الباحث القرآني

لَمّا سَمِعَ فِرْعَوْنُ قَوْلَ مُوسى وهارُونَ ﴿إنّا رَسُولُ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الشعراء: ١٦] قالَ مُسْتَفْسِرًا لَهُما عَنْ ذَلِكَ عازِمًا عَلى الِاعْتِراضِ لِما قالاهُ فَقالَ: ﴿وما رَبُّ العالَمِينَ﴾ أيْ: أيُّ شَيْءٍ هو ؟ جاءَ في الِاسْتِفْهامِ بِما الَّتِي يُسْتَفْهَمُ بِها عَنِ المَجْهُولِ ويُطْلَبُ بِها تَعْيِينُ الجِنْسِ. فَلَمّا قالَ فِرْعَوْنُ ذَلِكَ قالَ مُوسى ﴿رَبُّ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما﴾ فَعَيَّنَ لَهُ ما أرادَ بِالعالَمِينَ، وتَرَكَ جَوابَ ما سَألَ عَنْهُ فِرْعَوْنُ؛ لِأنَّهُ سَألَهُ عَنْ جِنْسِ رَبِّ العالَمِينَ ولا جِنْسَ لَهُ، فَأجابَهُ مُوسى بِما يَدُلُّ عَلى عَظِيمِ القُدْرَةِ الإلَهِيَّةِ الَّتِي تَتَّضِحُ لِكُلِّ سامِعٍ أنَّهُ - سُبْحانَهُ - الرَّبُّ ولا رَبَّ غَيْرُهُ ﴿إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ أيْ: إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بِشَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ فَهَذا أوْلى بِالإيقانِ. قالَ فِرْعَوْنُ ﴿لِمَن حَوْلَهُ ألا تَسْتَمِعُونَ﴾ أيْ: لِمَن حَوْلَهُ مِنَ الأشْرافِ ألا تَسْتَمِعُونَ ما قالَهُ، يَعْنِي مُوسى مُعَجِّبًا لَهم مِن ضَعْفِ المَقالَةِ كَأنَّهُ قالَ: أتَسْمَعُونَ، وتَعْجَبُونَ، وهَذا مِنَ اللَّعِينِ مُغالَطَةٌ، لَمّا لَمْ يَجِدْ جَوابًا عَنِ الحُجَّةِ الَّتِي أوْرَدَها عَلَيْهِ مُوسى، فَلَمّا سَمِعَ مُوسى ما قالَ فِرْعَوْنُ، أوْرَدَ عَلَيْهِ حَجَّةً أُخْرى هي مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ الحُجَّةِ الأُولى ولَكِنَّها أقْرَبُ إلى فَهْمِ السّامِعِينَ لَهُ فَ ﴿قالَ رَبُّكم ورَبُ آبائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾ فَأوْضَحَ لَهم أنَّ فِرْعَوْنَ مَرْبُوبٌ لا رَبٌّ كَما يَدَّعِيهِ، والمَعْنى: أنَّ هَذا الرَّبَّ الَّذِي أدْعُوكم إلَيْهِ هو الَّذِي خَلَقَ آباءَكُمُ الأوَّلِينَ وخَلَقَكم، فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ مَن هو واحِدٌ مِنكم مَخْلُوقٌ كَخَلْقِكم ولَهُ آباءٌ قَدْ فَنَوْا كَآبائِكم، فَلَمْ يُجِبْهُ فِرْعَوْنُ عِنْدَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ، بَلْ جاءَ بِما يُشَكِّكُ قَوْمَهُ ويُخَيِّلُ إلَيْهِمْ أنَّ هَذا الَّذِي قالَهُ مُوسى مِمّا لا يَقُولُهُ العُقَلاءُ فَ ﴿قالَ إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكم لَمَجْنُونٌ﴾ قاصِدًا بِذَلِكَ المُغالَطَةَ وإيقاعَهم في الحَيْرَةِ، مُظْهِرًا أنَّهُ مُسْتَخِفٌّ بِما قالَهُ مُوسى مُسْتَهْزِئٌ بِهِ، فَأجابَهُ مُوسى عِنْدَ ذَلِكَ بِما هو تَكْمِيلٌ لِجَوابِهِ الأوَّلِ فَ ﴿قالَ رَبُّ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ وما بَيْنَهُما﴾ ولَمْ يَشْتَغِلْ مُوسى بِدَفْعِ ما نَسَبَهُ إلَيْهِ مِنَ الجُنُونِ، بَلْ بَيَّنَ لِفِرْعَوْنَ شُمُولَ رُبُوبِيَّةِ اللَّهِ - سُبْحانَهُ - لِلْمَشْرِقِ والمَغْرِبِ وما بَيْنَهُما وإنْ كانَ ذَلِكَ داخِلًا تَحْتَ رُبُوبِيَّتِهِ - سُبْحانَهُ - لِلسَّمَواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما، لَكِنْ في تَصْرِيحٍ بِإسْنادِ حَرَكاتِ السَّماواتِ وما فِيها، وتَغْيِيرِ أحْوالِها وأوْضاعِها، تارَةً بِالنُّورِ وتارَةً بِالظُّلْمَةِ إلى اللَّهِ - سُبْحانَهُ -، وتَثْنِيَةِ الضَّمِيرِ في وما بَيْنَهُما الأوَّلُ لِجِنْسَيِ السَّماواتِ والأرْضِ كَما في قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎تَنَقَّلْتُ في أشْرَفِ التَّنَقُّلِ بَيْنَ رِماحَيْ نَهْشَلٍ ومالِكٍ ﴿إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أيْ: شَيْئًا مِنَ الأشْياءِ، أوْ إنْ كُنْتُمْ مِن أهْلِ العَقْلِ أيْ: إنْ كُنْتَ يا فِرْعَوْنُ ومِن مَعَكَ مِنَ العُقَلاءِ عَرَفْتَ وعَرَفُوا أنَّهُ لا جَوابَ لِسُؤالِكَ إلّا ما ذَكَرْتُ لَكَ. ثُمَّ إنَّ اللَّعِينَ لَمّا انْقَطَعَ عَنِ الحُجَّةِ رَجَعَ إلى الِاسْتِعْلاءِ والتَّغَلُّبِ، فَ ﴿قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لَأجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ﴾ أيْ: لَأجْعَلَنَّكَ مِن أهْلِ السِّجْنِ، وكانَ سِجْنُ فِرْعَوْنَ أشَدَّ مِنَ القَتْلِ لِأنَّهُ إذا سَجَنَ أحَدًا لَمْ يُخْرِجْهُ حَتّى يَمُوتَ، فَلَمّا سَمِعَ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ذَلِكَ لاطَفَهُ طَمَعًا في إجابَتِهِ وإرْخاءً لِعِنانِ المُناظَرَةِ مَعَهُ، مُرِيدًا لِقَهْرِهِ بِالحُجَّةِ المُعْتَبَرَةِ في بابِ النُّبُوَّةِ، وهي إظْهارُ المُعْجِزَةِ، فَعَرَضَ لَهُ عَلى وجْهٍ يُلْجِئُهُ إلى طَلَبِ المُعْجِزَةِ، فَ ﴿قالَ أوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ﴾ أيْ: أتَجْعَلُنِي مِنَ المَسْجُونِينَ ولَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ يَتَبَيَّنُ بِهِ صِدْقِي ويَظْهَرُ عِنْدَهُ صِحَّةُ دَعْوايَ، والهَمْزَةُ هُنا لِلِاسْتِفْهامِ، والواوُ لِلْعَطْفِ عَلى مُقَدَّرٍ كَما مَرَّ مِرارًا، فَلَمّا سَمِعَ فِرْعَوْنُ ذَلِكَ طَلَبَ ما عَرَضَهُ عَلَيْهِ مُوسى فَ ﴿قالَ فَأْتِ بِهِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ في دَعْواكَ، وهَذا الشَّرْطُ جَوابُهُ مَحْذُوفٌ، لِأنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ أبْرَزَ مُوسى المُعْجِزَةَ. ﴿فَألْقى عَصاهُ فَإذا هي ثُعْبانٌ مُبِينٌ﴾ وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذا وما بَعْدَهُ في سُورَةِ الأعْرافِ، واشْتِقاقُ الثُّعْبانِ مِن ثَعَبْتُ الماءَ في الأرْضِ فانْثَعَبَ، أيْ: فَجَّرْتُهُ فانْفَجَرَ، وقَدْ عَبَّرَ - سُبْحانَهُ - في مَوْضِعٍ آخَرَ مَكانَ الثُّعْبانِ بِالحَيَّةِ بِقَوْلِهِ: (p-١٠٥٦)﴿فَإذا هي حَيَّةٌ تَسْعى﴾ [طه: ٢١] وفي مَوْضِعٍ بِالجانِّ، فَقالَ: ﴿كَأنَّها جانٌّ﴾ [ القَصَصِ: ٣١، النَّمْلِ: ١٠ ] والجانُّ هو المائِلُ إلى الصِّغَرِ، والثُّعْبانُ هو المائِلُ إلى الكِبَرِ، والحَيَّةُ جِنْسٌ يَشْمَلُ الكَبِيرَ والصَّغِيرَ، ومَعْنى ﴿فَماذا تَأْمُرُونَ﴾ ما رَأْيُكم فِيهِ وما مَشُورَتُكم في مِثْلِهِ ؟ فَأظْهَرَ لَهُمُ المَيْلَ إلى ما يَقُولُونَهُ تَأْلُّفًا لَهم واسْتِجْلابًا لِمَوَدَّتِهِمْ، لِأنَّهُ قَدْ أشْرَفَ ما كانَ فِيهِ مِن دَعْوى الرُّبُوبِيَّةِ عَلى الزَّوالِ، وقارَبَ ما كانَ يُغَرِّرُ بِهِ عَلَيْهِمُ الِاضْمِحْلالَ، وإلّا، فَهو أكْبَرُ تِيهًا وأعْظَمُ كِبْرًا مِن أنْ يُخاطِبَهم مِثْلَ هَذِهِ المُخاطَبَةِ المُشْعِرَةِ بِأنَّهُ فَرْدٌ مِن أفْرادِهِمْ وواحِدٌ مِنهم، مَعَ كَوْنِهِ قَبْلَ هَذا الوَقْتِ يَدَّعِي أنَّهُ إلَهُهم ويُذْعِنُونَ لَهُ بِذَلِكَ ويُصَدِّقُونَهُ في دَعْواهُ. ومَعْنى ﴿أرْجِهْ وأخاهُ﴾ أخِّرْ أمْرَهُما، مِن أرْجَأْتُهُ إذا أخَّرْتُهُ، وقِيلَ: المَعْنى احْبِسْهُما ﴿وابْعَثْ في المَدائِنِ حاشِرِينَ﴾ وهُمُ الشُّرَطُ الَّذِينَ يَحْشُرُونَ النّاسَ أيْ: يَجْمَعُونَهم. ﴿يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحّارٍ عَلِيمٍ﴾ هَذا ما أشارُوا بِهِ عَلَيْهِ، والمُرادُ بِالسَّحّارِ العَلِيمِ: الفائِقُ في مَعْرِفَةِ السِّحْرِ وصَنْعَتِهِ. ﴿فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ هو يَوْمُ الزِّينَةِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿قالَ مَوْعِدُكم يَوْمُ الزِّينَةِ﴾ [طه: ٥٩] . ﴿وقِيلَ لِلنّاسِ هَلْ أنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ﴾ حَثًّا لَهم عَلى الِاجْتِماعِ لِيُشاهِدُوا ما يَكُونُ مِن مُوسى والسَّحَرَةِ، ولِمَن تَكُونُ الغَلَبَةُ، ذَلِكَ ثِقَةٌ مِن فِرْعَوْنَ بِالظُّهُورِ وطَلَبًا أنْ يَكُونَ بِمَجْمَعٍ مِنَ النّاسِ حَتّى لا يُؤْمِنَ بِمُوسى أحَدٌ مِنهم، فَوَقَعَ ذَلِكَ مِن مُوسى المَوْقِعَ الَّذِي يُرِيدُهُ، لِأنَّهُ يَعْلَمُ أنَّ حُجَّةَ اللَّهِ هي الغالِبَةُ، وحُجَّةَ الكافِرِينَ هي الدّاحِضَةُ، وفي ظُهُورِ حُجَّةِ اللَّهِ بِمَجْمَعٍ مِنَ النّاسِ زِيادَةٌ في الِاسْتِظْهارِ لِلْمُحِقِّينَ، والِانْقِهارِ لِلْمُبْطِلِينَ. ومَعْنى ﴿لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ﴾ نَتَّبِعُهم في دِينِهِمْ ﴿إنْ كانُوا هُمُ الغالِبِينَ﴾ والمُرادُ بِاتِّباعِ السَّحَرَةِ في دِينِهِمْ هو البَقاءُ عَلى ما كانُوا عَلَيْهِ، لِأنَّهُ دِينُ السَّحَرَةِ إذْ ذاكَ والمَقْصُودُ المُخالَفَةُ لِما دَعاهم إلَيْهِ مُوسى، فَعِنْدَ ذَلِكَ طَلَبَ السَّحَرَةُ مِن مُوسى الجَزاءَ عَلى ما سَيَفْعَلُونَهُ، فَ ﴿قالُوا لِفِرْعَوْنَ أئِنَّ لَنا لَأجْرًا﴾ أيْ: لَجَزاءً تَجْزِينا بِهِ مِن مالٍ أوْ جاهٍ، وقِيلَ: أرادُوا إنَّ لَنا ثَوابًا عَظِيمًا، ثُمَّ قَيَّدُوا ذَلِكَ بِظُهُورِ غَلَبَتِهِمْ لِمُوسى، فَقالُوا ﴿إنْ كُنّا نَحْنُ الغالِبِينَ﴾ فَوافَقَهم فِرْعَوْنُ عَلى ذَلِكَ و﴿قالَ نَعَمْ وإنَّكم إذًا لَمِنَ المُقَرَّبِينَ﴾ أيْ: نَعَمْ لَكم ذَلِكَ عِنْدِي مَعَ زِيادَةٍ عَلَيْهِ، وهي كَوْنُكم مِنَ المُقَرَّبِينَ لَدَيَّ. ﴿قالَ لَهم مُوسى ألْقُوا ما أنْتُمْ مُلْقُونَ﴾ وفي آيَةٍ أُخْرى ﴿قالُوا يامُوسى إمّا أنْ تُلْقِيَ وإمّا أنْ نَكُونَ نَحْنُ المُلْقِينَ﴾ [الأعراف: ١١٥] فَيُحْمَلُ ما هُنا عَلى أنَّهُ قالَ لَهم: ( ألْقُوا ) بَعْدَ أنْ قالُوا هَذا القَوْلَ، ولَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِن مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - أمَرًا لَهم بِفِعْلِ السِّحْرِ، بَلْ أرادَ أنْ يَقْهَرَهم بِالحُجَّةِ ويُظْهِرَ لَهم أنَّ الَّذِي جاءَ بِهِ لَيْسَ هو مِنَ الجِنْسِ الَّذِي أرادُوا مُعارَضَتَهُ بِهِ. ﴿فَألْقَوْا حِبالَهم وعِصِيَّهم وقالُوا﴾ عِنْدَ الإلْقاءِ ﴿بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إنّا لَنَحْنُ الغالِبُونَ﴾ يَحْتَمِلُ قَوْلُهم ﴿بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ﴾ وجْهَيْنِ: الأوَّلُ أنَّهُ قَسَمٌ، وجَوابُهُ إنّا لَنَحْنُ الغالِبُونَ، والثّانِي مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، والباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ: أيْ: نَغْلِبُ بِسَبَبِ عِزَّتِهِ، والمُرادُ بِالعِزَّةِ العَظَمَةُ. ﴿فَألْقى مُوسى عَصاهُ فَإذا هي تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذا مُسْتَوْفًى، والمَعْنى: أنَّها تَلْقَفُ ما صَدَرَ مِنهم مَنِ الإفْكِ بِإخْراجِ الشَّيْءِ عَنْ صُورَتِهِ الحَقِيقِيَّةِ. ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ﴾ أيْ: لَمّا شاهَدُوا ذَلِكَ وعَلِمُوا أنَّهُ صُنْعُ صانِعٍ حَكِيمٍ لَيْسَ مِن صَنِيعِ البَشَرِ، ولا مِن تَمْوِيهِ السَّحَرَةِ، آمَنُوا بِاللَّهِ وسَجَدُوا لَهُ وأجابُوا دَعْوَةَ مُوسى وقَبِلُوا نُبُوَّتَهُ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ مَعْنى ( أُلْقِيَ )، ومَن فاعِلُهُ لِوُقُوعِ التَّصْرِيحِ بِهِ، وعِنْدَ سُجُودِهِمْ ﴿قالُوا آمَنّا بِرَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿رَبِّ مُوسى وهارُونَ﴾ رَبِّ مُوسى عَطْفُ بَيانٍ لِرَبِّ العالَمِينَ، وأضافُوهُ - سُبْحانَهُ - إلَيْهِما لِأنَّهُما القائِمانِ بِالدَّعْوَةِ في تِلْكَ الحالِ. وفِيهِ تَبْكِيتٌ لِفِرْعَوْنَ بِأنَّهُ لَيْسَ بِرَبٍّ، وأنَّ الرَّبَّ في الحَقِيقَةِ هو هَذا، فَلَمّا سَمِعَ فِرْعَوْنُ ذَلِكَ مِنهم ورَأى سُجُودَهم لِلَّهِ ﴿قالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أنْ آذَنَ لَكم﴾ أيْ: بِغَيْرِ إذْنٍ مِنِّي، ثُمَّ قالَ مُغالِطًا لِلسَّحَرَةِ الَّذِينَ آمَنُوا، ومُوهِمًا لِلنّاسِ أنَّ فِعْلَ مُوسى سِحْرٌ مِن جِنْسِ ذَلِكَ السِّحْرِ ﴿إنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ﴾ وإنَّما اعْتَرَفَ لَهُ بِكَوْنِهِ كَبِيرُهم مَعَ كَوْنِهِ لا يُحِبُّ الِاعْتِرافَ بِشَيْءٍ يَرْتَفِعُ بِهِ شَأْنُ مُوسى، لِأنَّهُ قَدْ عَلِمَ كُلُّ مَن حَضَرَ أنَّ ما جاءَ بِهِ مُوسى أبْهَرُ مِمّا جاءَ بِهِ السَّحَرَةُ، فَأرادَ أنْ يُشَكِّكَ عَلى النّاسِ بِأنَّ هَذا الَّذِي شاهَدْتُمْ، وإنْ كانَ قَدْ فاقَ عَلى ما فَعَلَهُ هَؤُلاءِ السَّحَرَةُ فَهو فِعْلُ كَبِيرِهِمْ ومَن هو أُسْتاذُهُمُ الَّذِي أخَذُوا عَنْهُ هَذِهِ الصِّناعَةَ، فَلا تَظُنُّوا أنَّهُ فِعْلٌ لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ البَشَرُ، وإنَّهُ مِن فِعْلِ الرَّبِّ الَّذِي يَدْعُو إلَيْهِ مُوسى، ثُمَّ تَوَعَّدَ أُولَئِكَ السَّحَرَةَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ لِما قَهَرَتْهم حُجَّةُ اللَّهِ، فَقالَ: ﴿فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ أجْمَلَ التَّهْدِيدَ أوَّلًا لِلتَّهْوِيلِ، ثُمَّ فَصَّلَهُ فَقالَ: ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أيْدِيَكم وأرْجُلَكم مِن خِلافٍ ولَأُصَلِّبَنَّكم أجْمَعِينَ﴾ فَلَمّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِن قَوْلِهِ ﴿قالُوا لا ضَيْرَ إنّا إلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ﴾ أيْ: لا ضَرَرَ عَلَيْنا فِيما يَلْحَقُنا مِن عِقابِ الدُّنْيا، فَإنَّ ذَلِكَ يَزُولُ ونَنْقَلِبُ بَعْدَهُ إلى رَبِّنا فَيُعْطِينا مِنَ النَّعِيمِ الدّائِمِ ما لا يُحَدُّ ولا يُوصَفُ. قالَ الهَرَوِيُّ: لا ضَيْرَ ولا ضَرَرَ ولا ضُرَّ بِمَعْنًى واحِدٍ، وأنْشَدَ أبُو عُبَيْدَةَ: ؎فَإنَّكَ لا يَضُرُّكَ بَعْدَ حَوْلٍ ∗∗∗ أظَبْيٌ كانَ أُمَّكَ أمْ حِمارُ قالَ الجَوْهَرِيُّ: ضارَّهُ يَضُورُهُ ويُضِيرُهُ ضَيْرًا وضُورًا أيْ: ضَرَّهُ. قالَ الكِسائِيُّ: سَمِعْتُ بَعْضَهم يَقُولُ: لا يَنْفَعُنِي ذَلِكَ ولا يَضُورُنِي. ﴿إنّا نَطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا﴾ ثُمَّ عَلَّلُوا هَذا بِقَوْلِهِمْ: ﴿أنْ كُنّا أوَّلَ المُؤْمِنِينَ﴾ بِنَصْبِ ( أنْ )، أيْ: لِأنْ كُنّا أوَّلَ المُؤْمِنِينَ. وأجازَ الفَرّاءُ والكِسائِيُّ كَسْرَها عَلى أنْ يَكُونَ مُجازاةً، ومَعْنى ( ﴿أوَّلَ المُؤْمِنِينَ﴾ ): أنَّهم أوَّلُ مَن آمَنَ مَن قَوْمِ فِرْعَوْنَ بَعْدَ ظُهُورِ الآيَةِ. وقالَ الفَرّاءُ: أوَّلَ مُؤْمِنِي زَمانِهِمْ، وأنْكَرَهُ الزَّجّاجُ. وقالَ قَدْ رُوِيَ أنَّهُ آمَنُ مَعَهم سِتُّمِائَةِ ألْفٍ وسَبْعُونَ ألْفًا، وهُمُ الشِّرْذِمَةُ القَلِيلُونَ الَّذِينَ عَناهم فِرْعَوْنُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾ [الشعراء: ٥٤] . وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿فَألْقى عَصاهُ فَإذا هي ثُعْبانٌ مُبِينٌ﴾ يَقُولُ: مُبِينٌ لَهُ خَلْقُ حَيَّةٍ. (p-١٠٥٧)﴿ونَزَعَ يَدَهُ﴾ يَقُولُ: وأخْرَجَ مُوسى يَدَهُ مِن جَيْبِهِ ﴿فَإذا هي بَيْضاءُ﴾ تَلْمَعُ لِلنّاظِرِينَ لِمَن يَنْظُرُ إلَيْها ويَراها. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ في قَوْلِهِ: ﴿وقِيلَ لِلنّاسِ هَلْ أنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ﴾ قالَ: كانُوا بِالإسْكَنْدَرِيَّةِ. قالَ: ويُقالُ: بَلَغَ ذَنَبُ الحَيَّةِ مِن وراءِ البُحَيْرَةِ يَوْمَئِذٍ، قالَ: وهَرَبُوا، وأسْلَمُوا فِرْعَوْنَ وهَمَّتْ بِهِ، فَقالَ: خُذْها يا مُوسى، وكانَ مِمّا بَلى النّاسَ بِهِ مِنهُ أنَّهُ كانَ لا يَضَعُ عَلى الأرْضِ شَيْئًا: أيْ: يُوهِمُهم أنَّهُ لا يُحْدِثُ فَأحْدَثَ يَوْمَئِذٍ تَحْتَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ في قَوْلِهِ ﴿لا ضَيْرَ﴾ قالَ: يَقُولُونَ لا يُضِيرُنا الَّذِي تَقُولُ وإنْ صَنَعْتَ بِنا وصَلَبْتَنا ﴿إنّا إلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ﴾ يَقُولُونَ: إنّا إلى رَبِّنا راجِعُونَ وهو مُجازِينا بِصَبْرِنا عَلى عُقُوبَتِكَ إيّانا وثَباتِنا عَلى تَوْحِيدِهِ والبَراءَةِ مِنَ الكُفْرِ. وفِي قَوْلِهِ: ﴿أنْ كُنّا أوَّلَ المُؤْمِنِينَ﴾ قالُوا كانُوا كَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ أوَّلَ مَن آمَنَ بِآياتِهِ حِينَ رَأوْها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب