الباحث القرآني

أمَرَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - رَسُولَهُ أنْ يُخْبِرَ المُشْرِكِينَ بِأنَّ اللَّهَ نَهاهُ عَنْ عِبادَةِ غَيْرِهِ وأمَرَهُ بِالتَّوْحِيدِ فَقالَ: ﴿قُلْ إنِّي نُهِيتُ أنْ أعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ وهي الأصْنامُ. ثُمَّ بَيَّنَ وجْهَ النَّهْيِ فَقالَ: ﴿لَمّا جاءَنِيَ البَيِّناتُ مِن رَبِّي﴾ وهي الأدِلَّةُ العَقْلِيَّةُ والنَّقْلِيَّةُ، فَإنَّها تُوجِبُ التَّوْحِيدَ ﴿وأُمِرْتُ أنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ العالَمِينَ﴾ أيْ: أسْتَسْلِمَ لَهُ بِالِانْقِيادِ والخُضُوعِ. ثُمَّ أرْدَفَ هَذا بِذِكْرِ دَلِيلٍ مِنَ الأدِلَّةِ عَلى التَّوْحِيدِ فَقالَ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكم مِن تُرابٍ﴾ أيْ: خَلَقَ أباكُمُ الأوَّلَ، وهو آدَمُ، وخَلْقُهُ مِن تُرابٍ يَسْتَلْزِمُ خَلْقَ ذُرِّيَّتِهِ مِنهُ ﴿ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذا في غَيْرِ مَوْضِعٍ ﴿ثُمَّ يُخْرِجُكم طِفْلًا﴾ أيْ: أطْفالًا، وأفْرَدَهُ لِكَوْنِهِ اسْمَ جِنْسٍ، أوْ عَلى مَعْنى يُخْرِجُ كُلَّ واحِدٍ مِنكم طِفْلًا ﴿ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أشُدَّكُمْ﴾ وهي الحالَةُ الَّتِي تَجْتَمِعُ فِيها القُوَّةُ والعَقْلُ، وقَدْ سَبَقَ بَيانُ الأشُدِّ مُسْتَوْفًى في الأنْعامِ، واللّامُ التَّعْلِيلِيَّةُ في ﴿لِتَبْلُغُوا﴾ مَعْطُوفَةٌ عَلى عِلَّةٍ أُخْرى، لِيُخْرِجَكم مُناسِبَةٌ لَها والتَّقْدِيرُ: لِتَكْبُرُوا شَيْئًا فَشَيْئًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا غايَةَ الكَمالِ، وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا﴾ مَعْطُوفٌ عَلى لِتَبْلُغُوا، قَرَأ نافِعٌ وحَفْصٌ وأبُو عَمْرٍو وابْنُ مُحَيْصِنٍ وهِشامٌ ﴿شُيُوخًا﴾ بِضَمِّ الشِّينِ، وقَرَأ الباقُونَ بِكَسْرِها، وقُرِئَ " شَيْخًا " عَلى الإفْرادِ لِقَوْلِهِ طِفْلًا، والشَّيْخُ مَن جاوَزَ الأرْبَعِينَ سَنَةً﴿ومِنكم مَن يُتَوَفّى مِن قَبْلُ﴾ أيْ: مِن قَبْلِ الشَّيْخُوخَةِ ﴿ولِتَبْلُغُوا أجَلًا مُسَمًّى﴾ أيْ: وقْتَ المَوْتِ أوْ يَوْمَ القِيامَةِ، واللّامُ هي لامُ العاقِبَةِ ﴿ولَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾ أيْ: لِكَيْ تَعْقِلُوا تَوْحِيدَ رَبِّكم وقُدْرَتَهُ البالِغَةَ في خَلْقِكم عَلى هَذِهِ الأطْوارِ المُخْتَلِفَةِ. ﴿هُوَ الَّذِي يُحْيِي ويُمِيتُ﴾ أيْ: يَقْدِرُ عَلى الإحْياءِ والإماتَةِ ﴿فَإذا قَضى أمْرًا﴾ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي يُرِيدُها ﴿فَإنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ مِن غَيْرِ تَوَقُّفٍ، وهو تَمْثِيلٌ لِتَأْثِيرِ قُدْرَتِهِ في المَقْدُوراتِ عِنْدَ تَعَلُّقِ إرادَتِهِ بِها، وقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْناهُ في البَقَرَةِ وفِيما بَعْدَها. ثُمَّ عَجِبَ - سُبْحانَهُ - مِن أحْوالِ المُجادِلِينَ في آياتِ اللَّهِ فَقالَ: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يُجادِلُونَ في آياتِ اللَّهِ﴾ وقَدْ سَبَقَ بَيانُ مَعْنى المُجادَلَةِ ﴿أنّى يُصْرَفُونَ﴾ أيْ: (p-١٣٠٧)كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنْها مَعَ قِيامِ الأدِلَّةِ الدّالَّةِ عَلى صِحَّتِها، وأنَّها في أنْفُسِها مُوجِبَةٌ لِلتَّوْحِيدِ. قالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمُ المُشْرِكُونَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالكِتابِ وبِما أرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا﴾ قالَ القُرْطُبِيُّ: وقالَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ نَزَلَتْ في القَدَرِيَّةِ. قالَ ابْنُ سِيرِينَ: إنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ في القَدَرِيَّةِ فَلا أدْرِي فِيمَن نَزَلَتْ. ويُجابُ عَنْ هَذا بِأنَّ اللَّهَ - سُبْحانَهُ - قَدْ وصَفَ هَؤُلاءِ بِصِفَةٍ تَدُلُّ عَلى غَيْرِ ما قالُوهُ، فَقالَ: ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالكِتابِ﴾ أيْ: بِالقُرْآنِ، وهَذا وصْفٌ لا يَصِحُّ أنْ يُطْلَقَ عَلى فِرْقَةٍ مِن فِرَقِ الإسْلامِ، والمَوْصُولُ إمّا في مَحَلِّ جَرٍّ عَلى أنَّهُ نَعْتٌ لِلْمَوْصُولِ الأوَّلِ، أوْ بَدَلٌ مِنهُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الذَّمِّ، والمُرادُ بِالكِتابِ إمّا القُرْآنُ أوْ جِنْسُ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ مِن عِنْدِ اللَّهِ، وقَوْلُهُ: ﴿وبِما أرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا﴾ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ بِالكِتابِ، ويُرادُ بِهِ ما يُوحى إلى الرُّسُلِ مِن غَيْرِ كِتابٍ إنْ كانَتِ اللّامُ في الكِتابِ لِلْجِنْسِ أوْ سائِرِ الكُتُبِ إنْ كانَ المُرادُ بِالكِتابِ القُرْآنَ ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ عاقِبَةَ أمْرِهِمْ ووَبالَ كُفْرِهِمْ، وفي هَذا وعِيدٌ شَدِيدٌ. والظَّرْفُ في قَوْلِهِ: ﴿إذِ الأغْلالُ في أعْناقِهِمْ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِـ ﴿يَعْلَمُونَ﴾ أيْ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وقْتَ كَوْنِ الأغْلالِ في أعْناقِهِمْ، والسَّلاسِلُ مَعْطُوفٌ عَلى الأغْلالِ، والتَّقْدِيرُ: إذِ الأغْلالُ والسَّلاسِلُ في أعْناقِهِمْ، ويَجُوزُ أنْ يَرْتَفِعَ السَّلاسِلُ عَلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ في أعْناقِهِمْ عَلَيْهِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ خَبَرُهُ ﴿يُسْحَبُونَ في الحَمِيمِ﴾ بِحَذْفِ العائِدِ أيْ: يُسْحَبُونَ بِها في الحَمِيمِ، وهَذا عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ بِرَفْعِ السَّلاسِلِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ مَسْعُودٍ وعِكْرِمَةُ وأبُو الجَوْزاءِ بِنَصْبِها، وقَرَأُوا " يَسْحَبُونَ " بِفَتْحِ الياءِ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، فَتَكُونُ السَّلاسِلُ مَفْعُولًا مُقَدَّمًا، وقَرَأ بَعْضُهم بِجَرِّ السَّلاسِلِ. قالَ الفَرّاءُ: وهَذِهِ القِراءَةُ مَحْمُولَةٌ عَلى المَعْنى، إذِ المَعْنى: أعْناقُهم في الأغْلالِ والسَّلاسِلِ. وقالَ الزَّجّاجُ: المَعْنى عَلى هَذِهِ القِراءَةِ: وفي السَّلاسِلِ يُسْحَبُونَ، واعْتَرَضَهُ ابْنُ الأنْبارِيِّ بِأنَّ ذَلِكَ لا يَجُوزُ في العَرَبِيَّةِ، ومَحَلُّ يُسْحَبُونَ عَلى تَقْدِيرِ عَطْفِ السَّلاسِلِ عَلى الأغْلالِ، وعَلى تَقْدِيرِ كَوْنِها مُبْتَدَأً وخَبَرُها في أعْناقِهِمُ النَّصْبُ عَلى الحالِ، أوْ لا مَحَلَّ لَهُ، بَلْ هو مُسْتَأْنَفٌ جَوابُ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ. والحَمِيمُ هو المُتَناهِي في الحَرِّ، وقِيلَ: الصَّدِيدُ وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ ﴿ثُمَّ في النّارِ يُسْجَرُونَ﴾ يُقالُ: سَجَرْتُ التَّنُّورَ أيْ: أوْقَدْتُهُ وسَجَّرْتُهُ مَلَأْتُهُ بِالوَقُودِ، ومِنهُ ﴿والبَحْرِ المَسْجُورِ﴾ أيِ: المَمْلُوءِ، فالمَعْنى: تُوقَدُ بِهِمُ النّارُ أوْ تُمْلَأُ بِهِمْ. قالَ مُجاهِدٌ ومُقاتِلٌ: تُوقَدُ بِهِمُ النّارُ فَصارُوا وقُودَها. ﴿وقِيلَ لَهم أيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ هَذا تَوْبِيخٌ وتَقْرِيعٌ لَهم أيْ: أيْنَ الشُّرَكاءُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَهم مِن دُونِ اللَّهِ. ﴿قالُوا ضَلُّوا عَنّا﴾ أيْ: ذَهَبُوا وفَقَدْناهم فَلا نَراهم، ثُمَّ أضْرَبُوا عَنْ ذَلِكَ وانْتَقَلُوا إلى الإخْبارِ بِعَدَمِهِمْ وأنَّهُ لا وُجُودَ لَهم فَقالُوا ﴿بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا﴾ أيْ: لَمْ نَكُنْ نَعْبُدُ شَيْئًا، قالُوا هَذا لَمّا تَبَيَّنَ لَهم ما كانُوا فِيهِ مِنَ الضَّلالَةِ والجَهالَةِ وأنَّهم كانُوا يَعْبُدُونَ ما لا يُبْصِرُ ولا يَسْمَعُ ولا يَضُرُّ ولا يَنْفَعُ، ولَيْسَ هَذا إنْكارًا مِنهم لِوُجُودِ الأصْنامِ الَّتِي كانُوا يَعْبُدُونَها، بَلِ اعْتِرافٌ مِنهم بِأنَّ عِبادَتَهم إيّاها كانَتْ باطِلَةً ﴿كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الكافِرِينَ﴾ أيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الضَّلالِ يُضِلُّ اللَّهُ الكافِرِينَ حَيْثُ عَبَدُوا هَذِهِ الأصْنامَ الَّتِي أوْصَلَتْهم إلى النّارِ. والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكم إلى الإضْلالِ المَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالفِعْلِ أيْ: ذَلِكَ الإضْلالُ بِسَبَبِ ﴿بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ في الأرْضِ﴾ أيْ: بِما كُنْتُمْ تُظْهِرُونَ في الدُّنْيا مِنَ الفَرَحِ بِمَعاصِي اللَّهِ والسُّرُورِ بِمُخالَفَةِ رُسُلِهِ وكُتُبِهِ، وقِيلَ: بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ بِهِ مِنَ المالِ والأتْباعِ والصِّحَّةِ، وقِيلَ: بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ بِهِ مِن إنْكارِ البَعْثِ، وقِيلَ: المُرادُ بِالفَرَحِ هُنا البَطَرُ والتَّكَبُّرُ، وبِالمَرَحِ الزِّيادَةُ في البَطَرِ. وقالَ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ: تَمْرَحُونَ أيْ: تَبْطَرُونَ وتَأْشَرُونَ. وقالَ الضَّحّاكُ: الفَرَحُ السُّرُورُ، والمَرَحُ العُدْوانُ. وقالَ مُقاتِلٌ المَرَحُ: البَطَرُ والخُيَلاءُ. ﴿ادْخُلُوا أبْوابَ جَهَنَّمَ﴾ حالَ كَوْنِكم خالِدِينَ فِيها أيْ: مُقَدِّرِينَ الخُلُودَ فِيها ﴿فَبِئْسَ مَثْوى المُتَكَبِّرِينَ﴾ عَنْ قَبُولِ الحَقِّ جَهَنَّمُ. ثُمَّ أمَرَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - رَسُولَهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - بِالصَّبْرِ، فَقالَ: ﴿فاصْبِرْ إنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ أيْ: وعْدَهُ بِالِانْتِقامِ مِنهم كائِنٌ لا مَحالَةَ، إمّا في الدُّنْيا أوْ في الآخِرَةِ، ولِهَذا قالَ: ﴿فَإمّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ﴾ مِنَ العَذابِ في الدُّنْيا بِالقَتْلِ والأسْرِ والقَهْرِ، وما في " فَإمّا " زائِدَةٌ عَلى مَذْهَبِ المُبَرِّدِ والزَّجّاجِ، والأصْلُ: ( فَإنْ نُرِكَ )، ولَحِقَتْ بِالفِعْلِ نُونُ التَّأْكِيدِ وقَوْلُهُ: ﴿أوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى نُرِيَنَّكَ أيْ: أوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قَبْلَ إنْزالِ العَذابِ بِهِمْ ﴿فَإلَيْنا يُرْجَعُونَ﴾ يَوْمَ القِيامَةِ فَنُعَذِّبُهم. ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلًا مِن قَبْلِكَ مِنهم مَن قَصَصْنا عَلَيْكَ﴾ أيْ: أنْبَأْناكَ بِأخْبارِهِمْ وما لَقُوهُ مِن قَوْمِهِمْ ﴿ومِنهم مَن لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ خَبَرَهُ ولا أوْصَلْنا إلَيْكَ عِلْمَ ما كانَ بَيْنَهُ وبَيْنَ قَوْمِهِ ﴿وما كانَ لِرَسُولٍ أنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إلّا بِإذْنِ اللَّهِ﴾ لا مِن قِبَلِ نَفْسِهِ، والمُرادُ بِالآيَةِ: المُعْجِزَةُ الدّالَّةُ عَلى نُبُوَّتِهِ ﴿فَإذا جاءَ أمْرُ اللَّهِ﴾ أيْ: إذا جاءَ الوَقْتُ المُعَيَّنُ لِعَذابِهِمْ في الدُّنْيا أوْ في الآخِرَةِ ﴿قُضِيَ بِالحَقِّ﴾ فِيما بَيْنَهم فَيُنَجِّي اللَّهُ بِقَضائِهِ الحَقِّ عِبادَهُ المُحِقِّينَ ﴿وخَسِرَ هُنالِكَ﴾ أيْ: في ذَلِكَ الوَقْتِ ﴿المُبْطِلُونَ﴾ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الباطِلَ ويَعْمَلُونَ بِهِ. ثُمَّ امْتَنَّ - سُبْحانَهُ - عَلى عِبادِهِ بِنَوْعٍ مِن أنْواعِ نِعَمِهِ الَّتِي لا تُحْصى فَقالَ: ﴿اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعامَ﴾ أيْ: خَلَقَها لِأجْلِكم، قالَ الزَّجّاجُ: الأنْعامُ هاهُنا الإبِلُ، وقِيلَ: الأزْواجُ الثَّمانِيَةُ ﴿لِتَرْكَبُوا مِنها﴾ مِن لِلتَّبْعِيضِ، وكَذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿ومِنها تَأْكُلُونَ﴾ ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ لِابْتِداءِ الغايَةِ في المَوْضِعَيْنِ ومَعْناها: ابْتِداءُ الرُّكُوبِ وابْتِداءُ الأكْلِ، والأوَّلُ أوْلى. والمَعْنى: لِتَرْكَبُوا بَعْضَها وتَأْكُلُوا بَعْضَها. ﴿ولَكم فِيها مَنافِعُ﴾ أخَّرَ غَيْرَ الرُّكُوبِ والأكْلَ مِنَ الوَبَرِ والصُّوفِ والشَّعْرِ والزُّبْدِ والسَّمْنِ والجُبْنِ وغَيْرِ ذَلِكَ ﴿ولِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً في صُدُورِكُمْ﴾ قالَ مُجاهِدٌ ومُقاتِلٌ، وقَتادَةُ: تَحْمِلُ أثْقالَكم مِن بَلَدٍ إلى بَلَدٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ هَذا مُسْتَوْفًى في سُورَةِ النَّحْلِ ﴿وعَلَيْها وعَلى الفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾ (p-١٣٠٨)أيْ: عَلى الإبِلِ في البَرِّ، وعَلى السُّفُنِ في البَحْرِ. وقِيلَ: المُرادُ بِالحَمْلِ عَلى الأنْعامِ هُنا حَمْلُ الوِلْدانِ والنِّساءِ بِالهَوادِجِ. ﴿ويُرِيكم آياتِهِ﴾ أيْ: دَلالاتِهِ الدّالَّةَ عَلى كَمالِ قُدْرَتِهِ ووَحْدانِيَّتِهِ ﴿فَأيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ﴾ فَإنَّها كُلَّها مِنَ الظُّهُورِ وعَدَمِ الخَفاءِ بِحَيْثُ لا يُنْكِرُها مُنْكِرٌ ولا يَجْحَدُها جاحِدٌ، وفِيهِ تَقْرِيعٌ لَهم وتَوْبِيخٌ عَظِيمٌ، ونُصِبَ أيَّ: بِـ ﴿تُنْكِرُونَ﴾، وإنَّما قُدِّمَ عَلى العامِلِ فِيهِ لِأنَّ لَهُ صَدْرَ الكَلامِ. ثُمَّ أرْشَدَهم - سُبْحانَهُ - إلى الِاعْتِبارِ والتَّفَكُّرِ في آياتِ اللَّهِ فَقالَ: ﴿أفَلَمْ يَسِيرُوا في الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ مِنَ الأُمَمِ الَّتِي عَصَتِ اللَّهَ وكَذَّبَتْ رُسُلَها، فَإنَّ الآثارَ المَوْجُودَةَ في دِيارِهِمْ تَدُلُّ عَلى ما نَزَلَ بِهِمْ مِنَ العُقُوبَةِ وما صارُوا إلَيْهِ مِن سُوءِ العاقِبَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ - سُبْحانَهُ - أنَّ تِلْكَ الأُمَمَ كانُوا فَوْقَ هَؤُلاءِ في الكَثْرَةِ والقُوَّةِ فَقالَ: ﴿كانُوا أكْثَرَ مِنهم وأشَدَّ قُوَّةً﴾ أيْ: أكْثَرَ مِنهم عَدَدًا وأقْوى مِنهم أجْسادًا وأوْسَعَ مِنهم أمْوالًا، وأظْهَرَ مِنهم آثارًا في الأرْضِ بِالعَمائِرِ والمَصانِعِ والحَرْثِ ﴿فَما أغْنى عَنْهم ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ ما الأُولى اسْتِفْهامِيَّةً أيْ: أيُّ شَيْءٍ أغْنى عَنْهم، أوْ نافِيَةً أيْ: لَمْ يُغْنِ عَنْهم، وما الثّانِيَةُ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وأنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً. ﴿فَلَمّا جاءَتْهم رُسُلُهم بِالبَيِّناتِ﴾ أيْ: بِالحُجَجِ الواضِحاتِ والمُعْجِزاتِ الظّاهِراتِ ﴿فَرِحُوا بِما عِنْدَهم مِنَ العِلْمِ﴾ أيْ: أظْهَرُوا الفَرَحَ بِما عِنْدَهم مِمّا يَدَّعُونَ أنَّهُ مِنَ العِلْمِ مِنَ الشُّبَهِ الدّاحِضَةِ والدَّعاوى الزّائِغَةِ، وسَمّاهُ عِلْمًا تَهَكُّمًا بِهِمْ، أوْ عَلى ما يَعْتَقِدُونَهُ. وقالَ مُجاهِدٌ: قالُوا نَحْنُ أعْلَمُ مِنهم لَنْ نُعَذَّبَ ولَنْ نُبْعَثَ، وقِيلَ: المُرادُ: مِن عِلْمِ أحْوالِ الدُّنْيا لا الدِّينِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿يَعْلَمُونَ ظاهِرًا مِنَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ [الروم: ٧] وقِيلَ: الَّذِينَ فَرِحُوا بِما عِنْدَهم مِنَ العِلْمِ هُمُ الرُّسُلُ، وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا كَذَّبَهم قَوْمُهم أعْلَمَهُمُ اللَّهُ بِأنَّهُ مُهْلِكٌ الكافِرِينَ ومُنْجٍ المُؤْمِنِينَ فَفَرِحُوا بِذَلِكَ ﴿وحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أيْ: أحاطَ بِهِمْ جَزاءُ اسْتِهْزائِهِمْ. ﴿فَلَمّا رَأوْا بَأْسَنا﴾ أيْ: عايَنُوا عَذابَنا النّازِلَ بِهِمْ ﴿قالُوا آمَنّا بِاللَّهِ وحْدَهُ وكَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ﴾ وهي الأصْنامُ الَّتِي كانُوا يَعْبُدُونَها. ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهم إيمانُهم لَمّا رَأوْا بَأْسَنا﴾ أيْ: عِنْدَ مُعايَنَةِ عَذابِنا؛ لِأنَّ ذَلِكَ الإيمانَ لَيْسَ بِالإيمانِ النّافِعِ لِصاحِبِهِ، فَإنَّهُ إنَّما يَنْفَعُ الإيمانُ الِاخْتِيارِيُّ لا الإيمانُ الِاضْطِرارِيُّ ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ في عِبادِهِ﴾ أيِ: الَّتِي قَدْ مَضَتْ في عِبادِهِ، والمَعْنى: أنَّ اللَّهَ - سُبْحانَهُ - سَنَّ هَذِهِ السُّنَّةَ في الأُمَمِ كُلِّها أنَّهُ لا يَنْفَعُهُمُ الإيمانُ إذا رَأوُا العَذابَ. وقَدْ مَضى بَيانُ هَذا في سُورَةِ النِّساءِ وسُورَةِ التَّوْبَةِ، وانْتِصابُ سُنَّةَ عَلى أنَّها مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ بِمَنزِلَةِ وعْدِ اللَّهِ وما أشْبَهَهُ مِنَ المَصادِرِ المُؤَكِّدَةِ. وقِيلَ: هو مَنصُوبٌ عَلى التَّحْذِيرِ أيِ: احْذَرُوا يا أهْلَ مَكَّةَ سُنَّةَ اللَّهِ في الأُمَمِ الماضِيَةِ، والأوَّلُ أوْلى ﴿وخَسِرَ هُنالِكَ الكافِرُونَ﴾ أيْ: وقْتَ رُؤْيَتِهِمْ بَأْسَ اللَّهِ ومُعايَنَتِهِمْ لِعَذابِهِ. قالَ الزَّجّاجُ: الكافِرُ خاسِرٌ في كُلِّ وقْتٍ، ولَكِنَّهُ يَتَبَيَّنُ لَهم خُسْرانُهم إذا رَأوُا العَذابَ. وقَدْ أخْرَجَ أحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في البَعْثِ والنُّشُورِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قالَ «تَلا رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - ﴿إذِ الأغْلالُ في أعْناقِهِمْ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿يُسْجَرُونَ﴾ فَقالَ: لَوْ أنَّ رَصاصَةً مِثْلَ هَذِهِ، وأشارَ إلى جُمْجُمَةٍ أُرْسِلَتْ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ، وهي مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ لَبَلَغَتِ الأرْضَ قَبْلَ اللَّيْلِ، ولَوْ أنَّها أُرْسِلَتْ مِن رَأْسِ السِّلْسِلَةِ لَسارَتْ أرْبَعِينَ خَرِيفًا اللَّيْلَ والنَّهارَ قَبْلَ أنْ تَبْلُغَ أصْلَها، أوْ قالَ قَعْرَها» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا في صِفَةِ النّارِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: يَسْبَحُونَ في الحَمِيمِ فَيَنْسَلِخُ كُلُّ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ مِن جِلْدٍ ولَحْمٍ وعِرْقٍ حَتّى يَصِيرَ في عَقِبِهِ حَتّى إنَّ لَحْمَهُ قُدِّرَ طُولُهُ، وطُولُهُ سِتُّونَ ذِراعًا، ثُمَّ يُكْسى جِلْدًا آخَرَ، ثُمَّ يُسْجَرُ في الحَمِيمِ. وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ في قَوْلِهِ: ﴿ومِنهم مَن لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ قالَ: بَعَثَ اللَّهُ عَبْدًا حَبَشِيًّا فَهو مِمَّنْ لَمْ يَقْصُصْ عَلى مُحَمَّدٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب