الباحث القرآني
لَمّا وقَعَ ما وقَعَ مِنهم مَعَ حَبِيبٍ النَّجّارِ غَضَبَ اللَّهُ لَهُ وعَجَّلَ لَهُمُ النِّقْمَةَ وأهْلَكَهم بِالصَّيْحَةِ، ومَعْنى ﴿وما أنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ﴾ أيْ: عَلى قَوْمِ حَبِيبٍ النَّجّارِ مِن بَعْدِ قَتْلِهِمْ لَهُ، أوْ مِن بَعْدِ رَفْعِ اللَّهِ لَهُ إلى السَّماواتِ عَلى الِاخْتِلافِ السّابِقِ مِن جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ لِإهْلاكِهِمْ ولِلِانْتِقامِ مِنهم أيْ: لَمْ نَحْتَجْ إلى إرْسالِ جُنُودٍ مِنَ السَّماءِ لِإهْلاكِهِمْ كَما وقَعَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ مِن إرْسالِ المَلائِكَةِ لِنُصْرَتِهِ وحَرْبِ أعْدائِهِ وما كُنّا مُنْزِلِينَ أيْ: وما صَحَّ في قَضائِنا وحِكْمَتِنا أنْ نُنْزِلَ لِإهْلاكِهِمْ جُنْدًا لَسَبْقِ قَضائِنا وقَدَرِنا بِأنَّ إهْلاكَهم بِالصَّيْحَةِ لا بِإنْزالِ الجُنْدِ.
وقالَ قَتادَةُ ومُجاهِدٌ، والحَسَنُ أيْ: ما أنْزَلَنا عَلَيْهِمْ مِن رِسالَةٍ مِنَ السَّماءِ ولا نَبِيٍّ بَعْدَ قَتْلِهِ.
ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قالَ: هُمُ المَلائِكَةُ النّازِلُونَ بِالوَحْيِ عَلى الأنْبِياءِ، والظّاهِرُ أنَّ مَعْنى النَّظْمِ القُرْآنِيِّ تَحْقِيرُ شَأْنِهِمْ، وتَصْغِيرُ أمْرِهِمْ، أيْ لَيْسُوا بِأحِقّاءَ بِأنْ نُنْزِلَ لِإهْلاكِهِمْ جُنْدًا مِنَ السَّماءِ. بَلْ أهْلَكْناهم بِصَيْحَةٍ واحِدَةٍ كَما يُفِيدُهُ قَوْلُهُ: إنْ كانَتْ إلّا صَيْحَةً واحِدَةً أيْ: إنْ كانَتِ العُقُوبَةُ، أوِ النِّقْمَةُ، أوِ الأخْذَةُ إلّا صَيْحَةً واحِدَةً صاحَ بِها جِبْرِيلُ فَأهْلَكَهم.
قالَ المُفَسِّرُونَ: أخَذَ جِبْرِيلُ بِعِضادَتَيْ بابِ المَدِينَةِ، ثُمَّ صاحَ بِهِمْ صَيْحَةً فَإذا هم مَيِّتُونَ لا يُسْمَعُ لَهم حِسٌّ كالنّارِ إذا طَفِئَتْ، وهو مَعْنى قَوْلِهِ: فَإذا هم خامِدُونَ أيْ: قَوْمٌ خامِدُونَ مَيِّتُونَ، شَبَّهَهم بِالنّارِ إذا طَفِئَتْ، لِأنَّ الحَياةَ كالنّارِ السّاطِعَةِ، والمَوْتَ كَخُمُودِها.
قَرَأ الجُمْهُورُ صَيْحَةً بِالنَّصْبِ عَلى أنَّ كانَ ناقِصَةٌ، واسْمُها ضَمِيرٌ يَعُودُ إلى ما يُفْهَمُ مِنَ السِّياقِ كَما قَدَّمْنا.
وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ، والأعْرَجُ، ومُعاذٌ، والقارِّيُّ بِرَفْعِها عَلى أنَّ كانَ تامَّةٌ أيْ: وقَعَ وحَدَثَ، وأنْكَرَ هَذِهِ القِراءَةَ أبُو حاتِمٍ وكَثِيرٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ بِسَبَبِ التَّأْنِيثِ في قَوْلِهِ: إنْ كانَتْ قالَ أبُو حاتِمٍ: فَلَوْ كانَ كَما قَرَأ أبُو جَعْفَرٍ لَقالَ: " إنْ كانَ إلّا صَيْحَةٌ " وقَدَّرَ الزَّجّاجُ هَذِهِ القِراءَةَ بِقَوْلِهِ: إنْ كانَتْ عَلَيْهِمْ صَيْحَةٌ إلّا صَيْحَةً واحِدَةً، وقَدَّرَها غَيْرُهُ: ما وقَعَتْ عَلَيْهِمْ إلّا صَيْحَةٌ واحِدَةٌ.
وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ " إنْ كانَتْ إلّا زَقْيَةً واحِدَةً " والزَّقْيَةُ (p-١٢٢٣)الصَّيْحَةُ. قالَ النَّحّاسُ: وهَذا مُخالِفٌ لِلْمُصْحَفِ، وأيْضًا فَإنَّ اللُّغَةَ المَعْرُوفَةَ زَقا يَزْقُو إذا صاحَ، ومِنهُ المَثَلُ " أثْقَلُ مِنَ الزَّواقِي "، فَكانَ يَجِبُ عَلى هَذا أنْ تَكُونَ زَقْوَةً، ويُجابُ عَنْهُ بِما ذَكَرَهُ الجَوْهَرِيُّ قالَ: الزَّقْوُ والزَّقْيُ مَصْدَرٌ وقَدْ زَقا الصَّدا يَزْقُو. زَقا أيْ: صاحَ: وكُلُّ صائِحٍ زاقٍ، والزَّقْيَةُ الصَّيْحَةُ.
يا حَسْرَةً عَلى العِبادِ قَرَأ الجُمْهُورُ بِنَصْبِ ( حَسْرَةً )، عَلى أنَّها مُنادًى مُنَكَّرٌ كَأنَّهُ نادى الحَسْرَةَ وقالَ لَها: هَذا أوانُكِ فاحْضُرِي.
وقِيلَ: إنَّها مَنصُوبَةٌ عَلى المَصْدَرِيَّةِ، والمُنادى مَحْذُوفٌ، والتَّقْدِيرُ: يا هَؤُلاءِ تَحَسَّرُوا حَسْرَةً.
وقَرَأ قَتادَةُ وأُبَيٌّ في رِوايَةٍ عَنْهُ بِضَمِّ " حَسْرَةُ " عَلى النِّداءِ.
قالَ الفَرّاءُ: في تَوْجِيهِ هَذِهِ القِراءَةِ: إنَّ الِاخْتِيارَ النَّصْبُ وإنَّها لَوْ رُفِعَتِ النَّكِرَةُ لَكانَ صَوابًا، واسْتَشْهَدَ بِأشْياءَ نَقَلَها عَنِ العَرَبِ مِنها أنَّهُ سَمِعَ مِنَ العَرَبِ: يا مُهْتَمُّ بِأمْرِنا لا تَهْتَمَّ، وأنْشَدَ:
؎يا دارُ غَيَّرَها البِلى تَغْيِيرًا
قالَ النَّحّاسُ: وفي هَذا إبْطالُ بابِ النِّداءِ أوْ أكْثَرِهِ.
وتَقْدِيرُ ما ذَكَرَهُ: يا أيُّها المُهْتَمُّ لا تَهْتَمَّ بِأمْرِنا، وتَقْدِيرُ البَيْتِ: يا أيَّتُها الدّارُ.
وحَقِيقَةُ الحَسْرَةِ أنْ يَلْحَقَ الإنْسانَ مِنَ النَّدَمِ ما يَصِيرُ بِهِ حَسِيرًا.
قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: المَعْنى يا حَسْرَةً مِنَ العِبادِ عَلى أنْفُسِهِمْ وتَنَدُّمًا وتَلَهُّفًا في اسْتِهْزائِهِمْ بِرُسُلِ اللَّهِ، ويُؤَيِّدُ هَذا قِراءَةُ ابْنِ عَبّاسٍ وعَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ: " يا حَسْرَةَ العِبادِ " عَلى الإضافَةِ، ورُوِيَتْ هَذِهِ القِراءَةُ عَنْ أُبَيٍّ.
وقالَ الضَّحّاكُ: إنَّها حَسْرَةُ المَلائِكَةِ عَلى الكُفّارِ حِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ. وقِيلَ: هي مِن قَوْلِ الرَّجُلِ الَّذِي جاءَ مِن أقْصى المَدِينَةِ. وقِيلَ: إنَّ القائِلَ: يا حَسْرَةً عَلى العِبادِ هُمُ الكُفّارُ المُكَذِّبُونَ، والعُبّادُ الرُّسُلُ، وذَلِكَ أنَّهم لَمّا رَأوُا العَذابَ تَحَسَّرُوا عَلى قَتْلِهِمْ وتَمَنَّوُا الإيمانَ قالَهُ أبُو العالِيَةِ ومُجاهِدٌ، وقِيلَ: إنَّ التَّحَسُّرَ عَلَيْهِمْ هو مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - بِطَرِيقِ الِاسْتِعارَةِ لِتَعْظِيمِ ما جَنَوْهُ وقَرَأ ابْنُ هُرْمُزَ، ومُسْلِمُ بْنُ جُنْدُبٍ وعِكْرِمَةُ وأبُو الزِّنادِ " يا حَسْرَهْ " بِسُكُونِ الهاءِ إجْراءً لِلْوَصْلِ مَجْرى الوَقْفِ، وقُرِئَ " يا حَسْرَتا " كَما قُرِئَ بِذَلِكَ في سُورَةِ الزُّمَرِ، وجُمْلَةُ ﴿ما يَأْتِيهِمْ مِن رَسُولٍ إلّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيانِ ما كانُوا عَلَيْهِ مِن تَكْذِيبِ الرُّسُلِ والِاسْتِهْزاءِ بِهِمْ، وأنَّ ذَلِكَ هو سَبَبُ التَّحَسُّرِ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ عَجِبَ - سُبْحانَهُ - مِن حالِهِمْ حَيْثُ لَمْ يَعْتَبِرُوا بِأمْثالِهِمْ مِنَ الأُمَمِ الخالِيَةِ فَقالَ: ﴿ألَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهم مِنَ القُرُونِ﴾ أيْ: ألَمْ يَعْلَمُوا كَثْرَةَ مَن أهْلَكْنا قَبْلَهم مِنَ القُرُونِ الَّتِي أهْلَكْناها مِنَ الأُمَمِ الخالِيَةِ، وجُمْلَةُ ﴿أنَّهم إلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ﴾ بَدَلٌ مِن ( كَمْ أهْلَكْنا ) عَلى المَعْنى.
قالَ سِيبَوَيْهِ: ( أنَّ ) بَدَلٌ مِن كَمْ، وهي الخَبَرِيَّةُ، فَلِذَلِكَ جازَ أنْ يُبْدَلَ مِنها ما لَيْسَ بِاسْتِفْهامٍ، والمَعْنى: ألَمْ يَرَوْا أنَّ القُرُونَ الَّذِينَ أهْلَكْناهم أنَّهم إلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ.
وقالَ الفَرّاءُ: كَمْ في مَوْضِعِ نَصْبٍ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: بِـ ( يَرَوْا )، واسْتَشْهَدَ عَلى هَذا بِأنَّهُ في قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ " ألَمْ يَرَوْا مَن أهْلَكْنا " والوَجْهُ الآخَرُ: أنْ تَكُونَ كَمْ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِـ ( أهْلَكْنا ) .
قالَ النَّحّاسُ: القَوْلُ الأوَّلُ مُحالٌ، لِأنَّ كَمْ لا يَعْمَلُ فِيها ما قَبْلَها؛ لِأنَّها اسْتِفْهامٌ، ومُحالٌ أنْ يَدْخُلَ الِاسْتِفْهامُ في حَيِّزِ ما قَبْلَهُ، وكَذا حُكْمُها إذا كانَتْ خَبَرًا، وإنْ كانَ سِيبَوَيْهِ قَدْ أوْمَأ إلى بَعْضِ هَذا فَجَعَلَ ( أنَّهم ) بَدَلًا مِن ( كَمْ )، وقَدْ رَدَّ ذَلِكَ المُبَرِّدُ أشَدَّ رَدٍّ.
﴿وإنْ كُلٌّ لَمّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ﴾ أيْ: مُحْضَرُونَ لَدَيْنا يَوْمَ القِيامَةِ لِلْجَزاءِ.
قَرَأ ابْنُ عامِرٍ وعاصِمٌ، وحَمْزَةُ لَمّا بِتَشْدِيدِها، وقَرَأ الباقُونَ بِتَخْفِيفِها.
قالَ الفَرّاءُ: مَن شَدَّدَ جَعَلَ ( لَمّا ) بِمَعْنى إلّا، و( إنْ ) بِمَعْنى ما، أيْ: ما كُلٌّ إلّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ، ومَعْنى ( جَمِيعٌ ): مَجْمُوعُونَ، فَهو فَعِيلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، و( لَدَيْنا ) ظَرْفٌ لَهُ، وأمّا عَلى قِراءَةِ التَّخْفِيفِ فَ ( إنْ ) هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وما بَعْدَها مَرْفُوعٌ بِالِابْتِداءِ، وتَنْوِينُ كُلٌّ عِوَضٌ عَنِ المُضافِ إلَيْهِ وما بَعْدَهُ الخَبَرُ، واللّامُ هي الفارِقَةُ بَيْنَ المُخَفَّفَةِ والنّافِيَةِ.
قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: و( ما ) عَلى هَذِهِ القِراءَةِ زائِدَةٌ، والتَّقْدِيرُ عِنْدَهُ: وإنْ كُلٌّ لَجَمِيعٌ.
وقِيلَ: مَعْنى مُحْضَرُونَ مُعَذَّبُونَ، والأوْلى أنَّهُ عَلى مَعْناهُ الحَقِيقِيِّ مِنَ الإحْضارِ لِلْحِسابِ.
ثُمَّ ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - البُرْهانَ عَلى التَّوْحِيدِ والحَشْرِ مَعَ تَعْدادِ النِّعَمِ وتَذْكِيرِها فَقالَ: وآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ المَيْتَةُ فَ ( آيَةٌ ) خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وتَنْكِيرُها لِلتَّفْخِيمِ، و( لَهم ) صِفَتُها، أوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ ( آيَةٌ )؛ لِأنَّها بِمَعْنى عَلامَةٍ، و( الأرْضُ ) مُبْتَدَأٌ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ ( آيَةٌ ) مُبْتَدَأً لِكَوْنِها قَدْ تَخَصَّصَتْ بِالصِّفَةِ، وما بَعْدَها الخَبَرُ.
قَرَأ أهْلُ المَدِينَةِ " المَيِّتَةَ " بِالتَّشْدِيدِ وخَفَّفَها الباقُونَ، وجُمْلَةُ أحْيَيْناها مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِكَيْفِيَّةِ كَوْنِها آيَةً، وقِيلَ: هي صِفَةٌ لِلْأرْضِ فَنَبَّهَهُمُ اللَّهُ بِهَذا عَلى إحْياءِ المَوْتى وذَكَّرَهم نِعَمَهُ وكَمالَ قُدْرَتِهِ، فَإنَّهُ - سُبْحانَهُ - أحْيا الأرْضَ بِالنَّباتِ، وأخْرَجَ مِنها الحُبُوبَ الَّتِي يَأْكُلُونَها ويَتَغَذَّوْنَ بِها، وهو مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وأخْرَجْنا مِنها حَبًّا فَمِنهُ يَأْكُلُونَ﴾ وهو ما يَقْتاتُونَهُ مِنَ الحُبُوبِ، وتَقْدِيمُ ( مِنهُ ) لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ الحَبَّ مُعْظَمُ ما يُؤْكَلُ وأكْثَرُ ما يَقُومُ بِهِ المَعاشُ.
﴿وجَعَلْنا فِيها جَنّاتٍ مِن نَخِيلٍ وأعْنابٍ﴾ أيْ: جَعَلْنا في الأرْضِ جَنّاتٍ مِن أنْواعِ النَّخْلِ والعِنَبِ، وخَصَّصَهُما بِالذِّكْرِ لِأنَّهُما أعْلى الثِّمارِ وأنْفَعُها لِلْعِبادِ وفَجَّرْنا فِيها مِنَ العُيُونِ أيْ: فَجَّرْنا في الأرْضِ بَعْضًا مِنَ العُيُونِ، فَحُذِفَ المَوْصُوفُ وأُقِيمَتِ الصِّفَةُ مَقامَهُ، أوِ المَفْعُولُ ( العُيُونِ )، و( مِن ) مَزِيدَةٌ عَلى رَأْيِ مَن جَوَّزَ زِيادَتَها في الإثْباتِ وهو الأخْفَشُ ومَن وافَقَهُ، والمُرادُ بِالعُيُونِ عُيُونُ الماءِ.
قَرَأ الجُمْهُورُ فَجَّرْنا بِالتَّشْدِيدِ، وقَرَأ جَناحُ بْنُ حُبَيْشٍ بِالتَّخْفِيفِ، والفَجْرُ والتَّفْجِيرُ كالفَتْحِ والتَّفْتِيحِ لَفْظًا ومَعْنًى.
واللّامُ في لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ مُتَعَلِّقٌ بِـ ( جَعَلْنا )، والضَّمِيرُ في مِن ثَمَرِهِ يَعُودُ إلى المَذْكُورِ مِنَ الجَنّاتِ والنَّخِيلِ، وقِيلَ: هو راجِعٌ إلى ماءِ العُيُونِ؛ لِأنَّ الثَّمَرَ مِنهُ، قالَهُ الجُرْجانِيُّ.
قَرَأ الجُمْهُورُ ثَمَرِهِ بِفَتْحِ الثّاءِ والمِيمِ، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ بِضَمِّهِما، وقَرَأ الأعْمَشُ بِضَمِّ الثّاءِ وإسْكانِ المِيمِ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ في هَذا في الأنْعامِ، وقَوْلُهُ: وما عَمِلَتْهُ أيْدِيهِمْ مَعْطُوفٌ عَلى ثَمَرِهِ أيْ: لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ ويَأْكُلُوا مِمّا عَمِلَتْهُ أيْدِيهِمْ كالعَصِيرِ والدِّبْسِ ونَحْوِهِما، وكَذَلِكَ ما غَرَسُوهُ وحَفَرُوهُ عَلى أنَّ ( ما ) مَوْصُولَةٌ، وقِيلَ: هي نافِيَةٌ، والمَعْنى: لَمْ يَعْمَلُوهُ، بَلِ العامِلُ لَهُ (p-١٢٢٤)هُوَ اللَّهُ أيْ: وجَدُوها مَعْمُولَةً ولا صُنْعَ لَهم فِيها، وهو قَوْلُ الضَّحّاكِ ومُقاتِلٍ.
قَرَأ الجُمْهُورُ " عَمِلَتْهُ " وقَرَأ الكُوفِيُّونَ " عَمِلَتْ " بِحَذْفِ الضَّمِيرِ، والِاسْتِفْهامُ في قَوْلِهِ: أفَلا يَشْكُرُونَ لِلتَّقْرِيعِ والتَّوْبِيخِ لَهم لِعَدَمِ شُكْرِهِمْ لِلنِّعَمِ.
وجُمْلَةُ ﴿سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْواجَ كُلَّها﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَنْزِيهِهِ - سُبْحانَهُ - عَمّا وقَعَ مِنهم مِن تَرْكِ الشُّكْرِ لِنِعَمِهِ المَذْكُورَةِ، والتَّعَجُّبِ مِن إخْلالِهِمْ بِذَلِكَ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ مُسْتَوْفًى في مَعْنى " سُبْحانَ "، وهو في تَقْدِيرِ الأمْرِ لِلْعِبادِ بِأنْ يُنَزِّهُوهُ عَمًّا لا يَلِيقُ بِهِ، والأزْواجُ: الأنْواعُ والأصْنافُ، لِأنَّ كُلَّ صِنْفٍ مُخْتَلِفُ الألْوانِ والطُّعُومِ والأشْكالِ، ومِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ بَيانٌ لِلْأزْواجِ، والمُرادُ كُلُّ ما يَنْبُتُ فِيها مِنَ الأشْياءِ المَذْكُورَةِ وغَيْرِها ومِن أنْفُسِهِمْ أيْ: خَلَقَ الأزْواجَ مِن أنْفُسِهِمْ، وهُمُ الذُّكُورُ والإناثُ ومِمّا لا يَعْلَمُونَ مِن أصْنافِ خَلْقِهِ في البَرِّ والبَحْرِ والسَّماءِ والأرْضِ.
﴿وآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنهُ النَّهارَ﴾ الكَلامُ في هَذا كَما قَدَّمْنا في قَوْلِهِ: ﴿وآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ المَيْتَةُ أحْيَيْناها﴾ والمَعْنى: أنَّ ذَلِكَ عَلامَةٌ دالَّةٌ عَلى تَوْحِيدِ اللَّهِ وقُدْرَتِهِ ووُجُوبِ إلَهِيَّتِهِ، والسَّلْخُ: الكَشْطُ والنَّزْعُ، يُقالُ: سَلَخَهُ اللَّهُ مِن بَدَنِهِ، ثُمَّ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنى الإخْراجِ، فَجَعَلَ - سُبْحانَهُ - ذَهابَ الضَّوْءِ ومَجِيءَ الظُّلْمَةِ كالسَّلْخِ مِنَ الشَّيْءِ، وهو اسْتِعارَةٌ بَلِيغَةٌ فَإذا هم مُظْلِمُونَ أيْ: داخِلُونَ في الظَّلامِ مُفاجَأةً وبَغْتَةً، يُقالُ: أظْلَمْنا أيْ: دَخَلْنا في ظَلامِ اللَّيْلِ، وأظْهَرْنا دَخْلَنا في وقْتِ الظُّهْرِ، وكَذَلِكَ أصْبَحْنا وأمْسَيْنا، وقِيلَ: مِنهُ بِمَعْنى عَنْهُ، والمَعْنى: نَسْلَخُ عَنْهُ ضِياءَ النَّهارِ.
قالَ الفَرّاءُ: يَرْمِي بِالنَّهارِ عَلى اللَّيْلِ فَيَأْتِي بِالظُّلْمَةِ، وذَلِكَ أنَّ الأصْلَ هي الظُّلْمَةُ والنَّهارُ داخِلٌ عَلَيْهِ، فَإذا غَرَبَتِ الشَّمْسُ سُلِخَ النَّهارُ مِنَ اللَّيْلِ أيْ: كُشِطَ وأُزِيلَ، فَتَظْهَرُ الظُّلْمَةُ.
﴿والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها﴾ يَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ الواوُ لِلْعَطْفِ عَلى اللَّيْلِ، والتَّقْدِيرُ: وآيَةٌ لَهُمُ الشَّمْسُ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الواوُ ابْتِدائِيَّةً، والشَّمْسُ مُبْتَدَأً، وما بَعْدَها الخَبَرَ، ويَكُونُ الكَلامُ مُسْتَأْنَفًا مُشْتَمِلًا عَلى ذِكْرِ آيَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ.
قِيلَ: وفي الكَلامِ حَذْفٌ، والتَّقْدِيرُ: تَجْرِي لِمَجْرًى مُسْتَقَرٍّ لَها، فَتَكُونُ اللّامُ لِلْعِلَّةِ أيْ: لِأجْلٍ مُسْتَقَرٍّ لَها، وقِيلَ: اللّامُ بِمَعْنى إلى وقَدْ قُرِئَ بِذَلِكَ.
قِيلَ: والمُرادُ بِالمُسْتَقَرِّ: يَوْمُ القِيامَةِ، فَعِنْدَهُ تَسْتَقِرُّ ولا يَبْقى لَها حَرَكَةٌ، وقِيلَ: مُسْتَقَرُّها هو أبْعَدُ ما تَنْتَهِي إلَيْهِ ولا تُجاوِزُهُ، وقِيلَ: نِهايَةُ ارْتِفاعِها في الصَّيْفِ ونِهايَةُ هُبُوطِها في الشِّتاءِ، وقِيلَ: مُسْتَقَرُّها تَحْتَ العَرْشِ، لِأنَّها تَذْهَبُ إلى هُنالِكَ فَتَسْجُدُ فَتَسْتَأْذِنُ في الرُّجُوعِ فَيُؤْذَنُ لَها، وهَذا هو الرّاجِحُ.
وقالَ الحَسَنُ: إنَّ لِلشَّمْسِ في السَّنَةِ ثَلاثَمِائَةٍ وسِتِّينَ مَطْلَعًا تَنْزِلُ في كُلِّ يَوْمٍ مَطْلَعًا ثُمَّ لا تَنْزِلُ إلى الحَوْلِ، فَهي تَجْرِي في تِلْكَ المَنازِلِ، وهو مُسْتَقَرُّها، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ، وزَيْنُ العابِدِينَ، وابْنُهُ الباقِرُ، والصّادِقُ بْنُ الباقِرِ " لا مُسْتَقَرَّ لَها " بِلا الَّتِي لِنَفْيِ الجِنْسِ، وبِناءِ " مُسْتَقَرَّ " عَلى الفَتْحِ.
وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: " لا مُسْتَقَرٌّ " بِلا الَّتِي بِمَعْنى لَيْسَ، و" مُسْتَقَرٌّ " اسْمُها، و( لَها ) خَبَرُها، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ إلى جَرْيِ الشَّمْسِ، أيْ: ذَلِكَ الجَرْيُ تَقْدِيرُ العَزِيزِ أيِ: الغالِبُ القاهِرُ العَلِيمُ أيِ: المُحِيطُ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، ويَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ الإشارَةُ راجِعَةً إلى المُسْتَقَرِّ، أيْ: ذَلِكَ المُسْتَقَرُّ تَقْدِيرُ اللَّهِ.
﴿والقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ﴾ . قَرَأ نافِعٌ وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو بِرَفْعِ " القَمَرَ " عَلى الِابْتِداءِ.
وقَرَأ الباقُونَ بِالنَّصْبِ عَلى الِاشْتِغالِ، وانْتِصابُ ( مَنازِلَ ) عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ، لِأنَّ " قَدَّرْنا " بِمَعْنى صَيَّرْنا، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا عَلى الحالِ أيْ: قَدَّرْنا سَيْرَهُ حالَ كَوْنِهِ ذا مَنازِلَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا عَلى الظَّرْفِيَّةِ أيْ: في مَنازِلَ.
واخْتارَ أبُو عُبَيْدٍ النَّصْبَ في ( القَمَرَ )، قالَ: لِأنَّ قَبْلَهُ فِعْلًا وهو ( نَسْلَخُ )، وبَعْدَهُ فِعْلًا وهو ( قَدَّرْنا ) .
قالَ النَّحّاسُ: أهْلُ العَرَبِيَّةِ جَمِيعًا فِيما عَلِمْتُ عَلى خِلافِ ما قالَ.
مِنهُمُ الفَرّاءُ قالَ: الرَّفْعُ أعْجَبُ إلَيَّ، قالَ: وإنَّما كانَ الرَّفْعُ عِنْدَهم أوْلى لِأنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى ما قَبْلَهُ، ومَعْناهُ: وآيَةٌ لَهُمُ القَمَرُ.
قالَ أبُو حاتِمٍ: الرَّفْعُ أوْلى، لِأنَّكَ شَغَلْتَ الفِعْلَ عَنْهُ بِالضَّمِيرِ فَرَفَعْتَهُ بِالِابْتِداءِ، والمَنازِلُ: هي الثَّمانِيَةُ والعِشْرُونَ الَّتِي يَنْزِلُ القَمَرُ في كُلِّ لَيْلَةٍ في واحِدٍ مِنها وهي مَعْرُوفَةٌ وسَيَأْتِي ذِكْرُها، فَإذا صارَ القَمَرُ في آخِرِها عادَ إلى أوَّلِها، فَيَقْطَعُ الفَلَكَ في ثَمانٍ وعِشْرِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَسْتَتِرُ لَيْلَتَيْنِ، ثُمَّ يَطْلُعُ هِلالًا، فَيَعُودُ في قَطْعِ تِلْكَ المَنازِلِ في الفَلَكِ ﴿حَتّى عادَ كالعُرْجُونِ القَدِيمِ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: العُرْجُونُ هو عُودُ العِذْقِ الَّذِي فِيهِ الشَّمارِيخُ، وهو فُعْلُونٌ مِنَ الِانْعِراجِ، وهو الِانْعِطافُ أيْ: سارَ في مَنازِلِهِ، فَإذا كانَ في آخِرِها دَقَّ واسْتَقْوَسَ وصَغُرَ حَتّى صارَ كالعُرْجُونِ القَدِيمِ، وعَلى هَذا فالنُّونُ زائِدَةٌ. قالَ قَتادَةُ: وهو العِذْقُ اليابِسُ المُنْحَنِي مِنَ النَّخْلَةِ. قالَ ثَعْلَبٌ: العُرْجُونُ الَّذِي يَبْقى في النَّخْلَةِ إذا قُطِعَتْ، والقَدِيمُ: البالِي. وقالَ الخَلِيلُ: العُرْجُونُ أصْلُ العِذْقِ وهو أصْفَرُ عَرِيضٌ، يُشَبَّهُ بِهِ الهِلالُ إذا انْحَنى، وكَذا قالَ الجَوْهَرِيُّ: إنَّهُ أصْلُ العِذْقِ الَّذِي يَعْوَجُّ ويُقْطَعُ مِنهُ الشَّمارِيخُ، فَيَبْقى عَلى النَّخْلِ يابِسًا، وعَرَّجْتُهُ: ضَرَبْتُهُ بِالعُرْجُونِ، وعَلى هَذا فالنُّونُ أصْلِيَّةٌ.
قَرَأ الجُمْهُورُ العُرْجُونِ بِضَمِّ العَيْنِ والجِيمِ: وقَرَأ سُلَيْمانُ التَّيْمِيُّ بِكَسْرِ العَيْنِ وفَتْحِ الجِيمِ، وهُما لُغَتانِ، والقَدِيمُ: العَتِيقُ.
﴿لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ﴾ ( الشَّمْسُ ) مَرْفُوعَةٌ بِالِابْتِداءِ، لِأنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ تَعْمَلَ لا في المَعْرِفَةِ أيْ: لا يَصِحُّ ولا يُمْكِنْ لِلشَّمْسِ أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ في سُرْعَةٍ وتَنْزِلَ في المَنزِلِ الَّذِي فِيهِ القَمَرُ، لِأنَّ لِكُلٍّ واحِدٍ مِنهُما سُلْطانًا عَلى انْفِرادِهِ، فَلا يَتَمَكَّنُ أحَدُهُما مِنَ الدُّخُولِ عَلى الآخَرِ، فَيَذْهَبُ سُلْطانُهُ إلى أنْ يَأْذَنَ اللَّهُ بِالقِيامَةِ، فَتَطْلُعُ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِها.
وقالَ الضَّحّاكُ: مَعْناهُ إذا طَلَعَتِ الشَّمْسُ لَمْ يَكُنْ لِلْقَمَرِ ضَوْءٌ، وإذا طَلَعَ القَمَرُ لَمْ يَكُنْ لِلشَّمْسِ ضَوْءٌ.
وقالَ مُجاهِدٌ أيْ: لا يُشْبِهُ ضَوْءُ أحَدِهِما ضَوْءَ الآخَرِ.
وقالَ الحَسَنُ: إنَّهُما لا يَجْتَمِعانِ في السَّماءِ لَيْلَةَ الهِلالِ خاصَّةً، وكَذا قالَ يَحْيى بْنُ سَلامٍ.
وقِيلَ: مَعْناهُ: إذا اجْتَمَعا في السَّماءِ كانَ أحَدُهُما بَيْنَ يَدَيِ الآخَرِ في مَنزِلٍ لا يَشْتَرِكانِ فِيهِ.
وقِيلَ: القَمَرُ في سَماءِ الدُّنْيا، والشَّمْسُ في (p-١٢٢٥)السَّماءِ الرّابِعَةِ. ذَكَرَهُ النَّحّاسُ والمَهْدَوِيُّ.
قالَ النَّحّاسُ: وأحْسَنُ ما قِيلَ في مَعْناهُ وأبَيْنُهُ أنَّ سَيْرَ القَمَرِ سَيْرٌ سَرِيعٌ، والشَّمْسُ لا تُدْرِكُهُ في السَّيْرِ.
وأمّا قَوْلُهُ ﴿وجُمِعَ الشَّمْسُ والقَمَرُ﴾ [القيامة: ٩] فَذَلِكَ حِينَ حَبَسَ الشَّمْسَ عَنِ الطُّلُوعِ عَلى ما تَقَدَّمَ بَيانُهُ في الأنْعامِ، ويَأْتِي في سُورَةِ القِيامَةِ أيْضًا، وجَمْعُهُما عَلامَةٌ لِانْقِضاءِ الدُّنْيا وقِيامِ السّاعَةِ ولا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ أيْ: لا يَسْبِقُهُ فَيَفُوتُهُ، ولَكِنْ يُعاقِبُهُ، ويَجِيءُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما في وقْتِهِ ولا يَسْبِقُ صاحِبَهُ، وقِيلَ: المُرادُ مِنَ اللَّيْلِ والنَّهارِ آيَتاهُما، وهُما الشَّمْسُ والقَمَرُ، فَيَكُونُ عَكْسَ قَوْلِهِ: ﴿لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أنْ تُدْرِكَ القَمَرَ﴾ أيْ: ولا القَمَرُ سابِقُ الشَّمْسِ، وإيرادُ السَّبْقِ مَكانَ الإدْراكِ لِسُرْعَةِ سَيْرِ القَمَرِ ﴿وكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ التَّنْوِينُ في ( كُلٌّ ) عِوَضٌ عَنِ المُضافِ إلَيْهِ أيْ: وكُلُّ واحِدٍ مِنهُما، والفَلَكُ: هو الجِسْمُ المُسْتَدِيرُ أوِ السَّطْحُ المُسْتَدِيرُ أوِ الدّائِرَةُ، والخِلافُ في كَوْنِ السَّماءِ مَبْسُوطَةً أوْ مُسْتَدِيرَةً مَعْرُوفٌ، والسَّبْحُ: السَّيْرُ بِانْبِساطٍ وسُهُولَةٍ، والجَمْعُ في قَوْلِهِ: يَسْبَحُونَ بِاعْتِبارِ اخْتِلافِ مَطالِعِهِما، فَكَأنَّهُما مُتَعَدِّدانِ بِتَعَدُّدِها، أوِ المُرادُ: الشَّمْسُ والقَمَرُ والكَواكِبُ.
وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ في قَوْلِهِ: وما أنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ الآيَةَ، يَقُولُ: ما كابَدْناهم بِالجُمُوعِ أيِ: الأمْرُ أيْسَرُ عَلَيْنا مِن ذَلِكَ.
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ياحَسْرَةً عَلى العِبادِ﴾ يَقُولُ: يا ويْلًا لِلْعِبادِ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿ياحَسْرَةً عَلى العِبادِ﴾ قالَ: النَّدامَةُ عَلى العِبادِ الَّذِينَ ﴿ما يَأْتِيهِمْ مِن رَسُولٍ إلّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ يَقُولُ: النَّدامَةُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿وما عَمِلَتْهُ أيْدِيهِمْ﴾ قالَ: وجَدُوهُ مَعْمُولًا لَمْ تَعْمَلْهُ أيْدِيهِمْ: يَعْنِي الفُراتَ ودِجْلَةَ ونَهْرَ بَلْخٍ وأشْباهَها أفَلا يَشْكُرُونَ لِهَذا.
وأخْرَجَ البُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ، وغَيْرُهُما عَنْ أبِي ذَرٍّ قالَ: «سَألْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها﴾ قالَ: مُسْتَقَرُّها تَحْتَ العَرْشِ»، وفي لَفْظٍ لِلْبُخارِيِّ وغَيْرِهِ مِن حَدِيثِهِ قالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - في المَسْجِدِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَقالَ: «يا أبا ذَرٍّ أتَدْرِي أيْنَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ ؟ قُلْتُ: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ، قالَ: إنَّها تَذْهَبُ حَتّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿والشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها﴾» .
وفِي لَفْظٍ مِن حَدِيثِهِ أيْضًا عِنْدَ أحْمَدَ، والتِّرْمِذِيِّ، والنَّسائِيِّ، وغَيْرِهِمْ قالَ: «يا أبا ذَرٍّ أتَدْرِي أيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ ؟ قُلْتُ: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ، قالَ: فَإنَّها تَذْهَبُ حَتّى تَسْجُدَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّها فَتَسْتَأْذِنُ في الرُّجُوعِ فَيَأْذَنُ لَها، وكَأنَّها قَدْ قِيلَ لَها: اطْلُعِي مِن حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِن مَغْرِبِها» . ثُمَّ قَرَأ " ذَلِكَ مُسْتَقَرٌّ لَها " وذَلِكَ قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ.
وأخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ، وغَيْرُهُما مِن قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَهُ.
وأخْرَجَ الخَطِيبُ في كِتابِ النُّجُومِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿والقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ﴾ الآيَةَ قالَ: هي ثَمانِيَةٌ وعِشْرُونَ مَنزِلًا يَنْزِلُها القَمَرُ في كُلِّ شَهْرٍ: أرْبَعَةَ عَشَرَ مِنها شامِيَّةٌ، وأرْبَعَةَ عَشَرَ مِنها يَمانِيَّةٌ، أوَّلُها الشَّرَطانِ، والبَطِينُ، والثُّرَيّا، والدَّبَرانُ، والهَقْعَةُ، والهَنْعَةُ، والذِّراعُ، والنَّثْرَةُ، والطَّرْفُ، والجَبْهَةُ، والزُّبْرَةُ، والصَّرْفَةُ، والعَوّاءُ، والسِّماكُ، وهو آخِرُ الشّامِيَّةِ، والغَفْرُ، والزُّبانى، والإكْلِيلُ، والقَلْبُ، والشَّوْلَةُ، والنَّعائِمُ، والبَلْدَةُ، وسَعْدُ الذّابِحِ، وسَعْدُ بُلَعَ، وسَعْدُ السُّعُودِ، وسَعْدُ الأخْبِيَةِ، ومُقَدَّمُ الدَّلْوِ، ومُؤَخَّرُ الدَّلْوِ، والحُوتُ، وهو آخِرُ اليَمانِيَّةِ، فَإذا سارَ هَذِهِ الثَّمانِيَةَ وعِشْرِينَ مَنزِلًا ﴿عادَ كالعُرْجُونِ القَدِيمِ﴾ كَما كانَ في أوَّلِ الشَّهْرِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿كالعُرْجُونِ القَدِيمِ﴾: يَعْنِي أصْلَ العِذْقِ العَتِيقِ.
{"ayahs_start":28,"ayahs":["۞ وَمَاۤ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ مِنۢ بَعۡدِهِۦ مِن جُندࣲ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِینَ","إِن كَانَتۡ إِلَّا صَیۡحَةࣰ وَ ٰحِدَةࣰ فَإِذَا هُمۡ خَـٰمِدُونَ","یَـٰحَسۡرَةً عَلَى ٱلۡعِبَادِۚ مَا یَأۡتِیهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا۟ بِهِۦ یَسۡتَهۡزِءُونَ","أَلَمۡ یَرَوۡا۟ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّنَ ٱلۡقُرُونِ أَنَّهُمۡ إِلَیۡهِمۡ لَا یَرۡجِعُونَ","وَإِن كُلࣱّ لَّمَّا جَمِیعࣱ لَّدَیۡنَا مُحۡضَرُونَ","وَءَایَةࣱ لَّهُمُ ٱلۡأَرۡضُ ٱلۡمَیۡتَةُ أَحۡیَیۡنَـٰهَا وَأَخۡرَجۡنَا مِنۡهَا حَبࣰّا فَمِنۡهُ یَأۡكُلُونَ","وَجَعَلۡنَا فِیهَا جَنَّـٰتࣲ مِّن نَّخِیلࣲ وَأَعۡنَـٰبࣲ وَفَجَّرۡنَا فِیهَا مِنَ ٱلۡعُیُونِ","لِیَأۡكُلُوا۟ مِن ثَمَرِهِۦ وَمَا عَمِلَتۡهُ أَیۡدِیهِمۡۚ أَفَلَا یَشۡكُرُونَ","سُبۡحَـٰنَ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلۡأَزۡوَ ٰجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلۡأَرۡضُ وَمِنۡ أَنفُسِهِمۡ وَمِمَّا لَا یَعۡلَمُونَ","وَءَایَةࣱ لَّهُمُ ٱلَّیۡلُ نَسۡلَخُ مِنۡهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظۡلِمُونَ","وَٱلشَّمۡسُ تَجۡرِی لِمُسۡتَقَرࣲّ لَّهَاۚ ذَ ٰلِكَ تَقۡدِیرُ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡعَلِیمِ","وَٱلۡقَمَرَ قَدَّرۡنَـٰهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلۡعُرۡجُونِ ٱلۡقَدِیمِ","لَا ٱلشَّمۡسُ یَنۢبَغِی لَهَاۤ أَن تُدۡرِكَ ٱلۡقَمَرَ وَلَا ٱلَّیۡلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِۚ وَكُلࣱّ فِی فَلَكࣲ یَسۡبَحُونَ"],"ayah":"یَـٰحَسۡرَةً عَلَى ٱلۡعِبَادِۚ مَا یَأۡتِیهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا۟ بِهِۦ یَسۡتَهۡزِءُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق