الباحث القرآني

الهَمْزَةُ في قَوْلِهِ: أفَلا يَتَدَبَّرُونَ لِلْإنْكارِ، والفاءُ لِلْعَطْفِ عَلى مُقَدَّرٍ؛ أيْ: أيُعْرِضُونَ عَنِ القُرْآنِ فَلا يَتَدَبَّرُونَهُ، يُقالُ تَدَبَّرْتُ الشَّيْءَ: تَفَكَّرْتُ في عاقِبَتِهِ وتَأمَّلْتُهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ في كُلِّ تَأمُّلٍ، والتَّدْبِيرُ: أنْ يُدَبِّرَ الإنْسانُ أمْرَهُ كَأنَّهُ يَنْظُرُ إلى ما تَصِيرُ إلَيْهِ عاقِبَتُهُ، ودَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُها﴾ [محمد: ٢٤] عَلى وُجُوبِ التَّدَبُّرِ لِلْقُرْآنِ لِيُعْرَفَ مَعْناهُ. والمَعْنى: أنَّهم لَوْ تَدَبَّرُوهُ حَقَّ تَدَبُّرِهِ لَوَجَدُوهُ مُؤْتَلِفًا غَيْرَ مُخْتَلِفٍ، صَحِيحَ المَعانِي، قَوِيَّ المَبانِي، بالِغًا في البَلاغَةِ إلى أعْلى دَرَجاتِها ﴿ولَوْ كانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ أيْ: تَفاوُتًا وتَناقُضًا، ولا يَدْخُلُ في هَذا اخْتِلافُ مَقادِيرِ الآياتِ والسُّوَرِ؛ لِأنَّ المُرادَ اخْتِلافُ التَّناقُضِ والتَّفاوُتِ وعَدَمُ المُطابَقَةِ لِلْواقِعِ، وهَذا شَأْنُ كَلامِ البَشَرِ، لاسِيَّما إذا طالَ وتَعَرَّضَ قائِلُهُ لِلْإخْبارِ بِالغَيْبِ، فَإنَّهُ لا يُوجَدُ مِنهُ صَحِيحًا مُطابِقًا لِلْواقِعِ إلّا القَلِيلُ النّادِرُ. قَوْلُهُ: ﴿وإذا جاءَهم أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أوِ الخَوْفِ أذاعُوا بِهِ﴾ يُقالُ: أذاعَ الشَّيْءَ وأذاعَ بِهِ: إذا أفْشاهُ وأظْهَرَهُ، وهَؤُلاءِ هم جَماعَةٌ مِن ضَعَفَةِ المُسْلِمِينَ كانُوا إذا سَمِعُوا شَيْئًا مِن أمْرِ المُسْلِمِينَ فِيهِ أمْنٌ نَحْوَ ظَفَرِ المُسْلِمِينَ وقَتْلِ عَدُوِّهِمْ، أوْ فِيهِ خَوْفٌ نَحْوَ هَزِيمَةِ المُسْلِمِينَ وقَتْلِهِمْ؛ أفْشَوْهُ وهم يَظُنُّونَ أنَّهُ لا شَيْءَ عَلَيْهِمْ في ذَلِكَ. قَوْلُهُ: ﴿ولَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وإلى أُولِي الأمْرِ مِنهم﴾ (p-٣١٥)وهم أهْلُ العِلْمِ والعُقُولِ الرّاجِحَةِ الَّذِينَ يَرْجِعُونَ إلَيْهِمْ في أُمُورِهِمْ أوْ هُمُ الوُلاةُ عَلَيْهِمْ ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنهُمْ﴾ أيْ: يَسْتَخْرِجُونَهُ بِتَدَبُّرِهِمْ وصِحَّةِ عُقُولِهِمْ. والمَعْنى: أنَّهم لَوْ تَرَكُوا الإذاعَةَ لِلْأخْبارِ حَتّى يَكُونَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ هو الَّذِي يُذِيعُها أوْ يَكُونَ أُولُو الأمْرِ مِنهم هُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ ذَلِكَ؛ لِأنَّهم يَعْلَمُونَ ما يَنْبَغِي أنْ يُفْشى وما يَنْبَغِي أنْ يُكْتَمَ. والِاسْتِنْباطُ مَأْخُوذٌ مِنِ اسْتَنْبَطْتُ الماءَ: إذا اسْتَخْرَجْتَهُ. والنَّبَطُ: الماءُ المُسْتَنْبَطُ أوَّلَ ما يَخْرُجُ مِن ماءِ البِئْرِ عِنْدَ حَفْرِها، وقِيلَ: إنَّ هَؤُلاءِ الضَّعَفَةَ كانُوا يَسْمَعُونَ إرْجافاتِ المُنافِقِينَ عَلى المُسْلِمِينَ فَيُذِيعُونَها فَتَحْصُلُ بِذَلِكَ المَفْسَدَةُ. قَوْلُهُ: ﴿ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إلّا قَلِيلًا﴾ أيْ: لَوْلا ما تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكم مِن إرْسالِ رَسُولِهِ وإنْزالِ كِتابِهِ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ فَبَقِيتُمْ عَلى كُفْرِكم إلّا قَلِيلًا مِنكم، أوْ إلّا أتْباعًا قَلِيلًا مِنكم، وقِيلَ: المَعْنى: أذاعُوا بِهِ إلّا قَلِيلًا مِنهم فَإنَّهُ لَمْ يُذِعْ ولَمْ يُفْشِ، قالَهُ الكِسائِيُّ والأخْفَشُ والفَرّاءُ وأبُو عُبَيْدَةَ وأبُو حاتِمٍ وابْنُ جَرِيرٍ، وقِيلَ المَعْنى: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ إلّا قَلِيلًا مِنهم، قالَهُ الزَّجّاجُ. وقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ ﴿ولَوْ كانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ يَقُولُ: إنَّ قَوْلَ اللَّهِ لا يَخْتَلِفُ وهو حَقٌّ لَيْسَ فِيهِ باطِلٌ، وإنَّ قَوْلَ النّاسِ يَخْتَلِفُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ ومُسْلِمٌ وابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن طَرِيقِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ قالَ: لَمّا اعْتَزَلَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ نِساءَهُ دَخَلْتُ المَسْجِدَ، فَوَجَدْتُ النّاسَ يَنْكُتُونَ بِالحَصا ويَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ نِساءَهُ، فَقُمْتُ عَلى بابِ المَسْجِدِ فَنادَيْتُ بِأعْلى صَوْتِي: لَمْ يُطَلِّقْ نِساءَهُ، ونَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿وإذا جاءَهم أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أوِ الخَوْفِ أذاعُوا بِهِ ولَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وإلى أُولِي الأمْرِ مِنهم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنهم﴾ فَكُنْتُ أنا اسْتَنْبَطْتُ ذَلِكَ الأمْرَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في الآيَةِ، قالَ: هَذا في الإخْبارِ إذا غَزَتْ سَرِيَّةٌ مِنَ المُسْلِمِينَ أخْبَرَ النّاسُ عَنْها، فَقالُوا: أصابَ المُسْلِمُونَ مِن عَدُوِّهِمْ كَذا وكَذا، وأصابَ العَدُوُّ مِنَ المُسْلِمِينَ كَذا وكَذا، فَأفْشَوْهُ بَيْنَهم مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ هو يُخْبِرُهم بِهِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الضَّحّاكِ وإذا جاءَهم قالَ: هم أهْلُ النِّفاقِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أبِي مُعاذٍ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ﴾ قالَ: فانْقَطَعَ الكَلامُ. وقَوْلُهُ: إلّا قَلِيلًا فَهو في أوَّلِ الآيَةِ يُخْبِرُ عَنِ المُنافِقِينَ: قالَ: وإذا جاءَهم أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أوِ الخَوْفِ أذاعُوا بِهِ يَعْنِي: بِالقَلِيلِ المُؤْمِنِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب