الباحث القرآني

ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - القِصَّةَ السّادِسَةَ مِن قَصَصِ الأنْبِياءِ مَعَ. (p-١٠٦٥)قَوْمِهِمْ، وهي قِصَّةُ لُوطٍ. وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: ﴿إذْ قالَ لَهم﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿إلّا عَلى رَبِّ العالَمِينَ﴾ في هَذِهِ السُّورَةِ، وتَقَدَّمَ أيْضًا تَفْسِيرُ قِصَّةِ لُوطٍ مُسْتَوْفًى في الأعْرافِ، قَوْلُهُ: ﴿أتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ العالَمِينَ﴾ الذُّكْرانُ جَمْعُ الذَّكَرِ ضِدُّ الأُنْثى، ومَعْنى تَأْتُونَ: تَنْكِحُونَ الذُّكْرانَ مِنَ العالَمِيْنَ، وهم بَنُو آدَمٍ، أوْ كُلُّ حَيَوانٍ، وقَدْ كانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِالغُرَباءِ عَلى ما تَقَدَّمَ في الأعْرافِ. ﴿وتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكم رَبُّكم مِن أزْواجِكم﴾ أيْ: وتَتْرُكُونَ ما خَلَقَهُ اللَّهُ لِأجْلِ اسْتِمْتاعِكم بِهِ مِنَ النِّساءِ، وأرادَ بِالأزْواجِ جِنْسَ الإناثِ ﴿بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ﴾ أيْ: مُجاوِزُونَ لِلْحَدِّ في جَمِيعِ المَعاصِي، ومِن جُمْلَتِها هَذِهِ المَعْصِيَةُ الَّتِي تَرْتَكِبُونَها مِنَ الذُّكْرانِ. ﴿قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يالُوطُ﴾ عَنِ الإنْكارِ عَلَيْنا وتَقْبِيحِ أمْرِنا ﴿لَتَكُونَنَّ مِنَ المُخْرَجِينَ﴾ مِن بَلَدِنا المَنفِيِّينَ عَنْها. ﴿قالَ إنِّي لِعَمَلِكم﴾ وهو ما أنْتُمْ فِيهِ مِن إتْيانِ الذُّكْرانِ ﴿مِنَ القالِينَ﴾ المُبْغِضِينَ لَهُ، والقَلْيُ البُغْضُ، قَلَيْتُهُ أقْلِيهِ قَلًا وقِلاءً، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: فَلَسْتُ بِمَقْلِيِّ الخِلالِ ولا قالِي وقالَ الآخَرُ: ومالَكَ عِنْدِي إنْ نَأيْتَ قِلاءُ ثُمَّ رَغِبَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَنْ مُحاوَرَتِهِمْ، وطَلَبَ مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - أنْ يُنَجِّيَهُ، فَقالَ: ﴿رَبِّ نَجِّنِي وأهْلِي مِمّا يَعْمَلُونَ﴾ أيْ: مِن عَمَلِهِمُ الخَبِيثِ، أوْ مِن عُقُوبَتِهِ الَّتِي سَتُصِيبُهم، فَأجابَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - دُعاءَهُ، وقالَ: ﴿فَنَجَّيْناهُ وأهْلَهُ أجْمَعِينَ﴾ أيْ: أهْلَ بَيْتِهِ، ومَن تابَعَهُ عَلى دِينِهِ، وأجابَ دَعْوَتَهُ. ﴿إلّا عَجُوزًا في الغابِرِينَ﴾ هي امْرَأةُ لُوطٍ، ومَعْنى مِنَ الغابِرِينَ مِنَ الباقِينَ في العَذابِ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: مِنَ الباقِينَ في الهَرَمِ: أيْ: بَقِيَتْ حَتّى هَرِمَتْ. قالَ النَّحّاسُ: يُقالُ: لِلذّاهِبِ غابِرٌ ولِلْباقِي غابِرٌ. قالَ الشّاعِرُ: ؎لا تَكْسَعِ الشَّوْلَ بِأغْبارِها ∗∗∗ إنَّكَ لا تَدْرِي مَنِ النّاتِجُ والأغْبارُ بَقِيَّةُ الألْبانِ، وتَقُولُ العَرَبُ: ما مَضى وما غَبَرَ: أيْ: ما مَضى وما بَقِيَ. ﴿ثُمَّ دَمَّرْنا الآخَرِينَ﴾ أيْ: أهْلَكْناهم بِالخَسْفِ والحَصْبِ. ﴿وأمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَرًا﴾ يَعْنِي الحِجارَةَ ﴿فَساءَ مَطَرُ المُنْذَرِينَ﴾ المَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، والتَّقْدِيرُ مَطَرُهم. وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً وما كانَ أكْثَرُهم مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَهو العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ في هَذِهِ السُّورَةِ. ﴿كَذَّبَ أصْحابُ الأيْكَةِ المُرْسَلِينَ﴾ قَرَأ نافِعٌ وابْنُ كَثِيرٍ، وابْنُ عامِرٍ " لَيْكَةَ " بِلامٍ واحِدَةٍ وفَتْحِ التّاءِ جَعَلُوهُ، اسْمًا غَيْرَ مُعَرَّفٍ بِألْ مُضافًا إلَيْهِ ( أصْحابُ )، وقَرَأ الباقُونَ الأيْكَةِ مُعَرَّفًا، والأيْكَةُ الشَّجَرُ المُلْتَفُّ، وهي الغَيْضَةُ، ولَيْكَةُ اسْمٌ لِلْقَرْيَةِ، وقِيلَ: هُما بِمَعْنًى واحِدٍ اسْمٌ لِلْغَيْضَةِ. قالَ القُرْطُبِيُّ فَأمّا ما حَكاهُ أبُو عُبَيْدٍ مِن أنَّ لَيْكَةَ اسْمُ القَرْيَةِ الَّتِي كانُوا فِيها، وأنَّ الأيْكَةَ اسْمُ البَلَدِ كُلِّهِ، فَشَيْءٌ لا يَثْبُتُ ولا يُعْرَفُ مَن قالَهُ ولَوْ عُرِفَ لَكانَ فِيهِ نَظَرٌ، لِأنَّ أهْلَ العِلْمِ جَمِيعًا عَلى خِلافِهِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيِّ: الأيْكَةُ تَعْرِيفُ أيْكَةٍ، فَإذا حُذِفَتِ الهَمْزَةُ تَخْفِيفًا أُلْقِيَتْ حَرَكَتُها عَلى اللّامِ. قالَ الخَلِيلُ: الأيْكَةُ غَيْضَةٌ تُنْبِتُ السِّدْرَ والأراكَ ونَحْوَهُما مِن ناعِمِ الشَّجَرِ. ﴿إذْ قالَ لَهم شُعَيْبٌ ألا تَتَّقُونَ﴾ لَمْ يَقُلْ: أخُوهم كَما قالَ في الأنْبِياءِ قَبْلَهُ، لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِن أصْحابِ الأيْكَةِ في النَّسَبِ، فَلَمّا ذَكَرَ مَدْيَنَ قالَ: أخاهم شُعَيْبًا لِأنَّهُ كانَ مِنهم، وقَدْ مَضى تَحْقِيقُ نَسَبِهِ في الأعْرافِ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: ﴿إنِّي لَكم رَسُولٌ أمِينٌ﴾ إلى قَوْلِهِ - تَعالى - ﴿إلّا عَلى رَبِّ العالَمِينَ﴾ في هَذِهِ السُّورَةِ. قَوْلُهُ: ﴿أوْفُوا الكَيْلَ ولا تَكُونُوا مِنَ المُخْسِرِينَ﴾ أيْ: أتِمُّوا الكَيْلَ لِمَن أرادَهُ وعامَلَ بِهِ، ﴿ولا تَكُونُوا مِنَ المُخْسِرِينَ﴾ النّاقِصِينَ لِلْكَيْلِ والوَزْنِ، يُقالُ: أخْسَرْتُ الكَيْلَ والوَزْنَ: أيْ: نَقَصْتُهُ، ومِنهُ قَوْلُهُ - تَعالى: ﴿وإذا كالُوهم أوْ وزَنُوهم يُخْسِرُونَ﴾ [المطففين: ٣] ثُمَّ زادَ - سُبْحانَهُ - في البَيانِ، فَقالَ: ﴿وزِنُوا بِالقِسْطاسِ المُسْتَقِيمِ﴾ أيْ: أعْطُوا الحَقَّ بِالمِيزانِ السَّوِيِّ، وقَدْ مَرَّ بَيانُ تَفْسِيرِ هَذا في سُورَةِ سُبْحانَ، وقَدْ قُرِئَ " بِالقُسْطاسِ " مَضْمُومًا ومَكْسُورًا. ﴿ولا تَبْخَسُوا النّاسَ أشْياءَهُمْ﴾ البَخْسُ النَّقْصُ، يُقالُ: بَخَسَهُ حَقَّهُ: إذا نَقَصَهُ: أيْ: لا تَنْقُصُوا النّاسَ حُقُوقَهُمُ الَّتِي لَهم، وهَذا تَعْمِيمٌ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ في سُورَةِ هُودٍ، وتَقَدَّمَ أيْضًا تَفْسِيرُ ﴿ولا تَعْثَوْا في الأرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ فِيها وفي غَيْرِها. ﴿واتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكم والجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ بِكَسْرِ الجِيمِ والباءِ وتَشْدِيدِ اللّامِ، وقَرَأ أبُو حُصَيْنٍ، والأعْمَشُ، والحَسَنُ والأعْرَجُ وشَيْبَةُ بِضَمِّهِما وتَشْدِيدِ اللّامِ، وقَرَأ السُّلَمِيُّ بِفَتْحِ الجِيمِ مَعَ سُكُونِ الباءِ، والجِبِلَّةُ الخَلِيقَةُ، قالَهُ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ: يَعْنِي الأُمَمَ المُتَقَدِّمَةَ، يُقالُ: جُبِلَ فُلانٌ عَلى كَذا: أيْ: خُلِقَ. قالَ النَّحّاسُ: الخَلْقُ يُقالُ لَهُ: جِبِلَّةٌ بِكَسْرِ الحَرْفَيْنِ الأوَّلِينَ، وبِضَمِّهِما مَعَ تَشْدِيدِ اللّامِ فِيهِما، وبِضَمِّ الجِيمِ وسُكُونِ الباءِ وضَمُّهُ وفَتْحُها، قالَ الهَرَوِيُّ: الجِبِلَّةُ والجُبُلَّةُ والجُبْلُ والجُبَلُ لُغاتٌ، وهو الجَمْعُ ذُو العَدَدِ الكَثِيرِ مِنَ النّاسِ، ومِنهُ قَوْلُهُ - تَعالى: ﴿جِبِلًّا كَثِيرًا﴾ [يس: ٦٢] أيْ: خَلْقا كَثِيرًا، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎والمَوْتُ أعْظَمُ حادِثٍ ∗∗∗ فِيما يَمُرُّ عَلى الجِبِلَّةِ ﴿قالُوا إنَّما أنْتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ وما أنْتَ إلّا بَشَرٌ مِثْلُنا﴾ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ مُسْتَوْفًى في هَذِهِ السُّورَةِ ﴿وإنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الكاذِبِينَ﴾ إنْ هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ عَمِلَتْ في ضَمِيرِ شَأْنٍ مُقَدَّرٍ، واللّامُ هي الفارِقَةُ أيْ: فِيما تَدَّعِيهِ عَلَيْنا مِنَ الرِّسالَةِ، وقِيلَ: هي النّافِيَةُ، واللّامُ بِمَعْنى إلّا أيْ: ما نَظُنُّكَ مِنَ الكاذِبِينَ، والأوَّلُ أوْلى. ﴿فَأسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفًا مِنَ السَّماءِ﴾ كانَ شُعَيْبٌ يَتَوَعَّدُهم بِالعَذابِ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا، فَقالُوا لَهُ هَذا القَوْلَ نَعْتًا، واسْتِبْعادًا وتَعْجِيزًا. والكِسَفُ: القِطْعَةُ. قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: الكِسَفُ جَمْعُ كِسْفَةٍ مَثْلُ سِدْرٍ وسِدْرَةٍ. قالَ الجَوْهَرِيُّ: الكِسْفَةُ القِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ، يُقالُ: أعْطِنِي كِسْفَةً مِن ثَوْبِكَ والجَمْعُ كِسَفٌ، وقَدْ مَضى تَحْقِيقُ هَذا في سُورَةِ سُبْحانَ. ﴿إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ في دَعْواكَ. ﴿قالَ رَبِّي أعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ﴾ مِنَ الشِّرْكِ والمَعاصِي، فَهو مُجازِيكم (p-١٠٦٦)عَلى ذَلِكَ إنْ شاءَ، وفي هَذا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ. فَكَذَّبُوهُ فاسْتَمَرُّوا عَلى تَكْذِيبِهِ وأصَرُّوا عَلى ذَلِكَ ﴿فَأخَذَهم عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ﴾ والظُّلَّةُ السَّحابُ، أقامَها اللَّهُ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ فَأمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ نارًا فَهَلَكُوا، وقَدْ أصابَهُمُ اللَّهُ بِما اقْتَرَحُوا، لِأنَّهم إنْ أرادُوا بِالكِسَفِ القِطْعَةَ مِنَ السَّحابِ فَظاهِرٌ، وإنْ أرادُوا بِها القِطْعَةَ مِنَ السَّماءِ فَقَدْ نَزَلَ عَلَيْهِمُ العَذابُ مِن جِهَتِها، وأضافَ العَذابَ إلى يَوْمِ الظُّلَّةِ لا إلى الظُّلَّةِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ لَهم في ذَلِكَ اليَوْمِ عَذابًا غَيْرَ عَذابِ الظُّلَّةِ، كَذا قِيلَ. ثُمَّ وصَفَ - سُبْحانَهُ - هَذا العَذابَ الَّذِي أصابَهم بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ لِما فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ عَلَيْهِمُ الَّتِي لا يُقادَرُ قَدْرُها. وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً وما كانَ أكْثَرُهم مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وإنَّ رَبَّكَ لَهو العَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ في هَذِهِ السُّورَةِ مُسْتَوْفًى فَلا نُعِيدُهُ، وفي هَذا التَّكْرِيرِ لِهَذِهِ الكَلِماتِ في آخِرِ هَذِهِ القِصَصِ مِنَ التَّهْدِيدِ والزَّجْرِ والتَّقْرِيرِ والتَّأْكِيدِ ما لا يَخْفى عَلى مَن يَفْهَمُ مَواقِعَ الكَلامِ ويَعْرِفُ أسالِيبَهُ. وقَدْ أخْرَجَ الفِرْيابِيُّ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿وتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكم رَبُّكم مِن أزْواجِكم﴾ قالَ: تَرَكْتُمْ أقْبالَ النِّساءِ إلى أدْبارِ الرِّجالِ وأدْبارِ النِّساءِ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وأخْرَجا أيْضًا عَنْ قَتادَةَ ﴿إلّا عَجُوزًا في الغابِرِينَ﴾ قالَ: هي امْرَأةُ لُوطٍ غُبِرَتْ في عَذابِ اللَّهِ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجاهِدٍ " لَيْكَةِ " قالَ: هي الأيْكَةُ. وأخْرَجَ إسْحاقُ بْنُ بِشْرٍ وابْنُ عَساكِرَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿كَذَّبَ أصْحابُ الأيْكَةِ المُرْسَلِينَ﴾ قالَ: كانُوا أصْحابَ غَيْضَةٍ مِن ساحِلِ البَحْرِ إلى مَدْيَنَ ﴿إذْ قالَ لَهم شُعَيْبٌ﴾ ولَمْ يَقُلْ: أخُوهم شُعَيْبٌ، لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِن جِنْسِهِمْ ﴿ألا تَتَّقُونَ﴾ كَيْفَ لا تَتَّقُونَ، وقَدْ عَلِمْتُمْ أنِّي رَسُولٌ أمِينٌ لا تَعْتَبِرُونَ مِن هَلاكِ مَدْيَنَ وقَدْ أُهْلِكُوا فِيما يَأْتُونَ، وكانَ أصْحابُ الأيْكَةِ مَعَ ما كانُوا فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ اسْتَنُّوا بِسُنَّةِ أصْحابِ مَدْيَنَ، فَقالَ لَهم شُعَيْبٌ: إنِّي لَكم رَسُولٌ أمِينٌ فاتَّقُوا اللَّهَ وأطِيعُونِ وما أسْألُكم عَلى ما أدْعُوكم إلَيْهِ مِن أجْرٍ في العاجِلِ مِن أمْوالِكم إنْ أجْرِيَ إلّا عَلى رَبِّ العالَمِينَ واتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكم والجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ يَعْنِي القُرُونَ الأوَّلِينَ الَّذِينَ أُهْلِكُوا بِالمَعاصِي ولا تَهْلَكُوا مِثْلَهم ﴿قالُوا إنَّما أنْتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ﴾ يَعْنِي مِنَ المَخْلُوقِينَ ﴿وما أنْتَ إلّا بَشَرٌ مِثْلُنا وإنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الكاذِبِينَ فَأسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفًا مِنَ السَّماءِ﴾ يَعْنِي قِطَعًا مِنَ السَّماءِ ﴿فَأخَذَهم عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ﴾ أرْسَلَ اللَّهُ إلَيْهِمْ سَمُومًا مِن جَهَنَّمَ، فَأطافَ بِهِمْ سَبْعَةَ أيّامٍ حَتّى أنْضَجَهُمُ الحُرُّ، فَحَمِيَتْ بُيُوتُهم وغَلَتْ مِياهُهم في الآبارِ والعُيُونِ فَخَرَجُوا مِن مَنازِلِهِمْ ومَحَلَّتِهِمْ هارِبِينَ، والسَّمُومُ مَعَهم، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الشَّمْسَ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمْ فَغَشِيَتْهم حَتّى تَقَلْقَلَتْ فِيها جَماجِمُهم، وسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الرَّمْضاءَ مِن تَحْتِ أرْجُلِهِمْ حَتّى تَساقَطَتْ لُحُومُ أرْجُلِهِمْ، ثُمَّ نَشَأتْ لَهم ظُلَّةٌ كالسَّحابَةِ السَّوْداءِ، فَلَمّا رَأوْها ابْتَدَرُوا يَسْتَغِيثُونَ بِظِلِّها حَتّى إذا كانُوا جَمِيعًا أطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ فَهَلَكُوا ونَجّى اللَّهُ شُعَيْبًا والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْهُ قالَ ﴿والجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ﴾ الخَلْقُ الأوَّلِينَ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والحاكِمُ عَنْهُ أيْضًا أنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿فَأخَذَهم عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ﴾ قالَ: بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حَرًّا شَدِيدًا فَأخَذَ بِأنْفاسِهِمْ، فَدَخَلُوا أجْوافَ البُيُوتِ فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ أجْوافَها فَأخَذَ بِأنْفُسِهِمْ، فَخَرَجُوا مِنَ البُيُوتِ هَرَبًا إلى البَرِّيَّةِ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَحابَةً فَأظَلَّتْهم مِنَ الشَّمْسِ فَوَجَدُوا لَها بَرْدًا ولَذَّةً، فَنادى بَعْضُهم بَعْضًا حَتّى إذا اجْتَمَعُوا تَحْتَها أسْقَطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نارًا، فَذَلِكَ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والحاكِمُ عَنْهُ أيْضًا قالَ: مَن حَدَّثَكَ مِنَ العُلَماءِ عَذابَ يَوْمِ الظُّلَّةِ فَكَذِّبْهُ. أقُولُ: فَما نَقُولُ لَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيما حَدَّثَنا بِهِ مِن ذَلِكَ مِمّا نَقَلْناهُ عَنْهُ هاهُنا ؟ ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ لَمّا كانَ هو البَحْرَ الَّذِي عَلَّمَهُ اللَّهُ تَأْوِيلَ كِتابِهِ بِدَعْوَةِ نَبِيِّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - كانَ مُخْتَصًّا بِمَعْرِفَةِ هَذا الحَدِيثِ دُونَ غَيْرِهِ مِن أهْلِ العِلْمِ، فَمَن حَدَّثَ بِحَدِيثِ عَذابِ الظُّلَّةِ عَلى وجْهٍ غَيْرِ هَذا الوَجْهِ الَّذِي حَدَّثَنا بِهِ فَقَدْ وصّانا بِتَكْذِيبِهِ، لِأنَّهُ قَدْ عَلِمَهُ ولَمْ يَعْلَمْهُ غَيْرُهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب