الباحث القرآني

تَفْسِيرُ سُورَةِ يس وهِيَ مَكِّيَّةٌ. قالَ القُرْطُبِيُّ: بِالإجْماعِ إلّا أنَّ فِرْقَةً قالَتْ ﴿ونَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وآثارَهم﴾ [يس: ١٢] نَزَلَتْ في بَنِي سَلَمَةَ مِنَ الأنْصارِ حِينَ أرادُوا أنْ يَتْرُكُوا دِيارَهم ويَنْتَقِلُوا إلى جِوارِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -، وسَيَأْتِي بَيانُ ذَلِكَ. وأخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ، والنَّحّاسُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: سُورَةُ يس نَزَلَتْ بِمَكَّةَ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عائِشَةَ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ الدّارِمِيُّ، والتِّرْمِذِيُّ، ومُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْ أنَسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبًا، وقَلْبُ القُرْآنِ يس، مَن قَرَأ يس كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِقِراءَتِها قِراءَةَ القُرْآنِ عَشْرَ مَرّاتٍ» قالَ التِّرْمِذِيُّ بَعْدَ إخْراجِهِ: هَذا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لا نَعْرِفُهُ إلّا مِن حَدِيثِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وفي إسْنادِهِ هارُونُ أبُو مُحَمَّدٍ، وهو شَيْخٌ مَجْهُولٌ، وفي البابِ عَنْ أبِي بَكْرٍ، ولا يَصِحُّ لِضَعْفِ إسْنادِهِ. وأخْرَجَ البَزّارُ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبًا، وقَلْبُ القُرْآنِ يس»، ثُمَّ قالَ بَعْدَ إخْراجِهِ: لا نَعْلَمُ رَواهُ إلّا زَيْدٌ عَنْ حُمَيْدٍ: يَعْنِي زَيْدَ بْنَ الحُبابِ عَنْ حُمَيْدٍ المَكِّيِّ مَوْلى آلِ عَلْقَمَةَ. وأخْرَجَ الدّارِمِيُّ، وأبُو يَعْلى، والطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - «مَن قَرَأ يس في لَيْلَةٍ ابْتِغاءَ وجْهِ اللَّهِ غَفَرَ لَهُ في تِلْكَ اللَّيْلَةِ» قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إسْنادُهُ جَيِّدٌ. وأخْرَجَ ابْنُ حِبّانَ، والضِّياءُ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «مَن قَرَأ يس في لَيْلَةٍ ابْتِغاءَ وجْهِ اللَّهِ غَفَرَ لَهُ» . وإسْنادُهُ في صَحِيحِ ابْنِ حِبّانَ هَكَذا: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ بْنِ إبْراهِيمَ مَوْلى ثَقِيفٍ، حَدَّثَنا الوَلِيدُ بْنُ شُجاعِ بْنِ الوَلِيدِ الكُوبِيُّ، حَدَّثَنا أبِي، حَدَّثَنا زِيادُ بْنُ خَيْثَمَةَ، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ جُحادَةَ عَنِ الحَسَنِ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: قامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَذَكَرَهُ. وأخْرَجَ أحْمَدُ، وأبُو داوُدَ، والنَّسائِيُّ، وابْنُ ماجَهْ، ومُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ، وابْنُ حِبّانَ، والطَّبَرانِيُّ، والحاكِمُ، والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسارٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - قالَ: «يس قَلْبُ القُرْآنِ، لا يَقْرَؤُها عَبْدٌ يُرِيدُ اللَّهَ والدّارَ الآخِرَةَ إلّا غَفَرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، فاقْرَءُوها عَلى مَوْتاكم» . وقَدْ ذَكَرَ لَهُ أحْمَدُ إسْنادَيْنِ: أحَدُهُما فِيهِ مَجْهُولٌ، والآخَرُ ذَكَرَ فِيهِ عَنْ أبِي عُثْمانَ وقالَ: ولَيْسَ بِالنَّهْدِيِّ عَنْ أبِيهِ، عَنْ مَعْقِلٍ. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، والبَيْهَقِيُّ عَنْ حَسّانَ بْنَ عَطِيَّةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - قالَ: «مَن قَرَأ يس فَكَأنَّما قَرَأ القُرْآنَ عَشْرَ مَرّاتٍ» . وأخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والخَطِيبُ، والبَيْهَقِيُّ عَنْ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «سُورَةُ يس تُدْعى في التَّوْراةِ المُعَمِّمَةَ، تَعُمُّ صاحِبَها بِخَيْرِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، تُكابِدُ عَنْهُ بَلْوى الدُّنْيا والآخِرَةِ، وتَدْفَعُ عَنْهُ أهاوِيلَ الآخِرَةِ، وتُدْعى الدّافِعَةَ والقاضِيَةَ، تَدْفَعُ عَنْ صاحِبِها كُلَّ سُوءٍ وتَقْضِي لَهُ كُلَّ حاجَةٍ، مَن قَرَأها عَدَلَتْ عِشْرِينَ حَجَّةً، ومَن سَمِعَها عَدَلَتْ لَهُ ألْفَ دِينارٍ في سَبِيلِ اللَّهِ، ومَن كَتَبَها ثُمَّ شَرِبَها أدْخَلَتْ جَوْفَهُ ألْفَ دَواءٍ وألْفَ نُورٍ وألْفَ يَقِينٍ وألْفَ بَرَكَةٍ وألْفَ رَحْمَةٍ ونَزَعَتْ عَنْهُ كُلَّ غِلٍّ وداءٍ» قالَ البَيْهَقِيُّ: تَقَرَّبَ بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي بَكْرٍ الجُدْعانِيُّ عَنْ سُلَيْمانَ بْنِ رافِعٍ الجَنَدِيِّ، وهو مُنْكَرٌ. قُلْتُ: وهَذا الحَدِيثُ هو الَّذِي تَقَدَّمَتَ الإشارَةُ مِنَ التِّرْمِذِيِّ إلى ضَعْفِ إسْنادِهِ، ولا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا، فَهَذِهِ الألْفاظُ كُلُّها مُنْكَرَةٌ بَعِيدَةٌ عَنْ كَلامِ مَن أُوتِيَ جَوامِعَ الكَلِمِ، وقَدْ ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ مِن حَدِيثِ عائِشَةَ، وذَكَرَهُ الخَطِيبُ مِن حَدِيثِ أنَسٍ، وذَكَرَ نَحْوَهُ الخَطِيبُ مِن حَدِيثِ عَلِيٍّ بِأخْصَرَ مِنهُ. وأخْرَجَ البَزّارُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - في سُورَةِ يس: «لَوَدِدْتُ أنَّها في قَلْبِ كُلِّ إنْسانٍ مِن أُمَّتِي» . وإسْنادُهُ هَكَذا: قالَ حَدَّثَنا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنا إبْراهِيمُ بْنُ الحَكَمِ بْنِ أبانٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَذَكَرَهُ. وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ قالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ أنَسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «مَن داوَمَ عَلى قِراءَةِ يس كُلَّ لَيْلَةٍ ثُمَّ ماتَ ماتَ شَهِيدًا» . وأخْرَجَ الدّارِمِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: مَن قَرَأ يس حِينَ يُصْبِحُ أُعْطِيَ يُسْرَ يَوْمِهِ حَتّى يُمْسِيَ، ومَن قَرَأها في صَدْرِ لَيْلَتِهِ أُعْطِيَ يُسْرَ لَيْلَتِهِ حَتّى يُصْبِحَ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (p-١٢١٨)قَوْلُهُ: ١ يس قَرَأ الجُمْهُورُ بِسُكُونِ النُّونِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ، وحَفْصٌ، وقالُونُ، ووَرْشٌ بِإدْغامِ النُّونِ في الواوِ الَّذِي بَعْدَها، وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ بِفَتْحِ النُّونِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، ونَصْرُ بْنُ عاصِمٍ بِكَسْرِها، فالفَتْحُ عَلى البِناءِ أوْ عَلى أنَّهُ مَفْعُولُ فِعْلٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: اتْلُ يس، والكَسْرُ عَلى البِناءِ أيْضًا كَجَيْرِ، وقِيلَ: الفَتْحُ والكَسْرُ لِلْفِرارِ مِنِ التِقاءِ السّاكِنَيْنِ. وأمّا وجْهُ قِراءَةِ الجُمْهُورِ بِالسُّكُونِ لِلنُّونِ فَلِكَوْنِها مَسْرُودَةً عَلى نَمَطِ التَّعْدِيدِ فَلا حَظَّ لَها مِنَ الإعْرابِ. وقَرَأ هارُونُ الأعْوَرُ، ومُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْفَعِ، والكَلْبِيُّ بِضَمِّ النُّونِ عَلى البِناءِ كَمُنْذُ وحَيْثُ وقَطُّ، وقِيلَ: عَلى أنَّها خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أيْ: هَذِهِ يس، ومُنِعَتْ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ والتَّأْنِيثِ. واخْتُلِفَ في مَعْنى هَذِهِ اللَّفْظَةِ، فَقِيلَ: مَعْناها يا رَجُلُ، أوْ يا إنْسانُ. قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: الوَقْفُ عَلى يس حَسَنٌ لِمَن قالَ هو افْتِتاحٌ لِلسُّورَةِ، ومَن قالَ: مَعْناهُ يا رَجُلُ، لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ. وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وغَيْرُهُ: هو اسْمٌ مِن أسْماءِ مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - دَلِيلُهُ ﴿إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ ومِنهُ قَوْلُ السَّعْدِ الحِمْيَرِيِّ: ؎يا نَفْسُ لا تَمْحَضِي بِالنُّصْحِ جاهِدَةً عَلى المَوَدَّةِ إلّا آلَ ياسِينَ ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿سَلامٌ عَلى إلْ ياسِينَ﴾ " [الصافات: ١٣٠] أيْ: عَلى آلِ مُحَمَّدٍ، وسَيَأْتِي في الصّافّاتِ ما المُرادُ بِـ " إلْ ياسِينَ " . قالَ الواحِدِيُّ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ والمُفَسِّرُونَ: يُرِيدُ يا إنْسانُ: يَعْنِي مُحَمَّدًا - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - . وقالَ أبُو بَكْرٍ الوَرّاقُ: مَعْناهُ يا سَيِّدَ البَشَرِ. وقالَ مالِكٌ: هو اسْمٌ مِن أسْماءِ اللَّهِ - تَعالى -، ورَوى ذَلِكَ عَنْهُ أشْهَبُ. وحَكى أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ عَنْ جَعْفَرٍ الصّادِقِ أنَّ مَعْناهُ يا سَيِّدُ. وقالَ كَعْبٌ: هو قَسَمٌ أقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، ورَجَّحَ الزَّجّاجُ أنَّ مَعْناهُ يا مُحَمَّدُ. واخْتَلَفُوا هَلْ هو عَرَبِيٌّ أوْ غَيْرُ عَرَبِيٍّ ؟ فَقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وعِكْرِمَةُ: حَبَشِيٌّ. وقالَ الكَلْبِيُّ: سُرْيانِيٌّ تَكَلَّمَتْ بِهِ العَرَبُ فَصارَ مِن لُغَتِهِمْ. وقالَ الشَّعْبِيُّ: هو بِلُغَةِ طَيِّئٍ. وقالَ الحَسَنُ: هو بِلُغَةِ كَلْبٍ. وقَدْ تَقَدَّمَ في طه وفي مُفْتَتَحِ سُورَةِ البَقَرَةِ ما يُغْنِي عَنِ التَّطْوِيلِ هاهُنا. والقُرْآنِ الحَكِيمِ بِالجَرِّ عَلى أنَّهُ مُقْسَمٌ بِهِ ابْتِداءً. وقِيلَ: هو مَعْطُوفٌ عَلى يس عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مَجْرُورًا بِإضْمارِ القَسَمِ. قالَ النَّقّاشُ: لَمْ يُقْسِمِ اللَّهُ لِأحَدٍ مِن أنْبِيائِهِ بِالرِّسالَةِ في كِتابِهِ إلّا لِمُحَمَّدٍ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - تَعْظِيمًا لَهُ وتَمْجِيدًا، والحَكِيمُ المُحْكَمُ الَّذِي لا يَتَناقَضُ ولا يَتَخالَفُ، أوِ الحَكِيمُ قائِلُهُ. وجَوابُ القَسَمِ إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ وهَذا رَدٌّ عَلى مَن أنْكَرَ رِسالَتَهُ مِنَ الكُفّارِ بِقَوْلِهِمْ: ﴿لَسْتَ مُرْسَلًا﴾ [الرعد: ٤٣] . وقَوْلُهُ: ﴿هَذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ خَبَرٌ آخَرُ لَإنَّ أيْ: إنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، والصِّراطُ المُسْتَقِيمُ: الطَّرِيقُ القَيِّمُ المُوصِلُ إلى المَطْلُوبِ. قالَ الزَّجّاجُ: عَلى طَرِيقَةِ الأنْبِياءِ الَّذِينَ تَقَدَّمُوكَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ. ﴿تَنْزِيلَ العَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ قَرَأ نافِعٌ وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو، وأبُو بَكْرٍ بِرَفْعِ " تَنْزِيلُ " عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أيْ: هو تَنْزِيلُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ خَبَرًا لِقَوْلِهِ يس إنْ جُعِلَ اسْمًا لِلسُّورَةِ، وقَرَأ الباقُونَ بِالنَّصْبِ عَلى المَصْدَرِيَّةِ أيْ: نَزَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ تَنْزِيلَ العَزِيزِ الرَّحِيمِ. والمَعْنى: إنَّكَ يا مُحَمَّدُ تَنْزِيلُ العَزِيزِ الرَّحِيمِ، والأوَّلُ أوْلى. وقِيلَ: هو مَنصُوبٌ عَلى المَدْحِ عَلى قِراءَةِ مَن قَرَأ بِالنَّصْبِ، وعَبَّرَ - سُبْحانَهُ - عَنِ المُنَزَّلِ بِالمَصْدَرِ مُبالَغَةً حَتّى كَأنَّهُ نَفْسُ التَّنْزِيلِ، وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ، والتِّرْمِذِيُّ، وأبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ القَعْقاعِ، وشَيْبَةُ " تَنْزِيلِ " بِالجَرِّ عَلى النَّعْتِ لِلْقُرْآنِ أوِ البَدَلِ مِنهُ. واللّامُ في ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا ما أُنْذِرَ آباؤُهم﴾ يَجُوزُ أنْ تَتَعَلَّقَ بِـ ( تَنْزِيلَ )، أوْ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ ( مِنَ المُرْسَلِينَ ) أيْ: أرْسَلْناكَ لِتُنْذِرَ، و" ما " في ما أُنْذِرَ آباؤُهم هي النّافِيَةُ أيْ: لَمْ يُنْذَرْ آباؤُهم، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً أوْ مَوْصُوفَةً أيْ: لِتُنْذِرَ قَوْمًا الَّذِي أُنْذِرَهُ آباؤُهم، أوْ لِتُنْذِرَهم عَذابًا أُنْذِرَهُ آباؤُهم، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً أيْ: إنْذارَ آبائِهِمْ، وعَلى القَوْلِ بِأنَّها نافِيَةٌ يَكُونُ المَعْنى: ما أُنْذِرَ آباؤُهم بِرَسُولٍ مِن أنْفُسِهِمْ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ ما أُنْذِرَ آباؤُهُمُ الأقْرَبُونَ لِتَطاوُلِ مُدَّةِ الفَتْرَةِ، وقَوْلِهِ: فَهم غافِلُونَ مُتَعَلِّقٌ بِنَفْيِ الإنْذارِ عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ أيْ: لَمْ يُنْذَرْ آباؤُهم فَهم بِسَبَبِ ذَلِكَ غافِلُونَ، وعَلى الوُجُوهِ الآخِرَةِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ( لِتُنْذِرَ )، أيْ: فَهم غافِلُونَ عَمّا أنْذَرْنا بِهِ آباءَهم، وقَدْ ذَهَبَ أكْثَرُ أهْلِ التَّفْسِيرِ إلى أنَّ المَعْنى عَلى النَّفْيِ، وهو الظّاهِرُ مِنَ النَّظْمِ لِتَرْتِيبِ ( فَهم غافِلُونَ ) عَلى ما قَبْلَهُ. واللّامُ في قَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ حَقَّ القَوْلُ عَلى أكْثَرِهِمْ﴾ هي المُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ أيْ: واللَّهِ لَقَدْ حَقَّ القَوْلُ عَلى أكْثَرِهِمْ، ومَعْنى حَقَّ: ثَبَتَ ووَجَبَ، القَوْلُ أيِ: العَذابُ عَلى أكْثَرِهِمْ أيْ: أكْثَرِ أهْلِ مَكَّةَ، أوْ أكْثَرِ الكُفّارِ عَلى الإطْلاقِ، أوْ أكْثَرِ كُفّارِ العَرَبِ، وهم مَن ماتَ عَلى الكُفْرِ وأصَرَّ عَلَيْهِ طُولَ حَياتِهِ فَيَتَفَرَّعُ قَوْلُهُ: فَهم لا يُؤْمِنُونَ عَلى ما قَبْلَهُ بِهَذا الِاعْتِبارِ أيْ: لِأنَّ اللَّهَ - سُبْحانَهُ - قَدْ عَلِمَ مِنهُمُ الإصْرارَ عَلى ما هم فِيهِ مِنَ الكُفْرِ والمَوْتِ عَلَيْهِ، وقِيلَ: المُرادُ بِالقَوْلِ المَذْكُورِ هُنا هو قَوْلُهُ - سُبْحانَهُ -: ﴿فالحَقُّ والحَقَّ أقُولُ لَأمْلَأنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ ومِمَّنْ تَبِعَكَ﴾ [ص: ٨٤ ٨٥] . وجُمْلَةُ ﴿إنّا جَعَلْنا في أعْناقِهِمْ أغْلالًا﴾ تَقْرِيرٌ لِما قَبْلَها مَثَّلَتْ حالَهم بِحالِ الَّذِينَ غُلَّتْ أعْناقُهم فَهي أيِ: الأغْلالُ مُنْتَهِيَةٌ إلى الأذْقانِ فَلا يَقْدِرُونَ عِنْدَ ذَلِكَ عَلى الِالتِفاتِ ولا يَتَمَكَّنُونَ مِن عَطْفِها، وهو مَعْنى قَوْلِهِ: فَهم مُقْمَحُونَ أيْ: رافِعُونَ رُءُوسَهم غاضُّونَ أبْصارَهم. قالَ الفَرّاءُ والزَّجّاجُ: المُقْمَحُ: الغاضُّ بَصَرَهُ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ، ومَعْنى الإقْماحِ رَفْعُ الرَّأْسِ وغَضُّ البَصَرِ، يُقالُ: أقْمَحَ البَعِيرُ رَأْسَهُ وقَمَحَ: إذا رَفَعَ رَأْسَهُ ولَمْ يَشْرَبِ الماءَ. قالَ الأزْهَرِيُّ: أرادَ اللَّهُ أنَّ أيْدِيَهم لَمّا غُلَّتْ عِنْدَ أعْناقِهِمْ رَفَعَتِ الأغْلالَ إلى أذْقانِهِمْ ورُءُوسُهم صُعَداءُ، فَهم مَرْفُوعُو الرُّءُوسِ بِرَفْعِ الأغْلالِ إيّاها. وقالَ قَتادَةُ: مَعْنى مُقْمَحُونَ: مَغْلُولُونَ، والأوَّلُ أوْلى، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎ونَحْنُ عَلى جَوانِبِها قُعُودٌ ∗∗∗ نَغُضُّ الطَّرْفَ كالإبِلِ القِماحِ (p-١٢١٩)قالَ الزَّجّاجُ: قِيلَ: لِلْكانُونَيْنِ شَهْرا قِماحٍ، لِأنَّ الإبِلَ إذا ورَدَتِ الماءَ رَفَعَتْ رُءُوسَها لِشِدَّةِ البَرْدِ، وأنْشَدَ قَوْلَ أبِي زَيْدٍ الهُذَلِيِّ: ؎فَتًى ما ابْنُ الأغَرِّ إذا شَتَوْنا ∗∗∗ وحُبَّ الزّادُ في شَهْرَيْ قُماحِ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: قَمَحَ البَعِيرُ إذا رَفَعَ رَأْسَهُ عَنِ الحَوْضِ ولَمْ يَشْرَبْ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ أيْضًا: هو مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لَهم في امْتِناعِهِمْ عَنِ الهُدى كامْتِناعِ المَغْلُولِ، كَما يُقالُ: فُلانٌ حِمارٌ أيْ: لا يُبْصِرُ الهُدى، وكَما قالَ الشّاعِرُ: ؎لَهم عَنِ الرُّشْدِ أغْلالٌ وأقْيادُ وقالَ الفَرّاءُ: هَذا ضَرْبُ مَثَلٍ أيْ: حَبَسْناهم عَنِ الإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ، وهو كَقَوْلِهِ: ﴿ولا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ﴾ [الإسراء: ٢٩] وبِهِ قالَ الضَّحّاكُ. وقِيلَ: الآيَةُ إشارَةٌ إلى ما يُفْعَلُ بِقَوْمٍ في النّارِ مِن وضْعِ الأغْلالِ في أعْناقِهِمْ كَما قالَ - تَعالى -: ﴿إذِ الأغْلالُ في أعْناقِهِمْ﴾ [غافر: ٧١] وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ " إنّا جَعَلْنا في أيْمانِهِمْ أغْلالًا " قالَ الزَّجّاجُ أيْ: في أيْدِيهِمْ. قالَ النَّحّاسُ: وهَذِهِ القِراءَةُ تَفْسِيرٌ ولا يُقْرَأُ بِما خالَفَ المُصْحَفَ. قالَ: وفي الكَلامِ حَذْفٌ عَلى قِراءَةِ الجَماعَةِ، التَّقْدِيرُ: إنّا جَعَلْنا في أعْناقِهِمْ وفي أيادِيهِمْ أغْلالًا فَهي إلى الأذْقانِ، فَلَفْظُ ( هي ) كِنايَةٌ عَنِ الأيْدِي لا عَنِ الأعْناقِ، والعَرَبُ تَحْذِفُ مِثْلَ هَذا، ونَظِيرُهُ ﴿سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ﴾ [النحل: ٨١] وتَقْدِيرُهُ: وسَرابِيلَ تَقِيكُمُ البَرْدَ، لِأنَّ ما وقى مِنَ الحَرِّ وقى مِنَ البَرْدِ، لِأنَّ الغُلَّ إذا كانَ في العُنُقِ فَلابُدَّ أنْ يَكُونَ في اليَدِ، ولا سِيَّما وقَدْ قالَ اللَّهُ فَهي إلى الأذْقانِ فَقَدْ عُلِمَ أنَّهُ يُرادُ بِهِ الأيْدِي فَهم مُقْمَحُونَ أيْ: رافِعُو رُءُوسِهِمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الإطْراقَ، لِأنَّ مَن غُلَّتْ يَداهُ إلى ذَقْنِهِ ارْتَفَعَ رَأْسُهُ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قَرَأ " إنّا جَعَلْنا في أيْدِيهِمْ أغْلالًا " وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قَرَأ " إنّا جَعَلْنا في أيْمانِهِمْ أغْلالًا " كَما رُوِيَ سابِقًا مِن قِراءَةِ ابْنِ عَبّاسٍ. ﴿وجَعَلْنا مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ سَدًّا ومِن خَلْفِهِمْ سَدًّا﴾ أيْ: مَنَعْناهم عَنِ الإيمانِ بِمَوانِعَ فَهم لا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ مِنَ الكُفْرِ إلى الإيمانِ، كالمَضْرُوبِ أمامَهُ وخَلْفَهُ بِالأسْدادِ، والسَّدُّ بِضَمِّ السِّينِ وفَتْحِها لُغَتانِ، ومِن هَذا المَعْنى في الآيَةِ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎ومِنَ الحَوادِثِ لا أبًا لَكَ أنَّنِي ∗∗∗ ضُرِبَتْ عَلَيَّ الأرْضُ بِالأسْدادِ ؎لا أهْتَدِي فِيها لِمَوْضِعِ تَلْعَةٍ ∗∗∗ بَيْنَ العِراقِ وبَيْنَ أرْضِ مُرادِ فَأغْشَيْناهم أيْ: غَطَّيْنا أبْصارَهم فَهم بِسَبَبِ ذَلِكَ لا يُبْصِرُونَ أيْ: لا يَقْدِرُونَ عَلى إبْصارِ شَيْءٍ. قالَ الفَرّاءُ: فَألْبَسْنا أبْصارَهم غِشاوَةً أيْ: عَمًى فَهم لا يُبْصِرُونَ سَبِيلَ الهُدى، وكَذا قالَ قَتادَةُ: إنَّ المَعْنى لا يُبْصِرُونَ الهُدى. وقالَ السُّدِّيُّ: لا يُبْصِرُونَ مُحَمَّدًا حِينَ ائْتَمَرُوا عَلى قَتْلِهِ. وقالَ الضَّحّاكُ: ﴿وجَعَلْنا مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ سَدًّا﴾ أيِ: الدُّنْيا ومِن خَلْفِهِمْ سَدًّا أيِ: الآخِرَةَ ﴿فَأغْشَيْناهم فَهم لا يُبْصِرُونَ﴾ أيْ: عَمُوا عَنِ البَعْثِ، وعَمُوا عَنْ قَبُولِ الشَّرائِعِ في الدُّنْيا. وقِيلَ: ما بَيْنَ أيْدِيهِمُ الآخِرَةُ وما خَلْفَهُمُ الدُّنْيا، قَرَأ الجُمْهُورُ بِالغَيْنِ المُعْجَمَةِ أيْ: غَطَّيْنا أبْصارَهم، فَهو عَلى حَذْفِ مُضافٍ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، والحَسَنُ، ويَحْيى بْنُ يَعْمَرَ، وأبُو رَجاءٍ، وعِكْرِمَةُ بِالغَيْنِ المُهْمَلَةِ مِنَ العَشا وهو ضَعْفُ البَصَرِ. ومِنهُ ﴿ومَن يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ﴾ [الزخرف: ٣٦] . ﴿وسَواءٌ عَلَيْهِمْ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ أيْ: إنْذارُكَ إيّاهم وعَدَمُهُ سَواءٌ. قالَ الزَّجّاجُ أيْ: مَن أضَلَّهُ اللَّهُ هَذا الإضْلالَ لَمْ يَنْفَعْهُ الإنْذارُ. إنَّما يَنْفَعُ الإنْذارُ مَن ذُكِرَ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيْبِ﴾ أيِ: اتَّبَعَ القُرْآنَ، وخَشِيَ اللَّهَ في الدُّنْيا، وجُمْلَةُ لا يُؤْمِنُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِما قَبْلَها مِنَ الِاسْتِواءِ، أوْ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ، أوْ بَدَلٌ، وبِالغَيْبِ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِنَ الفاعِلِ أوِ المَفْعُولِ ﴿فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وأجْرٍ كَرِيمٍ﴾ أيْ: بِشِّرْ هَذا الَّذِي اتَّبَعَ الذِّكْرَ، وخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيْبِ بِمَغْفِرَةٍ عَظِيمَةٍ وأجْرٍ كَرِيمٍ أيْ: حَسَنٍ، وهو الجَنَّةُ. ثُمَّ أخْبَرَ - سُبْحانَهُ - بِإحْيائِهِ المَوْتى فَقالَ: ﴿إنّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتى﴾ أيْ: نَبْعَثُهم بَعْدَ المَوْتِ. وقالَ الحَسَنُ، والضَّحّاكُ أيْ: نُحْيِيهِمْ بِالإيمانِ بَعْدَ الجَهْلِ، والأوَّلُ أوْلى. ثُمَّ تَوَعَّدَهم بِكَتْبِ آثارِهِمْ فَقالَ: ﴿ونَكْتُبُ ما قَدَّمُوا﴾ أيْ: أسْلَفُوا مِنَ الأعْمالِ الصّالِحَةِ والطّالِحَةِ وآثارَهم أيْ: ما أبْقَوْهُ مِنَ الحَسَناتِ الَّتِي لا يَنْقَطِعُ نَفْعُها بَعْدَ المَوْتِ: كَمَن سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً أوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أوِ السَّيِّئاتِ الَّتِي تَبْقى بَعْدَ مَوْتِ فاعِلِها: كَمَن سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً. قالَ مُجاهِدٌ وابْنُ زَيْدٍ: ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وأخَّرَتْ﴾ [الانفطار: ٥] وقَوْلُهُ: ﴿يُنَبَّأُ الإنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وأخَّرَ﴾ [القيامة: ١٣] وقِيلَ: المُرادُ بِالآيَةِ آثارُ المَشّائِينَ إلى المَساجِدِ، وبِهِ قالَ جَماعَةٌ مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ. قالَ النَّحّاسُ: وهو أوْلى ما قِيلَ في الآيَةِ؛ لِأنَّها نَزَلَتْ في ذَلِكَ. ويُجابُ عَنْهُ بِأنَّ الِاعْتِبارَ بِعُمُومِ الآيَةِ لا بِخُصُوصِ سَبَبِها، وعُمُومُها يَقْتَضِي كَتْبَ جَمِيعِ آثارِ الخَيْرِ والشَّرِّ، ومِنَ الخَيْرِ تَعْلِيمُ العَلِيمِ، وتَصْنِيفَهُ، والوَقْفُ عَلى القِرَبِ، وعِمارَةُ المَساجِدِ والقَناطِرِ. ومِنَ الشَّرِّ ابْتِداعُ المَظالِمِ، وإحْداثُ ما يَضُرُّ بِالنّاسِ، ويَقْتَدِي بِهِ أهْلُ الجَوْرِ، ويَعْمَلُونَ عَلَيْهِ مِن مَكْسٍ أوْ غَيْرِهِ، ولِهَذا قالَ - سُبْحانَهُ -: ﴿وكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْناهُ في إمامٍ مُبِينٍ﴾ أيْ: وكُلَّ شَيْءٍ مِن أعْمالِ العِبادِ وغَيْرِها كائِنًا ما كانَ في إمامٍ مُبِينٍ أيْ: كِتابٍ مُقْتَدًى بِهِ مُوَضِّحٍ لِكُلِّ شَيْءٍ. قالَ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ: أرادَ اللَّوْحَ المَحْفُوظَ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: أرادَ صَحائِفَ الأعْمالِ. قَرَأ الجُمْهُورُ ونَكْتُبُ عَلى البِناءِ لِلْفاعِلِ. وقَرَأ زِرٌّ ومَسْرُوقٌ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ كُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْناهُ بِنَصْبِ كُلَّ عَلى الِاشْتِغالِ. وقَرَأ أبُو السَّمْألِ بِالرَّفْعِ عَلى الِابْتِداءِ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ يس قالا: يا مُحَمَّدُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: يس قالَ: يا إنْسانُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الحَسَنِ، والضَّحّاكِ وعِكْرِمَةَ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وأبُو نُعَيْمٍ في الدَّلائِلِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «كانَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - يَقْرَأُ في المَسْجِدِ فَيَجْهَرُ بِالقِراءَةِ، حَتّى (p-١٢٢٠)تَأذّى بِهِ ناسٌ مِن قُرَيْشٍ، حَتّى قامُوا لِيَأْخُذُوهُ، وإذا أيْدِيهِمْ مَجْمُوعَةٌ إلى أعْناقِهِمْ، وإذا هم عُمْيٌ لا يُبْصِرُونَ، فَجاءُوا إلى النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -، فَقالُوا: نَنْشُدُكَ اللَّهَ والرَّحِمَ يا مُحَمَّدُ، قالَ: ولَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِن بُطُونِ قُرَيْشٍ إلّا ولِلنَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فِيهِمْ قَرابَةٌ، فَدَعا النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - حَتّى ذَهَبَ ذَلِكَ عَنْهم، فَنَزَلَتْ ﴿يس والقُرْآنِ الحَكِيمِ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿أمْ لَمْ تُنْذِرْهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ قالَ: فَلَمْ يُؤْمِن مِن ذَلِكَ النَّفَرِ أحَدٌ» وفي البابِ رِواياتٌ في سَبَبِ نُزُولِ ذَلِكَ هَذِهِ الرِّوايَةُ أحْسَنُها وأقْرَبُها إلى الصِّحَّةِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ قالَ: الأغْلالُ ما بَيْنَ الصَّدْرِ إلى الذَّقَنِ ﴿فَهم مُقْمَحُونَ﴾ كَما تُقْمَحُ الدّابَّةُ بِاللِّجامِ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلْنا مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ سَدًّا﴾ الآيَةَ قالَ: كانُوا يَمُرُّونَ عَلى النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَلا يَرَوْنَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أيْضًا قالَ: «اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ بِبابِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَهُ لِيُؤْذُوهُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَأتاهُ جِبْرِيلُ بِسُورَةِ يس وأمَرَهُ بِالخُرُوجِ عَلَيْهِمْ، فَأخَذَ كَفًّا مِن تُرابٍ وخَرَجَ وهو يَقْرَؤُها ويَذُرُّ التُّرابَ عَلى رُءُوسِهِمْ، فَما رَأوْهُ حَتّى جازَ، فَجَعَلَ أحَدُهم يَلْمِسُ رَأْسَهُ فَيَجِدُ التُّرابَ، وجاءَ بَعْضُهم فَقالَ: ما يُجْلِسُكم ؟ قالُوا نَنْتَظِرُ مُحَمَّدًا، فَقالَ: لَقَدْ رَأيْتُهُ داخِلًا المَسْجِدَ، قالَ: قُومُوا فَقَدْ سَحَرَكم» . وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، والتِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ، والبَزّارُ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ: كانَ بَنُو سَلَمَةَ في ناحِيَةٍ مِنَ المَدِينَةِ، فَأرادُوا أنْ يَنْتَقِلُوا إلى قُرْبِ المَسْجِدِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿إنّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتى ونَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وآثارَهم﴾ فَدَعاهم رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -، فَقالَ: «إنَّهُ يَكْتُبُ آثارَكم، ثُمَّ قَرَأ عَلَيْهِمُ الآيَةَ فَتَرَكُوا» . وأخْرَجَ الفِرْيابِيُّ، وأحْمَدُ في الزُّهْدِ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ ماجَهْ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ نَحْوَهُ. وفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وغَيْرِهِ مِن حَدِيثِ جابِرٍ قالَ: " إنَّ بَنِي سَلَمَةَ أرادُوا أنْ يَبِيعُوا دِيارَهم ويَتَحَوَّلُوا قَرِيبًا مِنَ المَسْجِدِ، فَقالَ لَهم رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «يا بَنِي سَلَمَةَ دِيارُكم تَكْتُبُ آثارَكم» " .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب