الباحث القرآني

لَمّا خَوَّفَهم - سُبْحانَهُ - بِأحْوالِ الآخِرَةِ أرْدَفَهُ بِبَيانِ تَخْوِيفِهِمْ بِأحْوالِ الدُّنْيا فَقالَ: ﴿أوَلَمْ يَسِيرُوا في الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِن قَبْلِهِمْ﴾ أرْشَدَهم - سُبْحانَهُ - إلى الِاعْتِبارِ بِغَيْرِهِمْ، فَإنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مَضَوْا مِنَ الكُفّارِ ﴿كانُوا هم أشَدَّ مِنهم قُوَّةً﴾ مِن هَؤُلاءِ الحاضِرِينَ مِنَ الكُفّارِ وأقْوى ﴿وآثارًا في الأرْضِ﴾ بِما عَمَّرُوا فِيها مِنَ الحُصُونِ والقُصُورِ وبِما لَهم مِنَ العَدَدِ والعُدَّةِ، فَلَمّا كَذَّبُوا رُسُلَهم أهْلَكَهُمُ اللَّهُ، وقَوْلُهُ: فَيَنْظُرُوا إمّا مَجْزُومٌ بِالعَطْفِ عَلى يَسِيرُوا، أوْ مَنصُوبٌ بِجَوابِ الِاسْتِفْهامِ، وقَوْلُهُ: ﴿كانُوا أشَدَّ مِنهم قُوَّةً﴾ بَيانٌ لِلتَّفاوُتِ بَيْنَ حالِ هَؤُلاءِ وأُولَئِكَ، وقَوْلُهُ: وآثارًا عَطْفٌ عَلى قُوَّةً. قَرَأ الجُمْهُورُ أشَدَّ مِنهم وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ " أشَدَّ مِنكم " عَلى الِالتِفاتِ ﴿فَأخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾ (p-١٢٩٩)أيْ: بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ ﴿وما كانَ لَهم مِنَ اللَّهِ مِن واقٍ﴾ أيْ: مِن دافِعٍ يَدْفَعُ عَنْهُمُ العَذابَ، وقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ في مَواضِعَ. والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ إلى ما تَقَدَّمَ مِنَ الأخْذِ ﴿بِأنَّهم كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهم بِالبَيِّناتِ﴾ أيْ: بِالحُجَجِ الواضِحَةِ فَكَفَرُوا بِما جاءُوهم بِهِ ﴿فَأخَذَهُمُ اللَّهُ إنَّهُ قَوِيٌّ﴾ يَفْعَلُ كُلَّ ما يُرِيدُهُ لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ شَدِيدُ العِقابِ لِمَن عَصاهُ ولَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ. ثُمَّ ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - قِصَّةَ مُوسى وفِرْعَوْنَ لِيَعْتَبِرُوا فَقالَ: ﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا﴾ هي: التِّسْعُ الآياتُ الَّتِي قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُها في غَيْرِ مَوْضِعٍ وسُلْطانٍ مُبِينٍ أيْ: حُجَّةٍ بَيِّنَةٍ واضِحَةٍ، وهي التَّوْراةُ. ﴿إلى فِرْعَوْنَ وهامانَ وقارُونَ فَقالُوا﴾ إنَّهُ ساحِرٌ كَذّابٌ أيْ: فِيما جاءَ بِهِ، وخَصَّهم بِالذِّكْرِ؛ لِأنَّهم رُؤَساءُ المُكَذِّبِينَ بِمُوسى، فَفِرْعَوْنُ المَلِكُ، وهامانُ الوَزِيرُ، وقارُونُ صاحِبُ الأمْوالِ والكُنُوزِ. ﴿فَلَمّا جاءَهم بِالحَقِّ مِن عِنْدِنا﴾ وهي مُعْجِزاتُهُ الظّاهِرَةُ الواضِحَةُ ﴿قالُوا اقْتُلُوا أبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ واسْتَحْيُوا نِساءَهم﴾ قالَ قَتادَةُ: هَذا قَتْلٌ غَيْرُ القَتْلِ الأوَّلِ؛ لِأنَّ فِرْعَوْنَ قَدْ كانَ أمْسَكَ عَنْ قَتْلِ الوِلْدانِ وقْتَ وِلادَةِ مُوسى، فَلَمّا بَعَثَ اللَّهُ مُوسى أعادَ القَتْلَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ، فَكانَ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الذُّكُورِ وتَرْكِ النِّساءِ، ومِثْلُ هَذا قَوْلُ فِرْعَوْنَ ﴿سَنُقَتِّلُ أبْناءَهم ونَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ﴾ [الأعراف: ١٢٧] ﴿وما كَيْدُ الكافِرِينَ إلّا في ضَلالٍ﴾ أيْ: في خُسْرانٍ ووَبالٍ؛ لِأنَّهُ يَذْهَبُ باطِلًا ويَحِيقُ بِهِمْ ما يُرِيدُهُ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - . ﴿وقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أقْتُلْ مُوسى﴾ إنَّما قالَ هَذا لِأنَّهُ كانَ في خاصَّةِ قَوْمِهِ مَن يَمْنَعُهُ مِن قَتْلِ مُوسى مَخافَةَ أنْ يَنْزِلَ بِهِمُ العَذابُ، والمَعْنى: اتْرُكُونِي أقْتُلْهُ ولْيَدْعُ رَبَّهُ الَّذِي يَزْعُمُ أنَّهُ أرْسَلَهُ إلَيْنا فَلْيَمْنَعْهُ مِنَ القَتْلِ إنْ قَدَرَ عَلى ذَلِكَ أيْ: لا يَهُولَنَّكم ذَلِكَ فَإنَّهُ لا رَبَّ لَهُ حَقِيقَةً؛ بَلْ أنا رَبُّكُمُ الأعْلى، ثُمَّ ذَكَرَ العِلَّةَ الَّتِي لِأجْلِها أرادَ أنْ يَقْتُلَهُ فَقالَ: ﴿إنِّي أخافُ أنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ﴾ الَّذِي أنْتُمْ عَلَيْهِ مِن عِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ ويُدْخِلَهم في دِينِهِ الَّذِي هو عِبادَةُ اللَّهِ وحْدَهُ ﴿أوْ أنْ يُظْهِرَ في الأرْضِ الفَسادَ﴾ أيْ: يُوقِعَ بَيْنَ النّاسِ الخِلافَ والفِتْنَةَ، جَعَلَ اللَّعِينُ ظُهُورَ ما دَعا إلَيْهِ مُوسى وانْتِشارَهُ في الأرْضِ واهْتِداءَ النّاسِ بِهِ فَسادًا، ولَيْسَ الفَسادُ إلّا ما هو عَلَيْهِ هو ومَن تابَعَهُ. قَرَأ الكُوفِيُّونَ ويَعْقُوبُ أوْ أنْ يُظْهِرَ بِأوِ الَّتِي لِلْإبْهامِ، والمَعْنى: أنَّهُ لا بُدَّ مِن وُقُوعِ أحَدِ الأمْرَيْنِ. وقَرَأ الباقُونَ " وأنْ يُظْهِرَ " بِدُونِ ألِفٍ عَلى مَعْنى وُقُوعِ الأمْرَيْنِ جَمِيعًا، وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ الياءِ مِن " إنِّي أخافُ " وقَرَأ نافِعٌ وأبُو عَمْرٍو وحَفْصٌ يُظْهِرَ بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ الهاءِ مِن أظْهَرَ، وفاعِلُهُ ضَمِيرُ مُوسى، والفَسادُ نَصْبًا عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، وقَرَأ الباقُونَ بِفَتْحِ الياءِ والهاءِ، ورَفْعِ الفَسادِ عَلى الفاعِلِيَّةِ. ﴿وقالَ مُوسى إنِّي عُذْتُ بِرَبِّي ورَبِّكم مِن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحِسابِ﴾ قَرَأ أبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ " عُذْتُ " بِإدْغامِ الذّالِ، وقَرَأ الباقُونَ بِالإظْهارِ، لَمّا هَدَّدَهُ فِرْعَوْنُ بِالقَتْلِ اسْتَعاذَ بِاللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - مِن كُلِّ مُتَعَظِّمٍ عَنِ الإيمانِ بِاللَّهِ غَيْرِ مُؤْمِنٍ بِالبَعْثِ والنُّشُورِ، ويَدْخُلُ فِرْعَوْنُ في هَذا العُمُومِ دُخُولًا أوَّلِيًّا. ﴿وقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِن آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمانَهُ﴾ قالَ الحَسَنُ ومُقاتِلٌ والسُّدِّيُّ: كانَ قِبْطِيًّا وهو ابْنُ عَمِّ فِرْعَوْنَ، وهو الَّذِي نَجا مَعَ مُوسى، وهو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿وجاءَ رَجُلٌ مِن أقْصى المَدِينَةِ يَسْعى قالَ يامُوسى﴾ [القصص: ٢٠] الآيَةَ، وقِيلَ: كانَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ ولَمْ يَكُنْ مِن آلِ فِرْعَوْنَ وهو خِلافُ ما في الآيَةِ، وقَدْ تُمُحِّلَ لِذَلِكَ بِأنَّ في الآيَةِ تَقْدِيمًا وتَأْخِيرًا، والتَّقْدِيرُ: وقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ يَكْتُمُ إيمانَهُ مِن آلِ فِرْعَوْنَ. قالَ القُشَيْرِيُّ: ومَن جَعَلَهُ إسْرائِيلِيًّا فَفِيهِ بُعْدٌ؛ لِأنَّهُ يُقالُ: كَتَمَهُ أمْرَ كَذا ولا يُقالُ: كَتَمَ مِنهُ كَما قالَ - سُبْحانَهُ -: ﴿ولا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ [النساء: ٤٢] وأيْضًا ما كانَ فِرْعَوْنُ يَحْتَمِلُ مِن بَنِي إسْرائِيلَ مِثْلَ هَذا القَوْلِ. وقَدِ اخْتُلِفَ في اسْمِ هَذا الرَّجُلِ، فَقِيلَ: حَبِيبٌ، وقِيلَ: حِزْقِيلُ:، وقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، وقَرَأ الجُمْهُورُ رَجُلٌ بِضَمِّ الجِيمِ، وقَرَأ الأعْمَشُ وعَبْدُ الوارِثِ بِسُكُونِها، وهي لُغَةُ تَمِيمٍ ونَجْدٍ، والأُولى هي الفَصِيحَةُ، وقُرِئَ بِكَسْرِ الجِيمِ ومُؤْمِنٌ صِفَةٌ لِرَجُلٍ، ومِن آلِ فِرْعَوْنَ صِفَةٌ أُخْرى، ويَكْتُمُ إيمانَهُ صِفَةٌ ثالِثَةٌ، والِاسْتِفْهامُ في ﴿أتَقْتُلُونَ رَجُلًا﴾ لِلْإنْكارِ، و﴿أنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِنَزْعِ الخافِضِ أيْ: لِأنْ يَقُولَ أوْ كَراهَةَ أنْ يَقُولَ، وجُمْلَةُ ﴿وقَدْ جاءَكم بِالبَيِّناتِ مِن رَبِّكُمْ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ أيْ: والحالُ أنَّهُ قَدْ جاءَكم بِالمُعْجِزاتِ الواضِحاتِ والدَّلالاتِ الظّاهِراتِ عَلى نُبُوَّتِهِ وصِحَّةِ رِسالَتِهِ، ثُمَّ تَلَطَّفَ لَهم في الدَّفْعِ عَنْهُ فَقالَ: ﴿وإنْ يَكُ كاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وإنْ يَكُ صادِقًا يُصِبْكم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكم﴾ ولَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ هَذا لِشَكٍّ مِنهُ، فَإنَّهُ كانَ مُؤْمِنًا كَما وصَفَهُ اللَّهُ، ولا يَشُكُّ المُؤْمِنُ، ومَعْنى ﴿يُصِبْكم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾ أنَّهُ إذا لَمْ يُصِبْكم كُلُّهُ فَلا أقَلَّ مِن أنْ يُصِيبَكم بَعْضُهُ، وحُذِفَتِ النُّونُ مِن يَكُنْ في المَوْضِعَيْنِ تَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ: كَما قالَ سِيبَوَيْهِ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ وأبُو الهَيْثَمِ: بَعْضُ هُنا بِمَعْنى كُلٍّ أيْ: يُصِبْكم كُلُّ الَّذِي يَعِدُكم، وأنْشَدَ أبُو عُبَيْدَةَ عَلى هَذا قَوْلَ لَبِيدٍ: ؎تَرّاكُ أمْكِنَةٍ إذا لَمْ أرْضَها أوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمامُها أيْ: كُلَّ النُّفُوسِ، وقَدِ اعْتُرِضَ عَلَيْهِ، وأُجِيبَ بِأنَّ البَعْضَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ في لُغَةِ العَرَبِ بِمَعْنى الكُلِّ كَما في قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎قَدْ يُدْرِكُ المُتَأنِّي بَعْضَ حاجَتِهِ ∗∗∗ وقَدْ يَكُونُ مَعَ المُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ وقَوْلِ الآخَرِ: ؎إنَّ الأُمُورَ إذا الأحْداثُ دَبَّرَها ∗∗∗ دُونَ الشُّيُوخِ تَرى في بَعْضِها خَلَلا ولَيْسَ في البَيْتَيْنِ ما يَدُلُّ عَلى ما زَعَمُوهُ، وأمّا بَيْتُ لَبِيدٍ فَقِيلَ: إنَّهُ أرادَ بِبَعْضِ النُّفُوسِ نَفْسَهُ، ولا ضَرُورَةَ تُلْجِئُ إلى حَمْلِ ما في الآيَةِ عَلى ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ أرادَ التَّنَزُّلَ مَعَهم وإيهامَهم أنَّهُ لا يَعْتَقِدُ صِحَّةَ نُبُوَّتِهِ كَما يُفِيدُهُ قَوْلُهُ: ﴿يَكْتُمُ إيمانَهُ﴾ قالَ أهْلُ المَعانِي: وهَذا عَلى المُظاهَرَةِ في الحِجاجِ، كَأنَّهُ قالَ لَهم: أقَلُّ ما يَكُونُ في صِدْقِهِ أنْ يُصِيبَكم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكم، (p-١٣٠٠)وفِي بَعْضِ ذَلِكَ هَلاكُكم، فَكَأنَّ الحاصِلَ بِالبَعْضِ هو الحاصِلُ بِالكُلِّ: وقالَ اللَّيْثُ: بَعْضُ هاهُنا صِلَةٌ، يُرِيدُ: يُصِبْكُمُ الَّذِي يَعِدُكم، وقِيلَ: يُصِبْكم هَذا العَذابُ الَّذِي يَقُولُهُ في الدُّنْيا وهو بَعْضُ ما يَتَوَعَّدُكم بِهِ مِنَ العَذابِ، وقِيلَ: إنَّهُ وعَدَهم بِالثَّوابِ والعِقابِ، فَإذا كَفَرُوا أصابَهُمُ العِقابُ، وهو بَعْضُ ما وعَدَهم بِهِ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن هو مُسْرِفٌ كَذّابٌ﴾ هَذا مِن تَمامِ كَلامِ الرَّجُلِ المُؤْمِنِ، وهو احْتِجاجٌ آخَرُ ذُو وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ لَوْ كانَ مُسْرِفًا كَذّابًا لَما هَداهُ اللَّهُ إلى البَيِّناتِ ولا أيَّدَهُ بِالمُعْجِزاتِ، وثانِيهِما: أنَّهُ إذا كانَ كَذَلِكَ خَذَلَهُ اللَّهُ وأهْلَكَهُ، فَلا حاجَةَ لَكم إلى قَتْلِهِ، والمُسْرِفُ المُقِيمُ عَلى المَعاصِي المُسْتَكْثِرُ مِنها، والكَذّابُ المُفْتَرِي. ﴿يا قَوْمِ لَكُمُ المُلْكُ اليَوْمَ ظاهِرِينَ في الأرْضِ﴾ ذَكَّرَهم ذَلِكَ الرَّجُلُ المُؤْمِنُ ما هم فِيهِ مِنَ المُلْكِ لِيَشْكُرُوا اللَّهَ ولا يَتَمادَوْا في كُفْرِهِمْ، ومَعْنى ظاهِرِينَ: الظُّهُورُ عَلى النّاسِ والغَلَبَةُ لَهم والِاسْتِعْلاءُ عَلَيْهِمْ، والأرْضُ أرْضُ مِصْرَ، وانْتِصابُ ظاهِرِينَ عَلى الحالِ ﴿فَمَن يَنْصُرُنا مِن بَأْسِ اللَّهِ إنْ جاءَنا﴾ أيْ: مَن يَمْنَعُنا مِن عَذابِهِ ويَحُولُ بَيْنَنا وبَيْنَهُ عِنْدَ مَجِيئِهِ، وفي هَذا تَحْذِيرٌ مِنهُ لَهم مِن نِقْمَةِ اللَّهِ بِهِمْ وإنْزالِ عَذابِهِ عَلَيْهِمْ، فَلَمّا سَمِعَ فِرْعَوْنُ ما قالَهُ هَذا الرَّجُلُ مِنَ النُّصْحِ الصَّحِيحِ جاءَ بِمُراوَغَةٍ يُوهِمُ بِها قَوْمَهُ أنَّهُ لَهم مِنَ النَّصِيحَةِ والرِّعايَةِ بِمَكانٍ مَكِينٍ، وأنَّهُ لا يَسْلُكُ بِهِمْ إلّا مَسْلَكًا يَكُونُ فِيهِ جَلْبُ النَّفْعِ لَهم ودَفْعُ الضُّرِّ عَنْهم، ولِهَذا قالَ: ﴿ما أُرِيكم إلّا ما أرى﴾ قالَ ابْنُ زَيْدٍ أيْ: ما أُشِيرُ عَلَيْكم إلّا بِما أرى لِنَفْسِي. وقالَ الضَّحّاكُ ما أُعْلِمُكم إلّا ما أعْلَمُ، والرُّؤْيَةُ هُنا هي القَلْبِيَّةُ لا البَصَرِيَّةُ، والمَفْعُولُ الثّانِي هو إلّا ما أرى ﴿وما أهْدِيكم إلّا سَبِيلَ الرَّشادِ﴾ أيْ: ما أهْدِيكم بِهَذا الرَّأْيِ إلّا طَرِيقَ الحَقِّ. قَرَأ الجُمْهُورُ " الرَّشادِ " بِتَخْفِيفِ الشِّينِ، وقَرَأ مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ بِتَشْدِيدِها عَلى أنَّها صِيغَةُ مُبالَغَةٍ كَضَرّابٍ. وقالَ النَّحّاسُ: هي لَحْنٌ، ولا وجْهَ لِذَلِكَ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِن آلِ فِرْعَوْنَ﴾ قالَ: لَمْ يَكُنْ في آلِ فِرْعَوْنَ مُؤْمِنٌ غَيْرُهُ وغَيْرُ امْرَأةِ فِرْعَوْنَ وغَيْرُ المُؤْمِنِ الَّذِي أنْذَرَ مُوسى الَّذِي قالَ: ﴿إنَّ المَلَأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ﴾ قالَ ابْنُ المُنْذِرِ: أُخْبِرْتُ أنَّ اسْمَهُ حِزْقِيلُ. وأخْرَجَ، عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أبِي إسْحاقَ قالَ: اسْمُهُ حَبِيبٌ. وأخْرَجَ البُخارِيُّ وغَيْرُهُ مِن طَرِيقِ عُرْوَةَ قالَ: قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ «أخْبِرْنا بِأشَدِّ شَيْءٍ صَنَعَهُ المُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - قالَ: بَيْنا رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - يُصَلِّي بِفِناءِ الكَعْبَةِ إذْ أقْبَلَ عُقْبَةُ بْنُ أبِي مُعَيْطٍ فَأخَذَ بِمَنكِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - ولَوى ثَوْبَهُ في عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فَأقْبَلَ أبُو بَكْرٍ فَأخَذَ بِمَنكِبَيْهِ ودَفَعَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - ثُمَّ قالَ ﴿أتَقْتُلُونَ رَجُلًا أنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وقَدْ جاءَكم بِالبَيِّناتِ مِن رَبِّكم﴾» . وأخْرَجَ أبُو نُعَيْمٍ في فَضائِلِ الصَّحابَةِ، والبَزّارُ «عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ أنَّهُ قالَ أيُّها النّاسُ أخْبِرُونِي مَن أشْجَعُ النّاسِ ؟ قالُوا أنْتَ. قالَ: أما أنِّي ما بارَزْتُ أحَدًا إلّا انْتَصَفْتُ مِنهُ ولَكِنْ أخْبِرُونِي بِأشْجَعِ النّاسِ ؟ قالُوا: لا نَعْلَمُ فَمَن ؟ قالَ أبُو بَكْرٍ: رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - وأخَذَتْهُ قُرَيْشٌ، فَهَذا يُجَنِّبُهُ وهَذا يُتَلْتِلُهُ، وهم يَقُولُونَ أنْتَ الَّذِي جَعَلْتَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا، قالَ: فَواللَّهِ ما دَنا مِنّا أحَدٌ إلّا أبُو بَكْرٍ يَضْرِبُ هَذا ويَجِيءُ هَذا ويُتَلْتِلُ هَذا، وهو يَقُولُ: ويْلَكم أتَقْتُلُونَ رَجُلًا أنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، ثُمَّ رَفَعَ بُرْدَةً كانَتْ عَلَيْهِ، فَبَكى حَتّى اخْضَلَّتْ لِحْيَتُهُ، ثُمَّ قالَ: أنْشُدُكم أمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ خَيْرٌ أمْ أبُو بَكْرٍ ؟ فَسَكَتَ القَوْمُ، فَقالَ: ألا تُجِيبُونَ ؟ فَواللَّهِ لَساعَةٌ مِن أبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِن مِثْلِ مُؤْمِنٍ مِن آلِ فِرْعَوْنَ، وذاكَ رَجُلٌ يَكْتُمُ إيمانَهُ وهَذا رَجُلٌ أعْلَنَ إيمانَهُ» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب