الباحث القرآني

لَمّا ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - خُصُومَةَ المَلائِكَةِ إجْمالًا فِيما تَقَدَّمَ ذَكَرَها هُنا تَفْصِيلًا، فَقالَ: ﴿إذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ﴾ " إذْ " هَذِهِ هي بَدَلٌ مِن ﴿إذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [ص: ٦٩] لِاشْتِمالِ ما في حَيِّزِ هَذِهِ عَلى الخُصُومَةِ. وقِيلَ: هي مَنصُوبَةٌ بِإضْمارِ " اذْكُرْ "، والأوَّلُ أوْلى إذا كانَتْ خُصُومَةُ المَلائِكَةِ في شَأْنِ مَن يَسْتَخْلِفُ في الأرْضِ. وأمّا إذا كانَتْ في غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فالثّانِي أوْلى. ﴿إنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ﴾ أيْ: خالِقٌ فِيما سَيَأْتِي مِنَ الزَّمَنِ ( بَشَرًا ) أيْ: جِسْمًا مِن جِنْسِ البَشَرِ، مَأْخُوذٌ مِن مُباشَرَتِهِ لِلْأرْضِ، أوْ مِن كَوْنِهِ بادِيَ البَشَرَةِ. وقَوْلُهُ: ( مِن طِينٍ ) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هو صِفَةٌ لِبَشَرٍ أوْ بِخالِقٍ. ومَعْنى ( فَإذا سَوَّيْتُهُ ) صَوَّرْتُهُ عَلى صُورَةِ البَشَرِ، و(p-١٢٧٢)صارَتْ أجْزاؤُهُ مُسْتَوِيَةً ( ﴿ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي﴾ ) أيْ: مِنَ الرُّوحِ الَّذِي أمْلِكُهُ ولا يَمْلِكُهُ غَيْرِي. وقِيلَ: هو تَمْثِيلٌ، ولا نَفْخَ ولا مَنفُوخَ فِيهِ. والمُرادُ جَعَلَهُ حَيًّا بَعْدَ أنْ كانَ جَمادًا لا حَياةَ فِيهِ. وقَدْ مَرَّ الكَلامُ في هَذا في سُورَةِ النِّساءِ. ﴿فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ﴾ هو أمْرٌ مِن وقَعَ يَقَعُ، وانْتِصابُ ( ساجِدِينَ ) عَلى الحالِ، والسُّجُودُ هُنا هو سُجُودُ التَّحِيَّةِ لا سُجُودُ العِبادَةِ، وقَدْ مَضى تَحْقِيقُهُ في سُورَةِ البَقَرَةِ. ﴿فَسَجَدَ المَلائِكَةُ﴾ في الكَلامِ حَذْفٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ الفاءُ والتَّقْدِيرُ: فَخَلَقَهُ فَسَوّاهُ ونَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ فَسَجَدَ لَهُ المَلائِكَةُ. وقَوْلُهُ: ( كُلُّهم ) يُفِيدُ أنَّهم سَجَدُوا جَمِيعًا ولَمْ يَبْقَ مِنهم أحَدٌ. وقَوْلُهُ: أجْمَعُونَ يُفِيدُ أنَّهُمُ اجْتَمَعُوا عَلى السُّجُودِ في وقْتٍ واحِدٍ: فالأوَّلُ لِقَصْدِ الإحاطَةِ، والثّانِي لِقَصْدِ الِاجْتِماعِ. قالَ في الكَشّافِ: فَأفادا مَعًا أنَّهم سَجَدُوا عَنْ آخِرِهِمْ ما بَقِيَ مِنهم مَلَكٌ إلّا سَجَدَ، وأنَّهم سَجَدُوا جَمِيعًا في وقْتٍ واحِدٍ غَيْرَ مُتَفَرِّقِينَ في أوْقاتٍ. وقِيلَ: إنَّهُ أكَّدَ بِتَأْكِيدَيْنِ لِلْمُبالَغَةِ في التَّعْمِيمِ. ( إلّا إبْلِيسَ ) الِاسْتِثْناءُ مُتَّصِلٌ عَلى تَقْدِيرِ أنَّهُ كانَ مُتَّصِفًا بِصِفاتِ المَلائِكَةِ داخِلًا في عِدادِهِمْ فَغَلَبُوا عَلَيْهِ، أوْ مُنْقَطِعٌ عَلى ما هو الظّاهِرُ مِن عَدَمِ دُخُولِهِ فِيهِمْ أيْ: لَكِنَّ إبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ أيْ: أنِفَ مِنَ السُّجُودِ جَهْلًا مِنهُ بِأنَّهُ طاعَةٌ لِلَّهِ، " و" كانَ اسْتِكْبارُهُ اسْتِكْبارَ كُفْرٍ، فَلِذَلِكَ كانَ مِنَ الكافِرِينَ أيْ: صارَ مِنهم بِمُخالَفَتِهِ لِأمْرِ اللَّهِ واسْتِكْبارِهِ عَنْ طاعَتِهِ، أوْ كانَ مِنَ الكافِرِينَ في عِلْمِ اللَّهِ - سُبْحانَهُ -، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى هَذا مُسْتَوْفًى في سُورَةِ البَقَرَةِ والأعْرافِ وبَنِي إسْرائِيلَ والكَهْفِ وطه. ثُمَّ إنَّ اللَّهَ - سُبْحانَهُ - سَألَهُ عَنْ سَبَبِ تَرْكِهِ لِلسُّجُودِ الَّذِي أمَرَهُ بِهِ فَ ﴿قالَ يا إبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ أيْ: ما صَرَفَكَ وصَدَّكَ عَنِ السُّجُودِ لِما تَوَلَّيْتُ خَلْقَهُ مِن غَيْرِ واسِطَةٍ، وأضافَ خَلْقَهُ إلى نَفْسِهِ تَكْرِيمًا لَهُ وتَشْرِيفًا، مَعَ أنَّهُ - سُبْحانَهُ - خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ كَما أضافَ إلى نَفْسِهِ الرُّوحَ، والبَيْتَ، والنّاقَةَ، والمَساجِدَ. قالَ مُجاهِدٌ: اليَدُ هُنا بِمَعْنى التَّأْكِيدِ والصِّلَةِ مَجازًا كَقَوْلِهِ: ﴿ويَبْقى وجْهُ رَبِّكَ﴾ [الرحمن: ٢٧] . وقِيلَ: أرادَ بِاليَدِ القُدْرَةَ، يُقالُ: ما لِي بِهَذا الأمْرِ يَدٌ، وما لِي بِهِ يَدانِ أيْ: قُدْرَةٌ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎تَحَمَّلْتُ مِن ذَلْفاءَ ما لَيْسَ لِي يَدٌ ولا لِلْجِبالِ الرّاسِياتِ يَدانِ وقِيلَ: التَّثْنِيَةُ في اليَدِ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّها لَيْسَ بِمَعْنى القُوَّةِ والقُدْرَةِ، بَلْ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّهُما صِفَتانِ مِن صِفاتِ ذاتِهِ - سُبْحانَهُ -، و" ما " في قَوْلِهِ " لِما خَلَقْتُ " هي المَصْدَرِيَّةُ أوِ المَوْصُولَةُ. وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ " لَمّا " بِالتَّشْدِيدِ مَعَ فَتْحِ اللّامِ عَلى أنَّها ظَرْفٌ بِمَعْنى: حِينَ، كَما قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ. وقُرِئَ " بِيَدِي " عَلى الإفْرادِ " أسْتَكْبَرْتَ " قَرَأ الجُمْهُورُ بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ، وهو اسْتِفْهامُ تَوْبِيخٍ وتَقْرِيعٍ و( أمْ ) مُتَّصِلَةٌ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ في رِوايَةٍ عَنْهُ وأهْلُ مَكَّةَ بِألِفِ وصْلٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهامُ مُرادًا فَيُوافِقُ القِراءَةَ الأُولى كَما في قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎تَرُوحُ مِنَ الحَيِّ أمْ تَبْتَكِرْ وقَوْلِ الآخَرِ: ؎بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أمْ بِثَمانِيا ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا مَحْضًا مِن غَيْرِ إرادَةٍ لِلِاسْتِفْهامِ فَتَكُونُ " أمْ " مُنْقَطِعَةً، والمَعْنى: اسْتَكْبَرْتَ عَنِ السُّجُودِ الَّذِي أُمِرْتَ بِهِ بَلْ أ ( كُنْتَ مِنَ العالِينَ ) أيِ: المُسْتَحِقِّينَ لِلتَّرَفُّعِ عَنْ طاعَةِ أمْرِ اللَّهِ المُتَعالِينَ عَنْ ذَلِكَ، وقِيلَ: المَعْنى: اسْتَكْبَرْتَ عَنِ السُّجُودِ الآنَ أمْ لَمْ تَزَلْ مِنَ القَوْمِ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ عَنْ ذَلِكَ. وجُمْلَةُ ﴿قالَ أنا خَيْرٌ مِنهُ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوابُ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ، ادَّعى اللَّعِينُ لِنَفْسِهِ أنَّهُ خَيْرٌ مِن آدَمَ، وفي ضِمْنِ كَلامِهِ هَذا أنَّ سُجُودَ الفاضِلِ لِلْمَفْضُولِ لا يَحْسُنُ. ثُمَّ عَلَّلَ ما ادَّعاهُ مِن كَوْنِهِ خَيْرًا مِنهُ بِقَوْلِهِ: ﴿خَلَقْتَنِي مِن نارٍ وخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ وفي زَعْمِهِ أنَّ عُنْصُرَ النّارِ أشْرَفُ مِن عُنْصُرِ الطِّينِ، وذَهَبَ عَنْهُ أنَّ النّارَ إنَّما هي بِمَنزِلَةِ الخادِمِ لِعُنْصُرِ الطِّينِ إنِ احْتِيجَ إلَيْها اسْتُدْعِيَتْ كَما يُسْتَدْعى الخادِمُ وإنِ اسْتُغْنِيَ عَنْها طُرِدَتْ، وأيْضًا فالطِّينُ يَسْتَوْلِي عَلى النّارِ فَيُطْفِئُها، وأيْضًا فَهي لا تُوجَدُ إلّا بِما أصْلُهُ مِن عُنْصُرِ الأرْضِ، وعَلى كُلِّ حالٍ فَقَدْ شُرِّفَ آدَمُ بِشَرَفٍ وكُرِّمَ بِكَرامَةٍ لا يُوازِيها شَيْءٌ مِن شَرَفِ العَناصِرِ، وذَلِكَ أنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ بِيَدَيْهِ ونَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ، والجَواهِرُ في أنْفُسِها مُتَجانِسَةٌ، وإنَّما تُشَرَّفُ بِعارِضٍ مِن عَوارِضِها. وجُمْلَةُ ﴿قالَ فاخْرُجْ مِنها﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ كالَّتِي قَبْلَها: أيْ: فاخْرُجْ مِنَ الجَنَّةِ أوْ مِن زُمْرَةِ المَلائِكَةِ، ثُمَّ عَلَّلَ أمْرَهُ بِالخُرُوجِ بِقَوْلِهِ: فَإنَّكَ رَجِيمٌ أيْ: مَرْجُومٌ بِالكَواكِبِ مَطْرُودٌ مِن كُلِّ خَيْرٍ. ﴿وإنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إلى يَوْمِ الدِّينِ﴾ أيْ: طَرْدِي لَكَ عَنِ الرَّحْمَةِ وإبْعادِي لَكَ مِنها، ويَوْمُ الدِّينِ يَوْمُ الجَزاءِ، فَأخْبَرَ - سُبْحانَهُ - وتَعالى أنَّ تِلْكَ اللُّغَةَ مُسْتَمِرَّةٌ لَهُ دائِمَةٌ عَلَيْهِ ما دامَتِ الدُّنْيا، ثُمَّ في الآخِرَةِ يَلْقى مِن أنْواعِ عَذابِ اللَّهِ وعُقُوبَتِهِ وسُخْطِهِ ما هو بِهِ حَقِيقٌ، ولَيْسَ المُرادُ أنَّ اللَّعْنَةَ تَزُولُ عَنْهُ في الآخِرَةِ، بَلْ هو مَلْعُونٌ أبَدًا، ولَكِنْ لَمّا كانَ لَهُ في الآخِرَةِ ما يُنْسى عِنْدَهُ اللَّعْنَةُ ويَذْهَلُ عِنْدَ الوُقُوعِ فِيهِ مِنها صارَتْ كَأنَّها لَمْ تَكُنْ بِجَنْبِ ما يَكُونُ فِيهِ. ﴿قالَ رَبِّ فَأنْظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ كَما تَقَدَّمَ فِيها قَبْلَها أيْ: أمْهِلْنِي ولا تُعاجِلْنِي إلى غايَةٍ هي يَوْمُ يُبْعَثُونَ: يَعْنِي آدَمَ وذُرِّيَّتَهُ. ﴿قالَ فَإنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ﴾ أيِ: المُمْهَلِينَ. ﴿إلى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ﴾ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ لِفَناءِ الخَلائِقِ، وهو عِنْدَ النَّفْخَةِ الآخِرَةِ، وقِيلَ: هو النَّفْخَةُ الأُولى. قِيلَ: إنَّما طَلَبَ إبْلِيسُ الإنْظارَ إلى يَوْمِ البَعْثِ؛ لِيَتَخَلَّصَ مِنَ المَوْتِ، لِأنَّهُ إذا أُنْظِرَ إلى يَوْمِ البَعْثِ لَمْ يَمُتْ قَبْلَ البَعْثِ، وعِنْدَ مَجِيءِ البَعْثِ لا يَمُوتُ، فَحِينَئِذٍ يَتَخَلَّصُ مِنَ المَوْتِ. فَأُجِيبَ بِما يُبْطِلُ مُرادَهُ، ويَنْقُضُ عَلَيْهِ مَقْصِدَهُ، وهو الإنْظارُ إلى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ وهو الَّذِي يَعْلَمُهُ اللَّهُ ولا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ. فَلَمّا سَمِعَ اللَّعِينُ إنْظارَ اللَّهِ لَهُ إلى ذَلِكَ الوَقْتِ ﴿قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهم أجْمَعِينَ﴾ فَأقْسَمَ بِعِزَّةِ اللَّهِ أنَّهُ يَضِلُّ بَنِي آدَمَ بِتَزْيِينِ الشَّهَواتِ لَهم، وإدْخالِ الشُّبَهِ عَلَيْهِمْ حَتّى يَصِيرُوا غاوِينَ جَمِيعًا. ثُمَّ لَمّا عَلِمَ أنَّ كَيْدَهُ لا يَنْجَعُ إلّا في أتْباعِهِ وأحْزابِهِ مِن أهْلِ الكُفْرِ (p-١٢٧٣)والمَعاصِي، اسْتَثْنى مَن لا يَقْدِرُ عَلى إضْلالِهِ ولا يَجِدُ السَّبِيلَ إلى إغْوائِهِ فَقالَ: ﴿إلّا عِبادَكَ مِنهُمُ المُخْلَصِينَ﴾ أيِ: الَّذِينَ أخْلَصْتَهم لِطاعَتِكَ وعَصَمْتَهم مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآياتِ في سُورَةِ الحِجْرِ وغَيْرِها. وقَدْ أقْسَمَ هاهُنا بِعِزَّةِ اللَّهِ، وأقْسَمَ في مَوْضِعٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ ﴿فَبِما أغْوَيْتَنِي﴾ [الأعراف: ١٦] ولا تَنافِيَ بَيْنَ القَسَمَيْنِ فَإنَّ إغْواءَهُ إيّاهُ مِن آثارِ عِزَّتِهِ - سُبْحانَهُ - . وجُمْلَةُ ﴿قالَ فالحَقُّ والحَقَّ أقُولُ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ كالجُمَلِ الَّتِي قَبْلَها. قَرَأ الجُمْهُورُ بِنَصْبِ " الحَقَّ " في المَوْضِعَيْنِ عَلى أنَّهُ مُقْسَمٌ بِهِ حُذِفَ مِنهُ حَرْفُ القَسَمِ فانْتَصَبَ، أوْ هُما مَنصُوبانِ عَلى الإغْراءِ أيِ: الزَمُوا الحَقَّ، أوْ مَصْدَرانِ مُؤَكِّدانِ لِمَضْمُونٍ. قَوْلُهُ: ﴿لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ﴾ وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ، والأعْمَشُ وعاصِمٌ، وحَمْزَةُ بِرَفْعِ الأوَّلِ ونَصْبِ الثّانِي، فَرَفْعُ الأوَّلِ عَلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ مُقَدَّرٌ أيْ: فالحَقُّ مِنِّي، أوْ فالحَقُّ أنا، أوْ خَبَرُهُ لَأمْلَأنَّ، أوْ هو خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وأمّا نَصْبُ الثّانِي فَبِالفِعْلِ المَذْكُورِ بَعْدَهُ أيْ: وأنا أقُولُ الحَقَّ، وأجازَ الفَرّاءُ وأبُو عُبَيْدٍ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا بِمَعْنى: حَقًّا لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ. واعْتُرِضَ عَلَيْهِما بِأنَّ ما بَعْدَ اللّامِ مَقْطُوعٌ عَمّا قَبْلَها. ورُوِيَ عَنْ سِيبَوَيْهِ والفَرّاءِ أيْضًا أنَّ المَعْنى: فالحَقَّ أنَّ إمْلاءَ جَهَنَّمَ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ أنَّهُما قَرَأا بِرَفْعِها، فَرَفْعُ الأوَّلِ عَلى ما تَقَدَّمَ، ورَفْعُ الثّانِي بِالِابْتِداءِ، وخَبَرُهُ الجُمْلَةُ المَذْكُورَةُ بَعْدَهُ، والعائِدُ مَحْذُوفٌ. وقَرَأ ابْنُ السَّمَيْفَعِ وطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ بِخَفْضِهِما عَلى تَقْدِيرِ حَرْفِ القَسَمِ. قالَ الفَرّاءُ: كَما يَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ -: لَأفْعَلَنَّ كَذا، وغَلَّطَهُ أبُو العَبّاسِ ثَعْلَبٌ وقالَ: لا يَجُوزُ الخَفْضُ بِحَرْفٍ مُضْمَرٍ، وجُمْلَةُ لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ جَوابُ القَسَمِ عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ، وجُمْلَةُ ﴿والحَقَّ أقُولُ﴾ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ القَسَمِ وجَوابِهِ، ومَعْنى مِنكَ أيْ: مِن جِنْسِكَ مِنَ الشَّياطِينِ ﴿ومِمَّنْ تَبِعَكَ مِنهُمْ﴾ أيْ: مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ فَأطاعُوكَ إذْ دَعَوْتَهم إلى الضَّلالِ والغَوايَةِ وأجْمَعِينَ تَأْكِيدٌ لِلْمَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أيْ: لَأمْلَأنَّها مِنَ الشَّياطِينِ وأتْباعِهِمْ أجْمَعِينَ. ثُمَّ أمَرَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - رَسُولَهُ أنْ يُخْبِرَهم بِأنَّهُ إنَّما يُرِيدُ بِالدَّعْوَةِ إلى اللَّهِ امْتِثالَ أمْرِهِ لا عَرَضَ الدُّنْيا الزّائِلَ، فَقالَ: ﴿قُلْ ما أسْألُكم عَلَيْهِ مِن أجْرٍ﴾ والضَّمِيرُ في ( عَلَيْهِ ) راجِعٌ إلى تَبْلِيغِ الوَحْيِ ولَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ، ولَكِنَّهُ مَفْهُومٌ مِنَ السِّياقِ. وقِيلَ: هو عائِدٌ إلى ما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ: ﴿أؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنا﴾ [ص: ٨] وقِيلَ: الضَّمِيرُ راجِعٌ إلى القُرْآنِ، وقِيلَ: إلى الدُّعاءِ إلى اللَّهِ عَلى العُمُومِ، فَيَشْمَلُ القُرْآنَ وغَيْرَهُ مِنَ الوَحْيِ ومِن قَوْلِ الرَّسُولِ لِلَّهِ. والمَعْنى ما أطْلُبُ مِنكم مِن جُعْلٍ تُعْطُونِيهِ عَلَيْهِ ﴿وما أنا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ﴾ حَتّى أقُولَ ما لا أعْلَمُ إذْ أدْعُوكم إلى غَيْرِ ما أمَرَنِي اللَّهُ بِالدَّعْوَةِ إلَيْهِ، والتَّكَلُّفُ: التَّصَنُّعُ. ﴿إنْ هو إلّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ﴾ أيْ: ما هَذا القُرْآنُ، أوِ الوَحْيُ، أوْ ما أدْعُوكم إلَيْهِ إلّا ذِكْرٌ مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - لِلْجِنِّ والإنْسِ. قالَ الأعْمَشُ: ما القُرْآنُ إلّا مَوْعِظَةٌ لِلْخَلْقِ أجْمَعِينَ. ولَتَعْلَمُنَّ أيُّها الكُفّارُ نَبَأهُ أيْ: ما أنْبَأ عَنْهُ، وأخْبَرَ بِهِ مِنَ الدُّعاءِ إلى اللَّهِ وتَوْحِيدِهِ، والتَّرْغِيبِ إلى الجَنَّةِ، والتَّحْذِيرِ مِنَ النّارِ بَعْدَ حِينٍ قالَ قَتادَةُ والزَّجّاجُ والفَرّاءُ: بَعْدَ المَوْتِ. وقالَ عِكْرِمَةُ وابْنُ زَيْدٍ: يَوْمَ القِيامَةِ. وقالَ الكَلْبِيُّ: مَن بَقِيَ عَلِمَ ذَلِكَ لَمّا ظَهَرَ أمْرُهُ وعَلا، ومَن ماتَ عِلْمُهُ بَعْدَ المَوْتِ. وقالَ السُّدِّيُّ: وذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿إذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ أنَّ الخُصُومَةَ هي: إذْ قالَ رَبُّكَ إلَخْ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ الشَّيْخِ في العَظَمَةِ، والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: خَلَقَ اللَّهُ أرْبَعًا بِيَدِهِ: العَرْشَ، وجَنَّةَ عَدْنٍ، والقَلَمَ، وآدَمَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا في صِفَةِ الجَنَّةِ، وأبُو الشَّيْخِ في العَظَمَةِ، والبَيْهَقِيُّ في الأسْماءِ والصِّفاتِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحارِثِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «خَلَقَ اللَّهُ ثَلاثَةَ أشْياءَ بِيَدِهِ: خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وكَتَبَ التَّوْراةَ بِيَدِهِ، وغَرَسَ الفِرْدَوْسَ بِيَدِهِ» . وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿فالحَقُّ والحَقَّ أقُولُ﴾ قالَ: أنا الحَقُّ أقُولُ الحَقَّ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿قُلْ ما أسْألُكم عَلَيْهِ مِن أجْرٍ﴾ قالَ: قُلْ يا مُحَمَّدُ ﴿ما أسْألُكم عَلَيْهِ﴾ ما أدْعُوكم إلَيْهِ ﴿مِن أجْرٍ﴾ عَرَضِ دُنْيا. وفِي البُخارِيِّ، ومُسْلِمٍ وغَيْرِهِما عَنْ مَسْرُوقٍ قالَ: بَيْنَما رَجُلٌ يُحَدِّثُ في المَسْجِدِ، فَقالَ فِيما يَقُولُ: ﴿يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ﴾ [الدخان: ١٠] قالَ: دُخانٌ يَكُونُ يَوْمَ القِيامَةِ يَأْخُذُ بِأسْماعِ المُنافِقِينَ وأبْصارِهِمْ، ويَأْخُذُ المُؤْمِنِينَ كَهَيْئَةِ الزُّكامِ، قالَ: قُمْنا حَتّى دَخَلْنا عَلى عَبْدِ اللَّهِ وهو في بَيْتِهِ وكانَ مُتَّكِئًا فاسْتَوى قاعِدًا فَقالَ: يا أيُّها النّاسُ مَن عَلِمَ مِنكم عِلْمًا فَلْيَقُلْ بِهِ، ومَن لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلِ: اللَّهُ أعْلَمُ، فَإنَّ مِنَ العِلْمِ أنْ يَقُولَ العالِمُ لِما لا يَعْلَمُ: اللَّهُ أعْلَمُ، قالَ اللَّهُ - تَعالى - لِرَسُولِهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - ﴿قُلْ ما أسْألُكم عَلَيْهِ مِن أجْرٍ وما أنا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ﴾ . وأخْرَجَ البُخارِيُّ عَنْ عُمَرَ قالَ: نُهِينا عَنِ التَّكَلُّفِ. وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ والحاكِمُ، والبَيْهَقِيُّ عَنْ سَلْمانَ قالَ: «نَهانا رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - أنْ نَتَكَلَّفَ لِلضَّيْفِ» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب