الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ولا يَحْزُنْكَ قَرَأ نافِعٌ بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ الزّايِ، وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِضَمِّ الياءِ والزّايِ، وقَرَأ الباقُونَ بِفَتْحِ الياءِ وضَمِّ الزّايِ، وهُما لُغَتانِ، يُقالُ: حَزَنَنِي الأمْرُ وأحْزَنَنِي، والأُولى أفْصَحُ. وقَرَأ طَلْحَةُ ( يُسْرِعُونَ ) قِيلَ: هم قَوْمٌ ارْتَدُّوا، فاغْتَمَّ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ لِذَلِكَ، فَسَلّاهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ ونَهاهُ عَنِ الحُزْنِ، وعَلَّلَ ذَلِكَ بِأنَّهم لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا، وإنَّما ضَرُّوا أنْفُسَهم بِأنْ لا حَظَّ لَهم في الآخِرَةِ ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ، وقِيلَ: هم كُفّارُ قُرَيْشٍ وقِيلَ: هُمُ المُنافِقُونَ، وقِيلَ: هو عامٌّ في جَمِيعِ الكُفّارِ. قالَ القُشَيْرِيُّ: والحُزْنُ عَلى كُفْرِ الكافِرِ طاعَةٌ، ولَكِنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ كانَ يُفْرِطُ في الحُزْنِ، فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ كَما قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ﴾ [فاطر: ٨] ﴿فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذا الحَدِيثِ أسَفًا﴾ [الكهف: ٦] وعُدِّيَ السّارِعُونَ بِفي دُونَ إلى لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّهم مُسْتَقِرُّونَ فِيهِ مُدِيمُونَ لِمُلابَسَتِهِ، ومِثْلُهُ يُسارِعُونَ في الخَيْراتِ. وقَوْلُهُ: ﴿إنَّهم لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ، والمَعْنى: أنَّ كُفْرَهم لا يُنْقِصُ مِن مُلْكِ اللَّهِ سُبْحانَهُ شَيْئًا، وقِيلَ: المُرادُ لَنْ يَضُرُّوا أوْلِياءَهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ لَنْ يَضُرُّوا دِينَهُ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبادِهِ، وشَيْئًا مَنصُوبٌ عَلى المَصْدَرِيَّةِ؛ أيْ: شَيْئًا مِنَ الضَّرَرِ، وقِيلَ: مَنصُوبٌ بِنَزْعِ الخافِضِ؛ أيْ: بِشَيْءٍ: والحَظُّ: النَّصِيبُ. قالَ أبُو زَيْدٍ: يُقالُ رَجُلٌ حَظِيظٌ إذا كانَ ذا حَظٍّ مِنَ الرِّزْقِ، والمَعْنى: أنَّ اللَّهَ يُرِيدُ أنْ لا يَجْعَلَ لَهم نَصِيبًا في الجَنَّةِ أوْ نَصِيبًا مِنَ الثَّوابِ، وصِيغَةُ الِاسْتِقْبالِ لِلدَّلالَةِ عَلى دَوامِ الإرادَةِ واسْتِمْرارِها ﴿ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ بِسَبَبِ مُسارَعَتِهِمْ في الكُفْرِ فَكانَ ضَرَرُ كُفْرِهِمْ عائِدًا عَلَيْهِمْ جالِبًا لَهم عَدَمَ الحَظِّ في الآخِرَةِ ومَصِيرَهم في العَذابِ العَظِيمِ. قَوْلُهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الكُفْرَ بِالإيمانِ﴾ أيِ: اسْتَبْدَلُوا الكُفْرَ بِالإيمانِ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذِهِ الِاسْتِعارَةِ ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾ مَعْناهُ كالأوَّلِ وهو لِلتَّأْكِيدِ لِما تَقَدَّمَهُ، وقِيلَ: إنَّ الأوَّلَ خاصٌّ بِالمُنافِقِينَ، والثّانِي يَعُمُّ جَمِيعَ الكُفّارِ، والأوَّلُ أوْلى. قَوْلُهُ: (p-٢٥٨)﴿ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّما نُمْلِي لَهم خَيْرٌ لِأنْفُسِهِمْ﴾ قَرَأ ابْنُ عامِرٍ وعاصِمٌ وغَيْرُهُما ( يَحْسَبَنَّ ) بِالياءِ التَّحْتِيَّةِ، وقَرَأ حَمْزَةُ بِالفَوْقِيَّةِ، والمَعْنى عَلى الأُولى: لا يَحْسَبَنَّ الكافِرُونَ أنَّما نُمْلِي لَهم بِطُولِ العُمْرِ ورَغَدِ العَيْشِ أوْ بِما أصابُوا مِنَ الظَّفَرِ يَوْمَ أُحُدٍ ﴿خَيْرٌ لِأنْفُسِهِمْ﴾ فَلَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ بَلْ ﴿إنَّما نُمْلِي لَهم لِيَزْدادُوا إثْمًا ولَهم عَذابٌ مُهِينٌ﴾ . وعَلى القِراءَةِ الثّانِيَةِ: لا تَحْسَبَنَّ يا مُحَمَّدُ أنَّ الإمْلاءَ لِلَّذِينِ كَفَرُوا بِما ذُكِرَ خَيْرٌ لِأنْفُسِهِمْ، بَلْ هو شَرٌّ واقِعٌ عَلَيْهِمْ ونازِلٌ بِهِمْ، وهو أنَّ الإمْلاءَ الَّذِي نُمْلِيهِ لَهم لِيَزْدادُوا إثْمًا. فالمَوْصُولُ عَلى القِراءَةِ الأُولى فاعِلُ الفِعْلِ، وأنَّما نُمْلِي وما بَعْدَهُ سادٌّ مَسَدَّ مَفْعُولَيِ الحُسْبانِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ أوْ سادٌّ مَسَدَّ أحَدِهِما، والآخَرُ مَحْذُوفٌ عِنْدَ الأخْفَشِ. وأمّا عَلى القِراءَةِ الثّانِيَةِ فَقالَ الزَّجّاجُ: إنَّ المَوْصُولَ هو المَفْعُولُ الأوَّلُ، وأنَّما وما بَعْدَها بَدَلٌ مِنَ المَوْصُولِ سادٌّ مَسَدَّ المَفْعُولَيْنِ، ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ أنَّما وما بَعْدَهُ هو المَفْعُولَ الثّانِي؛ لِأنَّ المَفْعُولَ الثّانِيَ في هَذا البابِ هو الأوَّلُ في المَعْنى. وقالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: لَوْ صَحَّ هَذا لَكانَ خَيْرًا بِالنَّصْبِ؛ لِأنَّهُ يَصِيرُ بَدَلًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَكَأنَّهُ قالَ: لا تَحْسَبَنَّ إمْلاءَ الَّذِينَ كَفَرُوا خَيْرًا. وقالَ الكِسائِيُّ والفَرّاءُ: إنَّهُ يُقَدَّرُ تَكْرِيرُ الفِعْلِ كَأنَّهُ قالَ: ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ولا تَحْسَبَنَّ أنَّما نُمْلِي لَهم فَسَدَّتْ مَسَدَّ المَفْعُولَيْنِ. وقالَ في الكَشّافِ: فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ صَحَّ مَجِيءُ البَدَلِ ولَمْ يُذْكَرْ إلّا أحَدُ المَفْعُولَيْنِ، ولا يَجُوزُ الِاقْتِصارُ بِفِعْلِ الحُسْبانِ عَلى مَفْعُولٍ واحِدٍ ؟ قُلْتُ: صَحَّ ذَلِكَ مِن حَيْثُ إنَّ التَّعْوِيلَ عَلى البَدَلِ، والمُبْدَلُ مِنهُ في حُكْمِ المُنَحّى، ألا تَراكَ تَقُولُ جَعَلْتَ مَتاعَكَ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ مَعَ امْتِناعِ سُكُوتِكَ عَلى مَتاعِكَ، انْتَهى. وقَرَأ يَحْيى بْنُ وثّابٍ ( إنَّما نُمْلِي ) بِكَسْرِ إنَّ فِيهِما، وهي قِراءَةٌ ضَعِيفَةٌ بِاعْتِبارِ العَرَبِيَّةِ. وقَوْلُهُ: ﴿إنَّما نُمْلِي لَهم لِيَزْدادُوا إثْمًا﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِوَجْهِ الإمْلاءِ لِلْكافِرِينَ. وقَدِ احْتَجَّ الجُمْهُورُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى بُطْلانِ ما تَقُولُهُ المُعْتَزِلَةُ؛ لِأنَّهُ سُبْحانَهُ أخْبَرَ بِأنَّهُ يُطِيلُ أعْمارَ الكُفّارِ ويَجْعَلُ عَيْشَهم رَغْدًا لِيَزْدادُوا إثْمًا. قالَ أبُو حاتِمٍ: وسَمِعْتُ الأخْفَشَ يَذْكُرُ كَسْرَ ( إنَّما نُمْلِي ) الأُولى وفَتْحَ الثّانِيَةِ، ويَحْتَجُّ بِذَلِكَ لِأهْلِ القَدَرِ لِأنَّهُ مِنهم ويَجْعَلُهُ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ: ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أنَّما نُمْلِي لَهم لِيَزْدادُوا إثْمًا إنَّما نُمْلِي لَهم خَيْرٌ لِأنْفُسِهِمْ. وقالَ في الكَشّافِ: إنَّ ازْدِيادَ الإثْمِ عِلَّةٌ، وما كَلُّ عِلَّةٍ بِعَرَضٍ، ألا تَراكَ تَقُولُ: قَعَدْتُ عَنِ الغَزْوِ لِلْعَجْزِ والفاقَةِ، وخَرَجْتُ مِنَ البَلَدِ لِمَخافَةِ الشَّرِّ ولَيْسَ شَيْءٌ يَعْرِضُ لَكَ وإنَّما هي عِلَلٌ وأسْبابٌ. قَوْلُهُ: ﴿ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ، والخِطابُ عِنْدَ جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ لِلْكُفّارِ والمُنافِقِينَ؛ أيْ: ﴿ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ﴾ مِنَ الكُفْرِ والنِّفاقِ ﴿حَتّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ وقِيلَ: الخِطابُ لِلْمُؤْمِنِينَ والمُنافِقِينَ؛ أيْ: ما كانَ اللَّهُ لِيَتْرُكَكم عَلى الحالِ الَّتِي أنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِاخْتِلاطِ حَتّى يَمِيزَ بَعْضَكم مِن بَعْضٍ، وقِيلَ: الخِطابُ لِلْمُشْرِكِينَ. والمُرادُ بِالمُؤْمِنِينَ مَن في الأصْلابِ والأرْحامِ؛ أيْ: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ أوْلادَكم عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يُفَرِّقَ بَيْنَكم وبَيْنَهم، وقِيلَ: الخِطابُ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ أيْ: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَكم يا مَعْشَرَ المُؤْمِنِينَ عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الِاخْتِلاطِ بِالمُنافِقِينَ حَتّى يَمِيزَ بَيْنَكم، وعَلى هَذا الوَجْهِ، والوَجْهِ الثّانِي، يَكُونُ في الكَلامِ التِفاتٌ. وقُرِئَ ( يَمِيزَ ) بِالتَّشْدِيدِ لِلْمُخَفَّفِ، مِن مازَ الشَّيْءَ يَمِيزُهُ مَيْزًا إذا فَرَّقَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، فَإنْ كانَتْ أشْياءَ قِيلَ: مَيَّزَهُ تَمْيِيزًا ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكم عَلى الغَيْبِ﴾ حَتّى تُمَيِّزُوا بَيْنَ الطَّيِّبِ والخَبِيثِ فَإنَّهُ المُسْتَأْثِرُ بِعِلْمِ الغَيْبِ لا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أحَدًا إلّا مَنِ ارْتَضى مِن رَسُولٍ مِن رُسُلِهِ يَجْتَبِيهِ فَيُطْلِعَهُ عَلى شَيْءٍ مِن غَيْبِهِ فَيُمَيِّزَ بَيْنَكم كَما وقَعَ مِن نَبِيِّنا صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ مِن تَعْيِينِ كَثِيرٍ مِنَ المُنافِقِينَ، فَإنَّ ذَلِكَ كانَ بِتَعْلِيمِ اللَّهِ لَهُ، لا بِكَوْنِهِ يَعْلَمُ الغَيْبَ، وقِيلَ المَعْنى: ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكم عَلى الغَيْبِ﴾ في مَن يَسْتَحِقُّ النُّبُوَّةَ، حَتّى يَكُونَ الوَحْيُ بِاخْتِيارِكم ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي﴾ أيْ يَخْتارُ ﴿مِن رُسُلِهِ مَن يَشاءُ﴾ . قَوْلُهُ: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ﴾ أيِ: افْعَلُوا الإيمانَ المَطْلُوبَ مِنكم ودَعُوا الِاشْتِغالَ بِما لَيْسَ مِن شَأْنِكم مِنَ التَّطَلُّعِ لِعِلْمِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وإنْ تُؤْمِنُوا بِما ذُكِرَ وتَتَّقُوا فَلَكم عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ أجْرٌ عَظِيمٌ لا يُعْرَفُ قَدْرُهُ ولا يُبْلَغُ كُنْهُهُ. قَوْلُهُ: ﴿ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هو خَيْرًا لَهم﴾ المَوْصُولُ في مَحَلِّ رَفْعٍ عَلى أنَّهُ فاعِلُ الفِعْلِ عَلى قِراءَةِ مَن قَرَأ بِالياءِ التَّحْتِيَّةِ، والمَفْعُولُ الأوَّلُ مَحْذُوفٌ؛ أيْ: لا يَحْسَبَنَّ الباخِلُونَ البُخْلَ خَيْرًا لَهم. قالَهُ الخَلِيلُ وسِيبَوَيْهِ والفَرّاءُ. قالُوا: وإنَّما حُذِفَ لِدَلالَةِ يَبْخَلُونَ عَلَيْهِ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎إذا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرى إلَيْهِ وخالَفَ والسَّفِيهُ إلى خِلافِ أيْ جَرى إلى السَّفَهِ، فالسَّفِيهُ دَلَّ عَلى السَّفَهِ. وأمّا عَلى قِراءَةِ مَن قَرَأ بِالفَوْقِيَّةِ فالفِعْلُ مُسْنَدٌ إلى النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ والمَفْعُولُ الأوَّلُ مَحْذُوفٌ؛ أيْ: لا تَحْسَبَنَّ يا مُحَمَّدُ بُخْلَ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ خَيْرًا لَهم. قالَ الزَّجّاجُ: هو مِثْلُ ﴿واسْألِ القَرْيَةَ﴾ والضَّمِيرُ المَذْكُورُ هو ضَمِيرُ الفَصْلِ. قالَ المُبَرِّدُ: والسِّينُ في قَوْلِهِ: ﴿سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ﴾ سِينُ الوَعِيدِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِمَعْنى قَوْلِهِ: ﴿بَلْ هو شَرٌّ لَهُمْ﴾ قِيلَ: ومَعْنى التَّطْوِيقِ هُنا أنَّهُ يَكُونُ ما بَخِلُوا بِهِ مِنَ المالِ طَوْقًا مِن نارٍ في أعْناقِهِمْ، وقِيلَ: مَعْناهُ أنَّهُ سَيَحْمِلُونَ عِقابَ ما بَخِلُوا بِهِ فَهو مِنَ الطّاقَةِ ولَيْسَ مِنَ التَّطْوِيقِ، وقِيلَ المَعْنى: أنَّهم يَلْزَمُونَ أعْمالَهم كَما يَلْزَمُ الطَّوْقُ العُنُقَ، يُقالُ: طَوَّقَ فُلانٌ عَمَلَهُ طَوْقَ الحَمامَةِ؛ أيْ: أُلْزِمَ جَزاءَ عَمَلِهِ، وقِيلَ: إنَّ ما لَمْ تُؤَدَّ زَكاتُهُ مِنَ المالِ يُمَثَّلُ لَهُ شُجاعًا أقْرَعَ حَتّى يُطَوَّقَ بِهِ في عُنُقِهِ كَما ورَدَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا إلى النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ. قالَ القُرْطُبِيُّ: والبُخْلُ في اللُّغَةِ أنْ يَمْنَعَ الإنْسانُ الحَقَّ الواجِبَ، فَأمّا مَن مَنَعَ ما لا يَجِبُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِبَخِيلٍ. قَوْلُهُ: ﴿ولِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ أيْ: لَهُ وحْدَهُ لا لِغَيْرِهِ كَما يُفِيدُهُ التَّقْدِيمُ. والمَعْنى: أنَّ لَهُ ما فِيهِما مِمّا يَتَوارَثُهُ أهْلُها فَما بالُهم يَبْخَلُونَ بِذَلِكَ ولا يُنْفِقُونَهُ وهو لِلَّهِ سُبْحانَهُ لا لَهم (p-٢٥٩)وإنَّما كانَ عِنْدَهم عارِيَةً مُسْتَرَدَّةً، ومِثْلُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ ومَن عَلَيْها﴾ [مريم: ٤٠] وقَوْلُهُ: ﴿وأنْفِقُوا مِمّا جَعَلَكم مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: ٧] . والمِيراثُ في الأصْلِ هو ما يَخْرُجُ مِن مالِكٍ إلى آخَرَ ولَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لِذَلِكَ الآخَرِ قَبْلَ انْتِقالِهِ إلَيْهِ بِالمِيراثِ، ومَعْلُومٌ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ هو المالِكُ بِالحَقِيقَةِ لِجَمِيعِ مَخْلُوقاتِهِ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ ﴿إنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الكُفْرَ بِالإيمانِ﴾ قالَ: هُمُ المُنافِقُونَ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والطَّبَرانِيُّ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: ما مِن نَفْسٍ بَرَّةٍ ولا فاجِرَةٍ إلّا والمَوْتُ خَيْرٌ لَها مِنَ الحَياةِ، إنْ كانَ بَرًّا فَقَدْ قالَ اللَّهُ: ﴿وما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأبْرارِ﴾ [آل عمران: ٧٩٨] وإنْ كانَ فاجِرًا فَقَدْ قالَ: ﴿ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الآيَةَ. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أبِي بَرْزَةَ أيْضًا نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ قالَ: قالُوا إنْ كانَ مُحَمَّدٌ صادِقًا فَلْيُخْبِرْنا بِمَن يُؤْمِنُ بِهِ مِنّا ومَن يَكْفُرُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ﴾ الآيَةَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: يَمِيزُ أهْلَ السَّعادَةِ مِن أهْلِ الشَّقاوَةِ، وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ قالَ: يَمِيزُ بَيْنَهم في الجِهادِ والهِجْرَةِ، وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الحَسَنِ في قَوْلِهِ: ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكم عَلى الغَيْبِ﴾ قالَ: ولا يُطْلَعُ عَلى الغَيْبِ إلّا رَسُولٌ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي﴾ قالَ: يَخْتَصُّ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مالِكٍ قالَ: يَسْتَخْلِصُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ولا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾ قالَ: هم أهْلُ الكِتابِ بَخِلُوا أنْ يُبَيِّنُوهُ لِلنّاسِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: هم يَهُودُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ قالَ: بَخِلُوا أنْ يُنْفِقُوها في سَبِيلِ اللَّهِ لَمْ يُؤَدُّوا زَكاتَها. وأخْرَجَ البُخارِيُّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «مَن آتاهُ اللَّهُ مالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكاتَهُ، مُثِّلَ لَهُ شُجاعًا أقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيامَةِ، فَيَأْخُذُ بِلِهْزِمَتِهِ: يَعْنِي بِشِدْقِهِ، فَيَقُولُ: أنا مالُكَ أنا كَنْزُكَ، ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ» وقَدْ ورَدَ هَذا المَعْنى في أحادِيثَ كَثِيرَةٍ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ يَرْفَعُونَها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب