الباحث القرآني

لَمّا فَرَغَ - سُبْحانَهُ - مِن قِصَّةِ مُوسى في قِصَّةِ داوُدَ وابْنِهِ سُلَيْمانَ، وهَذِهِ القِصَصُ وما قَبْلَها وما بَعْدَها هي كالبَيانِ والتَّقْرِيرِ لِقَوْلِهِ: ﴿وإنَّكَ لَتُلَقّى القُرْآنَ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ [النمل: ٦]، والتَّنْوِينُ في عِلْمًا إمّا لِلنَّوْعِ أيْ: طائِفَةً مِنَ العِلْمِ، أوْ لِلتَّعْظِيمِ أيْ: عِلْمًا كَثِيرًا، فالواوُ في قَوْلِهِ: ﴿وقالا الحَمْدُ لِلَّهِ﴾ لِلْعَطْفِ عَلى مَحْذُوفٍ، لِأنَّ هَذا المَقامَ مَقامُ الفاءِ، فالتَّقْدِيرُ: ولَقَدْ آتَيْناهُما عِلْمًا فَعَمِلا بِهِ وقالا الحَمْدُ لِلَّهِ، ويُؤَيِّدُهُ أنَّ الشُّكْرَ بِاللِّسانِ إنَّما يَحْسُنُ إذا كانَ مَسْبُوقًا بِعَمَلِ القَلْبِ، وهو العَزْمُ عَلى فِعْلِ الطّاعَةِ وتَرْكِ المَعْصِيَةِ ﴿الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِن عِبادِهِ المُؤْمِنِينَ﴾ أيْ: فَضَّلَنا بِالعِلْمِ والنُّبُوَّةِ وتَسْخِيرِ الطَّيْرِ والجِنِّ والإنْسِ ولَمْ يُفَضِّلُوا أنْفُسَهم عَلى الكُلِّ تَواضُعًا مِنهم. وفِي الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى شَرَفِ العِلْمِ وارْتِفاعِ مَحَلِّهِ، وأنَّ نِعْمَةَ العِلْمِ مِن أجَلِّ النِّعَمِ الَّتِي يُنْعِمُ اللَّهُ بِها عَلى عِبادِهِ، وأنَّ مَن أُوتِيَهُ فَقَدْ أُوتِيَ فَضْلًا عَلى كَثِيرٍ مِنَ العِبادِ، ومُنِحَ شَرَفًا جَلِيلًا. ﴿ووَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ﴾ أيْ: ورِثَ العِلْمَ والنُّبُوَّةَ. قالَ قَتادَةُ والكَلْبِيُّ: كانَ لِداوُدَ تِسْعَةَ عَشَرَ ولَدًا ذَكَرًا فَوَرِثَ سُلَيْمانُ مِن بَيْنِهِمْ نُبُوَّتَهُ، ولَوْ كانَ المُرادُ وِراثَةُ المالِ لِمَ يَخُصَّ سُلَيْمانَ بِالذِّكْرِ؛ لِأنَّ جَمِيعَ أوْلادِهِ في ذَلِكَ سَواءٌ، وكَذا قالَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ، فَهَذِهِ الوِراثَةُ هي وِراثَةٌ مَجازِيَّةٌ كَما في قَوْلِهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «العُلَماءُ ورَثَةُ الأنْبِياءِ» ﴿وقالَ ياأيُّها النّاسُ عُلِّمْنا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾ قالَ سُلَيْمانُ هَذِهِ المَقالَةَ مُخاطِبًا لِلنّاسِ تَحَدُّثًا بِما أنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ، وشَكَرَ النِّعْمَةَ الَّتِي خَصَّهُ بِها، وقَدَّمَ مَنطِقَ الطَّيْرِ لِأنَّها نِعْمَةٌ خاصَّةٌ بِهِ لا يُشارِكُهُ فِيها غَيْرُهُ. قالَ الفَرّاءُ: مَنطِقُ الطَّيْرِ كَلامُ الطَّيْرِ فَجُعِلَ كَمَنطِقِ الرَّجُلِ، وأنْشَدَ قَوْلَ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ: ؎عَجِيبٌ لَها أنْ يَكُونَ غِناؤُها فَصِيحًا ولَمْ يَغْفِرْ بِمَنطِقِها فَما ومَعْنى الآيَةِ فَهِمْنا ما يَقُولُ الطَّيْرُ. قالَ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: إنَّهُ عُلِّمَ مَنطِقَ جَمِيعِ الحَيَواناتِ، وإنَّما ذَكَرَ الطَّيْرَ لِأنَّهُ كانَ جُنْدًا مِن جُنْدِهِ يَسِيرُ مَعَهُ لِتَظْلِيلِهِ مِنَ الشَّمْسِ. وقالَ قَتادَةُ والشَّعْبِيُّ: إنَّما عُلِّمَ مَنطِقَ الطَّيْرِ خاصَّةً ولا يُعْتَرَضُ ذَلِكَ بِالنَّمْلَةِ فَإنَّها مِن جُمْلَةِ الطَّيْرِ، وكَثِيرًا ما تَخْرُجُ لَها أجْنِحَةٌ فَتَطِيرُ، وكَذَلِكَ كانَتْ هَذِهِ النَّمْلَةُ الَّتِي سَمِعَ كَلامَها وفَهِمَهُ، ومَعْنى ﴿وأُوتِينا مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ كُلُّ شَيْءٍ تَدْعُو إلَيْهِ الحاجَةُ كالعِلْمِ والنُّبُوَّةِ والحِكْمَةِ والمالِ وتَسْخِيرِ الجِنِّ والإنْسِ والطَّيْرِ والرِّياحِ والوَحْشِ والدَّوابِّ وكُلِّ ما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ. وجاءَ سُلَيْمانُ بِنُونِ العَظَمَةِ، والمُرادُ نَفْسُهُ بَيانًا لِحالِهِ مِن كَوْنِهِ مُطاعًا لا يُخالَفُ، لا تَكْبُرًا وتَعْظِيمًا لِنَفْسِهِ، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: إنَّ هَذا إلى ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ التَّعْلِيمِ والإيتاءِ ﴿لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ﴾ أيِ: الظّاهِرُ الواضِحُ الَّذِي لا يَخْفى عَلى أحَدٍ، أوِ المُظْهِرُ لِفَضِيلَتِنا. (p-١٠٧٥)﴿وحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ والطَّيْرِ﴾ الحَشْرُ الجَمْعُ أيْ: جُمِعَ لَهُ جُنُودُهُ مِن هَذِهِ الأجْناسِ. وقَدْ أطالَ المُفَسِّرُونَ في ذِكْرِ مِقْدارِ جُنْدِهِ وبالَغَ كَثِيرٌ مِنهم مُبالَغَةً تَسْتَبْعِدُها العُقُولُ ولا تَصِحُّ مِن جِهَةِ النَّقْلِ، ولَوْ صَحَّتْ لَكانَ في القُدْرَةِ الرَّبّانِيَّةِ ما هو أعْظَمُ مِن ذَلِكَ وأكْثَرُ ﴿فَهم يُوزَعُونَ﴾ أيْ: لِكُلِّ طائِفَةٍ مِنهم وزْعَةٌ تَرُدُّ أوَّلُهم عَلى آخِرِهِمْ فَيَقِفُونَ عَلى مَراتِبِهِمْ، يُقالُ: وزَعَهُ يَزَعُهُ وزْعًا: كَفَّهُ، والوازِعُ في الحَرْبِ المُوَكَّلُ بِالصُّفُوفِ يَزَعُ مَن تَقَدَّمَ مِنهم أيْ: يَرُدُّهُ، ومِنهُ قَوْلُ النّابِغَةِ: ؎عَلى حِينِ عاتَبْتُ المَشِيبَ عَلى الصِّبا ∗∗∗ وقُلْتُ ألَمًا أصِحْ والشَّيْبُ وازِعُ وقَوْلُ الآخَرِ: ؎ومَن لَمْ يَزَعْهُ لُبُّهُ وحَياؤُهُ ∗∗∗ فَلَيْسَ لَهُ مِن شِيبِ فَوْدَيْهِ وازِعُ وقَوْلُ الآخَرِ: ؎ولا يَزَعُ النَّفْسَ اللَّجُوجَ عَنِ الهَوى ∗∗∗ مِنَ النّاسِ إلّا وافِرُ العَقْلِ كامِلُهُ وقِيلَ: مِنَ التَّوْزِيعِ بِمَعْنى التَّفْرِيقِ، يُقالُ: القَوْمُ أوْزاعٌ أيْ: طَوائِفُ. ﴿حَتّى إذا أتَوْا عَلى وادِي النَّمْلِ﴾ ( حَتّى ) هي الَّتِي يُبْدَأُ بَعْدَها الكَلامُ، ويَكُونُ غايَةً لِما قَبْلَها، والمَعْنى فَهم يُوزَعُونَ إلى حُصُولِ هَذِهِ الغايَةِ وهو إتْيانُهم عَلى وادِ النَّمْلِ أيْ: فَهم يَسِيرُونَ مَمْنُوعًا بَعْضُهم مِن مُفارَقَةِ بَعْضٍ حَتّى إذا أتَوْا إلَخْ، وعَلى وادِ النَّمْلِ مُتَعَلِّقٌ بِـ أتَوْا، وعُدِّيَ بِعَلى لِأنَّهم كانُوا مَحْمُولِينَ عَلى الرِّيحِ فَهم مُسْتَعْلُونَ. والمَعْنى: أنَّهم قَطَعُوا الوادِيَ وبَلَغُوا آخِرَهُ، ووَقَفَ القُرّاءُ جَمِيعُهم عَلى وادٍ بِدُونِ ياءٍ اتِّباعًا لِلرَّسْمِ، حَيْثُ لَمْ تُحْذَفْ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ كَقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالوادِي﴾ [الفجر: ٩] إلّا الكِسائِيَّ فَإنَّهُ وقَفَ بِالياءِ، قالَ: لِأنَّ المُوجِبَ لِلْحَذْفِ إنَّما هو التِقاءُ السّاكِنَيْنِ بِالوَصْلِ. قالَ كَعْبٌ: وادِ النَّمْلِ بِالطّائِفِ، وقالَ قَتادَةُ ومُقاتِلٌ: هو بِالشّامِ. ﴿قالَتْ نَمْلَةٌ﴾ هَذا جَوابُ إذا، كَأنَّها لَمّا رَأتْهم مُتَوَجِّهِينَ إلى الوادِي فَرَّتْ ونَبَّهَتْ سائِرَ النَّمْلِ مُنادِيَةً لَها قائِلَةً: ﴿ياأيُّها النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ﴾ جَعَلَ خِطابَ النَّمْلِ كَخِطابِ العُقَلاءِ لِفَهْمِها لِذَلِكَ الخِطابِ، والمَساكِنُ هي الأمْكِنَةُ الَّتِي يَسْكُنُ النَّمْلُ فِيها. قِيلَ: وهَذِهِ النَّمْلَةُ الَّتِي سَمِعَها سُلَيْمانُ هي أُنْثى بِدَلِيلِ تَأْنِيثِ الفِعْلِ المُسْنَدِ إلَيْها. ورَدَّ هَذا أبُو حَيّانَ فَقالَ: لِحاقُ التّاءِ في قالَتْ لا يَدُلُّ عَلى أنَّ النَّمْلَةَ مُؤَنَّثَةٌ، بَلْ يَصِحُّ أنْ يُقالَ: في المُذَكَّرِ قالَتْ، لِأنَّها نَمْلَةٌ، وإنْ كانَتْ بِالتّاءِ فَهي مِمّا لا يَتَمَيَّزُ فِيهِ المُذَكَّرُ مِنَ المُؤَنَّثِ بِتَذْكِيرِ الفِعْلِ ولا بِتَأْنِيثِهِ، بَلْ يَتَمَيَّزُ بِالإخْبارِ عَنْهُ بِأنَّهُ ذَكَرٌ أوْ أُنْثى ولا يَتَعَلَّقُ بِمِثْلِ هَذا كَثِيرُ فائِدَةٍ ولا بِالتَّعَرُّضِ لِاسْمِ النَّمْلَةِ ولِما ذُكِرَ مِنَ القِصَصِ المَوْضُوعَةِ والأحادِيثِ المَكْذُوبَةِ. وقَرَأ الحَسَنُ وطَلْحَةُ ومَعْمَرُ بْنُ سُلَيْمانَ " ﴿نَمْلَةٌ﴾ " و" النَّمُلُ " بِضَمِّ المِيمِ وفَتْحِ النُّونِ بِزِنَةِ رَجُلٍ وسَمُرَةٍ. وقَرَأ سُلَيْمانُ التَّيْمِيُّ بِضَمَّتَيْنِ فِيهِما. ﴿لا يَحْطِمَنَّكم سُلَيْمانُ وجُنُودُهُ﴾ الحَطْمُ الكَسْرُ، يُقالُ: حَطَمْتُهُ حَطْمًا أيْ: كَسَرْتُهُ كَسَرا، وتَحَطَّمَ تَكَسَّرَ، وهَذا النَّهْيُ هو في الظّاهِرِ لِلنَّمْلِ، وفي الحَقِيقَةِ لِسُلَيْمانَ، فَهو مِن بابِ: لا أرَيَنَّكَ هاهُنا، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الأمْرِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ جَوابًا لِلْأمْرِ. قالَ أبُو حَيّانَ: أمّا تَخْرِيجُهُ عَلى جَوابِ الأمْرِ فَلا يَكُونُ إلّا عَلى قِراءَةِ الأعْمَشِ، فَإنَّهُ قَرَأ " لا يَحْطِمْكم " بِالجَزْمِ بِدُونِ نُونِ التَّوْكِيدِ، وأمّا مَعَ وُجُودِ نُونِ التَّوْكِيدِ فَلا يَجُوزُ ذَلِكَ إلّا في الشِّعْرِ. قالَ سِيبَوَيْهِ: وهو قَلِيلٌ في الشِّعْرِ، شَبَّهُوهُ بِالنَّهْيِ حَيْثُ كانَ مَجْزُومًا. وقَرَأ أُبَيٌّ " ادْخُلُوا مَساكِنَكُنَّ " وقَرَأ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ " مَسْكَنُكم " وقَرَأ الحَسَنُ وأبُو رَجاءٍ وقَتادَةُ وعِيسى الهَمْدانِيُّ " لا يُحَطِّمَنَّكم بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ الحاءِ وتَشْدِيدِ الطّاءِ، وقَرَأ ابْنُ إسْحاقَ ويَعْقُوبُ وأبُو عَمْرٍو في رِوايَةٍ بِسُكُونِ نُونِ التَّوْكِيدِ، وجُمْلَةُ ﴿وهم لا يَشْعُرُونَ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِن فاعِلِ يَحْطِمَنَّكم أيْ: لا يَشْعُرُونَ بِحَطْمِكم ولا يَعْلَمُونَ بِمَكانِكم، وقِيلَ: إنَّ المَعْنى: والنَّمْلُ لا يَشْعُرُونَ أنَّ سُلَيْمانَ يَفْهَمُ مَقالَتَها، وهو بَعِيدٌ. ﴿فَتَبَسَّمَ ضاحِكًا مِن قَوْلِها﴾ قَرَأ ابْنُ السَّمَيْفَعِ " ضَحِكًا " وعَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ يَكُونُ " ضاحِكًا " حالًا مُؤَكَّدَةً لِأنَّهُ قَدْ فُهِمَ الضَّحِكُ مِنَ التَّبَسُّمِ، وقِيلَ: هي حالٌ مُقَدَّرَةٌ لِأنَّ التَّبَسُّمَ أوَّلُ الضَّحِكِ، وقِيلَ: لَمّا كانَ التَّبَسُّمُ قَدْ يَكُونُ لِلْغَضَبِ كانَ الضَّحِكُ مُبَيِّنًا لَهُ، وقِيلَ: إنَّ ضَحِكَ الأنْبِياءِ هو التَّبَسُّمُ لا غَيْرَ، وعَلى قِراءَةِ ابْنِ السَّمَيْفَعِ يَكُونُ " ضَحِكًا " مَصْدَرًا مَنصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أوْ في مَوْضِعِ الحالِ، وكانَ ضَحِكَ سُلَيْمانَ تَعَجُّبًا مِن قَوْلِها وفَهْمِها واهْتِدائِها إلى تَحْذِيرِ النَّمْلِ. ﴿وقالَ رَبِّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أنْعَمْتَ عَلَيَّ وعَلى والِدَيَّ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ مَعْنى أوْزِعْنِي قَرِيبًا في قَوْلِهِ ﴿فَهم يُوزَعُونَ﴾ [ النَّمْلِ: ١٧، فُصِّلَتْ: ١٩ ] قالَ في الكَشّافِ: وحَقِيقَةُ أوْزِعْنِي: اجْعَلْنِي أزِعُ شُكْرَ نِعَمِكَ عِنْدِي وأكُفُّهُ وأرْتَبِطُهُ لا يَنْفَلِتُ عَنِّي حَتّى لا أنْفَكَّ شاكِرًا لَكَ. انْتَهى. قالَ الواحِدِيُّ: ( أوْزِعْنِي ) أيْ: ألْهِمْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أنْعَمْتَ عَلَيَّ، يُقالُ: فُلانٌ مُوزَعٌ بِكَذا أيْ: مُولَعٌ بِهِ. انْتَهى. قالَ القُرْطُبِيُّ: وأصْلُهُ مِن وزِعَ، فَكَأنَّهُ قالَ: كُفَّنِي عَمّا يُسْخِطُكَ انْتَهى. والمَفْعُولُ الثّانِي لِأوْزِعْنِي هو: أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أنْعَمْتَ عَلَيَّ. وقالَ الزَّجّاجُ: إنَّ مَعْنى أوْزِعْنِي: امْنَعْنِي أنْ أكْفُرَ نِعْمَتَكَ، وهو تَفْسِيرٌ بِاللّازِمِ، ومَعْنى ﴿وعَلى والِدَيَّ﴾ الدُّعاءُ مِنهُ بِأنْ يُوزِعَهُ اللَّهُ شُكْرَ نِعْمَتِهِ عَلى والِدَيْهِ كَما أوْزَعَهُ شُكْرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ، فَإنَّ الإنْعامَ عَلَيْهِما إنْعامٌ عَلَيْهِ، وذَلِكَ يَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَ مِنهُ لِلَّهِ - سُبْحانَهُ -، ثُمَّ طَلَبَ أنْ يُضِيفَ اللَّهُ لَهُ لَواحِقَ نِعَمِهِ إلى سَوابِقِها، ولا سِيَّما النِّعَمُ الدِّينِيَّةُ، فَقالَ: ﴿وأنْ أعْمَلَ صالِحًا تَرْضاهُ﴾ أيْ: عَمَلًا صالِحًا تَرْضاهُ مِنِّي، ثُمَّ دَعا أنْ يَجْعَلَهُ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - في الآخِرَةِ داخِلًا في زُمْرَةِ الصّالِحِينَ فَإنَّ ذَلِكَ هو الغايَةُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ الطَّلَبُ بِها، فَقالَ: ﴿وأدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ في عِبادِكَ الصّالِحِينَ﴾ والمَعْنى: أدْخِلْنِي في جُمْلَتِهِمْ، وأثْبِتِ اسْمِي في أسْمائِهِمْ، واحْشُرْنِي في زُمْرَتِهِمْ إلى دارِ الصّالِحِينَ وهي الجَنَّةُ، اللَّهُمَّ وإنِّي أدْعُوكَ بِما دَعاكَ بِهِ هَذا النَّبِيُّ الكَرِيمُ فَتَقَبَّلْ ذَلِكَ مِنِّي وتَفَضَّلْ عَلَيَّ بِهِ، فَإنِّي وإنْ كُنْتُ مُقَصِّرًا في العَمَلِ فَفَضْلُكَ هو سَبَبُ الفَوْزِ بِالخَيْرِ، فَهَذِهِ الآيَةُ مُنادِيَةٌ بِأعْلى صَوْتٍ وأوْضَحِ بَيانٍ بِأنَّ دُخُولَ الجَنَّةِ الَّتِي هي دارُ المُؤْمِنِينَ (p-١٠٧٦)بِالتَّفَضُّلِ مِنكَ لا بِالعَمَلِ مِنهم، كَما قالَ رَسُولُكَ الصّادِقُ فِيما ثَبَتَ عَنْهُ في الصَّحِيحِ «سَدِّدُوا وقارِبُوا واعْلَمُوا أنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ أحَدٌ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ، قالُوا: ولا أنْتَ يا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قالَ: ولا أنا إلّا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ» فَإذا لَمْ يَكُنْ إلّا تَفَضُّلُكَ الواسِعُ فَتَرْكُ طَلَبِهِ مِنكَ عَجْزٌ، والتَّفْرِيطُ في التَّوَسُّلِ إلَيْكَ بِالإيصالِ إلَيْهِ تَضْيِيعٌ. ثُمَّ شَرَعَ - سُبْحانَهُ - في ذِكْرِ قِصَّةِ بِلْقِيسَ وما جَرى بَيْنَها وبَيْنَ سُلَيْمانَ، وذَلِكَ بِدَلالَةِ الهُدْهُدِ، فَقالَ: ﴿وتَفَقَّدَ الطَّيْرَ﴾ التَّفَقُّدُ تَطَلُّبُ ما غابَ عَنْكَ، وتَعَرُّفُ أحْوالِهِ، والطَّيْرُ اسْمُ جِنْسٍ لِكُلِّ ما يَطِيرُ، والمَعْنى: أنَّهُ تَطَلَّبَ ما فَقَدَ مِنَ الطَّيْرِ وتَعَرَّفَ حالَ ما غابَ مِنها، وكانَتِ الطَّيْرُ تَصْحَبُهُ في سَفَرِهِ، وتُظِلُّهُ بِأجْنِحَتِها ﴿فَقالَ ما لِيَ لا أرى الهُدْهُدَ أمْ كانَ مِنَ الغائِبِينَ﴾ أيْ: ما لِلْهُدْهُدِ لا أراهُ ؟ فَهَذا الكَلامُ مِنَ الكَلامِ المَقْلُوبِ الَّذِي تَسْتَعْمِلُهُ العَرَبُ كَثِيرًا، وقِيلَ: لا حاجَةَ إلى ادِّعاءِ القَلْبِ، بَلْ هو اسْتِفْهامٌ عَنِ المانِعِ لَهُ مِن رُؤْيَةِ الهُدْهُدِ، كَأنَّهُ قالَ. مالِي لا أراهُ هَلْ ذَلِكَ لِساتِرٍ يَسْتُرُهُ عَنِّي، أوْ لِشَيْءٍ آخَرَ ؟ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ أنَّهُ غائِبٌ فَقالَ: ﴿أمْ كانَ مِنَ الغائِبِينَ﴾، و( أمْ ) هي المُنْقَطِعَةُ الَّتِي بِمَعْنى الإضْرابِ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وابْنُ مُحَيْصِنٍ وهِشامٌ وأيُّوبُ " ما لِيَ " بِفَتْحِ الياءِ، وكَذَلِكَ قَرَؤُوا في يس ﴿وما لِيَ لا أعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾ [يس: ٢٢] بِفَتْحِ الياءِ، وقَرَأ بِإسْكانِها في المَوْضِعَيْنِ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ ويَعْقُوبُ، وقَرَأ الباقُونَ بِفَتْحِ الَّتِي في ( يس ) وإسْكانِ الَّتِي هُنا. قالَ أبُو عَمْرٍو: لِأنَّ هَذِهِ الَّتِي هُنا اسْتِفْهامٌ، والَّتِي في ( يس ) نَفْيٌ، واخْتارَ أبُو حاتِمٍ وأبُو عُبَيْدٍ الإسْكانَ. ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذابًا شَدِيدًا أوْ لَأذْبَحَنَّهُ﴾ . اخْتَلَفُوا في هَذا العَذابِ الشَّدِيدِ ما هو ؟ فَقالَ مُجاهِدٌ وابْنُ جُرَيْجٍ: هو أنْ يَنْتِفَ رِيشَهُ جَمِيعًا. وقالَ يَزِيدُ بْنُ رُومانَ: هو أنْ يَنْتِفَ رِيشَ جَناحَيْهِ، وقِيلَ: هو أنْ يَحْبِسَهُ مَعَ أضْدادِهِ، وقِيلَ: أنْ يَمْنَعَهُ مِن خِدْمَتِهِ، وفي هَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّ العُقُوبَةَ عَلى قَدْرِ الذَّنْبِ لا عَلى قَدْرِ الجَسَدِ. وقَوْلُهُ: عَذابًا اسْمُ مَصْدَرٍ أوْ مَصْدَرٌ عَلى حَذْفِ الزَّوائِدِ كَقَوْلِهِ: ﴿أنْبَتَكم مِنَ الأرْضِ نَباتًا﴾ [نوح: ١٧]، ﴿أوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وحْدَهُ بِنُونِ التَّأْكِيدِ المُشَدَّدَةِ بَعْدَها نُونُ الوِقايَةِ، وقَرَأ الباقُونَ بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ فَقَطْ، وهي نُونُ التَّوْكِيدِ، وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ غَيْرِ مَوْصُولَةٍ بِالياءِ، والسُّلْطانُ المُبِينُ هو الحُجَّةُ البَيِّنَةُ في غَيْبَتِهِ. ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ أيِ: الهُدْهُدُ مَكَثَ زَمانًا غَيْرَ بَعِيدٍ. قَرَأ الجُمْهُورُ " مَكُثَ " بِضَمِّ الكافِ، وقَرَأ عاصِمٌ وحْدَهُ بِفَتْحِها، ومَعْناهُ في القِراءَتَيْنِ: أقامَ زَمانًا غَيْرَ بَعِيدٍ. قالَ سِيبَوَيْهِ: مَكَثَ يَمْكُثُ مُكُوثًا كَقَعَدَ يَقْعُدُ قُعُودًا. وقِيلَ: إنَّ الضَّمِيرَ في مَكَثَ لِسُلَيْمانَ. والمَعْنى: بَقِيَ سُلَيْمانُ بَعْدَ التَّفَقُّدِ والتَّوَعُّدِ زَمانًا غَيْرَ طَوِيلٍ، والأوَّلُ أوْلى. ﴿فَقالَ أحَطتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ أيْ: عَلِمْتُ ما لَمْ تَعْلَمْهُ مِنَ الأمْرِ، والإحاطَةُ العِلْمُ بِالشَّيْءِ مِن جَمِيعِ جِهاتِهِ، ولَعَلَّ في الكَلامِ حَذْفًا، والتَّقْدِيرُ: فَمَكَثَ الهُدْهُدُ غَيْرَ بَعِيدٍ فَجاءَ فَعُوتِبَ عَلى مَغِيبِهِ، فَقالَ مُعْتَذِرًا عَنْ ذَلِكَ ﴿أحَطتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ . قالَ الفَرّاءُ: ويَجُوزُ إدْغامُ التّاءَ في الطّاءِ، فَيُقالُ: أحَطُّ، وإدْغامُ الطّاءِ في التّاءِ فَيُقالُ: أحَتُّ ﴿وجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ ﴿مِن سَبَإٍ﴾ بِالصَّرْفِ عَلى أنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ، نُسِبَ إلَيْهِ قَوْمٌ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎الوارِدُونَ وتَيْمٌ في ذُرى سَبَأٍ ∗∗∗ قَدْ غَضَّ أعْناقَهم جِلْدُ الجَوامِيسِ وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وتَرْكِ الصَّرْفِ عَلى أنَّهُ اسْمُ مَدِينَةٍ، وأنْكَرَ الزَّجّاجُ أنْ يَكُونَ اسْمَ رَجُلٍ وقالَ: سَبَأٌ اسْمُ مَدِينَةٍ تُعْرَفُ بِمَأْرِبِ اليَمَنِ بَيْنَهُما وبَيْنَ صَنْعاءَ ثَلاثَةُ أيّامٍ. وقِيلَ: هو اسْمُ امْرَأةٍ سُمِّيَتْ بِها المَدِينَةُ. قالَ القُرْطُبِيُّ: والصَّحِيحُ أنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ كَما في كِتابِ التِّرْمِذِيِّ مِن حَدِيثِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ المُرادِيِّ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وخَفِيَ هَذا عَلى الزَّجّاجِ فَخَبِطَ خَبْطَ عَشْواءَ. وزَعَمَ الفَرّاءُ أنَّ الرُّؤاسِيَّ سَألَ أبا عَمْرِو بْنَ العَلاءِ عَنْ سَبَأٍ فَقالَ: ما أدْرِي ما هو ؟ قالَ النَّحّاسُ: وأبُو عَمْرٍو أجَلَّ مِن أنْ يَقُولَ هَذا، قالَ: والقَوْلُ في سَبَأٍ ما جاءَ التَّوْقِيفُ فِيهِ أنَّهُ في الأصْلِ اسْمُ رَجُلٍ، فَإنْ صَرَفْتَهُ فَلِأنَّهُ قَدْ صارَ اسْمًا لِلْحَيِّ، وإنْ لَمْ تَصْرِفْهُ جَعَلْتَهُ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ مِثْلَ ثَمُودَ، إلّا أنَّ الِاخْتِيارَ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ الصَّرْفُ. انْتَهى. وأقُولُ: لا شَكَّ أنَّ سَبَأً اسْمٌ لِمَدِينَةٍ بِاليَمَنِ كانَتْ فِيها بِلْقِيسُ، وهو أيْضًا اسْمُ رَجُلٍ مِن قَحْطانَ، وهو سَبَأُ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطانَ بْنِ هُودٍ، ولَكِنَّ المُرادَ هُنا أنَّ الهُدْهُدَ جاءَ إلى سُلَيْمانَ بِخَبَرِ ما عايَنَهُ في مَدِينَةِ سَبَأٍ مِمّا وصَفَهُ وسَيَأْتِي في آخِرِ هَذا البَحْثِ مِنَ المَأْثُورِ ما يُوَضِّحُ هَذا ويُؤَيِّدُهُ، ومَعْنى الآيَةِ أنَّ الهُدْهُدَ جاءَ سُلَيْمانَ مِن هَذِهِ المَدِينَةِ بِخَبَرٍ يَقِينٍ، والنَّبَأُ هو الخَبَرُ الخَطِيرُ الشَّأْنِ، فَلَمّا قالَ الهُدْهُدَ لِسُلَيْمانَ ما قالَ، قالَ لَهُ سُلَيْمانُ: وما ذاكَ ؟ . فَقالَ: ﴿إنِّي وجَدْتُ امْرَأةً تَمْلِكُهم﴾ وهي بِلْقِيسُ بِنْتُ شُرَحْبِيلَ، وجَدَها الهُدْهُدُ تَمْلِكُ أهْلَ سَبَأٍ، والجُمْلَةُ هَذِهِ كالبَيانِ، والتَّفْسِيرُ لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها أيْ: ذَلِكَ النَّبَأُ اليَقِينُ هو كَوْنُ هَذِهِ المَرْأةِ تَمْلُكُ هَؤُلاءِ ﴿وأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ فِيهِ مُبالَغَةٌ، والمُرادُ أنَّها أُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ الَّتِي تَحْتاجُها، وقِيلَ: المَعْنى: أُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ في زَمانِها شَيْئًا، فَحَذَفَ شَيْئًا لِأنَّ الكَلامَ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ ﴿ولَها عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ أيْ: سَرِيرٌ عَظِيمٌ، ووَصَفَهُ بِالعِظَمِ لِأنَّهُ كَما قِيلَ: كانَ مِن ذَهَبٍ طُولُهُ ثَمانُونَ ذِراعًا وعَرْضُهُ أرْبَعُونَ ذِراعًا وارْتِفاعُهُ في السَّماءِ ثَلاثُونَ ذِراعًا مُكَلَّلٍ بِالدُّرِّ والياقُوتِ الأحْمَرِ والزَّبَرْجَدِ الأخْضَرِ. وقِيلَ: المُرادُ بِالعَرْشِ هُنا المُلْكُ، والأوَّلُ أوْلى لِقَوْلِهِ: ﴿أيُّكم يَأْتِينِي بِعَرْشِها﴾ قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: واللّازِمُ مِنَ الآيَةِ أنَّها امْرَأةٌ مَلِكَةٌ عَلى مَدائِنِ اليَمَنِ ذاتُ مُلْكٍ (p-١٠٧٧)عَظِيمٍ وسَرِيرٍ عَظِيمٍ، وكانَتْ كافِرَةً مِن قَوْمٍ كُفّارٍ. ﴿وجَدْتُها وقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ أيْ: يَعْبُدُونَها مُتَجاوِزِينَ عِبادَةَ اللَّهِ - سُبْحانَهُ، قِيلَ: كانُوا مَجُوسًا، وقِيلَ: زَنادِقَةً ﴿وزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أعْمالَهُمْ﴾ الَّتِي يَعْمَلُونَها، وهي عِبادَةُ الشَّمْسِ وسائِرُ أعْمالِ الكُفْرِ ﴿فَصَدَّهم عَنِ السَّبِيلِ﴾ أيْ: صَدَّهُمُ الشَّيْطانُ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّزْيِينِ عَنِ الطَّرِيقِ الواضِحِ، وهو الإيمانُ بِاللَّهِ وتَوْحِيدُهُ ﴿فَهم لا يَهْتَدُونَ﴾ إلى ذَلِكَ. ﴿ألّا يَسْجُدُوا﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ بِتَشْدِيدِ " ألّا " . قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: الوَقْفُ عَلى " ﴿فَهم لا يَهْتَدُونَ﴾ " غَيْرُ تامٍّ عِنْدَ مَن شَدَّدَ ( ألّا )، لِأنَّ المَعْنى: وزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ألّا يَسْجُدُوا. قالَ النَّحّاسُ: هي ( أنْ ) دَخَلَتْ عَلَيْها ( لا )، وهي في مَوْضِعِ نَصْبٍ. قالَ الأخْفَشُ أيْ: زَيَّنَ لَهم أنْ لا يَسْجُدُوا لِلَّهِ بِمَعْنى لِئَلّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ. وقالَ الكِسائِيُّ: هي في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِـ " صَدَّهم " أيْ: فَصَدَّهم ألا يَسْجُدُوا بِمَعْنى لِئَلّا يَسْجُدُوا، فَهو عَلى الوَجْهَيْنِ مَفْعُولٌ لَهُ. وقالَ اليَزِيدِيُّ: إنَّهُ بَدَلٌ مِن " أعْمالَهم " في مَوْضِعِ نَصْبٍ. وقالَ أبُو عَمْرٍو: في مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلى البَدَلِ مِنَ السَّبِيلِ. وقِيلَ: العامِلُ فِيها لا يَهْتَدُونَ أيْ: فَهم لا يَهْتَدُونَ أنْ يَسْجُدُوا لِلَّهِ، وتَكُونُ لا عَلى هَذا زائِدَةً كَقَوْلِهِ: ﴿ما مَنَعَكَ ألّا تَسْجُدَ﴾ [الأعراف: ١٢] وعَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ لَيْسَتْ هَذِهِ الآيَةُ مَوْضِعَ سَجْدَةٍ، لِأنَّ ذَلِكَ إخْبارٌ عَنْهم بِتَرْكِ السُّجُودِ إمّا بِالتَّزْيِينِ، أوْ بِالصَّدِّ، أوْ بِمَنعِ الِاهْتِداءِ، وقَدْ رَجَّحَ كَوْنَهُ عِلَّةً لِلصَّدِّ الزَّجّاجُ، ورَجَّحَ الفَرّاءُ كَوْنَهُ عِلَّةً لِزَيَّنَ، قالَ: زَيَّنَ لَهم أعْمالَهم لِئَلّا يَسْجُدُوا، ثُمَّ حُذِفَتِ اللّامُ. وقَرَأ الزُّهْرِيُّ والكِسائِيُّ بِتَخْفِيفِ " ألّا " . قالَ الكِسائِيُّ: ما كُنْتُ أسْمَعُ الأشْياخَ يَقْرَءُونَها إلّا بِالتَّخْفِيفِ عَلى نِيَّةِ الأمْرِ، فَتَكُونُ " ألا " عَلى هَذِهِ القِراءَةِ حَرْفَ تَنْبِيهٍ واسْتِفْتاحٍ وما بَعْدَها حَرْفَ نِداءٍ، و( اسْجُدُوا ) فِعْلَ أمْرٍ، وكانَ حَقُّ الخَطِّ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ أنْ يَكُونَ هَكَذا ألا يا اسْجُدُوا، ولَكِنَّ الصَّحابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - أسْقَطُوا الألِفَ مِن يا، وهَمْزَةَ الوَصْلِ مِنِ ( اسْجُدُوا ) خَطَأً ووَصَلُوا الياءَ بِسِينِ اسْجُدُوا، فَصارَتْ صُورَةُ الخَطِّ ( ألا يَسْجُدُوا )، والمُنادى مَحْذُوفٌ، وتَقْدِيرُهُ: ألا يا هَؤُلاءِ اسْجُدُوا، وقَدْ حَذَفَتِ العَرَبُ المُنادى كَثِيرًا في كَلامِها، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎ألا يا اسْلِمِي يا دارَ مَيٍّ عَلى البِلى ∗∗∗ ولا زالَ مُنْهَلًّا بِجَرْعائِكِ القَطْرُ وقَوْلُ الآخَرِ: ؎ألا يا اسْلِمِي ثَمَّتَ اسْلِمِي ثمَّتَ اسْلِمِي ∗∗∗ ثَلاثَ تَحِيّاتٍ وإنْ لَمْ تُكَلِّمِ وقَوْلُ الآخَرِ أيْضًا: ؎ألا يا اسْلِمِي يا هِنْدُ هِنْدُ بَنِي بَكْرٍ وهُوَ كَثِيرٌ في أشْعارِهِمْ. قالَ الزَّجّاجُ: وقِراءَةُ التَّخْفِيفِ تَقْتَضِي وُجُوبَ السُّجُودِ دُونَ قِراءَةِ التَّشْدِيدِ، واخْتارَ أبُو حاتِمٍ وأبُو عُبَيْدٍ قِراءَةَ التَّشْدِيدِ. قالَ الزَّجّاجُ: ولِقِراءَةِ التَّخْفِيفِ وجْهٌ حَسَنٌ إلّا أنَّ فِيها انْقِطاعُ الخَبَرِ عَنْ أمْرِ سَبَأٍ ثُمَّ الرُّجُوعُ بَعْدَ ذَلِكَ إلى ذِكْرِهِمْ. والقِراءَةُ بِالتَّشْدِيدِ خَبَرٌ يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا لا انْقِطاعَ في وسَطِهِ، وكَذا قالَ النَّحّاسُ، وعَلى هَذِهِ القِراءَةِ تَكُونُ جُمْلَةُ ﴿ألّا يَسْجُدُوا﴾ مُعْتَرِضَةً مِن كَلامِ الهُدْهُدِ، أوْ مِن كَلامِ سُلَيْمانَ، أوْ مِن كَلامِ اللَّهِ - سُبْحانَهُ - . وفِي هَذِهِ قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ " هَلْ لا تَسْجُدُوا " بِالفَوْقِيَّةِ، وفي قِراءَةِ أُبَيٍّ " ألّا تَسْجُدُوا " بِالفَوْقِيَّةِ أيْضًا. ﴿الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ أيْ: يُظْهِرُ ما هو مَخْبُوءٌ ومَخْفِيٌّ فِيهِما، يُقالُ: خَبَأْتُ الشَّيْءَ أخْبَؤُهُ خَبْأً، والخَبْءُ ما خَبَّأْتَهُ. قالَ الزَّجّاجُ: جاءَ في التَّفْسِيرِ أنَّ الخَبْءَ هاهُنا بِمَعْنى القَطْرِ مِنَ السَّماءِ والنَّباتِ مِنَ الأرْضِ. وقِيلَ: خَبْءُ الأرْضِ كُنُوزُها ونَباتُها. وقالَ قَتادَةُ: الخَبْءُ السِّرُّ. قالَ النَّحّاسُ: أيْ ما غابَ في السَّماواتِ والأرْضِ. وقَرَأ أُبَيٌّ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ " الخَبَ " بِفَتْحِ الباءِ مِن غَيْرِ هَمْزٍ تَخْفِيفًا، وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ وعِكْرِمَةُ ومالِكُ بْنُ دِينارٍ " الخَبا " بِالألْفِ قالَ أبُو حاتِمٍ: وهَذا لا يَجُوزُ في العَرَبِيَّةِ. ورُدَّ عَلَيْهِ بِأنَّ سِيبَوَيْهِ حَكى عَنِ العَرَبِ أنَّ الألِفَ تُبَدَّلُ مِنَ الهَمْزَةِ إذا كانَ قَبْلَها ساكِنٌ. وفي قِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ " يُخْرِجُ الخَبَ مِنَ السَّماواتِ والأرْضِ " . قالَ الفَرّاءُ: و( مِن ) و( في ) يَتَعاقَبانِ، والمَوْصُولُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ في مَحَلِّ جَرٍّ نَعْتًا لِلَّهِ - سُبْحانَهُ - أوْ بَدَلًا مِنهُ، أوْ بَيانًا لَهُ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى المَدْحِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في مَحَلِّ رَفْعٍ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وجُمْلَةُ ﴿ويَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وما تُعْلِنُونَ﴾ مَعْطُوفَةٌ عَلى ( يُخْرِجُ )، قَرَأ الجُمْهُورُ بِالتَّحْتِيَّةِ في الفِعْلَيْنِ، وقَرَأ الجَحْدَرَيُّ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ وحَفْصٌ والكِسائِيُّ بِالفَوْقِيَّةِ لِلْخِطابِ، أمّا القِراءَةُ الأُولى فَلِكَوْنِ الضَّمائِرِ المُتَقَدِّمَةِ ضَمائِرَ غَيْبَةٍ، وأمّا القِراءَةُ الثّانِيَةُ فَلِكَوْنِ قِراءَةِ الزُّهْرِيِّ والكِسائِيِّ فِيها الأمْرُ بِالسُّجُودِ والخِطابُ لَهم بِذَلِكَ، فَهَذا عِنْدَهم مِن تَمامِ ذَلِكَ الخِطابِ. والمَعْنى: أنَّ اللَّهَ - سُبْحانَهُ - يُخْرِجُ ما في هَذا العالَمِ الإنْسانِيِّ مِنَ الخَفاءِ بِعِلْمِهِ لَهُ كَما يُخْرِجُ ما خَفِيَ في السَّماواتِ والأرْضِ، ثُمَّ بَعْدَ ما وصَفَ الرَّبَّ - سُبْحانَهُ - بِما تَقَدَّمَ مِمّا يَدُلُّ عَلى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وجَلِيلِ سُلْطانِهِ ووُجُوبِ تَوْحِيدِهِ وتَخْصِيصِهِ بِالعِبادَةِ، قالَ: ﴿اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ ( العَظِيمِ ) بِالجَرِّ نَعَتًا لِلْعَرْشِ، وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ بِالرَّفْعِ نَعَتًا لِلرَّبِّ، وخُصَّ العَرْشُ بِالذِّكْرِ؛ لِأنَّهُ أعْظَمُ المَخْلُوقاتِ كَما ثَبَتَ ذَلِكَ في المَرْفُوعِ إلى رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - . وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ أنَّهُ كَتَبَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْعِمْ عَلى عَبْدٍ نِعْمَةً فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَيْها إلّا كانَ حَمْدُهُ أفْضَلُ مِن نِعْمَتِهِ لَوْ كُنْتَ لا تَعْرِفُ ذَلِكَ إلّا في كِتابِ اللَّهِ المُنَزَّلِ قالَ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وسُلَيْمانَ عِلْمًا وقالا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلْنا عَلى كَثِيرٍ مِن عِبادِهِ المُؤْمِنِينَ﴾ وأيُّ نِعْمَةٍ أفْضَلُ مِمّا أُعْطِي داوُدُ وسُلَيْمانُ. أقُولُ: لَيْسَ في الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى ما فَهِمَهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - والَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّهُما حَمِدا اللَّهَ - سُبْحانَهُ - عَلى ما فَضَّلَهُما بِهِ مِنَ النِّعَمِ، فَمِن أيْنَ تَدُلُّ عَلى أنَّ حَمْدَهُ أفْضَلُ مِن نِعْمَتِهِ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿ووَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ﴾ قالَ: وِرْثُهُ نَبُّوَّتُهُ ومُلْكُهُ وعِلْمُهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وأحْمَدُ في الزُّهْدِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ أبِي الصِّدِّيقِ النّاجِي قالَ: خَرَجَ سُلَيْمانُ بْنُ داوُدَ (p-١٠٧٨)يَسْتَسْقِي بِالنّاسِ، فَمَرَّ عَلى نَمْلَةٍ مُسْتَلْقِيَةٍ عَلى قَفاها رافِعَةٍ قَوائِمَها إلى السَّماءِ وهي تَقُولُ: اللَّهُمَّ إنّا خَلْقٌ مِن خَلْقِكَ لَيْسَ بِنا غِنًى عَنْ رِزْقِكَ، فَإمّا أنْ تَسْقِيَنا وإمّا أنْ تُهْلِكَنا، فَقالَ سُلَيْمانُ لِلنّاسِ: ارْجِعُوا فَقَدْ سُقِيتُمْ بِدَعْوَةِ غَيْرِكم. وأخْرَجَ الحاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ قالَ: أُعْطِيَ سُلَيْمانُ مُلْكَ مَشارِقِ الأرْضِ ومَغارِبِها، فَمَلَكَ سُلَيْمانُ سَبْعَمِائَةِ سَنَةٍ وسِتَّةَ أشْهُرٍ، مَلَكَ أهْلَ الدُّنْيا كُلَّهم مِنَ الجِنِّ والإنْسِ والدَّوابِّ والطَّيْرِ والسِّباعِ، وأُعْطِيَ كُلَّ شَيْءٍ، ومَنطِقَ كُلِّ شَيْءٍ، وفي زَمانِهِ صُنِعَتِ الصَّنائِعُ المُعْجِبَةُ، حَتّى إذا أرادَ اللَّهُ أنْ يَقْبِضَهُ إلَيْهِ أُوحِيَ إلَيْهِ أنْ يَسْتَوْدِعَ عِلْمَ اللَّهِ وحِكْمَتَهُ أخاهُ، ووَلَدُ داوُدَ كانُوا أرْبَعَمِائَةٍ وثَمانِينَ رَجُلًا أنْبِياءً بِلا رِسالَةٍ. قالَ الذَّهَبِيُّ: هَذا باطِلٌ، وقَدْ رُوِيَتْ قِصَصٌ في عِظَمِ مُلْكِ سُلَيْمانَ لا تَطِيبُ النَّفْسُ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنها، فالإمْساكُ عَنْ ذِكْرِها أوْلى. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿فَهم يُوزَعُونَ﴾ قالَ يُدْفَعُونَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿فَهم يُوزَعُونَ﴾ قالَ: جُعِلَ لِكُلِّ صِنْفٍ وزَعَةٌ تُرَدُّ أُولاها عَلى أُخْراها لِئَلّا تَتَقَدَّمَهُ في السَّيْرِ كَما تَصْنَعُ المُلُوكُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿أوْزِعْنِي﴾ قالَ: ألْهِمْنِي. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الحَسَنِ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ مِن طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ سُئِلَ كَيْفَ تَفَقَّدَ سُلَيْمانُ الهُدْهُدَ مِن بَيْنِ الطَّيْرِ ؟ قالَ: إنَّ سُلَيْمانَ نَزَلَ مَنزِلًا فَلَمْ يَدْرِ ما بَعْدَ الماءِ، وكانَ الهُدْهُدُ يَدُلُّ سُلَيْمانَ عَلى الماءِ، فَأرادَ أنْ يَسْألَهُ عَنْهُ فَفَقَدَهُ، قِيلَ: كَيْفَ ذاكَ والهُدْهُدُ يُنْصَبُ لَهُ الفَخُّ يُلْقى عَلَيْهِ التُّرابُ ويَضَعُ لَهُ الصَّبِيُّ الحِبالَةَ فَيُغَيِّبُها فَيَصِيدُهُ ؟ فَقالَ: إذا جاءَ القَضاءُ ذَهَبَ البَصَرُ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ والفِرْيابِيُّ وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذابًا شَدِيدًا﴾ قالَ: أنْتِفُ رِيشَهُ كُلَّهُ، ورُوِيَ نَحْوَ هَذا عَنْ جَماعَةٍ مِنَ التّابِعِينَ، ورَوى ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الحَسَنِ قالَ: كانَ اسْمُ هُدْهُدِ سُلَيْمانَ غَبَرَ. وأقُولُ: مِن أيْنَ جاءَ عِلْمُ هَذا لِلْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وهَكَذا ما رَواهُ عَنْهُ ابْنُ عَساكِرَ: أنَّ اسْمَ النَّمْلَةِ حَرَسُ، وأنَّها مِن قَبِيلَةٍ يُقالُ: لَها بَنُو الشَّيْطانِ، وأنَّها كانَتْ عَرْجاءَ، وكانَتْ بِقَدْرِ الذِّئْبِ، وهو - رَحِمَهُ اللَّهُ - أوْرَعُ النّاسِ عَنْ نَقْلِ الكَذِبِ، ونَحْنُ نَعْلَمُ أنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - في ذَلِكَ شَيْءٌ، ونَعْلَمُ أنَّهُ لَيْسَ لِلْحَسَنِ إسْنادٌ مُتَّصِلٌ بِسُلَيْمانَ أوْ بِأحَدٍ مِن أصْحابِهِ، فَهَذا العِلْمُ مَأْخُوذٌ مِن أهْلِ الكِتابِ، وقَدْ أُمِرْنا " «أنْ لا نُصَدِّقَهم ولا نُكَذِّبَهم "»، فَإنْ تَرَخَّصَ مُتَرَخِّصٌ بِالرِّوايَةِ عَنْهم لِمِثْلِ ما رُوِيَ: «حَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرائِيلَ ولا حَرَجَ» فَلَيْسَ ذَلِكَ فِيما يَتَعَلَّقُ بِتَفْسِيرِ كِتابِ اللَّهِ - سُبْحانَهُ - بِلا شَكٍّ، بَلْ فِيما عَنْهم مِنَ القِصَصِ الواقِعَةِ لَهم. وقَدْ كَرَّرْنا التَّنْبِيهَ عَلى مِثْلِ هَذا عِنْدَ عُرُوضِ ذِكْرِ التَّفاسِيرِ الغَرِيبَةِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿أوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ قالَ: خَبَرُ الحَقِّ الصِّدْقُ البَيِّنُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قالَ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ كُلُّ سُلْطانٍ في القُرْآنِ حُجَّةٌ وذَكَرَ هَذِهِ الآيَةَ، ثُمَّ قالَ: وأيُّ سُلْطانٍ كانَ لِلْهُدْهُدِ ؟ يَعْنِي أنَّ المُرادَ بِالسُّلْطانِ الحُجَّةُ لا السُّلْطانُ الَّذِي هو المُلْكُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿أحَطتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾ قالَ: اطَّلَعَتْ عَلى ما لَمْ تَطَّلِعْ عَلَيْهِ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْهُ أيْضًا ﴿وجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ﴾ قالَ: سَبَأٌ بِأرْضِ اليَمَنِ، يُقالُ لَها مَأْرِبُ بَيْنَها وبَيْنَ صَنْعاءَ مَسِيرَةُ ثَلاثِ لَيالٍ ﴿بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ قالَ: بِخَبَرٍ حَقٍّ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْهُ أيْضًا ﴿إنِّي وجَدْتُ امْرَأةً تَمْلِكُهُمْ﴾ قالَ: كانَ اسْمُها بِلْقِيسَ بِنْتَ ذِي شِيرَةَ، وكانَتْ صَلْباءَ شَعْراءَ. ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ وقَتادَةَ وزُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أنَّها بِلْقِيسُ بِنْتُ شَراحِيلَ، وعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِنْتُ ذِي شَرْحٍ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وأبُو الشَّيْخِ في العَظَمَةِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ وابْنُ عَساكِرَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «إحْدى أبَوَيْ بِلْقِيسَ كانَ جِنِّيًّا» . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ولَها عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ قالَ: سَرِيرٌ كَرِيمٌ مِن ذَهَبٍ وقَوائِمُهُ مِن جَوْهَرٍ ولُؤْلُؤٍ حَسَنُ الصَّنْعَةِ غالِي الثَّمَنِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿يُخْرِجُ الخَبْءَ﴾ قالَ: يَعْلَمُ كُلَّ خَبِيئَةٍ في السَّماءِ والأرْضِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب