الباحث القرآني

أيْ ما كانَ يَنْبَغِي ولا يَسْتَقِيمُ لِبَشَرٍ أنْ يَقُولَ هَذِهِ المَقالَةَ وهو مُتَّصِفٌ بِتِلْكَ الصِّفَةِ. وفِيهِ بَيانٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ لِعِبادِهِ أنَّ النَّصارى افْتَرَوْا عَلى عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ ما لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ، ولا يَنْبَغِي أنْ يَقُولَهُ. والحُكْمُ: الفَهْمُ والعِلْمُ. قَوْلُهُ: ﴿ولَكِنْ كُونُوا﴾ أيْ: ولَكِنْ يَقُولُ النَّبِيُّ: كُونُوا رَبّانِيِّينَ، والرَّبّانِيُّ مَنسُوبٌ إلى الرَّبِّ بِزِيادَةِ الألِفِ والنُّونِ لِلْمُبالَغَةِ كَما يُقالُ لِعَظِيمِ اللِّحْيَةِ لِحْيانِيٌّ، ولِعَظِيمِ الجَمَّةِ جَمّانِيٌّ، ولِغَلِيظِ الرَّقَبَةِ رَقَبانِيٌّ - قِيلَ: الرَّبّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النّاسَ بِصِغارِ العِلْمِ قَبْلَ كِبارِهِ، فَكَأنَّهُ يَقْتَدِي بِالرَّبِّ سُبْحانَهُ في تَيْسِيرِ الأُمُورِ. وقالَ المُبَرِّدُ: الرَّبّانِيُّونَ أرْبابُ العِلْمِ، واحِدُهم رَبّانِيٌّ، مِن قَوْلِهِ رَبَّهُ يُرَبِّهُ فَهو رَبّانٍ: إذا دَبَّرَهُ وأصْلَحَهُ، والياءُ لِلنَّسَبِ، فَمَعْنى الرَّبّانِيِّ: العالِمُ بِدِينِ الرَّبِّ القَوِيُّ المُتَمَسِّكُ بِطاعَةِ اللَّهِ، وقِيلَ: العالِمُ الحَكِيمُ. قَوْلُهُ: ﴿بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ﴾ أيْ: بِسَبَبِ كَوْنِكم عالِمِينَ؛ أيْ: كُونُوا رَبّانِيِّينَ بِهَذا السَّبَبِ، فَإنَّ حُصُولَ العِلْمِ لِلْإنْسانِ والدِّراسَةِ لَهُ يَتَسَبَّبُ عَنْهُما الرَّبّانِيَّةُ الَّتِي هي التَّعْلِيمُ لِلْعِلْمِ، وقُوَّةُ التَّمَسُّكِ بِطاعَةِ اللَّهِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وأهْلُ الكُوفَةِ ( بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ ) بِالتَّشْدِيدِ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو وأهْلُ المَدِينَةِ بِالتَّخْفِيفِ، واخْتارَ القِراءَةَ الأُولى أبُو عُبَيْدٍ. قالَ: لِأنَّها لِجَمْعِ المَعْنَيَيْنِ. قالَ مَكِّيٌّ: التَّشْدِيدُ أبْلَغُ لِأنَّ العالِمَ قَدْ يَكُونُ عالِمًا غَيْرَ مُعَلِّمٍ، فالتَّشْدِيدُ يَدُلُّ عَلى العِلْمِ والتَّعْلِيمِ، والتَّخْفِيفُ إنَّما يَدُلُّ عَلى العِلْمِ فَقَطْ. واخْتارَ القِراءَةَ الثّانِيَةَ أبُو حاتِمٍ. قالَ أبُو عَمْرٍو: وتَصْدِيقُها تَدْرُسُونَ بِالتَّخْفِيفِ دُونَ التَّشْدِيدِ انْتَهى. والحاصِلُ أنَّ مَن قَرَأ بِالتَّشْدِيدِ لَزِمَهُ أنْ يَحْمِلَ الرَّبّانِيَّ عَلى أمْرٍ زائِدٍ عَلى العِلْمِ والتَّعْلِيمِ، وهو أنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ مُخْلِصًا أوْ حَكِيمًا أوْ حَلِيمًا حَتّى تَظْهَرَ السَّبَبِيَّةُ، ومَن قَرَأ بِالتَّخْفِيفِ جازَ لَهُ أنْ يَحْمِلَ الرَّبّانِيَّ عَلى العالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ النّاسَ، فَيَكُونُ المَعْنى: كُونُوا مُعَلِّمِينَ بِسَبَبِ كَوْنِكم عُلَماءَ وبِسَبَبِ كَوْنِكم تَدْرُسُونَ العِلْمَ. وفِي هَذِهِ الآيَةِ أعْظَمُ باعِثٍ لِمَن عَلَّمَ عَلى أنْ يَعْمَلَ، وإنَّ مَن أعْظَمِ العَمَلِ بِالعِلْمِ تَعْلِيمَهُ والإخْلاصَ لِلَّهِ سُبْحانَهُ. قَوْلُهُ: ﴿ولا يَأْمُرَكم أنْ تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ والنَّبِيِّينَ أرْبابًا﴾ (p-٢٢٨)بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلى " ثُمَّ يَقُولَ " ولا مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ؛ أيْ: لَيْسَ لَهُ أنْ يَأْمُرَ بِعِبادَةِ نَفْسِهِ، ولا يَأْمُرَ بِاتِّخاذِ المَلائِكَةِ والنَّبِيِّينَ أرْبابًا بَلْ يَنْتَهِي عَنْهُ، ويَجُوزُ عَطْفُهُ عَلى أنْ يُؤْتِيَهُ، أيْ: ما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يَأْمُرَكم بِأنْ تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ والنَّبِيِّينَ أرْبابًا، وبِالنَّصْبِ قَرَأ ابْنُ عامِرٍ وعاصِمٌ وحَمْزَةُ، وقَرَأ الباقُونَ بِالرَّفْعِ عَلى الِاسْتِئْنافِ والقَطْعِ مِنَ الكَلامِ الأوَّلِ؛ أيْ: ولا يَأْمُرُكُمُ اللَّهُ أنْ تَتَّخِذُوا المَلائِكَةَ والنَّبِيِّينَ أرْبابًا، ويُؤَيِّدُهُ أنَّ في مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ ولَنْ يَأْمُرَكم. والهَمْزُ في قَوْلِهِ: أيَأْمُرُكم لِإنْكارِ ما نُفِيَ عَنِ البَشَرِ. وقَوْلُهُ: ﴿بَعْدَ إذْ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ اسْتَدَلَّ بِهِ مَن قالَ: إنَّ سَبَبَ نُزُولِ الآيَةِ اسْتِئْذانُ مَنِ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ مِنَ المُسْلِمِينَ في أنْ يَسْجُدُوا لَهُ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «قالَ أبُو رافِعٍ القُرَظِيُّ حِينَ اجْتَمَعَتِ الأحْبارُ مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى مِن أهْلِ نَجْرانَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ودَعاهم إلى الإسْلامِ: أتُرِيدُ يا مُحَمَّدُ أنْ نَعْبُدَكَ كَما تَعْبُدُ النَّصارى عِيسى ؟ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: مَعاذَ اللَّهِ أنْ نَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ أوْ نَأْمُرَ بِعِبادَةِ غَيْرِهِ ما بِذَلِكَ بَعَثَنِي ولا بِذَلِكَ أمَرَنِي، فَأنْزَلَ اللَّهُ في ذَلِكَ ﴿ما كانَ لِبَشَرٍ﴾ الآيَةَ» . وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الحَسَنِ قالَ: «بَلَغَنِي أنَّ رَجُلًا قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ كَما يُسَلِّمُ بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ أفَلا نَسْجُدُ لَكَ ؟ قالَ: لا ولَكِنْ أكْرِمُوا نَبِيَّكم واعْرِفُوا الحَقَّ لِأهْلِهِ، فَإنَّهُ لا يَنْبَغِي أنْ يُسْجَدَ لِأحَدٍ مِن دُونِ اللَّهِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿ما كانَ لِبَشَرٍ﴾ الآيَةَ» . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿رَبّانِيِّينَ﴾ قالَ: فُقَهاءُ عُلَماءُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ قالَ: حُكَماءُ عُلَماءُ حُلَماءُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ قالَ: عُلَماءُ فُقَهاءُ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: حُكَماءُ عُلَماءُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي رَزِينٍ في قَوْلِهِ: ﴿وبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ قالَ: مُذاكَرَةُ الفِقْهِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ في قَوْلِهِ: ﴿ولا يَأْمُرَكم أنْ تَتَّخِذُوا﴾ قالَ: ولا يَأْمُرُهُمُ النَّبِيُّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب