الباحث القرآني
الكِتابُ هو القُرْآنُ، فاللّامُ لِلْعَهْدِ، وقَدَّمَ الظَّرْفَ وهو عَلَيْكَ لِما يُفِيدُهُ مِنَ الِاخْتِصاصِ.
وقَوْلُهُ: ﴿مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ﴾ المُوافِقُ لِقَواعِدِ العَرَبِيَّةِ أنْ يَكُونَ الظَّرْفُ خَبَرًا مُقَدَّمًا، والأوْلى بِالمَعْنى أنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً تَقْدِيرُهُ مِنَ الكِتابِ آياتٌ بَيِّناتٌ عَلى نَحْوِ ما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ﴾ وإنَّما كانَ أوْلى؛ لِأنَّ المَقْصُودَ انْقِسامُ الكِتابِ إلى القِسْمَيْنِ المَذْكُورَيْنِ لا مُجَرَّدَ الإخْبارِ عَنْهُما بِأنَّهُما مِنَ الكِتابِ، والجُمْلَةُ حالِيَّةٌ في مَحَلِّ نَصْبٍ أوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَها. وقَدِ اخْتَلَفَ العُلَماءُ في تَفْسِيرِ المُحْكَماتِ والمُتَشابِهاتِ عَلى أقْوالٍ: فَقِيلَ إنَّ المُحْكَمَ ما عُرِفَ تَأْوِيلُهُ وفُهِمَ مَعْناهُ وتَفْسِيرُهُ والمُتَشابِهُ ما لَمْ يَكُنْ لِأحَدٍ إلى عِلْمِهِ سَبِيلٌ، ومِنَ القائِلِينَ بِهَذا جابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ والشَّعْبِيُّ وسُفْيانُ الثَّوْرِيُّ، قالُوا: وذَلِكَ نَحْوُ الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ في أوائِلِ السُّوَرِ، وقِيلَ: المُحْكَمُ ما لا يَحْتَمِلُ إلّا وجْهًا واحِدًا، والمُتَشابِهُ ما يَحْتَمِلُ وُجُوهًا فَإذا رُدَّتْ إلى وجْهٍ واحِدٍ وأُبْطِلَ الباقِي صارَ المُتَشابِهُ مُحْكَمًا، وقِيلَ: إنَّ المُحْكَمَ ناسِخُهُ وحَرامُهُ وحَلالُهُ وفَرائِضُهُ وما نُؤْمِنُ بِهِ ونَعْمَلُ عَلَيْهِ، والمُتَشابِهُ مَنسُوخُهُ وأمْثالُهُ وأقْسامُهُ وما نُؤْمِنُ بِهِ ولا نَعْمَلُ بِهِ.
رُوِيَ هَذا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وقِيلَ: المُحْكَمُ: النّاسِخُ، والمُتَشابِهُ: المَنسُوخُ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وقَتادَةَ والرَّبِيعِ. والمُتَشابِهُ: ما فِيهِ تَصْرِيفٌ وتَحْرِيمٌ وتَأْوِيلٌ. قالَهُ مُجاهِدٌ وابْنُ إسْحاقَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا أحْسَنُ الأقْوالِ، وقِيلَ: المُحْكَمُ: ما كانَ قائِمًا بِنَفْسِهِ لا يَحْتاجُ إلى أنْ يَرْجِعَ إلى غَيْرِهِ، والمُتَشابِهُ: ما يَرْجِعُ فِيهِ إلى غَيْرِهِ.
قالَ النَّحّاسُ: وهَذا أحْسَنُ ما قِيلَ في المُحْكَماتِ والمُتَشابِهاتِ. قالَ القُرْطُبِيُّ: ما قالَهُ النَّحّاسُ يُبَيِّنُ ما اخْتارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وهو الجارِي عَلى وضْعِ اللِّسانِ، وذَلِكَ أنَّ المُحْكَمَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِن أحْكَمَ، والإحْكامُ: الإتْقانُ، ولا شَكَّ في أنَّ ما كانَ واضِحَ المَعْنى لا إشْكالَ فِيهِ ولا تَرَدُّدَ، إنَّما يَكُونُ كَذَلِكَ لِوُضُوحِ مُفْرَداتِ كَلِماتِهِ وإتْقانِ تَرْكِيبِها، ومَتى اخْتَلَّ أحَدُ الأمْرَيْنِ جاءَ التَّشابُهُ والإشْكالُ.
وقالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَندادَ: لِلْمُتَشابِهِ وُجُوهٌ ما اخْتَلَفَ فِيهِ العُلَماءُ أيُّ الآيَتَيْنِ نَسَخَتِ الأُخْرى، كَما في الحامِلِ المُتَوَفّى عَنْها زَوْجُها، فَإنَّ مِنَ الصَّحابَةِ مَن قالَ: إنَّ آيَةَ وضْعِ الحَمْلِ نَسَخَتْ آيَةَ الأرْبَعَةِ الأشْهُرِ والعَشَرِ، ومِنهم مَن قالَ العَكْسَ. وكاخْتِلافِهِمْ في الوَصِيَّةِ لِلْوارِثِ، وكَتَعارُضِ الأقْيِسَةِ، هَذا مَعْنى كَلامِهِ.
والأوْلى أنْ يُقالَ: إنَّ المُحْكَمَ هو الواضِحُ المَعْنى الظّاهِرُ الدَّلالَةِ، إمّا بِاعْتِبارِ نَفْسِهِ أوْ بِاعْتِبارِ غَيْرِهِ، والمُتَشابِهُ ما لا يَتَّضِحُ مَعْناهُ، أوْ لا تَظْهَرُ دَلالَتُهُ لا بِاعْتِبارِ نَفْسِهِ ولا بِاعْتِبارِ غَيْرِهِ. وإذا عَرَفْتَ هَذا عَرَفْتَ أنَّ هَذا الِاخْتِلافَ الَّذِي قَدَّمْناهُ لَيْسَ كَما يَنْبَغِي، وذَلِكَ لِأنَّ أهْلَ كُلِّ قَوْلٍ عَرَّفُوا المُحْكَمَ بِبَعْضِ صِفاتِهِ، وعَرَّفُوا المُتَشابِهَ بِما يُقابِلُها.
وبَيانُ ذَلِكَ أنَّ أهْلَ القَوْلِ الأوَّلِ جَعَلُوا المُحْكَمَ ما وُجِدَ إلى عِلْمِهِ سَبِيلٌ، (p-٢٠٢)والمُتَشابِهُ ما لا سَبِيلَ إلى عِلْمِهِ، ولا شَكَّ أنَّ مَفْهُومَ المُحْكَمِ والمُتَشابِهِ أوْسَعُ دائِرَةً مِمّا ذَكَرُوهُ، فَإنَّ مُجَرَّدَ الخَفاءِ أوْ عَدَمَ الظُّهُورِ أوِ الِاحْتِمالَ أوِ التَّرَدُّدَ يُوجِبُ التَّشابُهَ، وأهْلُ القَوْلِ الثّانِي خَصُّوا المُحْكَمَ بِما لَيْسَ فِيهِ احْتِمالٌ، والمُتَشابِهُ بِما فِيهِ احْتِمالٌ، ولا شَكَّ أنَّ هَذا بَعْضُ أوْصافِ المُحْكَمِ والمُتَشابِهِ لا كُلُّها، وهَكَذا أهْلُ القَوْلِ الثّالِثِ فَإنَّهم خَصُّوا كُلَّ واحِدٍ مِنَ القِسْمَيْنِ بِتِلْكَ الأوْصافِ المُعَيَّنَةِ دُونَ غَيْرِها، وأهْلُ القَوْلِ الرّابِعِ خَصُّوا كُلَّ واحِدٍ مِنهُما بِبَعْضِ الأوْصافِ الَّتِي ذَكَرَها أهْلُ القَوْلِ الثّالِثِ، والأمْرُ أوْسَعُ مِمّا قالُوهُ جَمِيعًا، وأهْلُ القَوْلِ الخامِسِ خَصُّوا المُحْكَمَ بِوَصْفِ عَدَمِ التَّصْرِيفِ والتَّحْرِيفِ، وجَعَلُوا المُتَشابِهَ مُقابِلَهُ، وأهْمَلُوا ما هو أهَمُّ مِن ذَلِكَ مِمّا لا سَبِيلَ إلى عَمَلِهِ مِن دُونِ تَصْرِيفٍ وتَحْرِيفٍ كَفَواتِحِ السُّوَرِ المُقَطَّعَةِ، وأهْلُ القَوْلِ السّادِسِ خَصُّوا المُحْكَمَ بِما يَقُومُ بِنَفْسِهِ، والمُتَشابِهُ بِما لا يَقُومُ بِها، وأنَّ هَذا هو بَعْضُ أوْصافِهِما، وصاحِبُ القَوْلِ السّابِعِ وهو ابْنُ خُوَيْزِ مَندادَ عَمَدَ إلى صُورَةِ الوِفاقِ فَجَعَلَها مُحْكَمًا، وإلى صُورَةِ الخِلافِ والتَّعارُضِ فَجَعَلَها مُتَشابِهًا، فَأهْمَلَ ما هو أخَصُّ أوْصافِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما مِن كَوْنِهِ بِاعْتِبارِ نَفْسِهِ مَفْهُومَ المَعْنى أوْ غَيْرَ مَفْهُومٍ. قَوْلُهُ: " ﴿هُنَّ أُمُّ الكِتابِ﴾ " أيْ: أصْلُهُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، ويَرُدُّ ما خالَفَهُ إلَيْهِ وهَذِهِ الجُمْلَةُ صِفَةٌ لِما قَبْلَها.
قَوْلُهُ: " ﴿وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ﴾ " وصْفٌ لِمَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ؛ أيْ: وآياتٌ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ وهي جَمْعُ أُخْرى، وإنَّما لَمْ يَنْصَرِفْ لِأنَّهُ عُدِلَ بِها عَنِ الآخَرِ؛ لِأنَّ أصْلَها أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ. وقالَ أبُو عُبَيْدٍ: لَمْ يَنْصَرِفْ؛ لِأنَّ واحِدَها لا يَنْصَرِفُ في مَعْرِفَةٍ ولا نَكِرَةٍ، وأنْكَرَ ذَلِكَ المُبَرِّدُ.
وقالَ الكِسائِيُّ: لَمْ تَنْصَرِفْ؛ لِأنَّها صِفَةٌ، وأنْكَرَهُ أيْضًا المُبَرِّدُ. وقالَ سِيبَوَيْهِ: لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ أُخَرُ مَعْدُولَةً عَنِ الألِفِ واللّامِ لِأنَّها لَوْ كانَتْ مَعْدُولَةً عَنْها لَكانَ مَعْرِفَةً، ألا تَرى أنَّ سَحَرَ مَعْرِفَةٌ في جَمِيعِ الأقاوِيلِ لَمّا كانَتْ مَعْدُولَةً.
قَوْلُهُ: " ﴿فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ " الزَّيْغُ: المَيْلُ: ومِنهُ زاغَتِ الشَّمْسُ وزاغَتِ الأبْصارُ، ويُقالُ: زاغَ يَزِيغُ زَيْغًا: إذا تَرَكَ القَصْدَ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا زاغُوا أزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥] وهَذِهِ الآيَةُ تَعُمُّ كُلَّ طائِفَةٍ مِنَ الطَّوائِفِ الخارِجَةِ عَنِ الحَقِّ. وسَبَبُ النُّزُولِ نَصارى نَجْرانَ كَما تَقَدَّمَ، وسَيَأْتِي.
قَوْلُهُ: " ﴿فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ﴾ " أيْ: يَتَعَلَّقُونَ بِالمُتَشابِهِ مِنَ الكِتابِ فَيُشَكِّكُونَ بِهِ عَلى المُؤْمِنِينَ، ويَجْعَلُونَهُ دَلِيلًا عَلى ما هم فِيهِ مِنَ البِدْعَةِ المائِلَةِ عَنِ الحَقِّ، كَما تَجِدُهُ في كُلِّ طائِفَةٍ مِن طَوائِفِ البِدْعَةِ، فَإنَّهم يَتَلاعَبُونَ بِكِتابِ اللَّهِ تَلاعُبًا شَدِيدًا، ويُورِدُونَ مِنهُ لِتَنْفِيقِ جَهْلِهِمْ ما لَيْسَ مِنَ الدَّلالَةِ في شَيْءٍ.
قَوْلُهُ: " ﴿ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ﴾ " أيْ: طَلَبًا لِتَأْوِيلِهِ عَلى الوَجْهِ الَّذِي يُرِيدُونَهُ ويُوافِقُ مَذاهِبَهُمُ الفاسِدَةَ. قالَ الزَّجّاجُ: مَعْنى ابْتِغائِهِمْ تَأْوِيلَهُ: أنَّهم طَلَبُوا تَأْوِيلَ بَعْثِهِمْ وإحْيائِهِمْ، فَأعْلَمَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ أنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ ووَقْتَهُ لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ.
قالَ: والدَّلِيلُ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ [الأعراف: ٥٣] أيْ: يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ مِنَ البَعْثِ والنُّشُورِ والعَذابِ ﴿يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ﴾ [الأعراف: ٥٣] أيْ تَرَكُوهُ ﴿قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالحَقِّ﴾ [الأعراف: ٥٣] أيْ: قَدْ رَأيْنا تَأْوِيلَ ما أنْبَأتْنا بِهِ الرُّسُلُ.
قَوْلُهُ: ﴿وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ﴾ التَّأْوِيلُ يَكُونُ بِمَعْنى التَّفْسِيرِ، كَقَوْلِهِمْ: تَأْوِيلُ هَذِهِ الكَلِمَةِ عَلى كَذا؛ أيْ: تَفْسِيرُها، ويَكُونُ بِمَعْنى ما يَئُولُ الأمْرُ إلَيْهِ، واشْتِقاقُهُ مِن آلَ الأمْرُ إلى كَذا يَئُولُ إلَيْهِ؛ أيْ: صارَ، وأوَّلْتُهُ تَأْوِيلًا؛ أيْ: صَيَّرْتُهُ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ حالِيَّةٌ؛ أيْ: يَتَّبِعُونَ المُتَشابِهَ لِابْتِغاءِ تَأْوِيلِهِ، والحالُ أنَّ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ.
وقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في قَوْلِهِ: ﴿والرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾ هَلْ هو كَلامٌ مَقْطُوعٌ عَمّا قَبْلَهُ أوْ مَعْطُوفٌ عَلى ما قَبْلَهُ ؟ فَتَكُونُ الواوُ لِلْجَمِيعِ، فالَّذِي عَلَيْهِ الأكْثَرُ أنَّهُ مَقْطُوعٌ عَمّا قَبْلَهُ، وأنَّ الكَلامَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: " إلّا اللَّهُ " هَذا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وابْنِ عَبّاسٍ وعائِشَةَ وعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ وأبِي الشَّعْثاءِ وأبِي نُهَيْكٍ وغَيْرِهِمْ، وهو مَذْهَبُ الكِسائِيِّ والفَرّاءِ والأخْفَشِ وأبِي عُبَيْدٍ وحَكاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ عَنْ مالِكٍ واخْتارَهُ.
وحَكاهُ الخَطّابِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قالَ: وإنَّما رُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّهُ نَسَّقَ الرّاسِخِينَ عَلى ما قَبْلَهُ، وزَعَمَ أنَّهم يَعْلَمُونَهُ، قالَ: واحْتَجَّ لَهُ بَعْضُ أهْلِ اللُّغَةِ فَقالَ: مَعْناهُ: والرّاسِخُونَ في العِلْمِ يَعْلَمُونَهُ قائِلِينَ: آمَنّا بِهِ وزَعَمَ أنَّ مَوْضِعَ ( يَقُولُونَ ) نَصْبٌ عَلى الحالِ وعامَّةُ أهْلِ اللُّغَةِ يُنْكِرُونَهُ ويَسْتَبْعِدُونَهُ؛ لِأنَّ العَرَبَ لا تُضْمِرُ الفِعْلَ والمَفْعُولَ مَعًا، ولا تَذْكُرُ حالًا إلّا مَعَ ظُهُورِ الفِعْلِ، فَإذا لَمْ يَظْهَرْ فِعْلٌ لَمْ يَكُنْ حالًا، ولَوْ جازَ ذَلِكَ لَجازَ أنْ يُقالَ: عَبْدُ اللَّهِ راكِبًا، يَعْنِي: أقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ راكِبًا، وإنَّما يَجُوزُ ذَلِكَ مَعَ ذِكْرِ الفِعْلِ كَقَوْلِهِ: عَبْدُ اللَّهِ يَتَكَلَّمُ يُصْلِحُ بَيْنَ النّاسِ، فَكانَ يُصْلِحُ حالًا كَقَوْلِ الشّاعِرِ: أنْشَدَنِيهِ أبُو عَمْرٍو قالَ: أنْشَدَنا أبُو العَبّاسِ ثَعْلَبٌ:
؎أرْسَلْتُ فِيها رَجُلًا لُكالِكا يَقْصُرُ يَمْشِي ويَطُولُ بارِكا
فَكانَ قَوْلُ عامَّةِ العُلَماءِ مَعَ مُساعَدَةِ مَذاهِبِ النَّحْوِيِّينَ لَهُ أوْلى مِن قَوْلِ مُجاهِدٍ وحْدَهُ
وأيْضًا فَإنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَنْفِيَ اللَّهُ سُبْحانَهُ شَيْئًا عَنِ الخَلْقِ ويَنْسُبَهُ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ لَهُ في ذَلِكَ شَرِيكٌ، ألا تَرى قَوْلَهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ الغَيْبَ إلّا اللَّهُ﴾ [النمل: ٦٥]، وقَوْلَهُ: ﴿لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إلّا هو﴾ [الأعراف: ١٨٧]، وقَوْلَهُ: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلّا وجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨] وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ﴾ فَكانَ هَذا كُلُّهُ مِمّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ بِهِ لا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، ولَوْ كانَتِ الواوُ في قَوْلِهِ: والرّاسِخُونَ لِلنَّسَقِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: ﴿كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا﴾ فائِدَةٌ انْتَهى.
قالَ القُرْطُبِيُّ: ما حَكاهُ الخَطّابِيُّ مِن أنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ مُجاهِدٍ غَيْرُهُ.
فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ الرّاسِخِينَ مَعْطُوفٌ عَلى اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وأنَّهم داخِلُونَ في عِلْمِ المُتَشابِهِ، وأنَّهم مَعَ عِلْمِهِمْ بِهِ يَقُولُونَ: آمَنّا بِهِ.
وقالَ الرَّبِيعُ ومُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ والقاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وغَيْرُهم. و( ﴿يَقُولُونَ﴾ ) عَلى هَذا التَّأْوِيلِ نَصْبٌ عَلى الحالِ مِن (p-٢٠٣)" ﴿الرّاسِخُونَ﴾ " كَما قالَ:
؎الرِّيحُ يَبْكِي شَجْوَهُ ∗∗∗ والبَرْقُ يَلْمَعُ في الغَمامَهْ
وهَذا البَيْتُ يَحْتَمِلُ المَعْنَيَيْنِ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ والبَرْقُ مُبْتَدَأٌ، والخَبَرُ يَلْمَعُ عَلى التَّأْوِيلِ الأوَّلِ فَيَكُونُ مَقْطُوعًا مِمّا قَبْلَهُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى الرِّيحِ، ويَلْمَعُ في مَوْضِعِ الحالِ عَلى التَّأْوِيلِ الثّانِي أيْ لامِعًا. انْتَهى.
ولا يَخْفاكَ أنَّ ما قالَهُ الخَطّابِيُّ في وجْهِ امْتِناعِ كَوْنِ قَوْلِهِ: يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ حالًا مِن أنَّ العَرَبَ لا تَذْكُرُ حالًا إلّا مَعَ ظُهُورِ الفِعْلِ إلى آخِرِ كَلامِهِ لا يَتِمُّ إلّا عَلى فَرْضِ أنَّهُ لا فِعْلَ هُنا، ولَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ، فالفِعْلُ مَذْكُورٌ، وهو قَوْلُهُ: وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ ولَكِنَّهُ جاءَ الحالُ مِنَ المَعْطُوفِ، وهو قَوْلُهُ: والرّاسِخُونَ دُونَ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وهو قَوْلُهُ: إلّا اللَّهُ وذَلِكَ جائِزٌ في اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ.
وقَدْ جاءَ مِثْلُهُ في الكِتابِ العَزِيزِ.
ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِلْفُقَراءِ المُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ﴾ [الحشر: ٨] إلى قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ جاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا اغْفِرْ لَنا﴾ [الحشر: ١٠] الآيَةَ، وكَقَوْلِهِ: ﴿وجاءَ رَبُّكَ والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر: ٢٢] أيْ: وجاءَتِ المَلائِكَةُ صَفًّا صَفًّا، ولَكِنْ هاهُنا مانِعٌ آخَرُ مِن جَعْلِ ذَلِكَ حالًا، وهو أنَّ تَقْيِيدَ عِلْمِهِمْ بِتَأْوِيلِهِ بِحالِ كَوْنِهِمْ قائِلِينَ: آمَنّا بِهِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإنَّ الرّاسِخِينَ في العِلْمِ عَلى القَوْلِ بِصِحَّةِ العَطْفِ عَلى الِاسْمِ الشَّرِيفِ يَعْلَمُونَهُ في كُلِّ حالٍ مِنَ الأحْوالِ لا في هَذِهِ الحالَةِ الخاصَّةِ، فاقْتَضى هَذا أنْ جَعَلَ قَوْلَهُ: ﴿والرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ: ﴿يَقُولُونَ﴾، ومِن جُمْلَةِ ما اسْتَدَلَّ بِهِ القائِلُونَ بِالعَطْفِ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ مَدَحَهم بِالرُّسُوخِ في العِلْمِ، فَكَيْفَ يَمْدَحُهم وهم لا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ ؟ ويُجابُ عَنْ هَذا بِأنَّ تَرْكَهم لِطَلَبِ عِلْمِ ما لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِهِ، ولا جَعَلَ لِخَلْقِهِ إلى عِلْمِهِ سَبِيلًا هو مِن رُسُوخِهِمْ؛ لِأنَّهم عَلِمُوا أنَّ ذَلِكَ مِمّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ وأنَّ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَهُ هُمُ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، وناهِيكَ بِهَذا مِن رُسُوخٍ.
وأصْلُ الرُّسُوخِ في لُغَةِ العَرَبِ: الثُّبُوتُ في الشَّيْءِ، وكُلُّ ثابِتٍ راسِخٌ، وأصْلُهُ في الأجْرامِ أنْ تَرْسَخَ الخَيْلُ أوِ الشَّجَرُ في الأرْضِ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎لَقَدْ رَسَخَتْ في الصَّدْرِ مِنِّي مَوَدَّةٌ ∗∗∗ لِلَيْلى أبَتْ آياتُها أنْ تُغَيَّرا
فَهَؤُلاءِ ثَبَتُوا في امْتِثالِ ما جاءَهم عَنِ اللَّهِ مِن تَرْكِ اتِّباعِ المُتَشابِهِ، وإرْجاعِ عِلْمِهِ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ.
ومِن أهْلِ العِلْمِ مَن تَوَسَّطَ بَيْنَ المَقامَيْنِ فَقالَ: التَّأْوِيلُ يُطْلَقُ ويُرادُ بِهِ في القُرْآنِ شَيْئانِ: أحَدُهُما التَّأْوِيلُ بِمَعْنى حَقِيقَةِ الشَّيْءِ وما يَئُولُ أمْرُهُ إلَيْهِ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿هَذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ﴾ [يوسف: ١٠٠]، وقَوْلُهُ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ﴾ [الأعراف: ٥٣] أيْ: حَقِيقَةُ ما أخْبَرُوا بِهِ مِن أمْرِ المَعادِ، فَإنْ أُرِيدَ بِالتَّأْوِيلِ هَذا فالوَقْفُ عَلى الجَلالَةِ؛ لِأنَّ حَقائِقَ الأُمُورِ وكُنْهَها لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، ويَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿والرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾ مُبْتَدَأً، و﴿يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ﴾ خَبَرُهُ.
وأمّا إنْ أُرِيدَ بِالتَّأْوِيلِ المَعْنى الآخَرُ وهو التَّفْسِيرُ والبَيانُ والتَّعْبِيرُ عَنِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ: ﴿نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ﴾ [لقمان: ٣٤] أيْ: بِتَفْسِيرِهِ فالوَقْفُ عَلى ﴿والرّاسِخُونَ في العِلْمِ﴾؛ لِأنَّهم يَعْلَمُونَ ويَفْهَمُونَ ما خُوطِبُوا بِهِ بِهَذا الِاعْتِبارِ، وإنْ لَمْ يُحِيطُوا عِلْمًا بِحَقائِقِ الأشْياءِ عَلى كُنْهِ ما هي عَلَيْهِ، وعَلى هَذا فَيَكُونُ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ حالًا مِنهم، ورَجَّحَ ابْنُ فُورَكٍ أنَّ الرّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، وأطْنَبَ في ذَلِكَ، وهَكَذا جَماعَةٌ مِن مُحَقِّقِي المُفَسِّرِينَ رَجَّحُوا ذَلِكَ.
قالَ القُرْطُبِيُّ: قالَ شَيْخُنا أبُو العَبّاسِ أحْمَدُ بْنُ عُمَرَ: وهو الصَّحِيحُ فَإنَّ تَسْمِيَتَهم راسِخِينَ تَقْضِي بِأنَّهم يَعْلَمُونَ أكْثَرَ مِنَ المُحْكَمِ الَّذِي يَسْتَوِي في عِلْمِهِ جَمِيعُ مَن يَفْهَمُ كَلامَ العَرَبِ، وفي أيِّ شَيْءٍ هو رُسُوخُهم إذا لَمْ يَعْلَمُوا إلّا ما يَعْلَمُ الجَمِيعُ، لَكِنَّ المُتَشابِهَ يَتَنَوَّعُ، فَمِنهُ ما لا يُعْلَمُ ألْبَتَّةَ كَأمْرِ الرَّوْحِ والسّاعَةِ مِمّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وهَذا لا يَتَعاطى عِلْمَهُ أحَدٌ، فَمَن قالَ مِنَ العُلَماءِ الحُذّاقِ بِأنَّ الرّاسِخِينَ لا يَعْلَمُونَ عِلْمَ المُتَشابِهِ فَإنَّما أرادَ هَذا النَّوْعَ.
وأمّا ما يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلى وُجُوهٍ في اللُّغَةِ فَيُتَأوَّلُ ويُعْلَمُ تَأْوِيلُهُ المُسْتَقِيمُ ويُزالُ ما فِيهِ مِن تَأْوِيلٍ غَيْرِ مُسْتَقِيمٍ انْتَهى.
واعْلَمْ أنَّ هَذا الِاضْطِرابَ الواقِعَ في مَقالاتِ أهْلِ العِلْمِ أعْظَمُ أسْبابِهِ اخْتِلافُ أقْوالِهِمْ في تَحْقِيقِ مَعْنى المُحْكَمِ والمُتَشابِهِ.
وقَدْ قَدَّمْنا لَكَ ما هو الصَّوابُ في تَحْقِيقِهِما، ونَزِيدُكَ هاهُنا إيضاحًا وبَيانًا، فَنَقُولُ: إنَّ مِن جُمْلَةِ ما يَصْدُقُ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ المُتَشابِهِ الَّذِي قَدَّمْناهُ فَواتِحَ السُّوَرِ، فَإنَّها غَيْرُ مُتَّضِحَةِ المَعْنى، ولا ظاهِرَةِ الدَّلالَةِ، لا بِالنِّسْبَةِ إلى أنْفُسِها؛ لِأنَّهُ لا يَدْرِي مَن يَعْلَمُ بِلُغَةِ العَرَبِ، ويَعْرِفُ عُرْفَ الشَّرْعَ ما مَعْنى ﴿الم﴾، ﴿المر﴾، ﴿حم﴾، ﴿طس﴾، ﴿طسم﴾ ونَحْوِها؛ لِأنَّهُ لا يَجِدُ بَيانَها في شَيْءٍ مِن كَلامِ العَرَبِ ولا مِن كَلامِ الشَّرْعِ، فَهي غَيْرُ مُتَّضِحَةِ المَعْنى، لا بِاعْتِبارِها نَفْسِها، ولا بِاعْتِبارِ أمْرٍ آخَرَ يُفَسِّرُها ويُوَضِّحُها، ومِثْلُ ذَلِكَ الألْفاظُ المَنقُولَةُ عَنْ لُغَةِ العَجَمِ، والألْفاظُ الغَرِيبَةُ الَّتِي لا يُوجَدُ في لُغَةِ العَرَبِ ولا في عُرْفِ الشَّرْعِ ما يُوَضِّحُها، وهَكَذا ما اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ كالرُّوحِ وما في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ﴾ [لقمان: ٣٤] إلى آخِرِ الآيَةِ، ونَحْوِ ذَلِكَ وهَكَذا ما كانَتْ دَلالَتُهُ غَيْرَ ظاهِرَةٍ لا بِاعْتِبارِ نَفْسِهِ ولا بِاعْتِبارِ غَيْرِهِ؛ كَوُرُودِ الشَّيْءِ مُحْتَمِلًا لِأمْرَيْنِ احْتِمالًا لا يَتَرَجَّحُ أحَدُهُما عَلى الآخَرِ بِاعْتِبارِ ذَلِكَ الشَّيْءِ في نَفْسِهِ، وذَلِكَ كالألْفاظِ المُشْتَرَكَةِ مَعَ عَدَمِ وُرُودِ ما يُبَيِّنُ المُرادُ مِن مَعْنى ذَلِكَ المُشْتَرَكِ مِنَ الأُمُورِ الخارِجَةِ، وكَذَلِكَ وُرُودُ دَلِيلَيْنِ مُتَعارِضَيْنِ تَعارُضًا كُلِّيًّا بِحَيْثُ لا يُمْكِنُ تَرْجِيحُ أحَدِهِما عَلى الآخَرِ لا بِاعْتِبارِ نَفْسِهِ ولا بِاعْتِبارِ أمْرٍ آخَرَ يُرَجِّحُهُ.
وأمّا ما كانَ واضِحَ المَعْنى بِاعْتِبارِ نَفْسِهِ بِأنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا في لُغَةِ العَرَبِ أوْ في عُرْفِ الشَّرْعِ أوْ بِاعْتِبارِ غَيْرِهِ وذَلِكَ كالأُمُورِ المُجْمَلَةِ الَّتِي ورَدَ بَيانُها في مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ الكِتابِ العَزِيزِ أوْ في السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ أوِ الأُمُورِ الَّتِي تَعارَضَتْ دَلالَتُها، ثُمَّ ورَدَ ما يُبَيِّنُ راجِحَها مِن مَرْجُوحِها في مَوْضِعٍ آخَرَ مِنَ الكِتابِ أوِ السُّنَّةِ أوْ سائِرِ (p-٢٠٤)المُرَجِّحاتِ المَعْرُوفَةِ عِنْدَ أهْلِ الأُصُولِ المَقْبُولَةِ عِنْدَ أهْلِ الإنْصافِ فَلا شَكَّ ولا رَيْبَ أنَّ هَذِهِ مِنَ المُحْكَمِ لا مِنَ المُتَشابِهِ ومَن زَعَمَ أنَّها مِنَ المُتَشابِهِ فَقَدِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الصَّوابُ، فاشْدُدْ يَدَيْكَ عَلى هَذا فَإنَّكَ تَنْجُو بِهِ مِن مَضايِقَ ومَزالِقَ وقَعَتْ لِلنّاسِ في هَذا المَقامِ حَتّى صارَتْ كُلُّ طائِفَةٍ تُسَمِّي ما دَلَّ لِما ذَهَبَ إلَيْهِ مُحْكَمًا وما دَلَّ عَلى ما يَذْهَبُ إلَيْهِ مَن يُخالِفُها مُتَشابِهًا: سِيَّما أهْلُ عِلْمِ الكَلامِ، ومَن أنْكَرَ هَذا فَعَلَيْهِ بِمُؤَلَّفاتِهِمْ.
واعْلَمْ أنَّهُ قَدْ ورَدَ في الكِتابِ العَزِيزِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ جَمِيعُهُ مُحْكَمٌ ولَكِنْ لا بِهَذا المَعْنى الوارِدِ في هَذِهِ الآيَةِ بَلْ بِمَعْنًى آخَرَ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ﴾ [هود: ١] وقَوْلُهُ: ﴿تِلْكَ آياتُ الكِتابِ الحَكِيمِ﴾ [يونس: ١] والمُرادُ بِالمُحْكَمِ بِهَذا المَعْنى أنَّهُ صَحِيحُ الألْفاظِ قَوِيمُ المَعانِي فائِقٌ في البَلاغَةِ والفَصاحَةِ عَلى كُلِّ كَلامٍ. ووَرَدَ أيْضًا ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ جَمِيعُهُ مُتَشابِهٌ لَكِنْ لا بِهَذا المَعْنى الوارِدِ في هَذِهِ الآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِها بَلْ بِمَعْنًى آخَرَ ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كِتابًا مُتَشابِهًا﴾ [الزمر: ٢٣] والمُرادُ بِالمُتَشابِهِ بِهَذا المَعْنى أنَّهُ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا في الصِّحَّةِ والفَصاحَةِ والحُسْنِ والبَلاغَةِ.
وقَدْ ذَكَرَ أهْلُ العِلْمِ لِوُرُودِ المُتَشابِهِ في القُرْآنِ فَوائِدَ: مِنها أنَّهُ يَكُونُ في الوُصُولِ إلى الحَقِّ مَعَ وُجُودِها فِيهِ مَزِيدُ صُعُوبَةٍ ومَشَقَّةٍ، وذَلِكَ يُوجِبُ مَزِيدَ الثَّوابِ لِلْمُسْتَخْرِجِينَ لِلْحَقِّ وهُمُ الأئِمَّةُ المُجْتَهِدُونَ، وقَدْ ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ والرّازِيُّ وغَيْرُهُما وُجُوهًا هَذا أحْسَنُها وبَقِيَّتُها لا تَسْتَحِقُّ الذِّكْرَ هاهُنا.
قَوْلُهُ: ﴿كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا﴾ فِيهِ ضَمِيرٌ مُقَدَّرٌ عائِدٌ عَلى قِسْمَيِ المُحْكَمِ والمُتَشابِهِ؛ أيْ: كُلُّهُ، أوِ المَحْذُوفُ غَيْرُ ضَمِيرٍ؛ أيْ: كُلُّ واحِدٍ مِنهُما، وهَذا مِن تَمامِ المَقُولِ المَذْكُورِ قَبْلَهُ.
وقَوْلُهُ: ﴿وما يَذَّكَّرُ إلّا أُولُو الألْبابِ﴾ أيِ العُقُولُ الخالِصَةُ: وهُمُ الرّاسِخُونَ في العِلْمِ، الواقِفُونَ عِنْدَ مُتَشابِهِهِ، العالِمُونَ بِمُحْكَمِهِ العامِلُونَ بِما أرْشَدَهُمُ اللَّهُ إلَيْهِ في هَذِهِ الآيَةِ.
وقَوْلُهُ: " ﴿رَبَّنا لا تُزِغْ﴾ " إلَخْ مِن تَمامِ ما يَقُولُهُ الرّاسِخُونَ؛ أيْ: يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا، ويَقُولُونَ: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا، قالَ ابْنُ كَيْسانَ: سَألُوا ألّا يَزِيغُوا فَتَزِيغَ قُلُوبُهم نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَمّا زاغُوا أزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: ٥] كَأنَّهم لَمّا سَمِعُوا قَوْلَهُ سُبْحانَهُ: ﴿فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ﴾ قالُوا: ﴿رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا﴾ بِاتِّباعِ المُتَشابِهِ بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا إلى الحَقِّ بِما أذِنْتَ لَنا مِنَ العَمَلِ بِالآياتِ المُحْكَماتِ، والظَّرْفُ وهو قَوْلُهُ: بَعْدَ مُنْتَصِبٌ بِقَوْلِهِ: لا تُزِغْ.
قَوْلُهُ: ﴿وهَبْ لَنا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً﴾ أيْ كائِنَةً مِن عِنْدِكَ، ومِن لِابْتِداءِ الغايَةِ ولَدُنْ بِفَتْحِ اللّامِ وضَمِّ الدّالِ وسُكُونِ النُّونِ، وفِيهِ لُغاتٌ أُخَرُ هَذِهِ أفْصَحُها، وهو ظَرْفُ مَكانٍ وقَدْ يُضافُ إلى الزَّمانِ، وتَنْكِيرُ " رَحْمَةً " لِلتَّعْظِيمِ أيْ رَحْمَةً عَظِيمَةً واسِعَةً، وقَوْلُهُ: " ﴿إنَّكَ أنْتَ الوَهّابُ﴾ " تَعْلِيلٌ لِلسُّؤالِ أوْ لِإعْطاءِ المَسْئُولِ.
وقَوْلُهُ: ﴿رَبَّنا إنَّكَ جامِعُ النّاسِ﴾ أيْ باعِثُهم ومُحْيِيهِمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ ( لِيَوْمٍ ) هو يَوْمُ القِيامَةِ أيْ لِحِسابِ يَوْمٍ أوْ لِجَزاءِ يَوْمٍ عَلى تَقْدِيرِ حَذْفِ المُضافِ وإقامَةِ المُضافِ إلَيْهِ مَقامَهُ.
قَوْلُهُ: ﴿لا رَيْبَ فِيهِ﴾ أيْ: في وُقُوعِهِ ووُقُوعِ ما فِيهِ مِنَ الحِسابِ والجَزاءِ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الرَّيْبِ، وجُمْلَةُ قَوْلِهِ: إنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ لِلتَّعْلِيلِ لِمَضْمُونِ ما قَبْلَها؛ أيْ: أنَّ الوَفاءَ بِالوَعْدِ شَأْنُ الإلَهِ سُبْحانَهُ وخُلْفُهُ يُخالِفُ الأُلُوهِيَّةَ كَما أنَّها تُنافِيهِ وتُبايِنُهُ.
وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: المُحْكَماتُ ناسِخُهُ وحَلالُهُ وحَرامُهُ وحُدُودُهُ وفَرائِضُهُ وما نُؤْمِنُ بِهِ ونَعْمَلُ بِهِ، والمُتَشابِهاتُ مَنسُوخُهُ ومُقَدِّمُهُ ومُؤَخِّرُهُ، وأمْثالُهُ وأقْسامُهُ وما نُؤْمِنُ بِهِ ولا نَعْمَلُ بِهِ.
وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ في قَوْلِهِ: ﴿مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ﴾ قالَ: الثَّلاثُ آياتٍ مِن آخِرِ سُورَةِ الأنْعامِ مُحْكَماتٌ ﴿قُلْ تَعالَوْا﴾ [الأنعام: ١٥١] والآيَتانِ بَعْدَها.
وفِي رِوايَةٍ عَنْهُ أخْرَجَها عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ في قَوْلِهِ: " ﴿آياتٌ مُحْكَماتٌ﴾ " قالَ: مِن هُنا قُلْ تَعالَوْا إلى ثَلاثِ آياتٍ، ومِن هُنا ﴿وقَضى رَبُّكَ أنْ لا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣] إلى ثَلاثِ آياتٍ بَعْدَها.
وأقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ ابْنَ عَبّاسٍ ما أقَلَّ جَدْوى هَذا الكَلامِ المَنقُولِ عَنْهُ.
فَإنَّ تَعْيِينَ ثَلاثِ آياتٍ أوْ عَشْرٍ أوْ مِائَةٍ مِن جَمِيعِ آياتِ القُرْآنِ ووَصْفِها بِأنَّها مُحْكَمَةٌ لَيْسَ تَحْتَهُ مِنَ الفائِدَةِ شَيْءٌ، فالمُحْكَماتُ هي أكْثَرُ القُرْآنِ عَلى جَمِيعِ الأقْوالِ حَتّى عَلى قَوْلِهِ المَنقُولِ عَنْهُ قَرِيبًا مِن أنَّ المُحْكَماتِ ناسِخُهُ وحَلالُهُ إلَخْ، فَما مَعْنى تَعْيِينِ تِلْكَ الآياتِ مِن آخِرِ سُورَةِ الأنْعامِ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ قالَ: المُحْكَماتُ: الحَلالُ والحَرامُ، ولِلسَّلَفِ أقْوالٌ كَثِيرَةٌ هي راجِعَةٌ إلى ما قَدَّمْنا في أوَّلِ هَذا البَحْثِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: " ﴿فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ " يَعْنِي أهْلَ الشَّكِّ، فَيَحْمِلُونَ المُحْكَمَ عَلى المُتَشابِهِ والمُتَشابِهَ عَلى المُحْكَمِ، ويَلْبِسُونَ فَلَبَسَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ قالَ: تَأْوِيلُهُ يَوْمَ القِيامَةِ لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ( زَيْغٌ ) قالَ: شَكٌّ. وفي الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: «تَلا رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ﴿هُوَ الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿أُولُو الألْبابِ﴾ قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: إذا رَأيْتُمُ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِيهِ فَهُمُ الَّذِينَ عَنى فاحْذَرُوهم» .
وفِي لَفْظٍ «فَإذا رَأيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمّاهُمُ اللَّهُ فاحْذَرُوهم» هَذا لَفْظُ البُخارِيِّ ولَفْظُ ابْنِ جَرِيرٍ وغَيْرِهِ «فَإذا رَأيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ والَّذِينَ يُجادِلُونَ فِيهِ فَهُمُ الَّذِينَ عَنى اللَّهُ فَلا تُجالِسُوهم» .
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وعَبْدُ الرَّزّاقِ وأحْمَدُ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والطَّبَرانِيُّ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنْ أبِي أُمامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ في قَوْلِهِ: «﴿فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ﴾ (p-٢٠٥)قالَ: هُمُ الخَوارِجُ» .
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: «كانَ الكِتابُ الأوَّلُ يَنْزِلُ مِن بابٍ واحِدٍ عَلى حَرْفٍ واحِدٍ ونَزَلَ القُرْآنُ عَلى سَبْعَةِ أحْرُفٍ: زاجِرٍ، وآمِرٍ، وحَلالٍ، وحَرامٍ، ومُحْكَمٍ، ومُتَشابِهٍ، وأمْثالٍ، فَأحِلُّوا حَلالَهُ وحَرِّمُوا حَرامَهُ، وافْعَلُوا ما أُمِرْتُمْ بِهِ، وانْتَهُوا عَمّا نُهِيتُمْ عَنْهُ، واعْتَبِرُوا بِأمْثالِهِ، واعْمَلُوا بِمُحْكَمِهِ، وآمِنُوا بِمُتَشابِهِهِ، وقُولُوا: آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا» . وأخْرَجَهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا.
وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ أبِي سَلَمَةَ أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ البُخارِيُّ في التّارِيخِ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا بِإسْنادٍ ضَعِيفٍ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي داوُدَ في المَصاحِفِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وأبُو يَعْلى عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: «نَزَلَ القُرْآنُ عَلى سَبْعَةِ أحْرُفٍ والمِراءُ في القُرْآنِ كُفْرٌ، ما عَرَفْتُمْ فاعْمَلُوا بِهِ، وما جَهِلْتُمْ مِنهُ فَرُدُّوهُ إلى عالِمِهِ» وإسْنادُهُ صَحِيحٌ.
وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، وفِيهِ «واتَّبِعُوا المُحْكَمَ وآمِنُوا بِالمُتَشابِهِ» .
وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْ طاوُسٍ قالَ: كانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَقْرَؤُها ( وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ ويَقُولُ الرّاسِخُونَ في العِلْمِ آمَنّا بِهِ ) .
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي داوُدَ في المَصاحِفِ عَنِ الأعْمَشِ قالَ في قِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: وإنْ حَقِيقَةُ تَأْوِيلِهِ إلّا عِنْدَ اللَّهِ والرّاسِخُونَ في العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي الشَّعْثاءِ وأبِي نَهِيكٍ قالَ: إنَّكم تَصِلُونَ هَذِهِ الآيَةَ وهي مَقْطُوعَةٌ وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ والرّاسِخُونَ في العِلْمِ يَقُولُونَ: آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا فانْتَهى عِلْمُهم إلى قَوْلِهِمُ الَّذِي قالُوا.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُرْوَةَ قالَ: الرّاسِخُونَ في العِلْمِ لا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، ولَكِنَّهم يَقُولُونَ: آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِن عِنْدِ رَبِّنا.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبَدِ العَزِيزِ نَحْوَهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ في المُصَنَّفِ عَنْ أُبَيٍّ قالَ: كِتابُ اللَّهِ ما اسْتَبانَ فاعْمَلْ بِهِ، وما اشْتَبَهَ عَلَيْكَ فَآمِن بِهِ وكِلْهُ إلى عالِمِهِ.
وأخْرَجَ أيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: إنَّ لِلْقُرْآنِ مَنارًا كَمَنارِ الطَّرِيقِ، فَما عَرَفْتُمْ فَتَمَسَّكُوا بِهِ وما اشْتَبَهَ عَلَيْكم فَذَرُوهُ.
وأخْرَجَ أيْضًا عَنْ مُعاذٍ نَحْوَهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: تَفْسِيرُ القُرْآنِ عَلى أرْبَعَةِ وُجُوهٍ: تَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ العُلَماءُ، وتَفْسِيرٌ يُعْذَرُ النّاسُ بِجَهالَتِهِ مِن حَلالٍ أوْ حَرامٍ، وتَفْسِيرٌ تَعْرِفُهُ العَرَبُ بَلُغَتِها، وتَفْسِيرٌ لا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلّا اللَّهُ، مَنِ ادَّعى عِلْمَهُ فَهو كَذّابٌ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قالَ: أُنْزِلَ القُرْآنُ عَلى سَبْعَةِ أحْرُفٍ حَلالٍ وحَرامٍ لا يُعْذَرُ أحَدٌ بِالجَهالَةِ بِهِ، وتَفْسِيرٍ تُفَسِّرُهُ العَرَبُ، وتَفْسِيرٍ تُفَسِّرُهُ العُلَماءُ، ومُتَشابِهٍ لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ، ومَنِ ادَّعى عِلْمَهُ سِوى اللَّهِ فَهو كاذِبٌ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ قالَ: أنا مِمَّنْ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن طَرِيقِ عَطِيَّةَ العَوْفِيِّ عَنْهُ في قَوْلِهِ: يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ نُؤْمِنُ بِالمُحْكَمِ ونَدِينُ بِهِ، ونُؤْمِنُ بِالمُتَشابِهِ ولا نَدِينُ بِهِ، وهو مِن عِنْدِ اللَّهِ كُلِّهِ.
وأخْرَجَ الدّارِمِيُّ في مُسْنَدِهِ ونَصْرٌ المَقْدِسِيُّ في الحُجَّةِ عَنْ سُلَيْمانَ بْنِ يَسارٍ: أنَّ رَجُلًا يُقالُ لَهُ ضُبَيْعٌ قَدِمَ المَدِينَةَ فَجَعَلَ يَسْألُ عَنْ مُتَشابِهِ القُرْآنِ. فَأرْسَلَ إلَيْهِ عُمَرَ وقَدْ أعَدَّ لَهُ عَراجِينَ النَّخْلِ، فَقالَ: مَن أنْتَ ؟ فَقالَ: أنا عَبْدُ اللَّهِ ضُبَيْعٌ. فَقالَ: وأنا عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ. فَأخَذَ عُمَرُ عُرْجُونًا مِن تِلْكَ العَراجِينِ فَضَرَبَهُ حَتّى دَمِيَ رَأْسُهُ، فَقالَ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ حَسْبُكَ قَدْ ذَهَبَ الَّذِي كُنْتُ أجِدُ في رَأْسِي.
وأخْرَجَهُ الدّارِمِيُّ أيْضًا مِن وجْهٍ آخَرَ، وفِيهِ: أنَّهُ ضَرَبَهُ ثَلاثَ مَرّاتٍ يَتْرُكُهُ في كُلِّ مَرَّةٍ حَتّى يَبْرَأ، ثُمَّ يَضْرِبُهُ. وأخْرَجَ أصْلَ القِصَّةِ ابْنُ عَساكِرَ في تارِيخِهِ عَنْ أنَسٍ.
وأخْرَجَ الدّارِمِيُّ وابْنُ عَساكِرَ: أنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلى أهْلِ البَصْرَةِ أنْ لا يُجالِسُوا ضُبَيْعًا، وقَدْ أخْرَجَ هَذِهِ القِصَّةَ جَماعَةٌ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والطَّبَرانِيُّ عَنْ أنَسٍ وأبِي أُمامَةَ وواثِلَةَ بْنِ الأسْقَعِ وأبِي الدَّرْداءِ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الرّاسِخِينَ في العِلْمِ ؟ فَقالَ: مَن بَرَّتْ يَمِينُهُ، وصَدَقَ لِسانُهُ، واسْتَقامَ قَلْبُهُ، ومَن عَفَّ بَطْنُهُ وفَرْجُهُ، فَذَلِكَ مِنَ الرّاسِخِينَ في العِلْمِ» .
وأخْرَجَ ابْنُ عَساكِرَ مِن طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الأزْدِيِّ عَنْ أنَسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ.
وأخْرَجَ أبُو داوُدَ والحاكِمُ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «الجِدالُ في القُرْآنِ كُفْرٌ» .
وأخْرَجَ نَصْرٌ المَقْدِسِيُّ في الحُجَّةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ومِن وراءِ حُجْرَتِهِ قَوْمٌ يَتَجادَلُونَ بِالقُرْآنِ، فَخَرَجَ مُحْمَرَّةً وجْنَتاهُ كَأنَّما يَقْطُرانِ دَمًا فَقالَ: يا قَوْمِ لا تُجادِلُوا في القُرْآنِ فَإنَّما ضَلَّ مَن كانَ قَبْلَكم بِجِدالِهِمْ، إنَّ القُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ لِيُكَذِّبَ بَعْضُهُ بَعْضًا، ولَكِنْ نَزَلَ لِيُصَدِّقَ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَما كانَ مِن مُحْكَمِهِ فاعْمَلُوا بِهِ وما كانَ مِن مُتَشابِهِهِ فَآمِنُوا بِهِ» .
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ كانَ يَقُولُ: يا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلى دِينِكَ، ثُمَّ قَرَأ» ﴿رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا﴾ الآيَةَ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وأحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وابْنُ جَرِيرٍ والطَّبَرانِيُّ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْها مَرْفُوعًا نَحْوَهُ بِأطْوَلَ مِنهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وأحْمَدُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عائِشَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وقَدْ ورَدَ نَحْوُهُ مِن طُرُقٍ أُخَرَ. وأخْرَجَ ابْنُ النَّجّارِ في تارِيخِهِ في قَوْلِهِ: " ﴿رَبَّنا إنَّكَ جامِعُ النّاسِ لِيَوْمٍ﴾ " الآيَةَ. عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الخَلَدِيِّ قالَ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «أنَّ مَن قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ عَلى شَيْءٍ ضاعَ مِنهُ رَدَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، ويَقُولُ بَعْدَ قِراءَتِها: يا جامِعَ النّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ اجْمَعْ بَيْنِي وبَيْنَ مالِي إنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» .
{"ayahs_start":7,"ayahs":["هُوَ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ مِنۡهُ ءَایَـٰتࣱ مُّحۡكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتࣱۖ فَأَمَّا ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمۡ زَیۡغࣱ فَیَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَاۤءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَاۤءَ تَأۡوِیلِهِۦۖ وَمَا یَعۡلَمُ تَأۡوِیلَهُۥۤ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّ ٰسِخُونَ فِی ٱلۡعِلۡمِ یَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلࣱّ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا یَذَّكَّرُ إِلَّاۤ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ","رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَیۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ","رَبَّنَاۤ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِیَوۡمࣲ لَّا رَیۡبَ فِیهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُخۡلِفُ ٱلۡمِیعَادَ"],"ayah":"رَبَّنَاۤ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِیَوۡمࣲ لَّا رَیۡبَ فِیهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُخۡلِفُ ٱلۡمِیعَادَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق