الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ﴿ولَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ في هَذا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾ قَدْ قَدَّمْنا تَحْقِيقَ المَثَلِ وكَيْفِيَّةَ ضَرْبِهِ في غَيْرِ مَوْضِعٍ، ومَعْنى ﴿مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾ ما يَحْتاجُونَ إلَيْهِ، ولَيْسَ المُرادُ ما هو أعَمُّ مِن ذَلِكَ، فَهو هُنا كَما في قَوْلِهِ: ﴿ما فَرَّطْنا في الكِتابِ مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨] أيْ: مِن شَيْءٍ يَحْتاجُونَ إلَيْهِ في أمْرِ دِينِهِمْ، وقِيلَ: المَعْنى: ما ذَكَرْنا مِن إهْلاكِ الأُمَمِ السّالِفَةِ مَثَلٌ لِهَؤُلاءِ ﴿لَعَلَّهم يَتَذَكَّرُونَ﴾ يَتَّعِظُونَ فَيَعْتَبِرُونَ. وانْتِصابُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا عَلى الحالِ مِن هَذا وهي حالٌ مُؤَكِّدَةٌ، وتُسَمّى هَذِهِ حالًا مُوطِئَةً؛ لِأنَّ الحالَ في الحَقِيقَةِ هو عَرَبِيًّا، وقُرْآنًا تَوْطِئَةً لَهُ، نَحْوَ جاءَنِي زَيْدٌ رَجُلًا صالِحًا: كَذا قالَ الأخْفَشُ، ويَجُوزُ أنْ يَنْتَصِبَ عَلى المَدْحِ. قالَ الزَّجّاجُ: عَرَبِيًّا مُنْتَصِبٌ عَلى الحالِ، وقُرْآنًا تَوْكِيدٌ، ومَعْنى ﴿غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ لا اخْتِلافَ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ. قالَ الضَّحّاكُ أيْ: غَيْرَ مُخْتَلِفٍ. قالَ النَّحّاسُ: أحْسَنُ ما قِيلَ في مَعْناهُ قَوْلُ الضَّحّاكِ، وقِيلَ: غَيْرَ مُتَضادٍّ. وقِيلَ: غَيْرَ ذِي لَبْسٍ، وقِيلَ: غَيْرَ ذِي لَحْنٍ، وقِيلَ: غَيْرَ ذِي شَكٍّ كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎وقَدْ أتاكَ يَمِينٌ غَيْرُ ذِي عِوَجٍ مِنَ الإلَهِ وقَوْلٌ غَيْرُ مَكْذُوبِ ﴿لَعَلَّهم يَتَّقُونَ﴾ عِلَّةٌ أُخْرى بَعْدَ العِلَّةِ الأُولى. وهِيَ ﴿لَعَلَّهم يَتَذَكَّرُونَ﴾ أيْ: لِكَيْ يَتَّقُوا الكُفْرَ والكَذِبَ. ثُمَّ ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - مَثَلًا مِنَ الأمْثالِ القُرْآنِيَّةِ لِلتَّذْكِيرِ والإيقاظِ، فَقالَ: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا﴾ أيْ: تَمْثِيلُ حالَةٍ عَجِيبَةٍ بِأُخْرى مِثْلِها. ثُمَّ بَيَّنَ المَثَلَ فَقالَ: ﴿رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ﴾ قالَ الكِسائِيُّ: نَصَبَ رَجُلًا لِأنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْمَثَلِ، وقِيلَ: هو مَنصُوبٌ بِنَزْعِ الخافِضِ أيْ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا بِرَجُلٍ، وقِيلَ: إنَّ رَجُلًا هو المَفْعُولُ الأوَّلُ، ومَثَلًا هو المَفْعُولُ الثّانِي، وأُخِّرَ المَفْعُولُ الأوَّلُ لِيَتَّصِلَ بِما هو مِن تَمامِهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذا في سُورَةِ يس، وجُمْلَةُ ﴿فِيهِ شُرَكاءُ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ صِفَةً لِرَجُلٍ، والتَّشاكُسُ التَّخالُفُ. قالَ الفَرّاءُ أيْ: مُخْتَلِفُونَ. وقالَ المُبَرِّدُ أيْ: مُتَعاسِرُونَ مِن شَكِسَ يَشْكَسُ شَكَسًا فَهو شَكِسٌ مِثْلَ عَسِرَ يَعْسَرُ عَسَرًا فَهو عَسِرٌ. قالَ الجَوْهَرِيُّ: التَّشاكُسُ الِاخْتِلافُ. قالَ: ويُقالُ: رَجُلٌ شَكْسٌ بِالتَّسْكِينِ أيْ: صَعْبُ الخُلُقِ، وهَذا مِثْلُ مَن أشْرَكَ بِاللَّهِ وعَبَدَ آلِهَةً كَثِيرَةً. ثُمَّ قالَ: ﴿ورَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ﴾ أيْ: خالِصًا لَهُ، وهَذا مِثْلُ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وحْدَهُ. قَرَأ الجُمْهُورُ سَلَمًا بِفَتْحِ السِّينِ واللّامِ، وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وعِكْرِمَةُ، وأبُو العالِيَةِ بِكَسْرِ السِّينِ وسُكُونِ اللّامِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ، والجَحْدَرِيُّ وأبُو عَمْرٍو وابْنُ كَثِيرٍ ويَعْقُوبُ " سالِمًا " بِالألِفِ وكَسْرِ اللّامِ اسْمُ فاعِلٍ مِن سَلِمَ لَهُ فَهو سالِمٌ، واخْتارَ هَذِهِ القِراءَةَ أبُو عُبَيْدٍ قالَ: لِأنَّ السّالِمَ الخالِصَ ضِدُّ المُشْتَرَكِ، والسِّلْمَ ضِدُّ الحَرْبِ ولا مَوْضِعَ لِلْحَرْبِ هاهُنا. وأُجِيبَ عَنْهُ بِأنَّ الحَرْفَ إذا كانَ لَهُ مَعْنَيانِ لَمْ يُحْمَلْ إلّا عَلى أوْلاهُما فالسِّلْمُ وإنْ كانَ ضِدَّ الحَرْبِ فَلَهُ مَعْنًى آخَرُ بِمَعْنى سالِمٍ، مِن سَلِمَ لَهُ كَذا: إذا خَلَصَ لَهُ. وأيْضًا يَلْزَمُهُ في سالِمٍ ما أُلْزِمَ بِهِ؛ لِأنَّهُ يُقالُ: شَيْءٌ سالِمٌ أيْ: لا عاهَةَ بِهِ، واخْتارَ أبُو حاتِمٍ القِراءَةَ الأُولى. والحاصِلُ أنَّ قِراءَةَ الجُمْهُورِ هي عَلى الوَصْفِ بِالمَصْدَرِ لِلْمُبالَغَةِ، أوْ عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ: ذا سِلْمٍ، ومِثْلُها قِراءَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ومَن مَعَهُ. ثُمَّ جاءَ - سُبْحانَهُ - بِما يَدُلُّ عَلى التَّفاوُتِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَقالَ: ﴿هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا﴾ وهَذا الِاسْتِفْهامُ لِلْإنْكارِ والِاسْتِبْعادِ، والمَعْنى: هَلْ يَسْتَوِي هَذا الَّذِي يَخْدِمُ جَماعَةً شُرَكاءَ أخْلاقُهم مُخْتَلِفَةٌ ونِيّاتُهم مُتَبايِنَةٌ يَسْتَخْدِمُهُ كُلُّ واحِدٍ مِنهم فَيَتْعَبُ ويَنْصَبُ مَعَ كَوْنِ كُلِّ واحِدٍ مِنهم غَيْرَ راضٍ بِخِدْمَتِهِ، وهَذا الَّذِي يَخْدِمُ واحِدًا لا يُنازِعُهُ غَيْرُهُ إذا أطاعَهُ رَضِيَ عَنْهُ، وإذا عَصاهُ عَفا عَنْهُ. فَإنَّ بَيْنَ هَذَيْنِ مِنَ الِاخْتِلافِ الظّاهِرِ الواضِحِ ما لا يَقْدِرُ عاقِلٌ أنْ يَتَفَوَّهَ بِاسْتِوائِهِما؛ لِأنَّ أحَدَهُما في أعْلى المَنازِلِ، والآخَرَ في أدْناها، وانْتِصابُ مَثَلًا عَلى التَّمْيِيزِ المُحَوَّلِ عَنِ الفاعِلِ لِأنَّ الأصْلَ هَلْ يَسْتَوِي مَثَلُهُما، وأفْرَدَ التَّمْيِيزَ ولَمْ يُثَنِّهِ لِأنَّ الأصْلَ في التَّمْيِيزِ الإفْرادُ لِكَوْنِهِ مُبَيِّنًا لِلْجِنْسِ وجُمْلَةُ الحَمْدُ لِلَّهِ تَقْرِيرٌ لِما قَبْلَها مِن نَفْيِ الِاسْتِواءِ، ولِلْإيذانِ لِلْمُوَحِّدِينَ بِما في تَوْحِيدِهِمْ لِلَّهِ مِنَ النِّعْمَةِ العَظِيمَةِ المُسْتَحَقَّةِ لِتَخْصِيصِ الحَمْدِ بِهِ. ثُمَّ أضْرَبَ - سُبْحانَهُ - عَنْ نَفْيِ الِاسْتِواءِ المَفْهُومِ عَنِ الِاسْتِفْهامِ الإنْكارِيِّ إلى بَيانِ أنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ فَقالَ: ﴿ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾ وهُمُ المُشْرِكُونَ فَإنَّهم لا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ مَعَ ظُهُورِهِ ووُضُوحِهِ. قالَ الواحِدِيُّ والبَغَوِيُّ: والمُرادُ بِالأكْثَرِ الكُلُّ والظّاهِرُ خِلافُ ما قالاهُ، فَإنَّ المُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ يَعْلَمُونَ ما في التَّوْحِيدِ مِن رِفْعَةِ شَأْنِهِ وعُلُوِّ مَكانِهِ، وإنَّ الشِّرْكَ لا يُماثِلُهُ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، ولا يُساوِيهِ (p-١٢٨٣)فِي وصْفٍ مِنَ الأوْصافِ، ويَعْلَمُونَ أنَّ اللَّهَ - سُبْحانَهُ - يَسْتَحِقُّ الحَمْدَ عَلى هَذِهِ النِّعْمَةِ، وأنَّ الحَمْدَ مُخْتَصٌّ بِهِ. ثُمَّ أخْبَرَ - سُبْحانَهُ - رَسُولَهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - بِأنَّ المَوْتَ يُدْرِكُهُ ويُدْرِكُهم لا مَحالَةَ فَقالَ: ﴿إنَّكَ مَيِّتٌ وإنَّهم مَيِّتُونَ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ مَيِّتٌ، ومَيِّتُونَ بِالتَّشْدِيدِ وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ واليَمانِيُّ " مائِتٌ ومائِتُونَ " وبِها قَرَأ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ. وقَدِ اسْتَحْسَنَ هَذِهِ القِراءَةَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ لِكَوْنِ مَوْتِهِ ومَوْتِهِمْ مُسْتَقْبَلًا، ولا وجْهَ لِلِاسْتِحْسانِ، فَإنَّ قِراءَةَ الجُمْهُورِ تُفِيدُ هَذا المَعْنى. قالَ الفَرّاءُ والكِسائِيُّ: المَيِّتُ بِالتَّشْدِيدِ مَن لَمْ يَمُتْ وسَيَمُوتُ، والمَيْتُ بِالتَّخْفِيفِ مَن قَدْ ماتَ وفارَقَتْهُ الرُّوحُ. قالَ قَتادَةُ: نُعِيَتْ إلى النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - نَفْسُهُ ونُعِيَتْ إلَيْهِمْ أنْفُسُهم. ووَجْهُ هَذا الِاخْتِيارِ الإعْلامُ لِلصَّحابَةِ بِأنَّهُ يَمُوتُ. فَقَدْ كانَ بَعْضُهم يَعْتَقِدُ أنَّهُ لا يَمُوتُ مَعَ كَوْنِهِ تَوْطِئَةً وتَمْهِيدًا لِما بَعْدَهُ حَيْثُ قالَ: ﴿ثُمَّ إنَّكم يَوْمَ القِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكم تَخْتَصِمُونَ﴾ أيْ: تُخاصِمُهم يا مُحَمَّدُ وتَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِأنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَهم وأنْذَرْتَهم وهم يُخاصِمُونَكَ، أوْ يُخاصِمُ المُؤْمِنُ الكافِرَ، والظّالِمُ المَظْلُومَ. ثُمَّ بَيَّنَ - سُبْحانَهُ - حالَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنَ المُخْتَصِمِينَ فَقالَ: ﴿فَمَن أظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلى اللَّهِ﴾ أيْ: لا أحَدَ أظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلى اللَّهِ، فَزَعَمَ أنَّ لَهُ ولَدًا أوْ شَرِيكًا أوْ صاحِبَةً ﴿وكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إذْ جاءَهُ﴾ وهو ما جاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - مِن دُعاءِ النّاسِ إلى التَّوْحِيدِ، وأمْرِهِمْ بِالقِيامِ بِفَرائِضِ الشَّرْعِ ونَهْيِهِمْ عَنْ مُحَرَّماتِهِ وإخْبارِهِمْ بِالبَعْثِ والنُّشُورِ، وما أعَدَّ اللَّهُ لِلْمُطِيعِ والعاصِي. ثُمَّ اسْتَفْهَمَ - سُبْحانَهُ - اسْتِفْهامًا تَقْرِيرِيًّا فَقالَ: ﴿ألَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكافِرِينَ﴾ أيْ: ألَيْسَ لِهَؤُلاءِ المُفْتَرِينَ المُكَذِّبِينَ بِالصِّدْقِ، والمَثْوى: المُقامُ، وهو مُشْتَقٌّ مِن ثَوى بِالمَكانِ إذا أقامَ بِهِ يَثْوِي ثَواءً وثُوِيًّا، مِثْلُ مَضى مَضاءً ومُضِيًّا. وحَكى أبُو عُبَيْدٍ أنَّهُ يُقالُ: أثْوى وأنْشَدَ قَوْلَ الأعْشى: ؎أثْوى وقَصَّرَ لَيْلَةً لِيُزَوَّدا ∗∗∗ ومَضى وأخْلَفَ مِن قُتَيْلَةَ مَوْعِدا وأنْكَرَ ذَلِكَ الأصْمَعِيُّ وقالَ لا نَعْرِفُ أثْوى. ثُمَّ ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - فَرِيقَ المُؤْمِنِينَ المُصَدِّقِينَ فَقالَ: ﴿والَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وصَدَّقَ بِهِ﴾ المَوْصُولُ في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ، وهو عِبارَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - ومَن تابَعَهُ وخَبَرُهُ ﴿أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴾ وقِيلَ: الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - والَّذِي صَدَّقَ أبُو بَكْرٍ. وقالَ مُجاهِدٌ: الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - والَّذِي صَدَّقَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ. وقالَ السُّدِّيُّ: الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ جِبْرِيلُ، والَّذِي صَدَّقَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - . وقالَ قَتادَةُ ومُقاتِلٌ وابْنُ زَيْدٍ: الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - والَّذِي صَدَّقَ بِهِ المُؤْمِنُونَ. وقالَ النَّخَعِيُّ: الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وصَدَّقَ بِهِ هُمُ المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَجِيئُونَ بِالقُرْآنِ يَوْمَ القِيامَةِ. وقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ عامٌّ في كُلِّ مَن دَعا إلى تَوْحِيدِ اللَّهِ وأرْشَدَ إلى ما شَرَعَهُ لِعِبادِهِ، واخْتارَ هَذا ابْنُ جَرِيرٍ وهو الَّذِي اخْتارَهُ مِن هَذِهِ الأقْوالِ، ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ " والَّذِينَ جاءُوا بِالصِّدْقِ وصَدَّقُوا بِهِ " . ولَفْظُ الَّذِي كَما وقَعَ في قِراءَةِ الجُمْهُورِ وإنْ كانَ مُفْرَدًا فَمَعْناهُ الجَمْعُ؛ لِأنَّهُ يُرادُ بِهِ الجِنْسُ كَما يُفِيدُهُ قَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴾ أيِ: المُتَّصِفُونَ بِالتَّقْوى الَّتِي هي عُنْوانُ النَّجاةِ. وقَرَأ أبُو صالِحٍ " وصَدَقَ " بِهِ مُخَفَّفًا أيْ: صَدَقَ بِهِ النّاسُ. ثُمَّ ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - ما لِهَؤُلاءِ الصّادِقِينَ المُصَدِّقِينَ في الآخِرَةِ: ﴿لَهم ما يَشاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ أيْ: لَهم كُلُّ ما يَشاءُونَهُ مِن رَفْعِ الدَّرَجاتِ ودَفْعِ المَضَرّاتِ وتَكْفِيرِ السَّيِّئاتِ، وفي هَذا تَرْغِيبٌ عَظِيمٌ وتَشْوِيقٌ بالِغٌ، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ إلى ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِن جَزائِهِمْ وهو مُبْتَدَأٌ، وخَبَرُهُ قَوْلُهُ: ﴿جَزاءُ المُحْسِنِينَ﴾ أيِ: الَّذِينَ أحْسَنُوا في أعْمالِهِمْ. وقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - «أنَّ الإحْسانَ أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإنَّهُ يَراكَ» . ثُمَّ بَيَّنَ - سُبْحانَهُ - ما هو الغايَةُ مِمّا لَهم عِنْدَ رَبِّهِمْ فَقالَ: ﴿لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهم أسْوَأ الَّذِي عَمِلُوا﴾ فَإنَّ ذَلِكَ هو أعْظَمُ ما يَرْجُونَهُ مِن دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهم لِأنَّ اللَّهَ - سُبْحانَهُ - إذا غَفَرَ لَهم ما هو الأسْوَأُ مِن أعْمالِهِمْ غَفَرَ لَهم ما دُونَهُ بِطَرِيقَةِ الأوْلى، واللّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ يَشاءُونَ أوْ بِـ المُحْسِنِينَ أوْ بِمَحْذُوفٍ. قَرَأ الجُمْهُورُ أسْوَأ عَلى أنَّهُ أفْعَلُ تَفْضِيلٍ. وقِيلَ: لَيْسَتْ لِلتَّفْضِيلِ بَلْ بِمَعْنى: سَيِّءَ الَّذِي عَمِلُوا. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ في رِوايَةٍ عَنْهُ " أسْواءَ " بِألِفٍ بَيْنَ الهَمْزَةِ والواوِ بِزِنَةِ أجْمالٍ، جَمْعُ سُوءٍ. ﴿ويَجْزِيَهم أجْرَهم بِأحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ لَمّا ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - ما يَدُلُّ عَلى دَفْعِ المَضارِّ عَنْهم ذَكَرَ ما يَدُلُّ عَلى جَلْبِ أعْظَمِ المَنافِعِ إلَيْهِمْ وإضافَةِ الأحْسَنِ إلى ما بَعْدَهُ لَيْسَتْ مِن إضافَةِ المُفَضَّلِ إلى المُفَضَّلِ عَلَيْهِ، بَلْ مِن إضافَةِ الشَّيْءِ إلى بَعْضِهِ قَصْدًا إلى التَّوْضِيحِ مِن غَيْرِ اعْتِبارِ تَفْضِيلٍ. قالَ مُقاتِلٌ: يَجْزِيهِمْ بِالمَحاسِنِ مِن أعْمالِهِمْ ولا يَجْزِيهِمُ المَساوِئَ. وقَدْ أخْرَجَ الآجُرِّيُّ، والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ قالَ: غَيْرَ مَخْلُوقٍ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا﴾ الآيَةَ قالَ: الرَّجُلُ يَعْبُدُ آلِهَةً شَتّى، فَهَذا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِأهْلِ الأوْثانِ ﴿ورَجُلًا سَلَمًا﴾ يَعْبُدُ إلَهًا واحِدًا ضَرَبَ لِنَفْسِهِ مَثَلًا. وأخْرَجا عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿ورَجُلًا سَلَمًا﴾ قالَ: لَيْسَ لِأحَدٍ فِيهِ شَيْءٌ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والنَّسائِيُّ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والطَّبَرانِيُّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: لَقَدْ لَبِثْنا بُرْهَةً مِن دَهْرِنا، ونَحْنُ نَرى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِينا وفي أهْلِ الكِتابَيْنِ مِن قَبْلِنا. ﴿إنَّكَ مَيِّتٌ وإنَّهم مَيِّتُونَ﴾ الآيَةَ، حَتّى رَأيْتُ بَعْضَنا يَضْرِبُ وُجُوهَ بَعْضٍ بِالسَّيْفِ، فَعَرَفْتُ أنَّها نَزَلَتْ فِينا. وأخْرَجَ نُعَيْمُ بْنُ حَمّادٍ في الفِتَنِ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ نَحْوَهُ بِأطْوَلَ مِنهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أيْضًا قالَ: نَزَلَتْ عَلَيْنا الآيَةُ ﴿ثُمَّ إنَّكم يَوْمَ القِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكم تَخْتَصِمُونَ﴾ وما نَدْرِي ما تَفْسِيرُها حَتّى وقَعَتِ الفِتْنَةُ، فَقُلْنا هَذا الَّذِي وعَدَنا رَبُّنا أنْ نَخْتَصِمَ فِيهِ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وأحْمَدُ وابْنُ مَنِيعٍ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والتِّرْمِذِيُّ (p-١٢٨٤)وصَحَّحَهُ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ وأبُو نُعَيْمٍ في الحِلْيَةِ، والبَيْهَقِيُّ في البَعْثِ والنُّشُورِ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوّامِ قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ ﴿إنَّكَ مَيِّتٌ وإنَّهم مَيِّتُونَ ثُمَّ إنَّكم يَوْمَ القِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكم تَخْتَصِمُونَ﴾ قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ أيُكَرَّرُ عَلَيْنا ما يَكُونُ بَيْنَنا في الدُّنْيا مَعَ خَواصِّ الذُّنُوبِ ؟ قالَ: نَعَمْ لَيُكَرَّرَنَّ عَلَيْكم ذَلِكَ حَتّى يُؤَدّى إلى كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. قالَ الزُّبَيْرُ: فَواللَّهِ إنَّ الأمْرَ لَشَدِيدٌ» . وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ: لَمّا نَزَلَتْ ﴿ثُمَّ إنَّكم يَوْمَ القِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكم تَخْتَصِمُونَ﴾ كُنّا نَقُولُ: رَبُّنا واحِدٌ ودِينُنا واحِدٌ ونَبِيُّنا واحِدٌ فَما هَذِهِ الخُصُومَةُ ؟ فَلَمّا كانَ يَوْمُ صِفِّينَ وشَدَّ بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ بِالسُّيُوفِ، قُلْنا نَعَمْ هو هَذا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في الأسْماءِ والصِّفاتِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿والَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ﴾ يَعْنِي بِـ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ ﴿وصَدَّقَ بِهِ﴾ يَعْنِي بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - ﴿أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴾ يَعْنِي: اتَّقَوُا الشِّرْكَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ والماوَرْدِيُّ في مَعْرِفَةِ الصَّحابَةِ وابْنُ عَساكِرَ مِن طَرِيقِ أُسَيْدِ بْنِ صَفْوانَ، ولَهُ صُحْبَةٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ قالَ: الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ مُحَمَّدٌ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - وصَدَّقَ بِهِ أبُو بَكْرٍ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب