لَمّا ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - أحْوالَ الكُفّارِ المُعاصِرِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - ذَكَرَ أمْثالَهم مِمَّنْ تَقَدَّمَهم وعَمِلَ عَمَلَهم مِنَ الكُفْرِ والتَّكْذِيبِ، فَقالَ: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهم قَوْمُ نُوحٍ وعادٌ وفِرْعَوْنُ ذُو الأوْتادِ﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: كانَتْ لَهُ أوْتادٌ يُعَذِّبُ بِها النّاسَ، وذَلِكَ أنَّهُ كانَ إذا غَضِبَ عَلى أحَدٍ وتَدَ يَدَيْهِ ورِجْلَيْهِ ورَأْسَهُ عَلى الأرْضِ.
وقِيلَ: المُرادُ بِالأوْتادِ: الجُمُوعُ والجُنُودُ الكَثِيرَةُ، يَعْنِي أنَّهم كانُوا يُقَوُّونَ أمْرَهُ ويَشُدُّونَ سُلْطانَهُ كَما تُقَوِّي الأوْتادُ ما ضُرِبَتْ عَلَيْهِ، فالكَلامُ خارِجٌ مَخْرَجَ الِاسْتِعارَةِ عَلى هَذا.
قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: العَرَبُ تَقُولُ هم في عِزٍّ ثابِتِ الأوْتادِ، ومُلْكٍ ثابِتِ الأوْتادِ، يُرِيدُونَ مُلْكًا دائِمًا شَدِيدًا، وأصْلُ هَذا أنَّ البَيْتَ مِن بُيُوتِ الشِّعْرِ إنَّما يُثَبَّتُ ويُقَوَّمُ بِالأوْتادِ.
وقِيلَ: المُرادُ بِالأوْتادِ هُنا البِناءُ المُحْكَمُ أيْ: وفِرْعَوْنُ ذُو الأبْنِيَةِ المُحْكَمَةِ.
قالَ الضَّحّاكُ: والبُنْيانُ يُسَمّى أوْتادًا، والأوْتادُ جَمْعُ وتِدٍ أفْصَحُها فَتْحُ الواوِ وكَسْرُ التّاءِ، ويُقالُ: وتَدٌ بِفَتْحِها ووَدٌّ بِإدْغامِ التّاءِ في الدّالِ ووَدَتٌ.
قالَ الأصْمَعِيُّ ويُقالُ: وتِدٌ واتِدٌ مِثْلُ شُغْلٍ شاغِلٍ وأنْشَدَ:
؎لاقَتْ عَلى الماءِ جُذَيْلًا واتِدًا ولَمْ يَكُنْ يُخْلِفُها المَواعِدا
﴿وثَمُودُ وقَوْمُ لُوطٍ وأصْحابُ الأيْكَةِ﴾ الأيْكَةُ الغَيْضَةُ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُها واخْتِلافُ القُرّاءِ في قِراءَتِها في سُورَةِ الشُّعَراءِ، ومَعْنى ﴿أُولَئِكَ الأحْزابُ﴾ أنَّهُمُ المَوْصُوفُونَ بِالقُوَّةِ والكَثْرَةِ كَقَوْلِهِمْ: فُلانٌ هو الرَّجُلُ.
وقُرَيْشٌ وإنْ كانُوا حِزْبًا كَما قالَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - فِيما تَقَدَّمَ ﴿جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأحْزابِ﴾ [ص: ١١] ولَكِنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ قَصَّهُمُ اللَّهُ عَلَيْنا مِنَ الأُمَمِ السّالِفَةِ هم أكْثَرُ مِنهم عَدَدًا، وأقْوى أبْدانًا، وأوْسَعُ أمْوالًا وأعْمارًا، وهَذِهِ الجُمْلَةُ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ خَبَرًا، والمُبْتَدَأُ قَوْلُهُ وعادٌ كَذا قالَ أبُو البَقاءِ وهو ضَعِيفٌ، بَلِ الظّاهِرُ أنَّ عادٌ وما بَعْدَهُ مَعْطُوفاتٌ عَلى قَوْمِ نُوحٍ، والأوْلى أنْ تَكُونَ هَذِهِ الجُمْلَةُ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أوْ بَدَلًا مِنَ الأُمَمِ المَذْكُورَةِ.
﴿إنْ كُلٌّ إلّا كَذَّبَ الرُّسُلَ﴾ ( إنْ ) هي النّافِيَةُ، والمَعْنى: ما كَلُّ حِزْبٍ مِن هَذِهِ الأحْزابِ إلّا كَذَّبَ الرُّسُلَ، لِأنَّ تَكْذِيبَ الحِزْبِ لِرَسُولِهِ المُرْسَلِ إلَيْهِ تَكْذِيبٌ لِجَمِيعِ الرُّسُلِ أوْ هو مِن مُقابَلَةِ الجَمْعِ بِالجَمْعِ، والمُرادُ تَكْذِيبُ كُلِّ حِزْبٍ لِرَسُولِهِ، والِاسْتِثْناءُ مُفَرَّغٌ مِن أعَمِّ الأحْوالِ أيْ: كُلُّ أحَدٍ مِنَ الأحْزابِ في جَمِيعِ أحْوالِهِ إلّا وقَعَ مِنهُ تَكْذِيبُ الرُّسُلِ ﴿فَحَقَّ عِقابِ﴾ أيْ: فَحَقَّ عَلَيْهِمْ عِقابِي بِتَكْذِيبِهِمْ، ومَعْنى حَقَّ: ثَبَتَ ووَجَبَ، وإنْ تَأخَّرَ فَكَأنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ، وكُلُّ ما هو آتٍ قَرِيبٌ.
قَرَأ يَعْقُوبُ بِإثْباتِ الياءِ في ( عِقابِ ) وحَذَفَها الباقُونَ مُطابَقَةً لِرُءُوسِ الآيِ.
﴿وما يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إلّا صَيْحَةً واحِدَةً﴾ أيْ: ما يَنْتَظِرُونَ إلّا صَيْحَةً، وهي النَّفْخَةُ الكائِنَةُ عِنْدَ قِيامِ السّاعَةِ.
وقِيلَ: هي النَّفْخَةُ الثّانِيَةُ، وعَلى الأوَّلِ المُرادُ مَن عاصَرَ نَبِيَّنا - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - مِنَ الكُفّارِ، وعَلى الثّانِي المُرادُ كُفّارُ الأُمَمِ المَذْكُورَةِ أيْ: لَيْسَ بَيْنَهم وبَيْنَ حُلُولِ ما أعَدَّ اللَّهُ لَهم مِن عَذابِ النّارِ إلّا أنْ يُنْفَخَ في الصُّورِ النَّفْخَةُ الثّانِيَةُ.
وقِيلَ: المُرادُ بِالصَّيْحَةِ عَذابٌ يَفْجَؤُهم في الدُّنْيا كَما قالَ الشّاعِرُ:
؎صاحَ الزَّمانُ بِآلِ بَرْمَكَ صَيْحَةً ∗∗∗ خَرُّوا لِشِدَّتِها عَلى الأذْقانِ
وجُمْلَةُ ﴿ما لَها مِن فَواقٍ﴾ في مَحَلِّ نَصْبِ صِفَةٍ لِ: ( صَيْحَةً ) . قالَ الزَّجّاجُ: فَواقٍ وفُواقٍ بِفَتْحِ الفاءِ وضَمِّها أيْ: ما لَها مِن رُجُوعٍ، والفَواقُ ما بَيْنَ حَلْبَتَيِ النّاقَةِ، وهو مُشْتَقٌّ مِنَ الرُّجُوعِ أيْضًا، لِأنَّهُ يَعُودُ اللَّبَنُ إلى الضَّرْعِ بَيْنَ الحَلْبَتَيْنِ، وأفاقَ مِن مَرَضِهِ أيْ: رَجَعَ إلى الصِّحَّةِ، ولِهَذا قالَ مُجاهِدٌ ومُقاتِلٌ: إنَّ الفَواقَ الرُّجُوعُ.
وقالَ قَتادَةُ ما لَها مِن مَثْنَوِيَّةٍ.
وقالَ السُّدِّيُّ: ما لَها مِن إفاقَةٍ، وقِيلَ: ما لَها مِن مَرَدٍّ.
قالَ الجَوْهَرِيُّ: ما لَها مِن نَظْرَةٍ وراحَةٍ وإفاقَةٍ، ومَعْنى الآيَةِ أنَّ تِلْكَ الصَّيْحَةَ هي مِيعادُ عَذابِهِمْ، فَإذا جاءَتْ لَمْ تَرْجِعْ ولا تُرَدُّ عَنْهم ولا تُصْرَفُ مِنهم ولا تَتَوَقَّفُ مِقْدارَ فَواقِ ناقَةٍ، وهي ما بَيْنَ حَلْبَتَيِ الحالِبِ لَها، ومِنهُ قَوْلُ الأعْشى:
؎حَتّى إذا فِيقَةٌ في ضَرْعِها اجْتَمَعَتْ ∗∗∗ جاءَتْ لِتُرْضِعَ شِقَّ النَّفْسِ لَوْ رَضَعا
والفِيقَةُ اسْمُ اللَّبَنِ الَّذِي يَجْتَمِعُ بَيْنَ الحَلْبَتَيْنِ، وجَمْعُها فِيقٌ وأفْواقٌ.
قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ " ما لَها مِن فَواقٍ " بِضَمِّ الفاءِ وقَرَأ الباقُونَ بِفَتْحِها.
قالَ الفَرّاءُ وأبُو عُبَيْدَةَ: الفَواقُ بِفَتْحِ الفاءِ الرّاحَةُ أيْ: لا يُفِيقُونَ فِيها كَما يُفِيقُ المَرِيضُ والمَغْشِيُّ عَلَيْهِ، وبِالضَّمِّ الِانْتِظارُ.
﴿وقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الحِسابِ﴾ لَمّا سَمِعُوا ما تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ العَذابِ قالُوا هَذِهِ المَقالَةَ اسْتِهْزاءً وسُخْرِيَةً، والقِطُّ في اللُّغَةِ النَّصِيبُ، مِنَ القَطِّ، وهو القَطْعُ، وبِهَذا قالَ قَتادَةُ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
قالَ الفَرّاءُ: القِطُّ في كَلامِ العَرَبِ الحَظُّ والنَّصِيبُ، (p-١٢٥٩)ومِنهُ قِيلَ: لِلصَّكِّ قِطٌّ.
قالَ أبُو عُبَيْدَةَ والكِسائِيُّ: القِطُّ الكِتابُ بِالجَوائِزِ، والجَمْعُ القُطُوطُ، ومِنهُ قَوْلُ الأعْشى:
؎ولا المَلِكُ النُّعْمانُ يَوْمَ لَقِيتُهُ ∗∗∗ بِغِبْطَتِهِ يُعْطِي القُطُوطَ ويَأْفِقُ
ومَعْنى يَأْفِقُ يُصْلِحُ، ومَعْنى الآيَةِ سُؤالُهم لِرَبِّهِمْ أنْ يُعَجِّلَ لَهم نَصِيبَهم وحَظَّهم مِنَ العَذابِ، وهو مِثْلُ قَوْلِهِ﴿ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالعَذابِ﴾ [ الحَجِّ: ٤٧، والعَنْكَبُوتِ: ٥٣ ] .
وقالَ: السُّدِّيُّ: سَألُوا رَبَّهم أنْ يُمَثِّلَ لَهم مَنازِلَهم مِنَ الجَنَّةِ لِيَعْلَمُوا حَقِيقَةَ ما يُوعَدُونَ بِهِ وقالَ إسْماعِيلُ بْنُ أبِي خالِدٍ: المَعْنى عَجِّلْ لَنا أرْزاقَنا، وبِهِ قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ والسُّدِّيُّ.
وقالَ أبُو العالِيَةِ والكَلْبِيُّ ومُقاتِلٌ: لَمّا نَزَلَ ﴿فَأمّا مَن أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ [ الحاقَّةِ: ١٩، والِانْشِقاقِ: ٧ ] ﴿وأمّا مَن أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ﴾ [الحاقة: ٢٥] قالَتْ قُرَيْشٌ: زَعَمْتَ يا مُحَمَّدُ أنّا نُؤْتى كِتابَنا بِشِمالِنا فَعَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الحِسابِ.
ثُمَّ أمَرَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - نَبِيَّهُ أنْ يَصْبِرَ عَلى ما يَسْمَعُهُ مِن أقْوالِهِمْ فَقالَ ﴿اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ﴾ مِن أقْوالِهِمُ الباطِلَةِ الَّتِي هَذا القَوْلُ المَحْكِيُّ عَنْهم مِن جُمْلَتِها، وهَذِهِ الآيَةُ مَنسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ ﴿واذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذا الأيْدِ﴾ لَمّا فَرَغَ مِن ذِكْرِ قُرُونِ الضَّلالَةِ، وأُمَمِ الكُفْرِ والتَّكْذِيبِ، وأمَرَ نَبِيَّهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - بِالصَّبْرِ عَلى ما يَسْمَعُهُ زادَ في تَسْلِيَتِهِ بِذِكْرِ قِصَّةِ داوُدَ وما بَعْدَها.
ومَعْنى ﴿واذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ﴾ اذْكُرْ قِصَّتَهُ فَإنَّكَ تَجِدُ فِيها ما تَتَسَلّى بِهِ، والأيْدُ: القُوَّةُ ومِنهُ رَجُلٌ أيْدٌ أيْ: قَوِيٌّ، وتَأيَّدَ الشَّيْءُ: تَقَوّى والمُرادُ ما كانَ فِيهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِنَ القُوَّةِ عَلى العِبادَةِ.
قالَ الزَّجّاجُ: وكانَتْ قُوَّةُ داوُدَ عَلى العِبادَةِ أتَمَّ قُوَّةٍ، ومِن قُوَّتِهِ ما أخْبَرَنا بِهِ نَبِيُّنا - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - أنَّهُ كانَ يَصُومُ يَوْمًا ويُفْطِرُ يَوْمًا، وكانَ يُصَلِّي نِصْفَ اللَّيْلِ وكانَ لا يَفِرُّ إذا لاقى العَدُوَّ، وجُمْلَةُ ﴿إنَّهُ أوّابٌ﴾ تَعْلِيلٌ لِكَوْنِهِ ذا الأيْدِ، والأوّابُ: الرَّجّاعُ عَنْ كُلِّ ما يَكْرَهُهُ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - إلى ما يُحِبُّهُ، ولا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ إلّا مَن كانَ قَوِيًّا في دِينِهِ.
وقِيلَ: مَعْناهُ كُلَّما ذَكَرَ ذَنْبَهُ اسْتَغْفَرَ مِنهُ وتابَ عَنْهُ، وهَذا داخِلٌ تَحْتَ المَعْنى الأوَّلِ، يُقالُ: آبَ يَئُوبُ: إذا رَجَعَ.
﴿إنّا سَخَّرْنا الجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالعَشِيِّ والإشْراقِ﴾ أيْ: يُقَدِّسْنَ اللَّهَ - سُبْحانَهُ - ويُنَزِّهْنَهُ عَمّا لا يَلِيقُ بِهِ.
وجُمْلَةُ يُسَبِّحْنَ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ، وفي هَذا بَيانُ ما أعْطاهُ اللَّهُ مِنَ البُرْهانِ والمُعْجِزَةِ، وهو تَسْبِيحُ الجِبالِ مَعَهُ.
قالَ مُقاتِلٌ: كانَ داوُدُ إذا ذَكَرَ اللَّهَ ذَكَرَتِ الجِبالُ مَعَهُ، وكانَ يَفْقَهُ تَسْبِيحَ الجِبالِ.
وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ: أُوتِيَ داوُدُ مِن حُسْنِ الصَّوْتِ ما يَكُونُ لَهُ في الجِبالِ دَوِيٌّ حَسَنٌ، فَهَذا مَعْنى تَسْبِيحِ الجِبالِ، والأوَّلُ أوْلى.
وقِيلَ: مَعْنى يُسَبِّحْنَ يُصَلِّينَ، ومَعَهُ مُتَعَلِّقٌ بِـ: ( سَخَّرْنا ) .
ومَعْنى ﴿بِالعَشِيِّ والإشْراقِ﴾ قالَ الكَلْبِيُّ: غُدْوَةً وعَشِيَّةً، يُقالُ: أشْرَقَتِ الشَّمْسُ: إذا أضاءَتْ، وذَلِكَ وقْتَ الضُّحى. وأمّا شُرُوقُها فَطُلُوعُها. قالَ الزَّجّاجُ: شَرَقَتِ الشَّمْسُ: إذا طَلَعَتْ، وأشْرَقَتْ: إذا أضاءَتْ.
﴿والطَّيْرَ مَحْشُورَةً﴾ مَعْطُوفٌ عَلى الجِبالِ، وانْتِصابُ ( مَحْشُورَةً ) عَلى الحالِ مِنَ الطَّيْرِ أيْ: وسَخَّرْنا الطَّيْرَ حالَ كَوْنِها مَحْشُورَةً أيْ: مَجْمُوعَةً إلَيْهِ تُسَبِّحُ اللَّهَ مَعَهُ.
قِيلَ: كانَتْ تَجْمَعُها إلَيْهِ المَلائِكَةُ. وقِيلَ: كانَتْ تَجْمَعُها الرِّيحُ. ﴿كُلٌّ لَهُ أوّابٌ﴾ أيْ: كُلُّ واحِدٍ مِن داوُدَ والجِبالِ والطَّيْرِ رَجّاعٌ إلى طاعَةِ اللَّهِ وأمْرِهِ، والضَّمِيرُ في ( لَهُ ) راجِعٌ إلى اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - .
وقِيلَ: الضَّمِيرُ لِ ( داوُدَ ) أيْ: لِأجْلِ تَسْبِيحِ داوُدَ مُسَبِّحٌ، فَوَضَعَ ( أوّابٌ ) مَوْضِعَ مُسَبِّحٍ، والأوَّلُ أوْلى.
وقَدْ قَدَّمْنا أنَّ الأوّابَ: الكَثِيرُ الرُّجُوعِ إلى اللَّهِ - سُبْحانَهُ - .
﴿وشَدَدْنا مُلْكَهُ﴾ قَوَّيْناهُ وثَبَّتْناهُ بِالنَّصْرِ في المَواطِنِ عَلى أعْدائِهِ وإلْقاءِ الرُّعْبِ مِنهُ في قُلُوبِهِمْ.
وقِيلَ: بِكَثْرَةِ الجُنُودِ ﴿وآتَيْناهُ الحِكْمَةَ وفَصْلَ الخِطابِ﴾ المُرادُ بِالحِكْمَةِ النُّبُوَّةُ والمَعْرِفَةُ بِكُلِّ ما يَحْكُمُ بِهِ.
وقالَ مُقاتِلٌ: الفَهْمُ والعِلْمُ. وقالَ مُجاهِدٌ: العَدْلُ. وقالَ أبُو العالِيَةِ: العِلْمُ بِكِتابِ اللَّهِ. وقالَ شُرَيْحٌ: السُّنَّةُ.
والمُرادُ بِـ ( فَصْلَ الخِطابِ ) الفَصْلُ في القَضاءِ وبِهِ قالَ الحَسَنُ والكَلْبِيُّ ومُقاتِلٌ.
وحَكى الواحِدِيُّ عَنِ الأكْثَرِ أنَّ فَصْلَ الخِطابِ الشُّهُودُ والإيمانُ لِأنَّها إنَّما تَنْقَطِعُ الخُصُومَةُ بِهَذا.
وقِيلَ: هو الإيجازُ بِجَعْلِ المَعْنى الكَثِيرِ في اللَّفْظِ القَلِيلِ.
﴿وهَلْ أتاكَ نَبَأُ الخَصْمِ إذْ تَسَوَّرُوا المِحْرابَ﴾ لَمّا مَدَحَهُ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - بِما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أرْدَفَ ذَلِكَ بِذِكْرِ هَذِهِ القِصَّةِ الواقِعَةِ لِما فِيها مِنَ الأخْبارِ العَجِيبَةِ.
قالَ مُقاتِلٌ: بَعَثَ اللَّهُ إلى داوُدَ مَلَكَيْنِ، جِبْرِيلَ ومِيكائِيلَ لِيُنَبِّهَهُ عَلى التَّوْبَةِ، فَأتَياهُ وهو في مِحْرابِهِ.
قالَ النَّحّاسُ: ولا خِلافَ بَيْنَ أهْلِ التَّفْسِيرِ أنَّ المُرادَ بِالخَصْمِ هاهُنا المَلَكانِ، والخَصْمُ مَصْدَرٌ يَقَعُ عَلى الواحِدِ والِاثْنَيْنِ والجَماعَةِ.
ومَعْنى ﴿تَسَوَّرُوا المِحْرابَ﴾ أتَوْهُ مِن أعْلى سُورِهِ ونَزَلُوا إلَيْهِ، والسُّورُ: الحائِطُ المُرْتَفِعُ، وجاءَ بِلَفْظِ الجَمْعِ في ( تَسَوَّرُوا ) مَعَ كَوْنِهِمُ اثْنَيْنِ نَظَرًا إلى ما يَحْتَمِلُهُ لَفْظُ الخَصْمِ مِنَ الجَمْعِ.
ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎وخَصْمٍ غِضابٍ قَدْ نَفَضْتُ لِحاهُمُ ∗∗∗ كَنَفْضِ البَراذِينِ العِرابِ المَخالِيا
والمِحْرابُ: الغُرْفَةُ، لِأنَّهم تَسَوَّرُوا عَلَيْهِ وهو فِيها، كَذا قالَ يَحْيى بْنُ سَلامٍ.
وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: إنَّهُ صَدْرُ المَجْلِسِ ومِنهُ مِحْرابُ المَسْجِدِ.
وقِيلَ: إنَّهُما كانا إنْسِيَّيْنِ ولَمْ يَكُونا مَلَكَيْنِ.
والعامِلُ في ( إذْ ) في قَوْلِهِ: ﴿إذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ﴾ النَّبَأُ أيْ: هَلْ أتاكَ الخَبَرُ الواقِعُ في وقْتِ تَسَوُّرِهِمْ، وبِهَذا قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ ومَكِّيٌّ وأبُو البَقاءِ. وقِيلَ: العامِلُ فِيهِ ( أتاكَ ) . وقِيلَ: مَعْمُولٌ لِلْخَصْمِ. وقِيلَ: مَعْمُولٌ لِمَحْذُوفٍ أيْ: وهَلْ أتاكَ نَبَأُ تَحاكُمِ الخَصْمِ. وقِيلَ: هو مَعْمُولٌ لِ: ( تَسَوَّرُوا ) . وقِيلَ: هو بَدَلٌ مِمّا قَبْلَهُ.
وقالَ الفَرّاءُ إنْ أحَدَ الظَّرْفَيْنِ المَذْكُورَيْنِ بِمَعْنى لَمّا ﴿فَفَزِعَ مِنهُمْ﴾ وذَلِكَ لِأنَّهُما أتَياهُ لَيْلًا في غَيْرِ وقْتِ دُخُولِ الخُصُومِ ودَخَلُوا عَلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ولَمْ يَدْخُلُوا مِنَ البابِ الَّذِي يَدْخُلُ مِنهُ النّاسُ.
قالَ ابْنُ الأعْرابِيِّ: وكانَ مِحْرابُ داوُدَ مِنَ الِامْتِناعِ بِالِارْتِفاعِ بِحَيْثُ لا يَرْتَقِي إلَيْهِ آدَمِيٌّ بِحِيلَةٍ، وجُمْلَةُ ﴿قالُوا لا تَخَفْ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوابُ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ كَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا قالُوا لِداوُدَ لَمّا فَزِعَ مِنهم، وارْتِفاعُ خَصْمانِ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أيْ: نَحْنُ خَصْمانِ، وجاءَ فِيما سَبَقَ بِلَفْظِ الجَمْعِ، وهُنا بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ لِما ذُكِرَ مِن أنَّ لَفْظَ الخَصْمِ يَحْتَمِلُ المُفْرَدَ والمُثَنّى والمَجْمُوعَ، فالكُلُّ جائِزٌ.
قالَ الخَلِيلُ: هو كَما تَقُولُ: نَحْنُ فَعَلْنا كَذا: إذا كُنْتُما اثْنَيْنِ. وقالَ الكِسائِيُّ: (p-١٢٦٠)جَمَعَ لَمّا كانَ خَبَرًا فَلَمّا انْقَضى الخَبَرُ وجاءَتِ المُخاطَبَةُ أخْبَرَ الِاثْنانِ عَنْ أنْفُسِهِما فَقالا: خَصْمانِ، وقَوْلُهُ: ﴿بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ﴾ هو عَلى سَبِيلِ الفَرْضِ والتَّقْدِيرِ، وعَلى سَبِيلِ التَّعْرِيضِ لِأنَّ مِنَ المَعْلُومِ أنَّ المَلَكَيْنِ لا يَبْغِيانِ.
ثُمَّ طَلَبا مِنهُ أنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُما بِالحَقِّ ونَهَياهُ عَنِ الجَوْرِ فَقالا: ﴿فاحْكم بَيْنَنا بِالحَقِّ ولا تُشْطِطْ﴾ أيْ: لا تَجُرْ في حُكْمِكَ، يُقالُ: شَطَّ الرَّجُلُ وأشَطَّ شَطَطًا وإشْطاطًا: إذا جارَ في حُكْمِهِ. قالَ أبُو عُبَيْدٍ: شَطَطْتُ عَلَيْهِ وأشْطَطْتُ أيْ: جُرْتُ. وقالَ الأخْفَشُ: مَعْناهُ لا تُسْرِفْ، وقِيلَ: لا تُفَرِّطْ، وقِيلَ: لا تَمِلْ. والمَعْنى مُتَقارِبٌ، والأصْلُ فِيهِ البُعْدُ، مِن شَطَّتِ الدّارُ: إذا بَعُدَتْ. قالَ أبُو عَمْرٍو: الشَّطَطُ مُجاوَزَةُ القَدْرِ في كُلِّ شَيْءٍ. ﴿واهْدِنا إلى سَواءِ الصِّراطِ﴾ سَواءُ الصِّراطِ: وسَطُهُ.
والمَعْنى: أرْشِدْنا إلى الحَقِّ واحْمِلْنا عَلَيْهِ. ثُمَّ لَمّا أخْبَراهُ عَنِ الخُصُومَةِ إجْمالًا شَرَعا في تَفْصِيلِهِما، وشَرْحِها، فَقالا: ﴿إنَّ هَذا أخِي لَهُ تِسْعٌ وتِسْعُونَ نَعْجَةً﴾ المُرادُ بِالأُخُوَّةِ هُنا: أُخُوَّةُ الدِّينِ أوِ الصُّحْبَةُ، والنَّعْجَةُ هي الأُنْثى مِنَ الضَّأْنِ، وقَدْ يُقالُ: لِبَقْرِ الوَحْشِ نَعْجَةٌ ﴿ولِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ﴾ قالَ الواحِدِيُّ: النَّعْجَةُ البَقَرَةُ الوَحْشِيَّةُ، والعَرَبُ تُكَنِّي عَنِ المَرْأةِ بِها، وتُشَبِّهُ النِّساءَ بِالنِّعاجِ مِنَ البَقَرِ.
قَرَأ الجُمْهُورُ ﴿تِسْعٌ وتِسْعُونَ﴾ بِكَسْرِ التّاءِ الفَوْقِيَّةِ. وقَرَأ الحَسَنُ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِفَتْحِها.
قالَ النَّحّاسُ: وهي لُغَةٌ شاذَّةٌ، وإنَّما عَنى بِـ " هَذا " داوُدَ لِأنَّهُ كانَ لَهُ تِسْعٌ وتِسْعُونَ امْرَأةً، وعَنى بِقَوْلِهِ: ( ولِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ ) [ أُورِيا ] زَوْجَ المَرْأةِ الَّتِي أرادَ أنْ يَتَزَوَّجَها داوُدُ كَما سَيَأْتِي بَيانُ ذَلِكَ ﴿فَقالَ أكْفِلْنِيها﴾ أيْ: ضُمَّها إلَيَّ وانْزِلْ لِي عَنْها حَتّى أكْفُلَها وأصِيرَ بَعْلًا لَها.
قالَ ابْنُ كَيْسانَ: اجْعَلْها كِفْلِي ونَصِيبِي ﴿وعَزَّنِي في الخِطابِ﴾ أيْ: غَلَبَنِي، يُقالُ: عَزَّهُ يَعُزُّهُ عِزًّا: إذا غَلَبَهُ.
وفِي المَثَلِ: " مَن عَزَّ بَزَّ " أيْ: مَن غَلَبَ سَلَبَ والِاسْمُ العِزَّةُ: وهي القُوَّةُ. قالَ عَطاءٌ: المَعْنى إنْ تَكَلَّمَ كانَ أفْصَحَ مِنِّي.
وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ وعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ " وعازَّنِي في الخِطابِ " أيْ: غالَبَنِي مِنَ المُعازَّةِ وهي المُغالَبَةُ.
﴿قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعاجِهِ﴾ أيْ: بِسُؤالِهِ نَعْجَتِكَ لِيَضُمَّها إلى نِعاجِهِ التِّسْعِ والتِّسْعِينَ إنْ كانَ الأمْرُ عَلى ما تَقُولُ، واللّامُ هي المُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، وهي وما بَعْدَها جَوابٌ لِلْقَسَمِ المُقَدَّرِ، وجاءَ بِالقَسَمِ في كَلامِهِ مُبالَغَةً في إنْكارِ ما يَسْمَعُهُ مِن طَلَبِ صاحِبِ التِّسْعِ والتِّسْعِينَ النَّعْجَةَ أنْ يَضُمَّ إلَيْهِ النَّعْجَةَ الواحِدَةَ الَّتِي مَعَ صاحِبِهِ ولَمْ يَكُنْ مَعَهُ غَيْرُها.
ويُمْكِنُ أنَّهُ إنَّما قالَ بِهَذا بَعْدَ أنْ سَمِعَ الِاعْتِرافَ مِنَ الآخَرِ. قالَ النَّحّاسُ: ويُقالُ: إنَّ خَطِيئَةَ داوُدَ هي قَوْلُهُ: ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ﴾ لِأنَّهُ قالَ ذَلِكَ قَبْلَ أنْ يَتَثَبَّتَ ﴿وإنَّ كَثِيرًا مِنَ الخُلَطاءِ﴾ وهُمُ الشُّرَكاءُ واحِدُهم خَلِيطٌ: وهو المُخالِطُ في المالِ ﴿لَيَبْغِي بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ﴾ أيْ: يَتَعَدّى بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ ويَظْلِمُهُ غَيْرَ مُراعٍ لِحَقِّهِ ﴿إلّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ فَإنَّهم يَتَحامَوْنَ ذَلِكَ، ولا يَظْلِمُونَ خَلِيطًا ولا غَيْرَهُ ﴿وقَلِيلٌ ما هُمْ﴾ أيْ: وقَلِيلٌ هم، و( ما ) زائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ والتَّعْجِيبِ.
وقِيلَ: هي مَوْصُولَةٌ، و( هم ) مُبْتَدَأٌ، و( قَلِيلٌ ) خَبَرُهُ ﴿وظَنَّ داوُدُ أنَّما فَتَنّاهُ﴾ . قالَ أبُو عَمْرٍو والفَرّاءُ: ( ظَنَّ ) يَعْنِي أيْقَنَ.
ومَعْنى فَتَنّاهُ ابْتَلَيْناهُ، والمَعْنى أنَّهُ عِنْدَ أنْ تَخاصَما إلَيْهِ وقالَ ما قالَ عَلِمَ عِنْدَ ذَلِكَ أنَّهُ المُرادُ، وأنَّ مَقْصُودَهُما التَّعْرِيضُ بِهِ وبِصاحِبِهِ الَّذِي أرادَ أنْ يَنْزِلَ لَهُ عَنِ امْرَأتِهِ.
قالَ الواحِدِيُّ: قالَ المُفَسِّرُونَ: فَلَمّا قَضى بَيْنَهُما داوُدُ نَظَرَ أحَدُهُما إلى صاحِبِهِ فَضَحِكَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ عَلِمَ داوُدُ بِما أرادَهُ.
قَرَأ الجُمْهُورُ: فَتَنّاهُ بِالتَّخْفِيفِ لِلتّاءِ وتَشْدِيدِ النُّونِ. وقَرَأ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ، والحَسَنُ وأبُو رَجاءٍ بِالتَّشْدِيدِ لِلتّاءِ والنُّونِ، وهي مُبالَغَةٌ في الفِتْنَةِ. وقَرَأ الضَّحّاكُ " افْتَنّاهُ " وقَرَأ قَتادَةُ وعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وابْنُ السَّمَيْفَعِ " فَتَناهُ " بِتَخْفِيفِهِما وإسْنادِ الفِعْلِ إلى المَلَكَيْنِ، ورُوِيَتْ هَذِهِ القِراءَةُ عَنِ أبِي عَمْرٍو ( فاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ ) لِذَنْبِهِ ( وخَرَّ راكِعًا ) أيْ ساجِدًا، وعَبَّرَ بِالرُّكُوعِ عَنِ السُّجُودِ.
قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: لا خِلافَ بَيْنِ العُلَماءِ أنَّ المُرادَ بِالرُّكُوعِ هُنا السُّجُودُ، فَإنَّ السُّجُودَ هو المَيْلُ، والرُّكُوعُ هو الِانْحِناءُ وأحَدُهُما يَدْخُلُ في الآخَرِ ولَكِنَّهُ قَدْ يَخْتَصُّ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما بِهَيْئَةٍ.
ثُمَّ جاءَ في هَذا عَلى تَسْمِيَةِ أحَدِهِما بِالآخَرِ. وقِيلَ: المَعْنى لِلسُّجُودِ راكِعًا أيْ: مُصَلِّيًا.
وقِيلَ: بَلْ كانَ رُكُوعُهم سُجُودًا، وقِيلَ: بَلْ كانَ سُجُودُهم رُكُوعًا وأنابَ أيْ: رَجَعَ إلى اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ مِن ذَنْبِهِ.
وقَدِ اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في ذَنْبِ داوُدَ الَّذِي اسْتَغْفَرَ لَهُ وتابَ عَنْهُ عَلى أقْوالٍ: الأوَّلُ أنَّهُ نَظَرَ إلى امْرَأةِ الرَّجُلِ الَّتِي أرادَ أنْ تَكُونَ زَوْجَةً لَهُ، كَذا قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وغَيْرُهُ. قالَ الزَّجّاجُ: ولَمْ يَتَعَمَّدْ داوُدُ النَّظَرَ إلى المَرْأةِ لَكِنَّهُ عاوَدَ النَّظَرَ إلَيْها، وصارَتِ الأُولى لَهُ والثّانِيَةُ عَلَيْهِ.
القَوْلُ الثّانِي أنَّهُ أرْسَلَ زَوْجَها في جُمْلَةِ الغُزاةِ.
الثّالِثُ أنَّهُ نَوى إنْ ماتَ زَوْجُها أنْ يَتَزَوَّجَها.
الرّابِعُ أنَّ أُورِيا كانَ خَطَبَ تِلْكَ المَرْأةَ فَلَمّا غابَ خَطَبَها داوُدُ فَزُوِّجَتْ مِنهُ لِجَلالَتِهِ فاغْتَمَّ لِذَلِكَ أُورِيا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَتْرُكْها لِخاطِبِها.
الخامِسُ أنَّهُ لَمْ يَجْزَعْ عَلى قَتْلِ أُورِيا كَما كانَ يَجْزَعُ عَلى مَن هَلَكَ مِنَ الجُنْدِ، ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأتَهُ فَعاتَبَهُ اللَّهُ عَلى ذَلِكَ، لِأنَّ ذُنُوبَ الأنْبِياءِ وإنْ صَغُرَتْ فَهي عَظِيمَةٌ.
السّادِسُ أنَّهُ حَكَمَ لِأحَدِ الخَصْمَيْنِ قَبْلَ أنْ يَسْمَعَ مِنَ الآخَرِ كَما قَدَّمْنا.
وأقُولُ الظّاهِرُ مِنَ الخُصُومَةِ الَّتِي وقَعَتْ بَيْنَ المَلَكَيْنِ تَعْرِيضًا لِداوُدَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنَّهُ طَلَبَ مِن زَوْجِ المَرْأةِ الواحِدَةِ أنْ يَنْزِلَ لَهُ عَنْها ويَضُمَّها إلى نِسائِهِ، ولا يُنافِي هَذا العِصْمَةَ الكائِنَةَ لِلْأنْبِياءِ، فَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ عَلى ذَلِكَ وعَرَّضَ لَهُ بِإرْسالِ مَلائِكَتِهِ إلَيْهِ لِيَتَخاصَمُوا في مِثْلِ قِصَّتِهِ حَتّى يَسْتَغْفِرَ لِذَنْبِهِ ويَتُوبَ مِنهُ فاسْتَغْفَرَ وتابَ.
وقَدْ قالَ - سُبْحانَهُ -: ﴿وعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى﴾ [طه: ١٢١] وهو أبُو البَشَرِ وأوَّلُ الأنْبِياءِ، ووَقَعَ لِغَيْرِهِ مِنَ الأنْبِياءِ ما قَصَّهُ اللَّهُ عَلَيْنا في كِتابِهِ.
ثُمَّ أخْبَرَ - سُبْحانَهُ - أنَّهُ قَبِلَ اسْتِغْفارَهُ وتَوْبَتَهُ قالَ: ﴿فَغَفَرْنا لَهُ ذَلِكَ﴾ أيْ: ذَلِكَ الذَّنْبَ الَّذِي اسْتَغْفَرَ مِنهُ.
قالَ عَطاءٌ الخُراسانِيُّ وغَيْرُهُ: إنَّ داوُدَ بَقِيَ ساجِدًا أرْبَعِينَ يَوْمًا حَتّى نَبَتَ الرَّعْيُ حَوْلَ وجْهِهِ وغَمَرَ رَأْسَهُ.
قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: الوَقْفُ عَلى قَوْلِهِ: (p-١٢٦١)﴿فَغَفَرْنا لَهُ ذَلِكَ﴾ تامٌّ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ الكَلامَ بِقَوْلِهِ: ﴿وإنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وحُسْنَ مَآبٍ﴾ الزُّلْفى: القُرْبَةُ والكَرامَةُ بَعْدَ المَغْفِرَةِ لِذَنْبِهِ.
قالَ مُجاهِدٌ: الزُّلْفى الدُّنُوُّ مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - يَوْمَ القِيامَةِ، والمُرادُ بِحُسْنِ المَآبِ: حُسْنُ المَرْجِعِ وهو الجَنَّةُ.
وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ما لَها مِن فَواقٍ﴾ قالَ: مِن رَجْعَةٍ.
﴿وقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا﴾ قالَ: سَألُوا اللَّهَ أنْ يُعَجِّلَ لَهم.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن طَرِيقِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْهُ ﴿عَجِّلْ لَنا قِطَّنا﴾ قالَ: نَصِيبَنا مِنَ الجَنَّةِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: ذا الأيْدِ قالَ: القُوَّةُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أيْضًا قالَ: الأوّابُ المُسَبِّحُ.
وأخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: «سَألْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنِ الأوّابِ " فَقالَ سَألْتُ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - عَنْهُ فَقالَ: هو الَّذِي يَذْكُرُ ذُنُوبَهُ في الخَلاءِ فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ» .
وأخْرَجَ، عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: الأوّابُ المُوقِنُ.
وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَطاءٍ الخُراسانِيِّ عَنْهُ قالَ: لَمْ يَزَلْ في نَفْسِي مِن صَلاةِ الضُّحى حَتّى قَرَأْتُ هَذِهِ الآيَةَ ﴿إنّا سَخَّرْنا الجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالعَشِيِّ والإشْراقِ﴾ .
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أيْضًا قالَ: لَقَدْ أتى عَلَيَّ زَمانٌ وما أدْرِي وجْهَ هَذِهِ الآيَةِ ﴿يُسَبِّحْنَ بِالعَشِيِّ والإشْراقِ﴾ حَتّى رَأيْتُ النّاسَ يُصَلُّونَ الضُّحى.
وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قالَ: «كُنْتُ أمُرُّ بِهَذِهِ الآيَةِ ﴿يُسَبِّحْنَ بِالعَشِيِّ والإشْراقِ﴾ فَما أدْرِي ما هي ؟ حَتّى حَدَّثَتْنِي أُمُّ هانِئٍ بِنْتُ أبِي طالِبٍ أنَّ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْها يَوْمَ الفَتْحِ، فَدَعا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأ ثُمَّ صَلّى الضُّحى، ثُمَّ قالَ: يا أُمَّ هانِئٍ هَذِهِ صَلاةُ الإشْراقِ» .
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن وجْهٍ آخَرَ عَنْهُ نَحْوَهُ.
والأحادِيثُ في صَلاةِ الضُّحى كَثِيرَةٌ جِدًّا قَدْ ذَكَرْناها في شَرْحِنا لِلْمُنْتَقى.
وأخْرَجَ، عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: اسْتَعْدى رَجُلٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ عِنْدَ داوُدَ عَلى رَجُلٍ مِن عُظَمائِهِمْ فَقالَ: إنَّ هَذا غَصَبَنِي بَقَرًا لِي، فَسَألَ داوُدُ الرَّجُلَ عَنْ ذَلِكَ فَجَحَدَهُ، فَسَألَ الآخَرَ البَيِّنَةَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَقالَ لَهُما داوُدُ: قُوما حَتّى أنْظُرَ في أمْرِكُما، فَقاما مِن عِنْدِهِ، فَأُتِيَ داوُدُ في مَنامِهِ فَقِيلَ لَهُ: اقْتُلِ الرَّجُلَ الَّذِي اسْتَعْدى، فَقالَ: إنَّ هَذِهِ رُؤْيا ولَسْتُ أعْجَلُ حَتّى أتَثَبَّتَ، فَأُتِيَ اللَّيْلَةَ الثّانِيَةَ في مَنامِهِ فَأُمِرَ أنْ يَقْتُلَ الرَّجُلَ فَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ أُتِيَ اللَّيْلَةَ الثّالِثَةَ، فَقِيلَ لَهُ: اقْتُلِ الرَّجُلَ أوْ تَأْتِيكَ العُقُوبَةُ مِنَ اللَّهِ، فَأرْسَلَ داوُدُ إلى الرَّجُلِ فَقالَ: إنَّ اللَّهَ أمَرَنِي أنْ أقْتُلَكَ، قالَ: تَقْتُلُنِي بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ ولا تَثَبُّتٍ ؟ قالَ: نَعَمْ، واللَّهِ لَأُنَفِّذَنَّ أمْرَ اللَّهِ فِيكَ، فَقالَ الرَّجُلُ: لا تَعْجَلْ عَلَيَّ حَتّى أُخْبِرَكَ، إنِّي واللَّهِ ما أُخِذْتُ بِهَذا الذَّنْبِ ولَكِنِّي كُنْتُ اغْتَلْتُ والِدَ هَذا فَقَتَلْتُهُ فَبِذَلِكَ أُخِذْتُ، فَأمَرَ بِهِ داوُدُ فَقُتِلَ فاشْتَدَّتْ هَيْبَتُهُ في بَنِي إسْرائِيلَ وشُدِّدَ بِهِ مُلْكُهُ، فَهو قَوْلُ اللَّهِ ﴿وشَدَدْنا مُلْكَهُ﴾ .
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ ﴿وآتَيْناهُ الحِكْمَةَ﴾ قالَ: أُعْطِيَ الفَهْمَ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ والدَّيْلَمِيُّ عَنْ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ قالَ: أوَّلُ مَن قالَ: أمّا بَعْدُ، داوُدُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وهو ﴿وفَصْلَ الخِطابِ﴾ .
وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ سَعْدٍ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أنَّهُ سَمِعَ زِيادَ بْنَ أبِيهِ يَقُولُ: فَصْلُ الخِطابِ الَّذِي أُوتِيَ داوُدُ: أمّا بَعْدُ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ في المُصَنَّفِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ داوُدَ حَدَّثَ نَفْسَهُ إذا ابْتُلِيَ أنَّهُ يَعْتَصِمُ، فَقِيلَ: لَهُ: إنَّكَ سَتُبْتَلى وسَتَعْلَمُ اليَوْمَ الَّذِي تُبْتَلى فِيهِ فَخُذْ حَذَرَكَ، فَقِيلَ لَهُ: هَذا اليَوْمُ الَّذِي تُبْتَلى فِيهِ، فَأخَذَ الزَّبُورَ ودَخَلَ المِحْرابَ وأغْلَقَ بابَ المِحْرابِ وأخَذَ الزَّبُورَ في حِجْرِهِ، وأقْعَدَ مُنْصِفًا: يَعْنِي خادِمًا، عَلى البابِ وقالَ: لا تَأْذَنْ لِأحَدٍ عَلَيَّ اليَوْمَ، فَبَيْنَما هو يَقْرَأُ الزَّبُورَ إذْ جاءَ طائِرٌ مُذَهَّبٌ كَأحْسَنِ ما يَكُونُ الطَّيْرُ، فِيهِ مِن كُلِّ لَوْنٍ، فَجَعَلَ يَدُورُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَنا مِنهُ فَأمْكَنَ أنْ يَأْخُذَهُ، فَتَناوَلَهُ بِيَدِهِ لِيَأْخُذَهُ فاسْتَوْفَزَ مِن خَلْفِهِ، فَأطْبَقَ الزَّبُورَ وقامَ إلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ، فَطارَ فَوَقَعَ عَلى كُوَّةِ المِحْرابِ، فَدَنا مِنهُ لِيَأْخُذَهُ فَأفْضى فَوَقَعَ عَلى خُصٍّ فَأشْرَفَ عَلَيْهِ لِيَنْظُرَ أيْنَ وقَعَ ؟ فَإذا هو بِامْرَأةٍ عِنْدَ بِرْكَتِها تَغْتَسِلُ مِنَ الحَيْضِ، فَلَمّا رَأتْ ظِلَّهُ حَرَّكَتْ رَأْسَها، فَغَطَّتْ جَسَدَها أجْمَعَ بِشَعْرِها، وكانَ زَوْجُها غازِيًا في سَبِيلِ اللَّهِ، فَكَتَبَ داوُدُ إلى رَأْسِ الغُزاةِ: انْظُرْ أُورِيا فاجْعَلْهُ في حَمَلَةِ التّابُوتِ وكانَ حَمَلَةُ التّابُوتِ إمّا أنْ يُفْتَحَ عَلَيْهِمْ وإمّا أنْ يُقْتَلُوا، فَقَدَّمَهُ في حَمَلَةِ التّابُوتِ فَقُتِلَ، فَلَمّا انْقَضَتْ عِدَّتُها خَطَبَها داوُدُ، فاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ إنْ ولَدَتْ غُلامًا أنْ يَكُونَ الخَلِيفَةَ مِن بَعْدِهِ، وأشْهَدَتْ عَلَيْهِ خَمْسِينَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ وكَتَبَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتابًا، فَما شَعَرَ بِفِتْنَتِهِ أنَّهُ افْتُتِنَ حَتّى ولَدَتْ سُلَيْمانَ، وشَبَّ فَتَسَوَّرَ عَلَيْهِ المَلَكانِ المِحْرابَ وكانَ شَأْنُهُما ما قَصَّ اللَّهُ في كِتابِهِ وخَرَّ داوُدُ ساجِدًا، فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ وتابَ عَلَيْهِ.
وأخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ قالَ: ما أصابَ داوُدَ بَعْدَما أصابَهُ بَعْدَ القَدَرِ إلّا مِن عُجْبٍ عَجِبَ بِنَفْسِهِ، وذَلِكَ أنَّهُ قالَ: يا رَبِّ ما مِن ساعَةٍ مِن لَيْلٍ ولا نَهارٍ إلّا وعابِدٌ مِن آلِ داوُدَ يَعْبُدُكَ يُصَلِّي لَكَ أوْ يُسَبِّحُ أوْ يُكَبِّرُ وذَكَرَ أشْياءَ، فَكَرِهَ اللَّهُ ذَلِكَ، فَقالَ: يا داوُدُ إنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إلّا بِي فَلَوْلا عَوْنِي ما قَوِيتَ عَلَيْهِ، وعِزَّتِي وجَلالِي لَأكِلَنَّكَ إلى نَفْسِكَ يَوْمًا، قالَ: يا رَبِّ فَأخْبِرْنِي بِهِ، فَأُخْبِرَ بِهِ فَأصابَتْهُ الفِتْنَةُ ذَلِكَ اليَوْمَ.
وأخْرَجَ أصْلَ القِصَّةِ الحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ في نَوادِرِ الأُصُولِ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ أنَسٍ مَرْفُوعًا بِإسْنادٍ ضَعِيفٍ.
وأخْرَجَها ابْنُ جَرِيرٍ مِن وجْهٍ آخَرَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مُطَوَّلَةً. وأخْرَجَها جَماعَةٌ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ التّابِعِينَ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ هَذا أخِي﴾ قالَ: عَلى دِينِي.
وأخْرَجَ، عَبْدُ الرَّزّاقِ، والفِرْيابِيُّ وأحْمَدُ في الزُّهْدِ، وابْنُ جَرِيرٍ والطَّبَرانِيُّ عَنْهُ قالَ: ما زادَ داوُدُ عَلى أنْ قالَ ﴿أكْفِلْنِيها﴾ .
وأخْرَجَ، عَبْدُ الرَّزّاقِ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ في قَوْلِهِ ﴿وقَلِيلٌ ما هُمْ﴾ يَقُولُ: قَلِيلٌ الَّذِي هم فِيهِ، وفي قَوْلِهِ: ﴿وظَنَّ داوُدُ أنَّما فَتَنّاهُ﴾ قالَ: اخْتَبَرْناهُ.
(p-١٢٦٢)وأخْرَجَ أحْمَدُ والبُخارِيُّ وأبُو داوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنْهُ أيْضًا أنَّهُ قالَ في السُّجُودِ في ص لَيْسَتْ مِن عَزائِمِ السُّجُودِ، وقَدْ رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - يَسْجُدُ فِيها.
وأخْرَجَ النَّسائِيُّ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْهُ أيْضًا «أنَّ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - سَجَدَ في ص وقالَ: سَجَدَها داوُدُ، ونَسْجُدُها شُكْرًا» .
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - سَجَدَ في ص. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أنَسٍ مِثْلَهُ مَرْفُوعًا. وأخْرَجَ الدّارِمِيُّ وأبُو داوُدَ وابْنُ خُزَيْمَةَ وابْنُ حِبّانَ والدّارَقُطْنِيُّ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنْ أبِي سَعِيدٍ قالَ: «قَرَأ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - وهو عَلى المِنبَرِ ﴿ص﴾، فَلَمّا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وسَجَدَ النّاسُ مَعَهُ، فَلَمّا كانَ يَوْمٌ آخَرُ قَرَأها، فَلَمّا بَلَغَ السَّجْدَةَ تَهَيَّأ النّاسُ لِلسُّجُودِ، فَقالَ: إنَّما هي تَوْبَةٌ ولَكِنِّي رَأيْتُكم تَهَيَّأْتُمْ لِلسُّجُودِ، فَنَزَلَ فَسَجَدَ» .
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ «عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - أنَّهُ ذَكَرَ يَوْمَ القِيامَةِ فَعَظَّمَ شَأْنَهُ وشِدَّتَهُ قالَ: ويَقُولُ الرَّحْمَنُ - عَزَّ وجَلَّ - لِداوُدَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: مُرَّ بَيْنَ يَدَيَّ، فَيَقُولُ داوُدُ: يا رَبِّ، أخافُ أنْ تَدْحَضَنِي خَطِيئَتِي، فَيَقُولُ: خُذْ بِقَدَمِي، فَيَأْخُذُ بِقَدَمِهِ - عَزَّ وجَلَّ - فَيَمُرُّ، قالَ: فَتِلْكَ الزُّلْفى الَّتِي قالَ اللَّهُ ﴿وإنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وحُسْنَ مَآبٍ﴾» .
{"ayahs_start":12,"ayahs":["كَذَّبَتۡ قَبۡلَهُمۡ قَوۡمُ نُوحࣲ وَعَادࣱ وَفِرۡعَوۡنُ ذُو ٱلۡأَوۡتَادِ","وَثَمُودُ وَقَوۡمُ لُوطࣲ وَأَصۡحَـٰبُ لۡـَٔیۡكَةِۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلۡأَحۡزَابُ","إِن كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ ٱلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ","وَمَا یَنظُرُ هَـٰۤؤُلَاۤءِ إِلَّا صَیۡحَةࣰ وَ ٰحِدَةࣰ مَّا لَهَا مِن فَوَاقࣲ","وَقَالُوا۟ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبۡلَ یَوۡمِ ٱلۡحِسَابِ","ٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا یَقُولُونَ وَٱذۡكُرۡ عَبۡدَنَا دَاوُۥدَ ذَا ٱلۡأَیۡدِۖ إِنَّهُۥۤ أَوَّابٌ","إِنَّا سَخَّرۡنَا ٱلۡجِبَالَ مَعَهُۥ یُسَبِّحۡنَ بِٱلۡعَشِیِّ وَٱلۡإِشۡرَاقِ","وَٱلطَّیۡرَ مَحۡشُورَةࣰۖ كُلࣱّ لَّهُۥۤ أَوَّابࣱ","وَشَدَدۡنَا مُلۡكَهُۥ وَءَاتَیۡنَـٰهُ ٱلۡحِكۡمَةَ وَفَصۡلَ ٱلۡخِطَابِ","۞ وَهَلۡ أَتَىٰكَ نَبَؤُا۟ ٱلۡخَصۡمِ إِذۡ تَسَوَّرُوا۟ ٱلۡمِحۡرَابَ","إِذۡ دَخَلُوا۟ عَلَىٰ دَاوُۥدَ فَفَزِعَ مِنۡهُمۡۖ قَالُوا۟ لَا تَخَفۡۖ خَصۡمَانِ بَغَىٰ بَعۡضُنَا عَلَىٰ بَعۡضࣲ فَٱحۡكُم بَیۡنَنَا بِٱلۡحَقِّ وَلَا تُشۡطِطۡ وَٱهۡدِنَاۤ إِلَىٰ سَوَاۤءِ ٱلصِّرَ ٰطِ","إِنَّ هَـٰذَاۤ أَخِی لَهُۥ تِسۡعࣱ وَتِسۡعُونَ نَعۡجَةࣰ وَلِیَ نَعۡجَةࣱ وَ ٰحِدَةࣱ فَقَالَ أَكۡفِلۡنِیهَا وَعَزَّنِی فِی ٱلۡخِطَابِ","قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِیرࣰا مِّنَ ٱلۡخُلَطَاۤءِ لَیَبۡغِی بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَقَلِیلࣱ مَّا هُمۡۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّـٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّ رَاكِعࣰا وَأَنَابَ ۩","فَغَفَرۡنَا لَهُۥ ذَ ٰلِكَۖ وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مَـَٔابࣲ"],"ayah":"وَٱلطَّیۡرَ مَحۡشُورَةࣰۖ كُلࣱّ لَّهُۥۤ أَوَّابࣱ"}