الباحث القرآني

(p-١١٣٣)قَوْلُهُ: ﴿ضَرَبَ لَكم مَثَلًا﴾ قَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ مَعْنى المَثَلِ، ومِن في مِن أنْفُسِكم لِابْتِداءِ الغايَةِ وهي ومَجْرُورُها في مَحَلِّ نَصْبٍ صِفَةً لِمَثَلًا أيْ: مَثَلًا مُنْتَزَعًا ومَأْخُوذًا مِن أنْفُسِكم فَإنَّها أقْرَبُ شَيْءٍ مِنكم، وأبْيَنُ مِن غَيْرِها عِنْدَكم، فَإذا ضَرَبَ لَكُمُ المَثَلَ بِها في بُطْلانِ الشِّرْكِ كانَ أظْهَرَ دَلالَةً وأعْظَمَ وُضُوحًا. ثُمَّ بَيَّنَ المَثَلَ المَذْكُورَ فَقالَ: ﴿هَلْ لَكم مِن ما مَلَكَتْ أيْمانُكم مِن شُرَكاءَ في ما رَزَقْناكم﴾ " مِن " في " مِمّا مَلَكَتْ " لِلتَّبْعِيضِ، وفي مِن شُرَكاءَ زائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، والمَعْنى هَلْ لَكم شُرَكاءُ فِيما رَزَقْناكم كائِنُونَ مِنَ النَّوْعِ الَّذِي مَلَكَتْ أيْمانُكم، وهُمُ العَبِيدُ والإماءُ، والِاسْتِفْهامُ لِلْإنْكارِ، وجُمْلَةُ فَأنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ جَوابٌ لِلِاسْتِفْهامِ الَّذِي بِمَعْنى النَّفْيِ، ومُحَقِّقَةٌ لِمَعْنى الشَّرِكَةِ بَيْنَهم وبَيْنَ العَبِيدِ والإماءِ المَمْلُوكِينَ لَهم في أمْوالِهِمْ أيْ: هَلْ تَرْضَوْنَ لِأنْفُسِكم، والحالُ أنَّ عَبِيدَكم وإماءَكم أمْثالُكم في البَشَرِيَّةِ أنْ يُساوُوكم في التَّصَرُّفِ بِما رَزَقْناكم مِنَ الأمْوالِ، ويُشارِكُوكم فِيها مِن غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَكم وبَيْنَهم ﴿تَخافُونَهم كَخِيفَتِكم أنْفُسَكُمْ﴾ الكافُ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أيْ: تَخافُونَ الأحْرارَ المُشابِهِينَ لَكم في الحُرِّيَّةِ ومِلْكِ الأمْوالِ وجَوازِ التَّصَرُّفِ، والمَقْصُودُ نَفْيُ الأشْياءِ الثَّلاثَةِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهم وبَيْنَ المَمْلُوكِينَ والِاسْتِواءِ مَعَهم وخَوْفِهِمْ إيّاهم. ولَيْسَ المُرادُ ثُبُوتَ الشَّرِكَةِ ونَفْيَ الِاسْتِواءِ والخَوْفَ كَما قِيلَ في قَوْلِهِمْ: ما تَأْتِينا فَتُحَدِّثَنا. والمُرادُ: إقامَةُ الحُجَّةِ عَلى المُشْرِكِينَ فَإنَّهم لا بُدَّ أنْ يَقُولُوا لا نَرْضى بِذَلِكَ، فَيُقالُ لَهم: فَكَيْفَ تُنَزِّهُونَ أنْفُسَكم عَنْ مُشارَكَةِ المَمْلُوكِينَ لَكم وهم أمْثالُكم في البَشَرِيَّةِ، وتَجْعَلُونَ عَبِيدَ اللَّهِ شُرَكاءَ لَهُ ؟ فَإذا بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ بَيْنَ العَبِيدِ وساداتِهِمْ فِيما يَمْلِكُهُ السّادَةُ بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ بَيْنَ اللَّهِ وبَيْنَ أحَدٍ مِن خَلْقِهِ، والخَلْقُ كُلُّهم عَبِيدُ اللَّهِ - تَعالى -، ولَمْ يَبْقَ إلّا أنَّهُ الرَّبُّ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ. قَرَأ الجُمْهُورُ " أنْفُسَكم " بِالنَّصْبِ عَلى أنَّهُ مَعْمُولُ المَصْدَرِ المُضافِ إلى فاعِلِهِ، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ بِالرَّفْعِ عَلى إضافَةِ المَصْدَرِ إلى مَفْعُولِهِ. كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ تَفْصِيلًا واضِحًا وبَيانًا جَلِيًّا لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ؛ لِأنَّهُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِالآياتِ التَّنْزِيلِيَّةِ والتَّكْوِينِيَّةِ بِاسْتِعْمالِ عُقُولِهِمْ في تَدَبُّرِها والتَّفَكُّرِ فِيها. ثُمَّ أضْرَبَ - سُبْحانَهُ - عَنْ مُخاطَبَةِ المُشْرِكِينَ وإرْشادِهِمْ إلى الحَقِّ بِما ضَرَبَهُ لَهم مِنَ المَثَلِ فَقالَ: ﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أهْواءَهم بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أيْ: لَمْ يَعْقِلُوا الآياتِ بَلِ اتَّبَعُوا أهْواءَهُمُ الزّائِغَةَ، وآراءَهُمُ الفاسِدَةَ الزّائِفَةَ، ومَحَلُّ " بِغَيْرِ عِلْمٍ " النَّصْبُ عَلى الحالِ أيْ: جاهِلِينَ بِأنَّهم عَلى ضَلالَةٍ ﴿فَمَن يَهْدِي مَن أضَلَّ اللَّهُ﴾ أيْ: لا أحَدَ يَقْدِرُ عَلى هِدايَتِهِ، لِأنَّ الرَّشادَ والهِدايَةَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وإرادَتِهِ وما لَهم مِن ناصِرِينَ أيْ: ما لِهَؤُلاءِ الَّذِينَ أضَلَّهُمُ اللَّهُ مِن ناصِرِينَ يَنْصُرُونَهم ويَحُولُونَ بَيْنَهم وبَيْنَ عَذابِ اللَّهِ - سُبْحانَهُ - . ثُمَّ أمَرَ رَسُولَهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - بِتَوْحِيدِهِ وعِبادَتِهِ كَما أمَرَهُ فَقالَ: ﴿فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا﴾ شَبَّهَ الإقْبالَ عَلى الدِّينِ بِتَقْوِيمِ وجْهِهِ إلَيْهِ وإقْبالِهِ عَلَيْهِ، وانْتِصابُ حَنِيفًا عَلى الحالِ مِن فاعِلِ أقِمْ أوْ مِن مَفْعُولِهِ أيْ: مائِلًا إلَيْهِ مُسْتَقِيمًا عَلَيْهِ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إلى غَيْرِهِ مِنَ الأدْيانِ الباطِلَةِ ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها﴾ الفِطْرَةُ في الأصْلِ: الخِلْقَةُ، والمُرادُ بِها هُنا المِلَّةُ، وهي الإسْلامُ والتَّوْحِيدُ. قالَ الواحِدِيُّ: هَذا قَوْلُ المُفَسِّرِينَ في فِطْرَةِ اللَّهِ، والمُرادُ بِالنّاسِ هُنا: الَّذِينَ فَطَرَهُمُ اللَّهُ عَلى الإسْلامِ، لِأنَّ المُشْرِكَ لَمْ يُفْطَرْ عَلى الإسْلامِ، وهَذا الخِطابُ وإنْ كانَ خاصًّا بِرَسُولِ اللَّهِ فَأُمَّتُهُ داخِلَةٌ مَعَهُ فِيهِ. قالَ القُرْطُبِيُّ بِاتِّفاقٍ مِن أهْلِ التَّأْوِيلِ: والأوْلى حَمْلُ النّاسِ عَلى العُمُومِ مِن غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مُسْلِمِهِمْ وكافِرِهِمْ، وأنَّهم جَمِيعًا مَفْطُورُونَ عَلى ذَلِكَ لَوْلا عَوارِضُ تَعْرِضُ لَهم فَيَبْقَوْنَ بِسَبَبِها عَلى الكُفْرِ كَما في حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ الثّابِتِ في الصَّحِيحِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «ما مِن مَوْلُودٍ إلّا يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ» . وفِي رِوايَةٍ «عَلى هَذِهِ المِلَّةِ، ولَكِنْ أبَواهُ يُهَوِّدانِهِ، ويُنَصِّرانِهِ ويُمَجِّسانِهِ كَما تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيها مِن جَدْعاءَ ؟» ثُمَّ يَقُولُ أبُو هُرَيْرَةَ: واقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ . وفِي رِوايَةٍ «حَتّى تَكُونُوا أنْتُمْ تَجْدَعُونَها» . وسَيَأْتِي في آخِرِ البَحْثِ ما ورَدَ مُعاضِدًا لِحَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ هَذا، فَكُلُّ فَرْدٍ مِن أفْرادِ النّاسِ مَفْطُورٌ أيْ: مَخْلُوقٌ عَلى مِلَّةِ الإسْلامِ، ولَكِنْ لا اعْتِبارَ بِالإيمانِ والإسْلامِ الفِطْرِيَّيْنِ، وإنَّما يُعْتَبَرُ الإيمانُ والإسْلامُ الشَّرْعِيّانِ، وهَذا قَوْلُ جَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ ومَن بَعْدَهم، وقَوْلُ جَماعَةٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ وهو الحَقُّ. والقَوْلُ بِأنَّ المُرادَ بِالفِطْرَةِ هُنا الإسْلامُ هو مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ. وقالَ آخَرُونَ: هي البَداءَةُ الَّتِي ابْتَدَأهُمُ اللَّهُ عَلَيْها، فَإنَّهُ ابْتَدَأهم لِلْحَياةِ والمَوْتِ والسَّعادَةِ والشَّقاوَةِ. والفاطِرُ في كَلامِ العَرَبِ هو المُبْتَدِئُ، وهَذا مَصِيرٌ مِنَ القائِلِينَ بِهِ إلى مَعْنى الفِطْرَةِ لُغَةً، وإهْمالُ مَعْناها شَرْعًا. والمَعْنى الشَّرْعِيُّ مُقَدَّمٌ عَلى المَعْنى اللُّغَوِيِّ بِاتِّفاقِ أهْلِ الشَّرْعِ، ولا يُنافِي ذَلِكَ وُرُودُ الفِطْرَةِ في الكِتابِ أوِ السُّنَّةِ في بَعْضِ المَواضِعِ مُرادًا بِها المَعْنى اللُّغَوِيُّ كَقَوْلِهِ - تَعالى -: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [فاطر: ١] أيْ: خالِقُهُما ومُبْتَدِيهِما، وكَقَوْلِهِ: ﴿وما لِيَ لا أعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾ [يس: ٢٢] إذْ لا نِزاعَ في أنَّ المَعْنى اللُّغَوِيَّ هو هَذا، ولَكِنَّ النِّزاعَ في المَعْنى الشَّرْعِيِّ لِلْفِطْرَةِ وهو ما ذَكَرَهُ الأوَّلُونَ كَما بَيَّناهُ، وانْتِصابُ " فِطْرَةَ " عَلى أنَّها مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها. وقالَ الزَّجّاجُ: " فِطْرَةَ " مَنصُوبٌ بِمَعْنى اتَّبِعْ فِطْرَةَ اللَّهِ، قالَ: لِأنَّ مَعْنى فَأقِمْ وجْهَكَ لِلدِّينِ اتَّبِعِ الدِّينَ واتَّبِعْ فِطْرَةَ اللَّهِ. وقالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هي مَصْدَرٌ مِن مَعْنى فَأقِمْ وجْهَكَ لِأنَّ مَعْنى ذَلِكَ فِطْرَةُ اللَّهِ النّاسَ عَلى الدِّينِ، وقِيلَ: (p-١١٣٤)هِيَ مَنصُوبَةٌ عَلى الإغْراءِ أيِ: الزَمُوا فِطْرَةَ اللَّهِ، أوْ عَلَيْكم فِطْرَةَ اللَّهِ، ورَدَّ هَذا الوَجْهَ أبُو حَيّانَ وقالَ: إنَّ كَلِمَةَ الإغْراءِ لا تُضْمَرُ إذْ هي عِوَضٌ عَنِ الفِعْلِ، فَلَوْ حَذَفَها لَزِمَ حَذْفُ العِوَضِ والمُعَوَّضُ عَنْهُ وهو إجْحافٌ. وأُجِيبُ بِأنَّ هَذا رَأْيُ البَصْرِيِّينَ، وأمّا الكِسائِيُّ وأتْباعُهُ فَيُجِيزُونَ ذَلِكَ، وجُمْلَةُ ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ تَعْلِيلٌ لِما قَبْلَها مِنَ الأمْرِ بِلُزُومِ الفِطْرَةِ أيْ: هَذِهِ الفِطْرَةُ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لَها مِن جِهَةِ الخالِقِ - سُبْحانَهُ - . وقِيلَ: هو نَفْيٌ مَعْناهُ النَّهْيُ أيْ: لا تُبَدِّلُوا خَلْقَ اللَّهِ. قالَ مُجاهِدٌ وإبْراهِيمُ النَّخَعِيُّ: مَعْناهُ لا تَبْدِيلَ لِدِينِ اللَّهِ. قالَ قَتادَةُ وابْنُ جُبَيْرٍ، والضَّحّاكُ وابْنُ زَيْدٍ: هَذا في المُعْتَقَداتِ. وقالَ عِكْرِمَةُ: إنَّ المَعْنى لا تَغْيِيرَ لِخَلْقٍ في البَهائِمِ بِأنْ تُخْصى فَحُولُها ﴿ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ﴾ أيْ: ذَلِكَ الدِّينُ المَأْمُورُ بِإقامَةِ الوَجْهِ لَهُ هو الدِّينُ القَيِّمُ، أوْ لُزُومُ الفِطْرَةِ هو الدِّينُ القَيِّمُ ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ حَتّى يَفْعَلُوهُ ويَعْمَلُوا بِهِ. مُنِيبِينَ إلَيْهِ أيْ: راجِعِينَ إلَيْهِ بِالتَّوْبَةِ والإخْلاصِ، ومُطِيعِينَ لَهُ في أوامِرِهِ ونَواهِيهِ. ومِنهُ قَوْلُ أبِي قَيْسِ بْنِ الأسْلَتِ: ؎فَإنْ تابُوا فَإنَّ بَنِي سُلَيْمٍ وقَوْمَهم هَوازِنَ قَدْ أنابُوا قالَ الجَوْهَرِيُّ: أنابَ إلى اللَّهِ: أقْبَلَ وتابَ، وانْتِصابُهُ عَلى الحالِ مِن فاعِلِ أقِمْ. قالَ المُبَرِّدُ: لِأنَّ مَعْنى أقِمْ وجْهَكَ: أقِيمُوا وُجُوهَكم. قالَ الفَرّاءُ: المَعْنى فَأقِمْ وجْهَكَ ومَن مَعَكَ مُنِيبِينَ، وكَذا قالَ الزَّجّاجُ وقالَ تَقْدِيرُهُ: فَأقِمْ وجْهَكَ وأُمَّتَكَ، فالحالُ مِنَ الجَمِيعِ. وجازَ حَذْفُ المَعْطُوفِ لِدَلالَةِ مُنِيبِينَ عَلَيْهِ. وقِيلَ: هو مَنصُوبٌ عَلى القَطْعِ، وقِيلَ: عَلى أنَّهُ خَبَرٌ لَكانَ مَحْذُوفَةً أيْ: وكُونُوا مُنِيبِينَ إلَيْهِ لِدَلالَةِ ﴿ولا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ عَلى ذَلِكَ. ثُمَّ أمَرَهم - سُبْحانَهُ - بِالتَّقْوى بَعْدَ أمْرِهِمْ بِالإنابَةِ فَقالَ: واتَّقُوهُ أيْ: بِاجْتِنابِ مَعاصِيهِ وهو مَعْطُوفٌ عَلى الفِعْلِ المُقَدَّرِ ناصِبًا لِمُنِيبِينَ، وأقِيمُوا الصَّلاةَ الَّتِي أُمِرْتُمْ بِها ولا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ بِاللَّهِ. وقَوْلُهُ: ﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهم وكانُوا شِيَعًا﴾ هو بَدَلٌ مِمّا قَبْلَهُ بِإعادَةِ الجارِ، والشِّيَعُ الفِرَقُ أيْ: لا تَكُونُوا مِنَ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا فِرَقًا في الدِّينِ يُشايِعُ بَعْضُهم بَعْضًا مِن أهْلِ البِدَعِ والأهْواءِ. وقِيلَ: المُرادُ بِالَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهم شِيَعًا اليَهُودُ والنَّصارى. وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ " فَرَّقُوا دَيْنَهم " ورُوِيَتْ هَذِهِ القِراءَةُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ أيْ: فارَقُوا دِينَهُمُ الَّذِي يَجِبُ اتِّباعُهُ، وهو التَّوْحِيدُ. وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ في آخِرِ سُورَةِ الأنْعامِ ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ أيْ: كُلُّ فَرِيقٍ بِما لَدَيْهِمْ مِنَ الدِّينِ المَبْنِيِّ عَلى غَيْرِ الصَّوابِ مَسْرُورُونَ مُبْتَهِجُونَ يَظُنُّونَ أنَّهم عَلى الحَقِّ ولَيْسَ بِأيْدِيهِمْ مِنهُ شَيْءٌ. وقالَ الفَرّاءُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهم وكانُوا شِيَعًا﴾ مُسْتَأْنَفًا كَما يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِما قَبْلَهُ. ﴿وإذا مَسَّ النّاسَ ضُرٌّ﴾ أيْ: قَحْطٌ وشِدَّةٌ دَعَوْا رَبَّهم أنْ يَرْفَعَ ذَلِكَ عَنْهم واسْتَغاثُوا بِهِ مُنِيبِينَ إلَيْهِ أيْ: راجِعِينَ إلَيْهِ مُلْتَجِئِينَ بِهِ لا يُعَوِّلُونَ عَلى غَيْرِهِ، وقِيلَ: مُقْبِلِينَ عَلَيْهِ بِكُلِّ قُلُوبِهِمْ ﴿ثُمَّ إذا أذاقَهم مِنهُ رَحْمَةً﴾ بِإجابَةِ دُعائِهِمْ ورَفْعِ تِلْكَ الشَّدائِدِ عَنْهم ﴿إذا فَرِيقٌ مِنهم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾ إذا هي الفُجائِيَّةُ وقَعَتْ جَوابَ الشَّرْطِ لِأنَّها كالفاءِ في إفادَةِ التَّعْقِيبِ أيْ: فاجَأ فَرِيقٌ مِنهُمُ الإشْراكَ وهُمُ الَّذِينَ دَعَوْهُ فَخَلَّصَهم مِمّا كانُوا فِيهِ. وهَذا الكَلامُ مَسُوقٌ لِلتَّعْجِيبِ مِن أحْوالِهِمْ وما صارُوا عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِرافِ بِوَحْدانِيَّةِ اللَّهِ - سُبْحانَهُ - عِنْدَ نُزُولِ الشَّدائِدِ والرُّجُوعِ إلى الشِّرْكِ عِنْدَ رَفْعِ ذَلِكَ عَنْهم. واللّامُ في ﴿لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ﴾ هي لامُ كَيْ، وقِيلَ: لامُ الأمْرِ لِقَصْدِ الوَعِيدِ والتَّهْدِيدِ، وقِيلَ: هي لامُ العاقِبَةِ. ثُمَّ خاطَبَ - سُبْحانَهُ - هَؤُلاءِ الَّذِينَ وقَعَ مِنهم ما وقَعَ فَقالَ: ﴿فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ ما يَتَعَقَّبُ هَذا التَّمَتُّعَ الزّائِلَ مِنَ العَذابِ الألِيمِ. قَرَأ الجُمْهُورُ " فَتَمَتَّعُوا " عَلى الخِطابِ. وقَرَأ أبُو العالِيَةِ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ، وفي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ " فَلْيَتَمَتَّعُوا " . ﴿أمْ أنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطانًا﴾ أمْ هي المُنْقَطِعَةُ، والِاسْتِفْهامُ لِلْإنْكارِ والسُّلْطانُ الحُجَّةُ الظّاهِرَةُ فَهو يَتَكَلَّمُ أيْ: يَدُلُّ كَما في قَوْلِهِ: ﴿هَذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكم بِالحَقِّ﴾ [الجاثية: ٢٩] قالَ الفَرّاءُ: إنَّ العَرَبَ تُؤَنِّثُ السُّلْطانَ، يَقُولُونَ: قَضَتْ بِهِ عَلَيْكَ السُّلْطانُ. فَأمّا البَصْرِيُّونَ فالتَّذْكِيرُ عِنْدَهم أفْصَحُ، وبِهِ جاءَ القُرْآنُ، والتَّأْنِيثُ عِنْدَهم جائِزٌ لِأنَّهُ بِمَعْنى الحُجَّةِ، وقِيلَ: المُرادُ بِالسُّلْطانِ هُنا المَلِكُ ﴿بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ﴾ أيْ: يَنْطِقُ بِإشْراكِهِمْ بِاللَّهِ - سُبْحانَهُ - ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الباءُ سَبَبِيَّةً أيْ: بِالأمْرِ الَّذِي بِسَبَبِهِ يُشْرِكُونَ. ﴿وإذا أذَقْنا النّاسَ رَحْمَةً﴾ أيْ: خِصْبًا ونِعْمَةً وسَعَةً وعافِيَةً فَرِحُوا بِها فَرَحَ بَطَرٍ وأشَرٍ، لا فَرَحَ شُكْرٍ بِها وابْتِهاجٍ بِوُصُولِها إلَيْهِمْ ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس: ٥٨] ثُمَّ قالَ - سُبْحانَهُ -: " وإنْ تُصِبْهم سَيِّئَةٌ "، أيْ شِدَّةٌ عَلى أيِّ صِفَةٍ بِما قَدَّمَتْ أيْدِيهِمْ أيْ: بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ إذا هم يَقْنُطُونَ، القُنُوطُ الإياسُ مِنَ الرَّحْمَةِ، كَذا قالَ الجُمْهُورُ. وقالَ الحَسَنُ: القُنُوطُ تَرْكُ فَرائِضِ اللَّهِ - سُبْحانَهُ - . قَرَأ الجُمْهُورُ " يَقْنُطُونَ " بِضَمِّ النُّونِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو والكِسائِيُّ ويَعْقُوبُ بِكَسْرِها. ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ﴾ مِن عِبادِهِ ويُوَسِّعُ لَهُ، ويَقْدِرُ أيْ: يُضَيِّقُ عَلى مَن يَشاءُ لِمَصْلَحَةٍ في التَّوْسِيعِ لِمَن وُسِّعَ لَهُ وفي التَّضْيِيقِ عَلى مَن ضُيِّقَ عَلَيْهِ، إنَّ في ذَلِكَ لِآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، فَيَسْتَدِلُّونَ عَلى الحَقِّ لِدَلالَتِها عَلى كَمالِ القُدْرَةِ وبَدِيعِ الصُّنْعِ وغَرِيبِ الخَلْقِ. وقَدْ أخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: كانَ يُلَبِّي أهْلُ الشِّرْكِ. لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ إلّا شَرِيكَ هو لَكَ تَمْلِكُهُ وما مَلَكَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿هَلْ لَكم مِن ما مَلَكَتْ أيْمانُكم مِن شُرَكاءَ﴾ الآيَةَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ في الآيَةِ قالَ هي في الآلِهَةِ، وفِيهِ يَقُولُ: تَخافُونَهم أنْ يَرِثُوكم كَما يَرِثُ بَعْضُكم بَعْضًا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ قالَ: دِينُ اللَّهِ ﴿ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ﴾ قالَ: القَضاءُ القَيِّمُ. وأخْرَجَ، عَبْدُ الرَّزّاقِ، وابْنُ أبِي شَيْبَةَ وأحْمَدُ، والنَّسائِيُّ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ (p-١١٣٥)الأسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - بَعَثَ سَرِيَّةً إلى خَيْبَرَ فَقاتَلُوا المُشْرِكِينَ، فانْتَهى القَتْلُ إلى الذُّرِّيَّةِ، فَلَمّا جاءُوا قالَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: ما حَمَلَكم عَلى قَتْلِ الذُّرِّيَّةِ ؟ قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّما كانُوا أوْلادَ المُشْرِكِينَ، قالَ: وهَلْ خِيارُكم إلّا أوْلادُ المُشْرِكِينَ ؟ والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ما مِن نَسَمَةٍ تُولَدُ إلّا عَلى الفِطْرَةِ حَتّى يُعْرِبَ عَنْها لِسانُها» . وأخْرَجَ أحْمَدُ مِن حَدِيثِ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ حَتّى يُعَبِّرَ عَنْهُ لِسانُهُ، فَإذا عَبَّرَ عَنْهُ لِسانُهُ إمّا شاكِرًا وإمّا كَفُورًا» . رَواهُ أحْمَدُ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ عَنِ الحَسَنِ عَنْ جابِرٍ. وقالَ الإمامُ أحْمَدُ في المُسْنَدِ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنا هِشامُ، حَدَّثَنا قَتادَةُ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ عِياضِ بْنِ حَمّادٍ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - خَطَبَ يَوْمًا فَقالَ في خُطْبَتِهِ حاكِيًا عَنِ اللَّهِ - سُبْحانَهُ -: وإنِّي خَلَقْتُ عِبادِي حُنَفاءَ كُلَّهم، وإنَّهم أتَتْهُمُ الشَّياطِينُ فَأضَلَّتْهم عَنْ دِينِهِمْ وحَرَّمْتُ عَلَيْهِمْ ما أحْلَلْتُ لَهم» . الحَدِيثَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب