَحْيِ نَبِيًّا ووَجَبَ عَلَيْكُمُ اتِّباعِي. وقالَ الحَسَنُ في مَعْنى الآيَةِ: إنَّ اللَّهَ - سُبْحانَهُ - عَلَّمَ رَسُولَهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - كَيْفَ يَتَواضَعُ ﴿فاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ﴾ عَدّاهُ بِإلى لِتَضَمُّنِهِ مَعْنى تَوَجَّهُوا، والمَعْنى: وجِّهُوا اسْتِقامَتَكم إلَيْهِ بِالطّاعَةِ ولا تَمِيلُوا عَنْ سَبِيلِهِ واسْتَغْفِرُوهُ لِما فَرَطَ مِنكم مِنَ الذُّنُوبِ. ثُمَّ هَدَّدَ (p-١٣١٠)المُشْرِكِينَ وتَوَعَّدَهم فَقالَ: ﴿ووَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ . ثُمَّ وصَفَهم بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾ أيْ: يَمْنَعُونَها ولا يُخْرِجُونَها إلى الفُقَراءِ. وقالَ الحَسَنُ، وقَتادَةُ: لا يُقِرُّونَ بِوُجُوبِها. وقالَ الضَّحّاكُ ومُقاتِلٌ: لا يَتَصَدَّقُونَ ولا يُنْفِقُونَ في الطّاعَةِ. وقِيلَ: مَعْنى الآيَةِ، لا يَشْهَدُونَ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ لِأنَّها زَكاةُ الأنْفُسِ وتَطْهِيرُها. وقالَ الفَرّاءُ: كانَ المُشْرِكُونَ يُنْفِقُونَ النَّفَقاتِ ويَسْقُونَ الحَجِيجَ ويُطْعِمُونَهم فَحَرَّمُوا ذَلِكَ عَلى مَن آمَنَ بِمُحَمَّدٍ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةُ. ﴿وهم بِالآخِرَةِ هم كافِرُونَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى لا يُؤْتُونَ داخِلٌ مَعَهُ في حَيِّزِ الصِّلَةِ أيْ: مُنْكِرُونَ لِلْآخِرَةِ جاحِدُونَ لَها والمَجِيءُ بِضَمِيرِ الفَصْلِ لِقَصْدِ الحَصْرِ. ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهم أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ أيْ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ عَنْهم، يُقالُ: مَنَّنْتُ الحَبْلَ: إذا قَطَعْتَهُ، ومِنهُ قَوْلُ الأصْبَغِ الأزْدِيِّ: ؎إنِّي لَعَمْرُكَ ما آبى بِذِي عَلَقٍ عَلى الصَّدِيقِ ولا خَيْرِي بِمَمْنُونِ وقِيلَ: المَمْنُونُ المَنقُوصُ، قالَهُ قُطْرُبٌ، وأنْشَدَ قَوْلَ زُهَيْرٍ: ؎فَضْلَ الجِيادِ عَلى الخَيْلِ البِطاءِ فَلا ∗∗∗ يُعْطِي بِذَلِكَ مَمْنُونًا ولا نَزِقا قالَ الجَوْهَرِيُّ: المَنُّ القَطْعُ ويُقالُ: النَّقْصُ، ومِنهُ قَوْلُهُ - تَعالى -: ﴿لَهم أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ وقالَ لَبِيدٌ: ؎غُبْسٌ كَواسِبُ لا يُمَنُّ طَعامُها وقالَ مُجاهِدٌ غَيْرَ مَمْنُونٍ: غَيْرَ مَحْسُوبٍ، وقِيلَ: مَعْنى الآيَةِ، لا يُمَنُّ عَلَيْهِمْ بِهِ لِأنَّهُ إنَّما يُمَنُّ بِالتَّفَضُّلِ، فَأمّا الأجْرُ فَحَقٌّ أداؤُهُ. وقالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ في المَرْضى والزَّمْنى والهَرْمى إذا ضَعُفُوا عَنِ الطّاعَةِ كُتِبَ لَهم مِنَ الأجْرِ كَأصَحِّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فِيهِ. ثُمَّ أمَرَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - رَسُولَهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - أنْ يُوَبِّخَهم ويُقَرِّعَهم فَقالَ: ﴿قُلْ أئِنَّكم لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ﴾ أيْ: لَتَكْفُرُونَ بِمَن شَأْنُهُ هَذا الشَّأْنُ العَظِيمُ وقُدْرَتُهُ هَذِهِ القُدْرَةُ الباهِرَةُ. قِيلَ: اليَوْمانِ هُما يَوْمُ الأحَدِ ويَوْمُ الِاثْنَيْنِ، وقِيلَ: المُرادُ مِقْدارُ يَوْمَيْنِ لِأنَّ اليَوْمَ الحَقِيقِيَّ إنَّما يَتَحَقَّقُ بَعْدَ وُجُودِ الأرْضِ والسَّماءِ. قَرَأ الجُمْهُورُ " أإنَّكم " بِهَمْزَتَيْنِ الثّانِيَةِ بَيْنَ بَيْنَ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ بِهَمْزَةٍ وبَعْدَها ياءٌ خَفِيفَةٌ ﴿وتَجْعَلُونَ لَهُ أنْدادًا﴾ أيْ: أضْدادًا وشُرَكاءَ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى تَكْفُرُونَ داخِلَةٌ تَحْتَ الِاسْتِفْهامِ والإشارَةِ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ إلى المَوْصُولِ المُتَّصِفِ بِما ذُكِرَ وهو مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ رَبُّ العالَمِينَ ومِن جُمْلَةِ العالِمَيْنِ ما تَجْعَلُونَها أنْدادًا لِلَّهِ فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ بَعْضَ مَخْلُوقاتِهِ شُرَكاءَ لَهُ في عِبادَتِهِ. وقَوْلُهُ: ﴿وجَعَلَ فِيها رَواسِيَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى خَلَقَ أيْ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ وجَعَلَ فِيها رَواسِيَ أيْ: جِبالًا ثَوابِتَ مِن فَوْقِها، وقِيلَ: جُمْلَةُ وجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ غَيْرُ مَعْطُوفَةٍ عَلى خَلَقَ لِوُقُوعِ الفَصْلِ بَيْنَهُما بِالأجْنَبِيِّ. والأوَّلُ أوْلى لِأنَّ الجُمْلَةَ الفاصِلَةَ هي مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ ما قَبْلَها فَكانَتْ بِمَنزِلَةِ التَّأْكِيدِ، ومَعْنى مِن فَوْقِها أنَّها مُرْتَفِعَةٌ عَلَيْها لِأنَّها مِن أجْزاءِ الأرْضِ، وإنَّما خالَفَتْها بِاعْتِبارِ الِارْتِفاعِ، فَكانَتْ مِن هَذِهِ الحَيْثِيَّةِ كالمُغايِرَةِ لَها ﴿وبارَكَ فِيها﴾ أيْ: جَعَلَها مُبارَكَةً كَثِيرَةَ الخَيْرِ بِما خَلَقَ فِيها مِنَ المَنافِعِ لِلْعِبادِ. قالَ السُّدِّيُّ: أنْبَتَ فِيها شَجَرَها ﴿وقَدَّرَ فِيها أقْواتَها﴾ قالَ قَتادَةُ ومُجاهِدٌ: خَلَقَ فِيها أنْهارَها وأشْجارَها ودَوابَّها، وقالَ الحَسَنُ وعِكْرِمَةُ، والضَّحّاكُ: قَدَّرَ فِيها أرْزاقَ أهْلِها وما يَصْلُحُ لِمَعايِشِهِمْ مِنَ التِّجاراتِ والأشْجارِ والمَنافِعِ، جَعَلَ في كُلِّ بَلَدٍ ما لَمْ يَجْعَلْهُ في الأُخْرى لِيَعِيشَ بَعْضُهم مِن بَعْضٍ بِالتِّجارَةِ والأسْفارِ مِن بَلَدٍ إلى بَلَدٍ، ومَعْنى ﴿فِي أرْبَعَةِ أيّامٍ﴾ أيْ: في تَتِمَّةِ أرْبَعَةِ أيّامٍ بِاليَوْمَيْنِ المُتَقَدِّمَيْنِ. قالَهُ الزَّجّاجُ وغَيْرُهُ. قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: ومِثالُهُ قَوْلُ القائِلِ خَرَجْتُ مِنَ البَصْرَةِ إلى بَغْدادَ في عَشْرَةِ أيّامٍ وإلى الكُوفَةِ في خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أيْ: في تَتِمَّةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَيَكُونُ المَعْنى أنَّ حُصُولَ جَمِيعِ ما تَقَدَّمَ مِن خَلْقِ الأرْضِ وما بَعْدَها في أرْبَعَةِ أيّامٍ. وانْتِصابُ سَواءً عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ هو صِفَةٌ لِلْأيّامِ أيِ: اسْتَوَتْ سَواءً بِمَعْنى: اسْتِواءً ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا عَلى الحالِ مِنَ الأرْضِ أوْ مِنَ الضَّمائِرِ الرّاجِعَةِ إلَيْها. وقَرَأ الجُمْهُورُ بِنَصْبِ " سَواءً " وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وابْنُ أبِي إسْحاقَ وعِيسى ويَعْقُوبُ وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ بِخَفْضِهِ عَلى أنَّهُ صِفَةٌ لِأيّامٍ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ بِرَفْعِهِ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. قالَ الحَسَنُ: المَعْنى في أرْبَعَةِ أيّامٍ مُسْتَوِيَةٍ تامَّةٍ، وقَوْلُهُ: لِلسّائِلِينَ مُتَعَلِّقٌ بِـ سَواءً أيْ: مُسْتَوِياتٍ لِلسّائِلِينَ، أوْ بِمَحْذُوفٍ كَأنَّهُ قِيلَ: هَذا الحَصْرُ لِلسّائِلِينَ في كَمْ خُلِقَتِ الأرْضُ وما فِيها ؟ أوْ مُتَعَلِّقٌ بِـ قَدَّرَ أيْ: قَدَّرَ فِيها أقْواتَها لِأجْلِ الطّالِبِينَ المُحْتاجِينَ إلَيْها. قالَ الفَرّاءُ: في الكَلامِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ، والمَعْنى: وقَدَّرَ فِيها أقْواتَها سَواءً لِلْمُحْتاجِينَ في أرْبَعَةِ أيّامٍ واخْتارَ هَذا ابْنُ جَرِيرٍ. ثُمَّ لَمّا ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - خَلْقَ الأرْضِ وما فِيها ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ خَلْقِهِ لِلسَّماواتِ فَقالَ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ﴾ أيْ: عَمَدَ وقَصَدَ نَحْوَها قَصْدًا سَوِيًّا. قالَ الرّازِيُّ: هو مِن قَوْلِهِمُ: اسْتَوى إلى مَكانِ كَذا: إذا تَوَجَّهَ إلَيْهِ تَوَجُّهًا لا يَلْتَفِتُ مَعَهُ إلى عَمَلٍ آخَرَ، وهو مِنَ الِاسْتِواءِ الَّذِي هو ضِدُّ الِاعْوِجاجِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُمُ: اسْتَقامَ إلَيْهِ، ومِنهُ قَوْلُهُ - تَعالى -: ﴿فاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ﴾، والمَعْنى: ثُمَّ دَعاهُ داعِي الحِكْمَةِ إلى خَلْقِ السَّماواتِ بَعْدَ خَلْقِ الأرْضِ وما فِيها. قالَ الحَسَنُ: مَعْنى الآيَةِ صَعِدَ أمْرُهُ إلى السَّماءِ وهي دُخانٌ، الدُّخانُ ما ارْتَفَعَ مِن لَهَبِ النّارِ، ويُسْتَعارُ لِما يُرى مِن بُخارِ الأرْضِ. قالَ المُفَسِّرُونَ: هَذا الدُّخانُ هو بُخارُ الماءِ، وخَصَّ - سُبْحانَهُ - الِاسْتِواءَ إلى السَّماءِ مَعَ كَوْنِ الخِطابِ المُتَرَتِّبِ عَلى ذَلِكَ مُتَوَجِّهًا إلَيْها وإلى الأرْضِ كَما يُفِيدُهُ قَوْلُهُ: ﴿فَقالَ لَها ولِلْأرْضِ اِئْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا﴾ اسْتِغْناءً بِما تَقَدَّمَ مِن ذِكْرِ تَقْدِيرِها وتَقْدِيرِ ما فِيها، ومَعْنى ائْتِيا: افْعَلا ما آمُرُكُما بِهِ وجِيئا بِهِ، كَما يُقالُ: ائْتِ ما هو الأحْسَنُ أيِ: افْعَلْهُ. قالَ الواحِدِيُّ: قالَ المُفَسِّرُونَ: إنَّ اللَّهَ - سُبْحانَهُ - قالَ: أمّا أنْتِ يا سَماءُ فَأطْلِعِي شَمْسَكِ وقَمَرَكِ ونُجُومَكِ وأمّا أنْتِ يا أرْضُ فَشَقِّقِي أنْهارَكِ وأخْرِجِي ثِمارَكِ ونَباتَكِ. قَرَأ الجُمْهُورُ ﴿اِئْتِيا﴾ أمْرًا مِنَ الإتْيانِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ جُبَيْرٍ ومُجاهِدٌ " آتِيا قالَتا آتَيْنا " بِالمَدِّ فِيهِما، وهو إمّا مِنَ المُؤاتاةِ، وهي المُوافَقَةُ (p-١٣١١)أيْ: لِتُوافِقْ كُلٌّ مِنكُما الأُخْرى أوْ مِنَ الإيتاءِ وهو الإعْطاءُ فَوَزْنُهُ عَلى الأوَّلِ فاعِلًا كَقاتِلًا، وعَلى الثّانِي أفْعِلا كَأكْرِما ﴿طَوْعًا أوْ كَرْهًا﴾ مَصْدَرانِ في مَوْضِعِ الحالِ أيْ: طائِعَتَيْنِ أوْ مُكْرَهَتَيْنِ، وقَرَأ الأعْمَشُ " كُرْهًا " بِالضَّمِّ. قالَ الزَّجّاجُ: أطِيعا طاعَةً أوْ تَكْرَهانِ كَرْهًا. قِيلَ: ومَعْنى هَذا الأمْرِ لَهُما التَّسْخِيرُ أيْ: كُونا فَكانَتا، كَما قالَ - تَعالى -: ﴿إنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إذا أرَدْناهُ أنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: ٤٠] فالكَلامُ مِن بابِ التَّمْثِيلِ لِتَأْثِيرِ قُدْرَتِهِ واسْتِحالَةِ امْتِناعِها ﴿قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ﴾ أيْ: أتَيْنا أمْرَكَ مُنْقادِينَ وجَمَعَهُما جَمْعَ مَن يَعْقِلُ لِخِطابِهِما بِما يُخاطَبُ بِهِ العُقَلاءُ. قالَ القُرْطُبِيُّ: قالَ أكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ إنَّ اللَّهَ - سُبْحانَهُ - خَلَقَ فِيهِما الكَلامَ فَتَكَلَّمَتا كَما أرادَ - سُبْحانَهُ - وقِيلَ: هو تَمْثِيلٌ لِظُهُورِ الطّاعَةِ مِنهُما وتَأْثِيرِ القُدْرَةِ الرَّبّانِيَّةِ فِيهِما. ﴿فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ﴾ أيْ: خَلَقَهُنَّ وأحْكَمَهُنَّ وفَرَغَ مِنهُنَّ، كَما في قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎وعَلَيْهِما مَسْرُودَتانِ قَضاهُما ∗∗∗ داوُدُ أوْ صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّعُ والضَّمِيرُ في قَضّاهُنَّ إمّا راجِعٌ إلى السَّماءِ عَلى المَعْنى لِأنَّها سَبْعُ سَماواتٍ، أوْ مُبْهَمٌ مُفَسَّرٌ بِسَبْعِ سَماواتٍ، وانْتِصابُ ﴿سَبْعَ سَماواتٍ﴾ عَلى التَّفْسِيرِ أوْ عَلى البَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ. وقِيلَ: إنَّ انْتِصابَهُ عَلى أنَّهُ المَفْعُولُ الثّانِي لِقَضّاهُنَّ لِأنَّهُ مُضَمَّنٌ مَعْنى صَبْرِهِنَّ، وقِيلَ: عَلى الحالِ أيْ: قَضّاهُنَّ حالَ كَوْنِهِنَّ مَعْدُوداتٍ بِسَبْعٍ ويَكُونُ قَضى بِمَعْنى صَنَعَ، وقِيلَ: عَلى التَّمْيِيزِ، ومَعْنى في يَوْمَيْنِ كَما سَبَقَ في قَوْلِهِ: ﴿خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ﴾ فالجُمْلَةُ سِتَّةُ أيّامٍ، كَما في قَوْلِهِ - سُبْحانَهُ -: ﴿خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ﴾ [الأعراف: ٣] وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُهُ في سُورَةِ الأعْرافِ. قالَ مُجاهِدٌ: ويَوْمٌ مِنَ السِّتَّةِ الأيّامِ كَألْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ. قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمِ الأحَدِ ويَوْمِ الِاثْنَيْنِ وقَدَّرَ فِيها أقْواتَها يَوْمَ الثُّلاثاءِ ويَوْمَ الأرْبِعاءِ وخَلَقَ السَّماواتِ في يَوْمِ الخَمِيسِ ويَوْمِ الجُمُعَةِ، وقَوْلُهُ: ﴿وأوْحى في كُلِّ سَماءٍ أمْرَها﴾ عَطْفٌ عَلى قَضاهُنَّ. قالَ قَتادَةُ والسُّدِّيُّ أيْ: خَلَقَ فِيها شَمْسَها وقَمَرَها ونُجُومَها وأفْلاكَها وما فِيها مِنَ المَلائِكَةِ والبِحارِ والبَرَدِ والثُّلُوجِ. وقِيلَ: المَعْنى: أوْحى فِيها ما أرادَهُ وما أمَرَ بِهِ، والإيحاءُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنى الأمْرِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿بِأنَّ رَبَّكَ أوْحى﴾ [الزلزلة: ٥] وقَوْلِهِ: ﴿وإذْ أوْحَيْتُ إلى الحَوارِيِّينَ﴾ [المائدة: ١١١] أيْ: أمَرْتُهم. وقَدِ اسْتُشْكِلَ الجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الآيَةِ وبَيْنَ قَوْلِهِ: ﴿والأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحاها﴾ [النازعات: ٣٠] فَإنَّ ما في هَذِهِ الآيَةِ مِن قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ﴾ مُشْعِرٌ بِأنَّ خَلْقَها مُتَأخِّرٌ عَنْ خَلْقِ الأرْضِ، وظاهِرُهُ يُخالِفُ قَوْلَهُ: ﴿والأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحاها﴾ فَقِيلَ: إنَّ " ثُمَّ " في ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ﴾ لَيْسَتْ لِلتَّراخِي الزَّمانِيِّ بَلْ لِلتَّراخِي الرُّتْبِيِّ، فَيَنْدَفِعُ الإشْكالُ مِن أصْلِهِ، وعَلى تَقْدِيرِ أنَّها لِلتَّراخِي الزَّمانِيِّ فالجَمْعُ مُمْكِنٌ بِأنَّ الأرْضَ خَلْقُها مُتَقَدِّمٌ عَلى خَلْقِ السَّماءِ، ودَحْوُها بِمَعْنى بَسْطِها هو أمْرٌ زائِدٌ عَلى مُجَرَّدِ خَلْقِها فَهي مُتَقَدِّمَةٌ خَلْقًا مُتَأخِّرَةٌ دَحْوًا وهَذا ظاهِرٌ، ولَعَلَّهُ يَأْتِي عِنْدَ تَفْسِيرِنا لِقَوْلِهِ: ﴿والأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحاها﴾ زِيادَةُ إيضاحٍ لِلْمَقامِ إنْ شاءَ اللَّهُ ﴿وزَيَّنّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ﴾ أيْ: بِكَواكِبَ مُضِيئَةٍ مُتَلَأْلِئَةٍ عَلَيْها كَتَلَأْلُؤِ المَصابِيحِ، " و" انْتِصابُ حِفْظًا عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أيْ: وحَفِظْناها حِفْظًا أوْ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لِأجْلِهِ عَلى تَقْدِيرِ: وخَلَقْنا المَصابِيحَ زِينَةً وحِفْظًا، والأوَّلُ أوْلى. قالَ أبُو حَيّانَ: في الوَجْهِ الثّانِي هو تَكَلُّفٌ وعُدُولٌ عَنِ السَّهْلِ البَيِّنِ، والمُرادُ بِالحِفْظِ حِفْظُها مِنَ الشَّياطِينِ الَّذِينَ يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ إلى ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ﴿تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ﴾ أيِ: البَلِيغِ القُدْرَةِ الكَثِيرِ العِلْمِ. ﴿فَإنْ أعْرَضُوا﴾ عَنِ التَّدَبُّرِ والتَّفَكُّرِ في هَذِهِ المَخْلُوقاتِ ﴿فَقُلْ أنْذَرْتُكُمْ﴾ أيْ: فَقُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ أنْذَرْتُكم خَوَّفْتُكم ﴿صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وثَمُودَ﴾ أيْ: عَذابًا مِثْلَ عَذابِهِمْ، والمُرادُ بِالصّاعِقَةِ العَذابُ المُهْلِكُ مِن كُلِّ شَيْءٍ. قالَ المُبَرِّدُ: الصّاعِقَةُ المَرَّةُ المُهْلِكَةُ لِأيِّ شَيْءٍ كانَ. قَرَأ الجُمْهُورُ " صاعِقَةً " في المَوْضِعَيْنِ، بِالألِفِ وقَرَأ ابْنُ الزُّبَيْرِ والنَّخَعِيُّ والسُّلَمِيُّ وابْنُ مُحَيْصِنٍ " صَعْقَةً " في المَوْضِعَيْنِ وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ مَعْنى الصّاعِقَةِ والصَّعْقَةِ في البَقَرَةِ. وقَوْلُهُ: ﴿إذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ﴾ ظَرْفٌ لِ ﴿أنْذَرْتُكُمْ﴾، أوْ لِ صاعِقَةً، لِأنَّها بِمَعْنى العَذابِ أيْ: أنْذَرْتُكُمُ العَذابَ الواقِعَ وقْتَ مَجِيءِ الرُّسُلِ، أوْ حالٌ مِن صاعِقَةِ عادٍ. وهَذا أوْلى مِنَ الوَجْهَيْنِ الأوَّلَيْنِ؛ لِأنَّ الإنْذارَ لَمْ يَقَعْ وقْتَ مَجِيءِ الرُّسُلِ فَلا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ ظَرْفًا لَهُ، وكَذَلِكَ الصّاعِقَةُ لا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ الوَقْتُ ظَرْفًا لَها، وقَوْلُهُ: ﴿مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ ومِن خَلْفِهِمْ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِـ جاءَتْهم أيْ: جاءَتْهم مِن جَمِيعِ جَوانِبِهِمْ وقِيلَ: المَعْنى جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ المُتَقَدِّمُونَ والمُتَأخِّرُونَ عَلى تَنْزِيلِ مَجِيءِ كَلامِهِمْ مَنزِلَةَ مَجِيئِهِمْ أنْفُسِهِمْ، فَكَأنَّ الرُّسُلَ قَدْ جاءُوهم وخاطَبُوهم بِقَوْلِهِمْ: ﴿أنْ لا تَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ﴾ أيْ: بِأنْ لا تَعْبُدُوا عَلى أنَّها المَصْدَرِيَّةُ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ التَّفْسِيرِيَّةَ أوِ المُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقِيلَةِ، واسْمُها ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٍ. ثُمَّ ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - ما أجابُوا بِهِ عَلى الرُّسُلِ فَقالَ: ﴿قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأنْزَلَ مَلائِكَةً﴾ أيْ: لَأرْسَلَهم إلَيْنا ولَمْ يُرْسِلْ إلَيْنا بَشَرًا مِن جِنْسِنا. ثُمَّ صَرَّحُوا بِالكُفْرِ ولَمْ يَتَلَعْثَمُوا، فَقالُوا ﴿فَإنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ﴾ أيْ: كافِرُونَ بِما تَزْعُمُونَهُ مِن أنَّ اللَّهَ أرْسَلَكم إلَيْنا، لِأنَّكم بَشَرٌ مِثْلُنا لا فَضْلَ لَكم عَلَيْنا، فَكَيْفَ اخْتَصَّكم بِرِسالَتِهِ دُونَنا، وقَدْ تَقَدَّمَ دَفْعُ هَذِهِ الشُّبْهَةِ الدّاحِضَةِ الَّتِي جاءُوا بِها في غَيْرِ مَوْضِعٍ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والبَيْهَقِيُّ في الأسْماءِ والصِّفاتِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ووَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾ قالَ: لا يَشْهَدُونَ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وفي قَوْلِهِ: ﴿لَهم أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ قالَ: غَيْرُ مَنقُوصٍ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ والنَّحّاسُ في ناسِخِهِ، وأبُو الشَّيْخِ في العَظَمَةِ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في الأسْماءِ والصِّفاتِ عَنْهُ «أنَّ اليَهُودَ أتَتِ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَسَألَتْهُ عَنْ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ فَقالَ: خَلَقَ (p-١٣١٢)اللَّهُ الأرْضَ في يَوْمِ الأحَدِ والِاثْنَيْنِ، وخَلَقَ الجِبالَ وما فِيهِنَّ مِن مَنافِعَ يَوْمَ الثُّلاثاءِ، وخَلَقَ يَوْمَ الأرْبِعاءِ الشَّجَرَ والحَجَرَ والماءَ والمَدائِنَ والعُمْرانَ والخَرابَ فَهَذِهِ أرْبَعَةُ أيّامٍ، فَقالَ - تَعالى -: ﴿قُلْ أئِنَّكم لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ وتَجْعَلُونَ لَهُ أنْدادًا ذَلِكَ رَبُّ العالَمِينَ﴾ ﴿وجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِن فَوْقِها وبارَكَ فِيها وقَدَّرَ فِيها أقْواتَها في أرْبَعَةِ أيّامٍ سَواءً لِلسّائِلِينَ﴾ وخَلَقَ يَوْمَ الخَمِيسِ السَّماءَ وخَلَقَ يَوْمَ الجُمُعَةِ النُّجُومَ والشَّمْسَ والقَمَرَ والمَلائِكَةَ إلى ثَلاثِ ساعاتٍ بَقِينَ مِنهُ، فَخَلَقَ مِن أوَّلِ ساعَةٍ مِن هَذِهِ الثَّلاثِ الآجالَ حِينَ يَمُوتُ مَن ماتَ، وفي الثّانِيَةِ ألْقى فِيها مِن كُلِّ شَيْءٍ مِمّا يُنْتَفَعُ بِهِ، وفي الثّالِثَةِ خَلَقَ آدَمَ وأسْكَنَهُ الجَنَّةَ وأمَرَ إبْلِيسَ بِالسُّجُودِ لَهُ وأخْرَجَهُ مِنها في آخِرِ ساعَةٍ، قالَتِ اليَهُودُ: ثُمَّ ماذا يا مُحَمَّدُ ؟ قالَ: ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ، قالُوا: قَدْ أصَبْتَ لَوْ أتْمَمْتَ، قالُوا: ثُمَّ اسْتَراحَ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - غَضَبًا شَدِيدًا، فَنَزَلَ ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما في سِتَّةِ أيّامٍ وما مَسَّنا مِن لُغُوبٍ﴾ ﴿فاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ﴾ [ق: ٣٩، ٣٨]» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿وقَدَّرَ فِيها أقْواتَها﴾ قالَ: شَقَّ الأنْهارَ، وغَرَسَ الأشْجارَ، ووَضَعَ الجِبالَ، وأجْرى البِحارَ، وجَعَلَ في هَذِهِ ما لَيْسَ في هَذِهِ وفي هَذِهِ ما لَيْسَ في هَذِهِ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنْهُ أيْضًا قالَ: إنَّ اللَّهَ - تَعالى - خَلَقَ يَوْمًا فَسَمّاهُ الأحَدَ، ثُمَّ خَلَقَ ثانِيًا فَسَمّاهُ الِاثْنَيْنِ، ثُمَّ خَلَقَ ثالِثًا فَسَمّاهُ الثُّلاثاءَ، ثُمَّ خَلَقَ رابِعًا فَسَمّاهُ الأرْبِعاءَ، ثُمَّ خَلَقَ خامِسًا فَسَمّاهُ الخَمِيسَ وذَكَرَ نَحْوَ ما تَقَدَّمَ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - قالَ: «إنَّ اللَّهَ فَرَغَ مِن خَلْقِهِ في سِتَّةِ أيّامٍ» وذَكَرَ نَحْوَ ما تَقَدَّمَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أبِي بَكْرٍ نَحْوَ ما تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، والبَيْهَقِيُّ في الأسْماءِ والصِّفاتِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿فَقالَ لَها ولِلْأرْضِ اِئْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا﴾ قالَ: قالَ لِلسَّماءِ أخْرِجِي شَمْسَكِ وقَمَرَكِ ونُجُومَكِ، ولِلْأرْضِ شَقِّقِي أنْهارَكِ وأخْرِجِي ثِمارَكِ ﴿قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ﴾ . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْهُ في قَوْلِهِ: ائْتِيا قالَ أعْطِيا وفي قَوْلِهِ: قالَتا أتَيْنا قالَ: أعْطَيْنا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب