الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ﴿وكَمْ أهْلَكْنا مِن قَرْيَةٍ﴾ أيْ: مِن أهْلِ قَرْيَةٍ كانُوا في خَفْضِ عَيْشٍ ودَعَةٍ ورَخاءٍ، فَوَقَعَ مِنهُمُ البَطَرُ فَأُهْلِكُوا. قالَ الزَّجّاجُ: البَطَرُ الطُّغْيانُ عِنْدَ النِّعْمَةِ. قالَ عَطاءٌ: عاشُوا في البَطَرِ فَأكَلُوا رِزْقَ اللَّهِ وعَبَدُوا الأصْنامَ. قالَ الزَّجّاجُ والمازِنِيُّ: مَعْنى ﴿بَطِرَتْ مَعِيشَتَها﴾ بَطِرَتْ في مَعِيشَتِها، فَلَمّا حُذِفَتْ في تَعَدّى الفِعْلُ كَقَوْلِهِ: ﴿واخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ﴾ [الأعراف: ٥٥] وقالَ الفَرّاءُ: هو مَنصُوبٌ عَلى التَّفْسِيرِ كَما تَقُولُ: أبْطَرَكَ مالُكَ وبَطِرْتَهُ، ونَظِيرُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى -: ﴿إلّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ١٣٠] ونَصْبُ المَعارِفِ عَلى التَّمْيِيزِ غَيْرُ جائِزٍ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، لِأنَّ مَعْنى التَّفْسِيرِ أنْ تَكُونَ النَّكِرَةُ دالَّةً عَلى الجِنْسِ. وقِيلَ: إنْ مَعِيشَتَها مَنصُوبَةٌ بِـ بَطِرَتْ عَلى تَضْمِينِهِ مَعْنى جَهِلَتْ ﴿فَتِلْكَ مَساكِنُهم لَمْ تُسْكَنْ مِن بَعْدِهِمْ إلّا قَلِيلًا﴾ أيْ: لَمْ يَسْكُنْها أحَدٌ بَعْدَهم إلّا زَمَنًا قَلِيلًا، كالَّذِي يَمُرُّ بِها مُسافِرًا فَإنَّهُ يَلْبَثُ فِيها يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ، أوْ لَمْ يَبْقَ مَن يَسْكُنُها فِيها إلّا أيّامًا قَلِيلَةً لِشُؤْمِ ما وقَعَ فِيها مِن مَعاصِيهِمْ. وقِيلَ: إنَّ الِاسْتِثْناءَ يَرْجِعُ إلى المَساكِنِ أيْ: لَمْ تُسْكَنْ بَعْدَ هَلاكِ أهْلِها إلّا قَلِيلًا مِنَ المَساكِنِ، وأكْثَرُها خَرابٌ، كَذا قالَ الفَرّاءُ وهو قَوْلٌ ضَعِيفٌ ﴿وكُنّا نَحْنُ الوارِثِينَ﴾ مِنهم لِأنَّهم لَمْ يَتْرُكُوا وارِثًا يَرِثُ مَنازِلَهم وأمْوالَهم، ومَحَلُّ جُمْلَةِ لَمْ تُسْكَنِ الرَّفْعُ عَلى أنَّها خَبَرٌ ثانٍ لِاسْمِ الإشارَةِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ. ﴿وما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرى حَتّى يَبْعَثَ في أُمِّها رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِنا﴾ أيْ: وما صَحَّ ولا اسْتَقامَ أنْ يَكُونَ اللَّهُ مُهْلِكَ القُرى الكافِرَةَ، أيِ: الكافِرُ أهْلُها حَتّى يَبْعَثَ في أُمِّها رَسُولًا يُنْذِرُهم ويَتْلُوَ عَلَيْهِمْ آياتِ اللَّهِ النّاطِقَةَ بِما أوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وما أعَدَّهُ مِنَ الثَّوابِ لِلْمُطِيعِ والعِقابِ لِلْعاصِي، ومَعْنى ﴿أُمِّها﴾: أكْبَرُها وأعْظَمُها، وخَصَّ الأعْظَمَ مِنها بِالبَعْثَةِ إلَيْها، لِأنَّ فِيها أشْرافَ القَوْمِ، وأهْلَ الفَهْمِ والرَّأْيِ، وفِيها المُلُوكُ والأكابِرُ، فَصارَتْ بِهَذا الِاعْتِبارِ كالأُمِّ لِما حَوْلَها مِنَ القُرى. وقالَ الحَسَنُ: أُمُّ القُرى أوَّلُها. وقِيلَ: المُرادُ بِأُمِّ القُرى هُنا مَكَّةُ كَما في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ﴾ [آل عمران: ٩٦] (p-١١٠٧)الآيَةَ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ ما تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الآيَةُ في آخِرِ سُورَةِ يُوسُفَ، وجُمْلَةُ ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِنا﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ أيْ: تالِيًا عَلَيْهِمْ ومُخْبِرًا لَهم أنَّ العَذابَ سَيَنْزِلُ بِهِمْ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا ﴿وما كُنّا مُهْلِكِي القُرى إلّا وأهْلُها ظالِمُونَ﴾ هَذِهِ الجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها، والِاسْتِثْناءُ مُفَرَّغٌ مِن أعَمِّ الأحْوالِ أيْ: وما كُنّا مُهْلِكِينَ لِأهْلِ القُرى بَعْدَ أنْ نَبْعَثَ إلى أُمِّها رَسُولًا يَدْعُوهم إلى الحَقِّ إلّا حالَ كَوْنِهِمْ ظالِمِينَ قَدِ اسْتَحَقُّوا الإهْلاكَ لِإصْرارِهِمْ عَلى الكُفْرِ بَعْدَ الإعْذارِ إلَيْهِمْ، وتَأْكِيدِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ كَما في قَوْلِهِ - سُبْحانَهُ -: ﴿وما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرى بِظُلْمٍ وأهْلُها مُصْلِحُونَ﴾ [هود: ١١٧] . ثُمَّ قالَ - سُبْحانَهُ -: ﴿وما أُوتِيتُمْ مِن شَيْءٍ فَمَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا وزِينَتُها﴾ الخِطابُ لِكُفّارِ مَكَّةَ: أيْ: وما أُعْطِيتُمْ مِن شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ فَهو مَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا تَتَمَتَّعُونَ بِهِ مُدَّةَ حَياتِكم أوْ بَعْضَ حَياتِكم ثُمَّ تَزُولُونَ عَنْهُ أوْ يَزُولُ عَنْكم، وعَلى كُلِّ حالٍ فَذَلِكَ إلى فَناءٍ وانْقِضاءٍ وما عِنْدَ اللَّهِ مِن ثَوابِهِ وجَزائِهِ خَيْرٌ مِن ذَلِكَ الزّائِلِ الفانِي؛ لِأنَّهُ لَذَّةٌ خالِصَةٌ عَنْ شَوْبِ الكَدَرِ وأبْقى لِأنَّهُ يَدُومُ أبَدًا، وهَذا يَنْقَضِي بِسُرْعَةٍ، أفَلا تَعْقِلُونَ أنَّ الباقِيَ أفْضَلُ مِنَ الفانِي، وما فِيهِ لَذَّةٌ خالِصَةٌ غَيْرُ مَشُوبَةٍ أفْضَلُ مِنَ اللَّذّاتِ المَشُوبَةِ بِالكَدَرِ المُنَغَّصَةِ بِعَوارِضِ البَدَنِ والقَلْبِ، وقُرِئَ بِنَصْبِ " مَتاعَ " عَلى المَصْدَرِيَّةِ أيْ: فَتُمَتَّعُونَ مَتاعَ الحَياةِ، قَرَأ أبُو عَمْرٍو " يَعْقِلُونَ " بِالتَّحْتِيَّةِ، وقَرَأ الباقُونَ بِالفَوْقِيَّةِ عَلى الخِطابِ، وقِراءَتُهم أرْجَحُ لِقَوْلِهِ: وما أُوتِيتُمْ. ﴿أفَمَن وعَدْناهُ وعْدًا حَسَنًا فَهو لاقِيهِ﴾ أيْ: وعَدْناهُ بِالجَنَّةِ وما فِيها مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لا تُحْصى فَهو لاقِيهِ أيْ: مُدْرِكُهُ لا مَحالَةَ فَإنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ ﴿كَمَن مَتَّعْناهُ مَتاعَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ فَأُعْطِيَ مِنها بَعْضَ ما أرادَ مَعَ سُرْعَةِ زَوالِهِ وتَنْغِيصِهِ ﴿ثُمَّ هو يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ المُحْضَرِينَ﴾ هَذا مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ ﴿مَتَّعْناهُ﴾ داخِلٌ مَعَهُ في حَيِّزِ الصِّلَةِ مُؤَكِّدٌ لِإنْكارِ التَّشابُهِ ومُقَرِّرٌ لَهُ، والمَعْنى: ثُمَّ هَذا الَّذِي مَتَّعْناهُ هو يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ المُحْضَرِينَ بِالنّارِ، وتَخْصِيصُ المُحْضَرِينَ بِالَّذِينَ أُحْضِرُوا لِلْعَذابِ اقْتَضاهُ المَقامُ، والِاسْتِفْهامُ لِلْإنْكارِ أيْ: لَيْسَ حالُهُما سَواءً، فَإنَّ المَوْعُودَ بِالجَنَّةِ لا بُدَّ أنْ يَظْفَرَ بِما وُعِدَ بِهِ مَعَ أنَّهُ لا يَفُوتُهُ نَصِيبُهُ مِنَ الدُّنْيا، وهَذا حالُ المُؤْمِنِ. وأمّا حالُ الكافِرِ فَإنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلّا مُجَرَّدُ التَّمْتِيعِ بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيا يَسْتَوِي فِيهِ هو والمُؤْمِنُ، ويَنالُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما حَظَّهُ مِنهُ، وهو صائِرٌ إلى النّارِ، فَهَلْ يَسْتَوِيانِ ؟ قَرَأ الجُمْهُورُ " ثُمَّ هو " بِضَمِّ الهاءِ. وقَرَأ الكِسائِيُّ وقالُونُ بِسُكُونِ الهاءِ إجْراءً لِثُمَّ مَجْرى الواوِ والفاءِ. وانْتِصابُ يَوْمَ في قَوْلِهِ: ﴿ويَوْمَ يُنادِيهِمْ﴾ بِالعَطْفِ عَلى يَوْمِ القِيامَةِ أوْ بِإضْمارِ اذْكُرْ أيْ: يَوْمَ يُنادِي اللَّهُ - سُبْحانَهُ - هَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ فَيَقُولُ لَهم ﴿أيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ أنَّهم يَنْصُرُونَكم ويَشْفَعُونَ لَكم، ومَفْعُولا يَزْعُمُونَ مَحْذُوفانِ أيْ: تَزْعُمُونَهم شُرَكائِي لِدَلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِما. ﴿قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ القَوْلُ﴾ أيْ: حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ العَذابِ وهم رُؤَساءُ الضَّلالِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أرْبابًا مِن دُونِ اللَّهِ، كَذا قالَ الكَلْبِيُّ. وقالَ قَتادَةُ: هُمُ الشَّياطِينُ ﴿رَبَّنا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أغْوَيْنا﴾ أيْ: دَعَوْناهم إلى الغَوايَةِ يَعْنُونَ الأتْباعَ ﴿أغْوَيْناهم كَما غَوَيْنا﴾ أيْ: أضْلَلْناهم كَما ضَلَلْنا ﴿تَبَرَّأْنا إلَيْكَ﴾ مِنهم، والمَعْنى: أنَّ رُؤَساءَ الضَّلالِ أوِ الشَّياطِينَ تَبَرَّءُوا مِمَّنْ أطاعَهم. قالَ الزَّجّاجُ: بَرِئَ بَعْضُهم مِن بَعْضٍ، وصارُوا أعْداءً. كَما قالَ اللَّهُ - تَعالى -: ﴿الأخِلّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ [الزخرف: ٦٧] وهَؤُلاءِ مُبْتَدَأٌ والَّذِينَ أغْوَيْنا صِفَتُهُ، والعائِدُ مَحْذُوفٌ أيْ: أغْوَيْناهم، والخَبَرُ أغْوَيْناهم، وكَما أغْوَيْنا نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ. وقِيلَ: إنَّ خَبَرَ هَؤُلاءِ هو ﴿الَّذِينَ أغْوَيْنا﴾، وأمّا ﴿أغْوَيْناهم كَما غَوَيْنا﴾ فَكَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِتَقْرِيرِ ما قَبْلَهُ، ورَجَّحَ هَذا أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ، واعْتَرَضَ الوَجْهَ الأوَّلِ، ورَدَّ اعْتِراضَهُ أبُو البَقاءِ ﴿ما كانُوا إيّانا يَعْبُدُونَ﴾ وإنَّما كانُوا يَعْبُدُونَ أهْواءَهم، وقِيلَ: إنَّ " ما " في ما كانُوا مَصْدَرِيَّةٌ أيْ: تَبَرَّأْنا إلَيْكَ مِن عِبادَتِهِمْ إيّانا والأوَّلُ أوْلى. ﴿وقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ﴾ أيْ: قِيلَ لِلْكُفّارِ مِن بَنِي آدَمَ هَذا القَوْلُ، والمَعْنى: اسْتَغِيثُوا بِآلِهَتِكُمُ الَّتِي كُنْتُمْ تَعْبُدُونَهم مِن دُونِ اللَّهِ في الدُّنْيا لِيَنْصُرُوكم ويَدْفَعُوا عَنْكم فَدَعَوْهم عِنْدَ ذَلِكَ ﴿فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ﴾ ولا نَفَعُوهم بِوَجْهٍ مِن وُجُوهِ النَّفْعِ ﴿ورَأوُا العَذابَ﴾ أيِ: التّابِعُ، والمَتْبُوعُ فَقَدْ غَشِيَهم ﴿لَوْ أنَّهم كانُوا يَهْتَدُونَ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: جَوابُ لَوْ مَحْذُوفٌ، والمَعْنى: لَوْ أنَّهم كانُوا يَهْتَدُونَ لَأنْجاهم ذَلِكَ ولَمْ يَرَوُا العَذابَ. وقِيلَ: المَعْنى: لَوْ أنَّهم كانُوا يَهْتَدُونَ ما دَعَوْهم، وقِيلَ: المَعْنى: لَوْ أنَّهم كانُوا يَهْتَدُونَ في الدُّنْيا لَعَلِمُوا أنَّ العَذابَ حَقٌّ. وقِيلَ: المَعْنى: لَوْ كانُوا يَهْتَدُونَ لِوَجْهٍ مِن وُجُوهِ الحِيَلِ لَدَفَعُوا بِهِ العَذابَ. وقِيلَ: قَدْ آنَ لَهم أنْ يَهْتَدُوا لَوْ كانُوا يَهْتَدُونَ، وقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. والأوَّلُ أوْلى. ويَوْمَ في قَوْلِهِ: ﴿ويَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى ما قَبْلَهُ: ما كانَ جَوابُكم لِمَن أُرْسِلَ إلَيْكم مِنَ النَّبِيِّينَ لَمّا بَلَّغُوكم رِسالاتِي. ﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْباءُ يَوْمَئِذٍ﴾ أيْ: خَفِيَتْ عَلَيْهِمُ الحُجَجُ حَتّى صارُوا كالعُمْيِ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ، والأصْلُ فَعَمُوا عَنِ الأنْباءِ، ولَكِنَّهُ عَكَسَ الكَلامَ لِلْمُبالَغَةِ، والأنْباءُ: الأخْبارُ، وإنَّما سَمّى حُجَجَهم أخْبارًا؛ لِأنَّها لَمْ تَكُنْ مِنَ الحُجَّةِ في شَيْءٍ، وإنَّما هي أقاصِيصُ وحِكاياتٌ ﴿فَهم لا يَتَساءَلُونَ﴾ لا يَسْألُ بَعْضُهم بَعْضًا، ولا يَنْطِقُونَ بِحُجَّةٍ ولا يَدْرُونَ بِما يُجِيبُونَ، لِأنَّ اللَّهَ قَدْ أعْذَرَ إلَيْهِمْ في الدُّنْيا فَلا يَكُونُ لَهم عُذْرٌ ولا حُجَّةٌ يَوْمَ القِيامَةِ. قَرَأ الجُمْهُورُ " عَمِيَتْ " بِفَتْحِ العَيْنِ وتَخْفِيفِ المِيمِ. وقَرَأ الأعْمَشُ وجَناحُ بْنُ حُبَيْشٍ بِضَمِّ العَيْنِ وتَشْدِيدِ المِيمِ. ﴿فَأمّا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا فَعَسى أنْ يَكُونَ مِنَ المُفْلِحِينَ﴾ إنْ تابَ مِنَ الشِّرْكِ وصَدَّقَ بِما جاءَ بِهِ الرُّسُلُ وأدّى الفَرائِضَ واجْتَنَبَ المَعاصِيَ فَعَسى أنْ يَكُونَ مِنَ المُفْلِحِينَ أيِ: الفائِزِينَ بِمَطالِبِهِمْ مِن سَعادَةِ الدّارَيْنِ، وعَسى وإنْ كانَتْ في الأصْلِ لِلرَّجاءِ فَهو مِنَ اللَّهِ واجِبٌ عَلى ما هو عادَةُ الكِرامِ. وقِيلَ: إنَّ التَّرَجِّيَ هو مِنَ التّائِبِ المَذْكُورِ لا مِن (p-١١٠٨)جِهَةِ اللَّهِ - سُبْحانَهُ - . ﴿ورَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ﴾ أيْ: يَخْلُقُهُ ﴿ويَخْتارُ﴾ ما يَشاءُ أنْ يَخْتارَهُ ﴿لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ وهم يُسْألُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٣] وهَذا مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ الشُّرَكاءِ الَّذِينَ عَبَدُوهم واخْتارُوهم أيِ: الِاخْتِيارُ إلى اللَّهِ ﴿ما كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ﴾ أيِ: التَّخَيُّرُ، وقِيلَ: المُرادُ مِنَ الآيَةِ أنَّهُ لَيْسَ لِأحَدٍ مِن خَلْقِ اللَّهِ أنْ يَخْتارَ، بَلِ الِاخْتِيارُ هو إلى اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - . وقِيلَ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ جَوابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: ﴿لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١] وقِيلَ: هَذِهِ الآيَةُ جَوابٌ عَنِ اليَهُودِ حَيْثُ قالُوا لَوْ كانَ الرَّسُولُ إلى مُحَمَّدٍ غَيْرَ جِبْرِيلَ لَآمَنّا بِهِ. قالَ الزَّجّاجُ: الوَقْفُ عَلى ﴿ويَخْتارُ﴾ تامٌّ، عَلى أنَّ ما نافِيَةٌ. قالَ: ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ ما في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِـ يَخْتارُ، والمَعْنى: ويَخْتارُ الَّذِي كانَ لَهم فِيهِ الخِيَرَةُ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ لِإجْماعِهِمْ عَلى الوَقْفِ. وقالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إنْ تَقْدِيرَ الآيَةِ ويَخْتارُ لِوِلايَتِهِ الخِيَرَةَ مِن خَلْقِهِ، وهَذا في غايَةٍ مِنَ الضَّعْفِ. وجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ أنْ تَكُونَ " كانَ " تامَّةً، ويَكُونُ لَهُمُ الخِيَرَةُ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ. وهَذا أيْضًا بَعِيدٌ جِدًّا. وقِيلَ: إنَّ ما مَصْدَرِيَّةٌ أيْ: يَخْتارُ اخْتِيارَهم، والمَصْدَرُ واقِعٌ مَوْقِعَ المَفْعُولِ بِهِ أيْ: ويَخْتارُ مُخْتارَهم، وهَذا كالتَّفْسِيرِ لِكَلامِ ابْنِ جَرِيرٍ. والرّاجِحُ أوَّلُ هَذِهِ التَّفاسِيرِ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ - سُبْحانَهُ -: ﴿وما كانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذا قَضى اللَّهُ ورَسُولُهُ أمْرًا أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ﴾ [الأحزاب: ٣٦] والخِيَرَةُ التَّخَيُّرُ، كالطِّيرَةِ فَإنَّها التَّطَيُّرُ، اسْمانِ يُسْتَعْمَلانِ اسْتِعْمالَ المَصْدَرِ، ثُمَّ نَزَّهَ - سُبْحانَهُ - نَفْسَهُ فَقالَ: ﴿سُبْحانَ اللَّهِ﴾ أيْ: تَنَزَّهَ تَنَزُّهًا خاصًّا بِهِ مِن غَيْرِ أنْ يُنازِعَهُ مُنازِعٌ ويُشارِكَهُ مُشارِكٌ ﴿وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ أيْ: عَنِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَهم شُرَكاءَ لَهُ، أوْ عَنْ إشْراكِهِمْ. ﴿ورَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ﴾ أيْ: تُخْفِيهِ مِنَ الشِّرْكِ، أوْ مِن عَداوَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -، أوْ مِن جَمِيعِ ما يُخْفُونَهُ مِمّا يُخالِفُ الحَقَّ ﴿وما يُعْلِنُونَ﴾ أيْ: يُظْهِرُونَهُ مِن ذَلِكَ. قَرَأ الجُمْهُورُ " تُكِنُّ " بِضَمِّ التّاءِ الفَوْقِيَّةِ وكَسْرِ الكافِ. وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وحُمَيْدٌ بِفَتْحِ الفَوْقِيَّةِ وضَمِّ الكافِ. ثُمَّ تَمَدَّحَ - سُبْحانَهُ - وتَعالى بِالوَحْدانِيَّةِ والتَّفَرُّدِ بِاسْتِحْقاقِ الحَمْدِ فَقالَ: ﴿وهُوَ اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو لَهُ الحَمْدُ في الأُولى﴾ أيِ: الدُّنْيا والآخِرَةِ أيِ: الدّارِ الآخِرَةِ ﴿ولَهُ الحُكْمُ﴾ يَقْضِي بَيْنَ عِبادِهِ بِما شاءَ مِن غَيْرِ مُشارِكٍ ﴿وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ بِالبَعْثِ فَيُجازِي المُحْسِنَ بِإحْسانِهِ والمُسِيءَ بِإساءَتِهِ، لا تَرْجِعُونَ إلى غَيْرِهِ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وما كُنّا مُهْلِكِي القُرى إلّا وأهْلُها ظالِمُونَ﴾ قالَ: قالَ اللَّهُ لَمْ نُهْلِكْ قَرْيَةً بِإيمانٍ، ولَكِنَّهُ أهْلَكَ القُرى بِظُلْمٍ إذا ظَلَمَ أهْلُها، ولَوْ كانَتْ مَكَّةُ آمَنَتْ لَمْ يَهْلَكُوا مَعَ مَن هَلَكَ، ولَكِنَّهم كَذَّبُوا وظَلَمُوا فَبِذَلِكَ هَلَكُوا. وأخْرَجَ مُسْلِمٌ، والبَيْهَقِيُّ في الأسْماءِ والصِّفاتِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - «قالَ: " يَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ -: يا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي "» الحَدِيثَ بِطُولِهِ. وأخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ في زَوائِدَ الزُّهْدِ عَنْ عَبْدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قالَ «يُحْشَرُ النّاسُ يَوْمَ القِيامَةِ أجْوَعَ ما كانُوا وأعْطَشَ ما كانُوا وأعْرى ما كانُوا، فَمَن أطْعَمَ لِلَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - أطْعَمَهُ اللَّهُ، ومَن كَسا لِلَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - كَساهُ اللَّهُ، ومَن سَقى لِلَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - سَقاهُ اللَّهُ، ومَن كانَ في رِضا اللَّهِ كانَ اللَّهُ عَلى رِضاهُ» . وأخْرَجَ الفِرْيابِيُّ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ مُجاهِدٍ ﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْباءُ﴾ قالَ: الحُجَجُ ﴿فَهم لا يَتَساءَلُونَ﴾ قالَ: بِالأنْسابِ. وقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - في الصَّحِيحِ تَعْلِيمُ الِاسْتِخارَةِ وكَيْفِيَّةِ صَلاتِها ودُعائِها فَلا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب