الباحث القرآني
(p-١١٤٤)لَمّا فَرَغَ - سُبْحانَهُ - مِن قِصَّةِ لُقْمانَ رَجَعَ إلى تَوْبِيخِ المُشْرِكِينَ وتَبْكِيتِهِمْ وإقامَةِ الحُجَجِ عَلَيْهِمْ فَقالَ: ﴿ألَمْ تَرَوْا أنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكم ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: مَعْنى تَسْخِيرِها لِلْآدَمِيِّينَ الِانْتِفاعُ بِها. انْتَهى، فَمِن مَخْلُوقاتِ السَّماواتِ المُسَخَّرَةِ لِبَنِي آدَمَ أيِ: الَّتِي يَنْتَفِعُونَ بِها الشَّمْسُ والقَمَرُ والنُّجُومُ ونَحْوُ ذَلِكَ.
ومِن جُمْلَةِ ذَلِكَ المَلائِكَةُ فَإنَّهم حَفَظَةٌ لِبَنِي آدَمَ بِأمْرِ اللَّهِ - سُبْحانَهُ -، ومِن مَخْلُوقاتِ الأرْضِ المُسَخَّرَةِ لِبَنِي آدَمَ الأحْجارُ والتُّرابُ والزَّرْعُ والشَّجَرُ والثَّمَرُ والحَيَواناتُ الَّتِي يَنْتَفِعُونَ بِها والعُشْبُ الَّذِي يَرْعَوْنَ فِيهِ دَوابَّهم وغَيْرُ ذَلِكَ مِمّا لا يُحْصى كَثْرَةً، فالمُرادُ بِالتَّسْخِيرِ جَعْلُ المُسَخَّرِ بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ بِهِ المُسَخَّرُ لَهُ، سَواءٌ كانَ مُنْقادًا لَهُ وداخِلًا تَحْتَ تَصَرُّفِهِ أمْ لا ﴿وأسْبَغَ عَلَيْكم نِعَمَهُ ظاهِرَةً وباطِنَةً﴾ أيْ: أتَمَّ وأكْمَلَ عَلَيْكم نِعَمَهُ، يُقالُ: سَبَغَتِ النِّعْمَةُ إذا تَمَّتْ وكَمُلَتْ.
قَرَأ الجُمْهُورُ " أسْبَغَ " بِالسِّينِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ ويَحْيى بْنُ عُمارَةَ أصْبَغَ، بِالصّادِ مَكانِ السِّينِ.
والنِّعَمُ جَمْعُ نِعْمَةٍ عَلى قِراءَةِ نافِعٍ وأبِي عَمْرٍو وحَفْصٍ، وقَرَأ الباقُونَ " نِعْمَةً " بِسُكُونِ العَيْنِ عَلى الإفْرادِ والتَّنْوِينِ، اسْمُ جِنْسٍ يُرادُ بِهِ الجَمْعُ ويُدَلُّ بِهِ عَلى الكَثْرَةِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها﴾ [إبراهيم: ٣٤] وهي قِراءَةُ ابْنِ عَبّاسٍ.
والمُرادُ بِالنِّعَمِ الظّاهِرَةِ ما يُدْرَكُ بِالعَقْلِ أوِ الحِسِّ ويَعْرِفُهُ مَن يَتَعَرَّفُهُ، وبِالباطِنَةِ ما لا يُدْرَكُ لِلنّاسِ ويَخْفى عَلَيْهِمْ.
وقِيلَ: الظّاهِرَةُ: الصِّحَّةُ، وكَمالُ الخَلْقِ، والباطِنَةُ المَعْرِفَةُ والعَقْلُ.
وقِيلَ: الظّاهِرَةُ ما يُرى بِالأبْصارِ مِنَ المالِ، والجاهِ، والجَمالِ، وفَعْلِ الطّاعاتِ، والباطِنَةُ ما يَجِدُهُ المَرْءُ في نَفْسِهِ مِنَ العِلْمِ بِاللَّهِ وحُسْنِ اليَقِينِ وما يَدْفَعُهُ اللَّهُ عَنِ البُعْدِ مِنَ الآفاتِ.
وقِيلَ: الظّاهِرَةُ نِعَمُ الدُّنْيا، والباطِنَةُ نِعَمُ الآخِرَةِ.
وقِيلَ: الظّاهِرَةُ الإسْلامُ والجَمالُ، والباطِنَةُ ما سَتَرَهُ اللَّهُ عَلى العَبْدِ مِنَ الأعْمالِ السَّيِّئَةِ ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يُجادِلُ في اللَّهِ﴾ أيْ: في شَأْنِ اللَّهِ - سُبْحانَهُ - في تَوْحِيدِهِ وصِفاتِهِ مُكابَرَةً وعِنادًا بَعْدَ ظُهُورِ الحَقِّ لَهُ وقِيامِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ، ولِهَذا قالَ: ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ مِن عَقْلٍ ولا نَقْلٍ ﴿ولا هُدًى﴾ يَهْتَدِي بِهِ إلى طَرِيقِ الصَّوابِ ﴿ولا كِتابٍ مُنِيرٍ﴾ أنْزَلَهُ اللَّهُ - سُبْحانَهُ -، بَلْ مُجَرَّدُ تَعَنُّتٍ ومَحْضُ عِنادٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ في سُورَةِ البَقَرَةِ.
﴿وإذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أنْزَلَ اللَّهُ﴾ أيْ: إذا قِيلَ لِهَؤُلاءِ المُجادِلِينَ، والجَمْعُ بِاعْتِبارِ مَعْنى مَن، اتَّبِعُوا ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنَ الكِتابِ تَمَسَّكُوا بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ البَحْتِ، و﴿قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا﴾ فَنَعْبُدَ ما كانُوا يَعْبُدُونَهُ مِنَ الأصْنامِ، ونَمْشِي في الطَّرِيقِ الَّتِي كانُوا يَمْشُونَ بِها في دِينِهِمْ، ثُمَّ قالَ عَلى طَرِيقِ الِاسْتِفْهامِ لِلِاسْتِبْعادِ والتَّبْكِيتِ ﴿أوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهم إلى عَذابِ السَّعِيرِ﴾ أيْ: يَدْعُو آباءَهُمُ الَّذِينَ اقْتَدَوْا بِهِمْ في دِينِهِمْ أيْ: يَتْبَعُونَهم في الشِّرْكِ، ولَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهم فِيما هم عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ أنَّهُ يَدْعُو هَؤُلاءِ الأتْباعَ إلى عَذابِ السَّعِيرِ، لِأنَّهُ زَيَّنَ لَهُمُ اتِّباعَ آبائِهِمْ والتَّدَيُّنَ بِدِينِهِمْ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ أنَّهُ يَدْعُو جَمِيعَ التّابِعِينَ والمَتْبُوعِينَ إلى العَذابِ، فَدُعاؤُهُ لِلْمَتْبُوعِينَ بِتَزْيِينِهِ لَهُمُ الشِّرْكَ، ودُعاؤُهُ لِلتّابِعِينَ بِتَزْيِينِهِ لَهم دِينَ آبائِهِمْ، وجَوابُ لَوْ مَحْذُوفٌ أيْ: يَدْعُوهم فَيَتَّبِعُونَهم، ومَحَلُّ الجُمْلَةِ النَّصْبُ عَلى الحالِ.
وما أقْبَحَ التَّقْلِيدَ، وأكْثَرَ ضَرَرَهُ عَلى صاحِبِهِ، وأوْخَمَ عاقِبَتَهُ، وأشْأمَ عائِدَتَهُ عَلى مَن وقَعَ فِيهِ.
فَإنَّ الدّاعِيَ لَهُ إلى ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ كَمَن يُرِيدُ أنْ يَذُودَ الفِراشَ عَنْ لَهَبِ النّارِ لِئَلّا تَحْتَرِقَ، فَتَأْبى ذَلِكَ وتَتَهافَتُ في نارِ الحَرِيقِ وعَذابِ السَّعِيرِ.
﴿ومَن يُسْلِمْ وجْهَهُ إلى اللَّهِ﴾ أيْ: يُفَوِّضُ إلَيْهِ أمْرَهُ، ويُخْلِصُ لَهُ عِبادَتَهُ ويُقْبِلُ عَلَيْهِ بِكُلِّيَّتِهِ ﴿وهُوَ مُحْسِنٌ﴾ في أعْمالِهِ؛ لِأنَّ العِبادَةَ مِن غَيْرِ إحْسانٍ لَها ولا مَعْرِفَةٍ بِما يَحْتاجُ إلَيْهِ فِيها لا تَقَعُ بِالمَوْقِعِ الَّذِي تَقَعُ بِهِ عِبادَةُ المُحْسِنِينَ.
وقَدْ صَحَّ عَنِ الصّادِقِ المَصْدُوقِ لَمّا سَألَهُ جِبْرِيلُ عَنِ الإحْسانِ أنَّهُ قالَ لَهُ «أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإنَّهُ يَراكَ»، ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقى﴾ أيِ: اعْتَصَمَ بِالعَهْدِ الأوْثَقِ وتَعَلَّقَ بِهِ، وهو تَمْثِيلٌ لِحالِ مَن أسْلَمَ وجْهَهُ إلى اللَّهِ بِحالِ مَن أرادَ أنْ يَتَرَقّى إلى شاهِقِ جَبَلٍ، فَتَمَسَّكَ بِأوْثَقِ عُرى حَبْلٍ مُتَدَلٍّ مِنهُ ﴿وإلى اللَّهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ أيْ: مَصِيرُها إلَيْهِ لا إلى غَيْرِهِ.
وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، والسُّلَمِيُّ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ يَسارٍ " ومَن يُسَلِّمْ " بِالتَّشْدِيدِ قالَ النَّحّاسُ: والتَّخْفِيفُ في هَذا أعْرَفُ كَما قالَ - عَزَّ وجَلَّ - ﴿فَقُلْ أسْلَمْتُ وجْهِيَ لِلَّهِ﴾ [آل عمران: ٢٠] .
﴿ومَن كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ﴾ أيْ: لا تَحْزَنْ لِذَلِكَ، فَإنَّ كُفْرَهُ لا يَضُرُّكَ، بَيَّنَ - سُبْحانَهُ - حالَ الكافِرِينَ بَعْدَ فَراغِهِ مِن بَيانِ حالِ المُؤْمِنِينَ، ثُمَّ تَوَعَّدَهم بِقَوْلِهِ: ﴿إلَيْنا مَرْجِعُهم فَنُنَبِّئُهم بِما عَمِلُوا﴾ أيْ: نُخْبِرُهم بِقَبائِحِ أعْمالِهِمْ ونُجازِيهِمْ عَلَيْها ﴿إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ﴾ أيْ: بِما تُسِرُّهُ صُدُورُهم لا تَخْفى عَلَيْهِ مِن ذَلِكَ خافِيَةٌ فالسِّرُّ عِنْدَهُ كالعَلانِيَةِ.
﴿نُمَتِّعُهم قَلِيلًا﴾ أيْ: نُبْقِيهِمْ في الدُّنْيا مُدَّةً قَلِيلَةً يَتَمَتَّعُونَ بِها. فَإنَّ النَّعِيمَ الزّائِلَ هو أقَلُّ قَلِيلٍ بِالنِّسْبَةِ إلى النَّعِيمِ الدّائِمِ.
وانْتِصابُ قَلِيلًا عَلى أنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أيْ: تَمْتِيعًا قَلِيلًا ﴿ثُمَّ نَضْطَرُّهم إلى عَذابٍ غَلِيظٍ﴾ أيْ: نُلْجِئُهم إلى عَذابِ النّارِ. فَإنَّهُ لا أثْقَلَ مِنهُ عَلى مَن وقَعَ فِيهِ وأُصِيبَ بِهِ، فَلِهَذا اسْتُعِيرَ لَهُ الغِلَظُ.
﴿ولَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ أيْ: يَعْتَرِفُونَ بِاللَّهِ خالِقِ ذَلِكَ لِوُضُوحِ الأمْرِ فِيهِ عِنْدَهم. وهَذا اعْتِرافٌ مِنهم بِما يَدُلُّ عَلى التَّوْحِيدِ وبُطْلانِ الشِّرْكِ ولِهَذا قالَ: ﴿قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ﴾ أيْ: قُلْ يا مُحَمَّدُ الحَمْدُ (p-١١٤٥)لِلَّهِ عَلى اعْتِرافِكم، فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ غَيْرَهُ وتَجْعَلُونَهُ شَرِيكًا لَهُ ؟ أوِ المَعْنى: فَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ عَلى ما هَدانا لَهُ مِن دِينِهِ ولا حَمْدَ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ أضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ فَقالَ: ﴿بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ﴾ أيْ: لا يَنْظُرُونَ ولا يَتَدَبَّرُونَ حَتّى يَعْلَمُوا أنَّ خالِقَ هَذِهِ الأشْياءِ هو الَّذِي تَجِبُ لَهُ العِبادَةُ دُونَ غَيْرِهِ.
﴿لِلَّهِ ما في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ مُلْكًا وخَلْقًا فَلا يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ غَيْرُهُ ﴿إنَّ اللَّهَ هو الغَنِيُّ﴾ عَنْ غَيْرِهِ الحَمِيدُ أيِ: المُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ أوِ المَحْمُودُ مِن عِبادِهِ بِلِسانِ المَقالِ أوْ بِلِسانِ الحالِ.
ثُمَّ لَمّا ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - أنَّ لَهُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ أتْبَعَهُ بِما يَدُلُّ عَلى أنَّ لَهُ وراءَ ذَلِكَ ما لا يُحِيطُ بِهِ عَدَدٌ ولا يُحْصَرُ بِحَدٍّ فَقالَ: ﴿ولَوْ أنَّما في الأرْضِ مِن شَجَرَةٍ أقْلامٌ﴾ أيْ: لَوْ أنَّ جَمِيعَ ما في الأرْضِ مِنَ الشَّجَرِ أقْلامٌ، ووَحَّدَ الشَّجَرَةَ لِما تَقَرَّرَ في عِلْمِ المَعانِي أنَّ اسْتِغْراقَ المُفْرَدِ أشْمَلُ، فَكَأنَّهُ قالَ: كُلُّ شَجَرَةٍ شَجَرَةٍ حَتّى لا يَبْقى مِن جِنْسِ الشَّجَرِ واحِدَةٌ إلّا وقَدْ بُرِيَتْ أقْلامًا، وجَمَعَ الأقْلامَ لِقَصْدِ التَّكْثِيرِ أيْ: لَوْ أنْ يَعُدَّ كُلَّ شَجَرَةٍ مِنَ الشَّجَرِ أقْلامًا، قالَ أبُو حَيّانَ: وهو مِن وُقُوعِ المُفْرَدِ مَوْقِعَ الجَمْعِ، والنَّكِرَةِ مَوْقِعَ المَعْرِفَةِ كَقَوْلِهِ: ﴿ما نَنْسَخْ مِن آيَةٍ﴾ [البقرة: ١٠٦]، ثُمَّ قالَ - سُبْحانُهُ - ﴿والبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ﴾ أيْ: يَمُدُّهُ مِن بَعْدِ نَفادِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ.
قَرَأ الجُمْهُورُ " والبَحْرُ " بِالرَّفْعِ عَلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ، و" يَمُدُّهُ " خَبَرُهُ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ الحالِ أيْ: والحالُ أنَّ البَحْرَ المُحِيطَ مَعَ سِعَتِهِ يَمُدُّهُ السَّبْعَةُ الأبْحُرِ مَدًّا لا يَنْقَطِعُ، كَذا قالَ سِيبَوَيْهِ.
وقالَ المُبَرِّدُ: إنَّ البَحْرَ مُرْتَفِعٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ ولَوْ ثَبَتَ البَحْرُ حالَ كَوْنِهِ تَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ، وقِيلَ: هو مُرْتَفِعٌ بِالعَطْفِ عَلى أنَّ، وما في حَيِّزِها.
وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، وابْنُ أبِي إسْحاقَ " والبَحْرَ " بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلى اسْمِ أنَّ، أوْ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ يَمُدُّهُ.
وقَرَأ ابْنُ هُرْمُزَ، والحَسَنُ يُمِدُّهُ بِضَمِّ حَرْفِ المُضارَعَةِ وكَسْرِ المِيمِ، مِن أمَدَّ.
وقَرَأ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ والبَحْرُ " مِدادُهُ " وجَوابُ لَوْ ﴿ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ﴾ أيْ: كَلِماتُهُ الَّتِي هي عِبارَةٌ عَنْ مَعْلُوماتِهِ.
قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: المُرادُ بِالكَلِماتِ واللَّهُ أعْلَمُ ما في المَقْدُورِ دُونَ ما خَرَجَ مِنهُ إلى الوُجُودِ، ووافَقَهُ القَفّالُ فَقالَ: المَعْنى أنَّ الأشْجارَ لَوْ كانَتْ أقْلامًا، والبِحارَ مِدادًا فَكُتِبَ بِها عَجائِبُ صُنْعِ اللَّهِ الدّالَّةُ عَلى قُدْرَتِهِ ووَحْدانِيَّتِهِ لَمْ تَنْفَذْ تِلْكَ العَجائِبُ.
قالَ القُشَيْرِيُّ: رَدَّ القَفّالُ مَعْنى الكَلِماتِ إلى المُقَدُوراتِ، وحَمْلُ الآيَةِ عَلى الكَلامِ القَدِيمِ أوْلى.
قالَ النَّحّاسُ: قَدْ تَبَيَّنَ أنَّ الكَلِماتِ هاهُنا يُرادُ بِها العِلْمُ وحَقائِقُ الأشْياءِ، لِأنَّهُ جَلَّ وعَلا عَلِمَ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ ما هو خالِقٌ في السَّماواتِ والأرْضِ مِن شَيْءٍ، وعَلِمَ ما فِيهِ مِن مَثاقِيلِ الذَّرِّ، وعَلِمَ الأجْناسَ كُلَّها وما فِيها مِن شَعْرَةٍ وعُضْوٍ وما في الشَّجَرَةِ مِن ورَقَةٍ وما فِيها مِن ضُرُوبِ الخَلْقِ.
وقِيلَ: إنَّ قُرَيْشًا قالَتْ: ما أكْثَرَ كَلامَ مُحَمَّدٍ، فَنَزَلَتْ، قالَهُ السُّدِّيُّ، وقِيلَ: إنَّها لَمّا نَزَلَتْ ﴿وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٨٥] في اليَهُودِ، قالُوا كَيْفَ وقَدْ أُوتِينا التَّوْراةَ فِيها كَلامُ اللَّهِ وأحْكامُهُ، فَنَزَلَتْ.
قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: المُرادُ بِالبَحْرِ هُنا الماءُ العَذْبُ الَّذِي يُنْبِتُ الأقْلامَ، وأمّا الماءُ المالِحُ فَلا يُنْبِتُ الأقْلامَ.
قُلْتُ: ما أسْقَطَ هَذا الكَلامَ وأقَلَّ جَدْواهُ ﴿إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أيْ: غالِبٌ لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، ولا يَخْرُجُ عَنْ حِكْمَتِهِ وعِلْمِهِ فَرْدٌ مِن أفْرادِ مَخْلُوقاتِهِ.
﴿ما خَلْقُكم ولا بَعْثُكم إلّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ﴾ أيْ: إلّا كَخَلْقِ نَفْسٍ واحِدَةٍ وبَعْثِها.
قالَ النَّحّاسُ: كَذا قَدَّرَهُ النَّحْوِيُّونَ كَخَلْقِ نَفْسٍ، مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿واسْألِ القَرْيَةَ﴾ [يوسف: ٨٢] .
قالَ الزَّجّاجُ أيْ: قُدْرَةُ اللَّهِ عَلى بَعْثِ الخَلْقِ كُلِّهِمْ وعَلى خَلْقِهِمْ كَقُدْرَتِهِ عَلى خَلْقِ نَفْسٍ واحِدَةٍ وبَعْثِ نَفْسٍ واحِدَةٍ ﴿إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾ لِكُلِّ ما يَسْمَعُ بَصِيرٌ بِكُلِّ ما يُبْصِرُ.
وقَدْ أخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْ عَطاءٍ قالَ: سَألْتُ ابْنَ عَبّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿وأسْبَغَ عَلَيْكُمْ﴾ الآيَةَ، قالَ هَذِهِ مِن كُنُوزِ عِلْمِي سَألْتُ عَنْها رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَقالَ: «أمّا الظّاهِرَةُ فَما سَوّى مِن خَلْقِكَ، وأمّا الباطِنَةُ فَما سَتَرَ مِن عَوْرَتِكَ، ولَوْ أبْداها لَقَلاكَ أهْلُكَ فَمَن سِواهم» .
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ والدَّيْلَمِيُّ وابْنُ النَّجّارِ عَنْهُ قالَ: " سَألْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - عَنْ قَوْلِهِ ﴿وأسْبَغَ عَلَيْكم نِعَمَهُ ظاهِرَةً وباطِنَةً﴾ فَقالَ: «أمّا الظّاهِرَةُ فالإسْلامُ وما سَوّى مِن خَلْقِكَ وما أسْبَغَ عَلَيْكَ مِن رِزْقِهِ، وأمّا الباطِنَةُ فَما سَتَرَ مِن مُساوِي عَمَلِكَ» .
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أيْضًا قالَ: النِّعْمَةُ الظّاهِرَةُ الإسْلامُ، والنِّعْمَةُ الباطِنَةُ كُلُّ ما يَسْتُرُ عَلَيْكم مِنَ الذُّنُوبِ والعُيُوبِ والحُدُودِ.
وأخْرَجَ الفِرْيابِيُّ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْهُ أيْضًا أنَّهُ قالَ في تَفْسِيرِ الآيَةِ هي: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي إسْحاقَ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا في «قَوْلِهِ: ﴿ولَوْ أنَّما في الأرْضِ﴾ الآيَةَ " أنَّ أحْبارَ اليَهُودِ قالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - بِالمَدِينَةِ: يا مُحَمَّدُ أرَأيْتَ قَوْلَكَ ﴿وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٨٥] إيّانا تُرِيدُ أمْ قَوْمَكَ ؟ فَقالَ كُلًّا، فَقالُوا: ألَسْتَ تَتْلُو فِيما جاءَكَ أنّا قَدْ أُوتِينا التَّوْراةَ، وفِيها تِبْيانُ كُلِّ شَيْءٍ ؟ فَقالَ: إنَّها في عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ، وأنْزَلَ اللَّهُ ﴿ولَوْ أنَّما في الأرْضِ﴾ الآيَةَ» " . وأخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ بِأطْوَلَ مِنهُ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ.
{"ayahs_start":20,"ayahs":["أَلَمۡ تَرَوۡا۟ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَأَسۡبَغَ عَلَیۡكُمۡ نِعَمَهُۥ ظَـٰهِرَةࣰ وَبَاطِنَةࣰۗ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یُجَـٰدِلُ فِی ٱللَّهِ بِغَیۡرِ عِلۡمࣲ وَلَا هُدࣰى وَلَا كِتَـٰبࣲ مُّنِیرࣲ","وَإِذَا قِیلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا۟ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُوا۟ بَلۡ نَتَّبِعُ مَا وَجَدۡنَا عَلَیۡهِ ءَابَاۤءَنَاۤۚ أَوَلَوۡ كَانَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ یَدۡعُوهُمۡ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِیرِ","۞ وَمَن یُسۡلِمۡ وَجۡهَهُۥۤ إِلَى ٱللَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنࣱ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰۗ وَإِلَى ٱللَّهِ عَـٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ","وَمَن كَفَرَ فَلَا یَحۡزُنكَ كُفۡرُهُۥۤۚ إِلَیۡنَا مَرۡجِعُهُمۡ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوۤا۟ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ","نُمَتِّعُهُمۡ قَلِیلࣰا ثُمَّ نَضۡطَرُّهُمۡ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِیظࣲ","وَلَىِٕن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَیَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ","لِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلۡغَنِیُّ ٱلۡحَمِیدُ","وَلَوۡ أَنَّمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَـٰمࣱ وَٱلۡبَحۡرُ یَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُرࣲ مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَـٰتُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ حَكِیمࣱ","مَّا خَلۡقُكُمۡ وَلَا بَعۡثُكُمۡ إِلَّا كَنَفۡسࣲ وَ ٰحِدَةٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِیعُۢ بَصِیرٌ"],"ayah":"وَلَوۡ أَنَّمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَـٰمࣱ وَٱلۡبَحۡرُ یَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُرࣲ مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَـٰتُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ حَكِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق