الباحث القرآني

ثُمَّ ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - حالًا مِن أحْوالِ الكُفّارِ فَقالَ: ﴿ولَوْ تَرى إذْ فَزِعُوا﴾ والخِطابُ لِرَسُولِ اللَّهِ، أوْ لِكُلِّ مَن يَصْلُحُ لَهُ، قِيلَ: المُرادُ فَزَعُهم عِنْدَ نُزُولِ المَوْتِ بِهِمْ. وقالَ الحَسَنُ: هو فَزَعُهم في القُبُورِ مِنَ الصَّيْحَةِ، وقالَ قَتادَةُ: هو فَزَعُهم إذا خَرَجُوا مِن قُبُورِهِمْ. وقالَ السُّدِّيُّ: هو فَزَعُهم يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ ضُرِبَتْ أعْناقُهم بِسُيُوفِ المَلائِكَةِ فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا فِرارًا ولا رُجُوعًا إلى التَّوْبَةِ. وقالَ ابْنُ مُغَفَّلٍ: هو فَزَعُهم إذا عايَنُوا عِقابَ اللَّهِ يَوْمَ القِيامَةِ. وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هو الخَسْفُ الَّذِي يُخْسَفُ بِهِمْ في البَيْداءِ، فَيَبْقى رَجُلٌ مِنهم فَيُخْبِرُ النّاسَ بِما لَقِيَ أصْحابُهُ فَيَفْزَعُونَ. وجَوابُ لَوْ مَحْذُوفٌ أيْ: لَرَأيْتَ أمْرًا هائِلًا، ومَعْنى فَلا فَوْتَ فَلا يَفُوتُنِي أحَدٌ مِنهم ولا يَنْجُو مِنهم ناجٍ. قالَ مُجاهِدٌ: فَلا مَهْرَبَ وأُخِذُوا مِن مَكانٍ قَرِيبٍ مِن ظَهْرِ الأرْضِ أوْ مِنَ القُبُورِ أوْ مِن مَوْقِفِ الحِسابِ، وقِيلَ: مِن حَيْثُ كانُوا، فَهم مِنَ اللَّهِ قَرِيبٌ لا يَبْعُدُونَ عَنْهُ ولا يَفُوتُونَهُ. قِيلَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ هَذا الفَزَعُ هو الفَزَعَ الَّذِي بِمَعْنى الإجابَةِ، يُقالُ: فَزِعَ الرَّجُلُ: إذا أجابَ الصّارِخَ الَّذِي يَسْتَغِيثُ بِهِمْ كَفَزَعِهِمْ إلى الحَرْبِ يَوْمَ بَدْرٍ. وقالُوا آمَنّا بِهِ أيْ: بِمُحَمَّدٍ، قالَهُ قَتادَةُ، أوْ بِالقُرْآنِ. وقالَ مُجاهِدٌ: بِاللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - . وقالَ الحَسَنُ: بِالبَعْثِ ﴿وأنّى لَهُمُ التَّناوُشُ﴾ التَّناوُشُ التَّناوُلُ، وهو تَفاعُلٌ مِنَ التَّناوُشِ الَّذِي هو التَّناوُلُ، والمَعْنى: كَيْفَ لَهم أنْ يَتَناوَلُوا الإيمانَ مِن بَعْدُ، يَعْنِي في الآخِرَةِ وقَدْ تَرَكُوهُ في الدُّنْيا، وهو مَعْنى مِن مَكانٍ بَعِيدٍ وهو تَمْثِيلٌ لِحالِهِمْ في طَلَبِ الخَلاصِ بَعْدَ ما فاتَ عَنْهم. قالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: يُقالُ لِلرَّجُلِ إذا تَناوَلَ رَجُلًا لِيَأْخُذَ بِرَأْسِهِ أوْ بِلِحْيَتِهِ ناشَهُ يَنُوشُهُ نَوْشًا، وأنْشَدَ: ؎فَهِيَ تَنُوشُ الحَوْضَ نَوْشًا مِن عُلا نَوْشًا بِهِ تَقْطَعُ أجْوازَ الفَلا أيْ: تَناوَلُ ماءَ الحَوْضِ مِن فَوْقُ، ومِنهُ المُناوَشَةُ في القِتالِ، وقِيلَ: التَّناوُشُ الرَّجْعَةُ أيْ: وأنّى لَهُمُ الرَّجْعَةُ إلى الدُّنْيا لِيُؤْمِنُوا، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ ؎: تَمَنّى أنْ تَئُوبَ إلَيَّ مَيٌّ ∗∗∗ ولَيْسَ إلى تَناوُشِها سَبِيلُ وجُمْلَةُ ﴿وقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ أيْ: والحالُ أنْ قَدْ كَفَرُوا بِما آمَنُوا بِهِ الآنَ مِن قَبْلِ هَذا الوَقْتِ، وذَلِكَ حالُ كَوْنِهِمْ في الدُّنْيا. قَرَأ أبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ، والأعْمَشُ " التَّناؤُشُ " بِالهَمْزِ، وقَرَأ الباقُونَ بِالواوِ، واسْتَبْعَدَ أبُو عُبَيْدٍ، والنَّحّاسُ القِراءَةَ الأُولى، ولا وجْهَ لِلِاسْتِبْعادِ، فَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ في لُغَةِ العَرَبِ وأشْعارِها، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎قَعَدْتَ زَمانًا عَنْ طِلابِكَ لِلْعُلا ∗∗∗ وجِئْتَ نَئِيشًا بَعْدَ ما فاتَكَ الخَيْرُ أيْ: وجِئْتَ أخِيرًا. قالَ الفَرّاءُ: الهَمْزُ وتَرْكُ الهَمْزِ مُتَقارِبٌ ويَقْذِفُونَ بِالغَيْبِ أيْ: يَرْمُونَ بِالظَّنِّ فَيَقُولُونَ: لا بَعْثَ، ولا نُشُورَ، ولا جَنَّةَ، ولا نارَ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ أيْ: مِن جِهَةٍ بَعِيدَةٍ لَيْسَ فِيها مُسْتَنَدٌ لِظَنِّهِمُ الباطِلِ. وقِيلَ: المَعْنى: يَقُولُونَ في القُرْآنِ أقْوالًا باطِلَةً: إنَّهُ سِحْرٌ، وشِعْرٌ، وأساطِيرُ الأوَّلِينَ. وقِيلَ: يَقُولُونَ في مُحَمَّدٍ: إنَّهُ ساحِرٌ شاعِرٌ كاهِنٌ مَجْنُونٌ. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ، ومُجاهِدٌ، ومَحْبُوبٌ عَنْ أبِي عَمْرٍو " يُقْذَفُونَ " مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ: أيْ: يُرْجَمُونَ بِما يَسُوؤُهم مِن جَرّاءِ أعْمالِهِمْ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُونَ، وفِيهِ تَمْثِيلٌ لِحالِهِمْ بِحالِ مَن يَرْمِي شَيْئًا لا يَراهُ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ لا مَجالَ لِلْوَهْمِ في لُحُوقِهِ، والجُمْلَةُ إمّا مَعْطُوفَةٌ عَلى: ﴿وقَدْ كَفَرُوا بِهِ﴾ عَلى أنَّهُ حِكايَةٌ لِلْحالِ الماضِيَةِ واسْتِحْضارٌ لِصُورَتِها، أوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيانِ تَمْثِيلِ حالِهِمْ. ﴿وحِيلَ بَيْنَهم وبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ﴾ مِنَ النَّجاةِ مِنَ العَذابِ، ومُنِعُوا مِن ذَلِكَ، وقِيلَ: حِيلَ بَيْنَهم وبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ في الدُّنْيا مِن أمْوالِهِمْ وأهْلِيهِمْ، أوْ حِيلَ بَيْنَهم وبَيْنَ ما يَشْتَهُونَهُ مِنَ الرُّجُوعِ إلى الدُّنْيا ﴿كَما فُعِلَ بِأشْياعِهِمْ مِن قَبْلُ﴾ أيْ: بِأمْثالِهِمْ ونُظَرائِهِمْ مِن كُفّارِ الأُمَمِ الماضِيَةِ، والأشْياعُ جَمْعُ شِيَعٍ، وشِيَعٌ جَمْعُ شِيعَةٍ، وجُمْلَةُ ﴿إنَّهم كانُوا في شَكٍّ مُرِيبٍ﴾ تَعْلِيلٌ لِما قَبْلَها أيْ: في شَكٍّ مُوقِعٍ في الرِّيبَةِ أوْ ذِي رِيبَةٍ مِن أمْرِ الرُّسُلِ والبَعْثِ والجَنَّةِ والنّارِ، أوْ في التَّوْحِيدِ وما جاءَتْهم بِهِ الرُّسُلَ مِنَ الدِّينِ، يُقالُ: أرابَ الرَّجُلُ إذا صارَ ذا رِيبَةٍ فَهو مُرِيبٌ، وقِيلَ: هو مِنَ (p-١٢٠٤)الرَّيْبِ الَّذِي هو الشَّكُّ، فَهو كَما يُقالُ: عَجَبٌ عَجِيبٌ، وشِعْرٌ شاعِرٌ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿فَلا فَوْتَ﴾ قالَ: فَلا نَجاةَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿ولَوْ تَرى إذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وأُخِذُوا مِن مَكانٍ قَرِيبٍ﴾ قالَ: هو جَيْشُ السُّفْيانِيِّ، قِيلَ: مِن أيْنَ أُخِذُوا ؟ قالَ: مِن تَحْتِ أقْدامِهِمْ. وقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحِ أنَّهُ يُخْسَفُ بِجَيْشٍ في البَيْداءِ مِن حَدِيثِ حَفْصَةَ، وعائِشَةَ، وخارِجِ الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ، وصَفِيَّةَ، وأبِي هُرَيْرَةَ، وابْنِ مَسْعُودٍ، ولَيْسَ في شَيْءٍ مِنها أنَّ ذَلِكَ سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ، ولَكِنَّهُ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِن حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمانِ قِصَّةَ الخَسْفِ هَذِهِ مَرْفُوعَةً، وقالَ في آخِرِها: فَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ - في سُورَةِ سَبَأٍ ﴿ولَوْ تَرى إذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ﴾ الآيَةَ. وأخْرَجَ الفِرْيابِيُّ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وأنّى لَهُمُ التَّناوُشُ﴾ قالَ: كَيْفَ لَهُمُ الرَّدُّ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ قالَ: يَسْألُونَ الرَّدَّ، ولَيْسَ بِحِينِ رَدٍّ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ التَّيْمِيِّ قالَ: أتَيْتُ ابْنَ عَبّاسٍ قُلْتُ: ما ﴿التَّناوُشُ﴾ ؟ قالَ: تَناوُلُ الشَّيْءِ ولَيْسَ بِحِينِ ذاكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب