الباحث القرآني

(p-٢٢٤)لَمّا ادَّعَتْ كُلُّ واحِدَةٍ مِن طائِفَتَيِ اليَهُودِ والنَّصارى أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ عَلى دِينِهِمْ رَدَّ اللَّهُ سُبْحانَهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وأبانَ بِأنَّ المِلَّةَ اليَهُودِيَّةَ والمِلَّةَ النَّصْرانِيَّةَ إنَّما كانَتا مِن بَعْدِهِ. قالَ الزَّجّاجُ: هَذِهِ الآيَةُ أبْيَنُ حُجَّةٍ عَلى اليَهُودِ والنَّصارى أنَّ التَّوْراةَ والإنْجِيلَ نَزَلا مِن بَعْدِهِ، ولَيْسَ فِيهِما اسْمٌ لِواحِدٍ مِنَ الأدْيانِ واسْمُ الإسْلامِ في كُلِّ كِتابٍ. انْتَهى. وفِيهِ نَظَرٌ. فَإنَّ الإنْجِيلَ مَشْحُونٌ بِالآياتِ مِنَ التَّوْراةِ وذِكْرِ شَرِيعَةِ مُوسى والِاحْتِجاجِ بِها عَلى اليَهُودِ، وكَذَلِكَ الزَّبُورُ فِيهِ في مَواضِعِ ذِكْرِ شَرِيعَةِ مُوسى، وفي أوائِلِهِ التَّبْشِيرُ بِعِيسى، ثُمَّ في التَّوْراةِ ذِكْرُ كَثِيرٍ مِنَ الشَّرائِعِ المُتَقَدِّمَةِ، يَعْرِفُ هَذا كُلُّ مَن عَرَفَ هَذِهِ الكُتُبَ المُنَزَّلَةَ. وقَدِ اخْتُلِفَ في قَدْرِ المُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ إبْراهِيمَ ومُوسى والمُدَّةِ الَّتِي بَيْنَ مُوسى وعِيسى. قالَ القُرْطُبِيُّ: يُقالُ: كانَ بَيْنَ إبْراهِيمَ ومُوسى ألْفُ سَنَةٍ، وبَيْنَ مُوسى وعِيسى ألْفا سَنَةٍ. وكَذا في الكَشّافِ. قَوْلُهُ: ﴿أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ أيْ: تَتَفَكَّرُونَ في دُحُوضِ حُجَّتِكم وبُطْلانِ قَوْلِكم. قَوْلُهُ: ﴿ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكم بِهِ عِلْمٌ﴾ الأصْلُ في هاأنْتُمْ أأنْتُمْ أُبْدِلَتِ الهَمْزَةُ الأُولى هاءً، لِأنَّها أُخْتُها. كَذا قالَ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ والأخْفَشُ. قالَ النَّحّاسُ: وهَذا قَوْلٌ حَسَنٌ. وقَرَأ قُنْبُلٌ ( هانْتُمْ ) وقِيلَ: الهاءُ لِلتَّنْبِيهِ دَخَلَتْ عَلى الجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَها؛ أيْ: ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ الرِّجالُ الحَمْقى حاجَجْتُمْ وفي هَؤُلاءِ لُغَتانِ المَدُّ والقَصْرُ. والمُرادُ بِما لَهم بِهِ عِلْمٌ هو ما كانَ في التَّوْراةِ وإنْ خالَفُوا مُقْتَضاهُ وجادَلُوا فِيهِ بِالباطِلِ، والَّذِي لا عِلْمَ لَهم بِهِ هو زَعْمُهم أنَّ إبْراهِيمَ كانَ عَلى دِينِهِمْ لِجَهْلِهِمْ بِالزَّمَنِ الَّذِي كانَ فِيهِ. وفي الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى مَنعِ الجِدالِ بِالباطِلِ، بَلْ ورَدَ التَّرْغِيبُ في تَرْكِ الجِدالِ مِنَ المُحِقِّ كَما في حَدِيثِ «مَن تَرَكَ المِراءَ ولَوْ مُحِقًّا فَأنا ضَمِينُهُ عَلى اللَّهِ بِبَيْتٍ في رَبَضِ الجَنَّةِ» . وقَدْ ورَدَ تَسْوِيغُ الجِدالِ بِالَّتِي هي أحْسَنُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وجادِلْهم بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾، [النحل: ١٢٥] ﴿ولا تُجادِلُوا أهْلَ الكِتابِ إلّا بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾ [العنكبوت: ٤٦] ونَحْوُ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أنْ يَقْصُرَ جَوازُهُ عَلى المَواطِنِ الَّتِي تَكُونُ المَصْلَحَةُ في فِعْلِهِ أكْثَرَ مِنَ المَفْسَدَةِ أوْ عَلى المَواطِنِ الَّتِي المُجادَلَةُ فِيها بِالمُحاسَنَةِ لا بِالمُخاشَنَةِ. قَوْلُهُ: ﴿واللَّهُ يَعْلَمُ﴾ أيْ كُلَّ شَيْءٍ فَيَدْخُلُ في ذَلِكَ ما حاجَجُوا بِهِ. وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الحَنِيفِ. قَوْلُهُ: ﴿إنَّ أوْلى النّاسِ﴾ أيْ أحَقَّهم بِهِ وأخَصَّهم لَلَّذِينَ اتَّبَعُوا مِلَّتَهُ واقْتَدَوْا بِدِينِهِ ﴿وهَذا النَّبِيُّ﴾ يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، أفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ تَعْظِيمًا لَهُ وتَشْرِيفًا، وأوْلَوِيَّتُهُ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ بِإبْراهِيمَ مِن جِهَةِ كَوْنِهِ مِن ذُرِّيَّتِهِ، ومِن جِهَةِ مُوافَقَتِهِ لِدِينِهِ في كَثِيرٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ المُحَمَّدِيَّةِ والَّذِينَ آمَنُوا مِن أُمَّةِمُحَمَّدٍ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ وابْنُ جَرِيرٍ والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: اجْتَمَعَتْ نَصارى نَجْرانَ وأحْبارُ يَهُودَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَتَنازَعُوا عِنْدَهُ، فَقالَتِ الأحْبارُ: ما كانَ إبْراهِيمُ إلّا يَهُودِيًّا، وقالَتِ النَّصارى: ما كانَ إبْراهِيمُ إلّا نَصْرانِيًّا، فَنَزَلَ فِيهِمْ ( ﴿ياأهْلَ الكِتابِ لِمَ تُحاجُّونَ﴾ ) الآيَةَ. وقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذا عَنْ جَماعَةٍ مِنَ السَّلَفِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي العالِيَةِ ﴿ها أنْتُمْ هَؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكم بِهِ عِلْمٌ﴾ يَقُولُ: فِيما شَهِدْتُمْ ورَأيْتُمْ وعايَنْتُمْ ﴿فَلِمَ تُحاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكم بِهِ عِلْمٌ﴾ يَقُولُ: فِيما لَمْ تَشْهَدُوا ولَمْ تَرَوْا ولَمْ تُعايِنُوا. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ قَتادَةَ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ في الآيَةِ قالَ: أمّا الَّذِي لَهم بِهِ عِلْمٌ فَما حَرَّمَ عَلَيْهِمْ وما أُمِرُوا بِهِ، وأمّا الَّذِي لَيْسَ لَهم بِهِ عِلْمٌ فَشَأْنُ إبْراهِيمَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الحَسَنِ قالَ: يُعْذَرُ مَن حاجَّ بِعِلْمٍ ولا يُعْذَرُ مَن حاجَّ بِالجَهْلِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ عَنِ الشَّعْبِيِّ في قَوْلِهِ: ﴿ما كانَ إبْراهِيمُ﴾ قالَ: أكْذَبَهُمُ اللَّهُ وأدْحَضَ حُجَّتَهم. وأخْرَجَ أيْضًا عَنِ الرَّبِيعِ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُقاتِلِ بْنِ حِبّانَ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِن طَرِيقِ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ حَدَّثَنِي ابْنُ غَنْمٍ أنَّهُ لَمّا خَرَجَ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ إلى النَّجاشِيِّ، فَذَكَرَ قِصَّتَهم مَعَهُ وما قالُوهُ لَهُ لَمّا قالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ العاصِ: إنَّهم يَشْتُمُونَ عِيسى، وهي قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ، ثُمَّ قالَ: فَأُنْزِلَتْ ذَلِكَ اليَوْمَ خُصُومَتُهم عَلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ وهو بِالمَدِينَةِ ﴿إنَّ أوْلى النّاسِ بِإبْراهِيمَ﴾ الآيَةَ. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ والتِّرْمِذِيُّ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: «إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلاةً مِنَ النَّبِيِّينَ، وإنَّ ولِيِّي مِنهم أبِي خَلِيلُ رَبِّي، ثُمَّ قَرَأ ﴿إنَّ أوْلى النّاسِ﴾ الآيَةَ» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الحَكَمِ بْنِ مِيناءٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: «يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنَّ أوْلى النّاسِ بِالنَّبِيِّ المُتَّقُونَ، فَكُونُوا أنْتُمْ سَبِيلَ ذَلِكَ، فانْظُرُوا أنْ لا يَلْقانِي النّاسُ يَحْمِلُونَ الأعْمالَ وتَلْقَوْنِي بِالدُّنْيا تَحْمِلُونَها فَأصُدُّ عَنْكم بِوَجْهِي ثُمَّ قَرَأ عَلَيْهِمْ: ﴿إنَّ أوْلى النّاسِ بِإبْراهِيمَ﴾ الآيَةَ» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الحَسَنِ في الآيَةِ قالَ: كُلُّ مُؤْمِنٍ ولِيُّ إبْراهِيمَ مِمَّنْ مَضى ومِمَّنْ بَقِيَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب