الباحث القرآني

. اللّامُ في قَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ﴾ جَوابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ أيْ: واللَّهِ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى التَّوْراةَ، ذَكَرَ سُبْحانَهُ طَرَفًا مِن قَصَصِ الأوَّلِينَ تَسْلِيَةً لَهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - بِأنَّ تَكْذِيبَ قَوْمِ أنْبِياءِ اللَّهِ لَهم عادَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ، ولَيْسَ ذَلِكَ بِخاصٍّ بِمُحَمَّدٍ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - وهارُونَ عَطْفُ بَيانٍ، ويَجُوزُ أنْ يُنْصَبَ عَلى القَطْعِ ووَزِيرًا المَفْعُولُ الثّانِي، وقِيلَ: حالٌ، والمَفْعُولُ الثّانِي مَعَهُ، والأوَّلُ أوْلى. قالَ الزَّجّاجُ: الوَزِيرُ في اللُّغَةِ الَّذِي يُرْجَعُ إلَيْهِ ويُعْمَلُ بِرَأْيِهِ، والوَزَرُ ما يُعْتَصَمُ بِهِ، ومِنهُ ﴿كَلّا لا وزَرَ﴾ [القيامة: ١١] . وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الوَزِيرِ في طه، والوِزارَةُ لا تُنافِي النُّبُوَّةَ، فَقَدْ كانَ يُبْعَثُ في الزَّمَنِ الواحِدِ أنْبِياءٌ، ويُؤْمَرُونَ بِأنْ يُؤازِرَ بَعْضُهم بَعْضًا. وقَدْ كانَ هارُونُ في أوَّلِ الأمْرِ وزِيرًا لِمُوسى. ولِاشْتِراكِهِما في النُّبُوَّةِ قِيلَ لَهُما ﴿اذْهَبا إلى القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ وهم فِرْعَوْنُ وقَوْمُهُ، والآياتُ هي التِّسْعُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُها، وإنْ لَمْ يَكُونُوا قَدْ كَذَّبُوا بِها عِنْدَ أمْرِ اللَّهِ لِمُوسى وهارُونَ بِالذَّهابِ بَلْ كانَ التَّكْذِيبُ بَعْدَ ذَلِكَ، لَكِنَّ هَذا الماضِيَ بِمَعْنى المُسْتَقْبَلِ عَلى عادَةِ إخْبارِ اللَّهِ أيِ: اذْهَبا إلى القَوْمِ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِآياتِنا. وقِيلَ: إنَّما وُصِفُوا بِالتَّكْذِيبِ عِنْدَ الحِكايَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - بَيانًا لِعِلَّةِ اسْتِحْقاقِهِمْ لِلْعَذابِ. وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يُرادَ إلى القَوْمِ الَّذِينَ آلَ حالُهم إلى أنْ كَذَّبُوا. وقِيلَ: إنَّ المُرادَ بِوَصْفِهِمْ بِالتَّكْذِيبِ عِنْدَ الإرْسالِ أنَّهم كانُوا مُكَذِّبِينَ لِلْآياتِ الإلَهِيَّةِ ولَيْسَ المُرادُ آياتِ الرِّسالَةِ. قالَ القُشَيْرِيُّ: وقَوْلُهُ تَعالى في مَوْضِعٍ آخَرَ ﴿اذْهَبْ إلى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغى﴾ [طه: ٢٤] لا يُنافِي هَذا لِأنَّهُما إذا كانا مَأْمُورَيْنِ فَكُلُّ واحِدٍ مَأْمُورٌ. ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ إنَّ تَخْصِيصَ مُوسى بِالخِطابِ في بَعْضِ المَواطِنِ لِكَوْنِهِ الأصْلَ في الرِّسالَةِ، والجَمْعُ بَيْنَهُما في الخِطابِ لِكَوْنِهِما مُرْسَلَيْنِ جَمِيعًا ﴿فَدَمَّرْناهم تَدْمِيرًا﴾ في الكَلامِ حَذْفٌ أيْ: فَذَهَبا إلَيْهِمْ فَكَذَّبُوهُما فَدَمَّرْناهم أيْ: أهْلَكْناهم إثْرَ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ إهْلاكًا عَظِيمًا. وقِيلَ: إنَّ المُرادَ بِالتَّدْمِيرِ هُنا الحُكْمُ بِهِ، لِأنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ عَقِبَ بَعْثِ مُوسى وهارُونَ إلَيْهِمْ، بَلْ بَعْدَهُ بِمُدَّةٍ. ﴿وقَوْمَ نُوحٍ لَمّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أغْرَقْناهُمْ﴾ في نَصْبِ ( قَوْمَ ) أقْوالٌ: العَطْفُ عَلى الهاءِ والمِيمِ في دَمَّرْناهم، أوِ النَّصْبُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أيِ اذْكُرْ، أوْ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ ما بَعْدَهُ، وهو أغْرَقْناهم أيْ: أغْرَقْنا قَوْمَ نُوحٍ أغْرَقْناهم، وقالَ الفَرّاءُ: هو مَنصُوبٌ بِأغْرَقْناهُمُ المَذْكُورِ بَعْدَهُ مِن دُونِ تَقْدِيرٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ ما بَعْدَهُ. ورَدَّهُ النَّحّاسُ بِأنَّ ( أغْرَقْنا ) لا يَتَعَدّى إلى مَفْعُولَيْنِ حَتّى يَعْمَلَ في الضَّمِيرِ المُتَّصِلِ بِهِ، وفي قَوْمِ نُوحٍ. ومَعْنى ﴿لَمّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ﴾ أنَّهم كَذَّبُوا نُوحًا وكَذَّبُوا مَن قَبْلَهَ مِن رُسُلِ اللَّهِ. وقالَ الزَّجّاجُ: مَن كَذَّبَ نَبِيًّا فَقَدْ كَذَّبَ جَمِيعَ الأنْبِياءِ، وكانَ إغْراقُهم بِالطُّوفانِ كَما تَقَدَّمَ في هُودٍ ﴿وجَعَلْناهم لِلنّاسِ آيَةً﴾ أيْ: جَعَلْنا إغْراقَهم، أوْ قِصَّتَهم (p-١٠٤٢)لِلنّاسِ آيَةً أيْ: عِبْرَةً لِكُلِّ النّاسِ عَلى العُمُومِ يَتَّعِظُ بِها كُلُّ مُشاهِدٍ لَها وسامِعٍ لِخَبَرِها ﴿وأعْتَدْنا لِلظّالِمِينَ﴾ المُرادُ بِالظّالِمِينَ قَوْمُ نُوحٍ عَلى الخُصُوصِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ كُلَّ مِن سَلَكَ مَسْلَكَهم في التَّكْذِيبِ. والعَذابُ الألِيمُ: هو عَذابُ الآخِرَةِ. وانْتِصابُ عادًا بِالعَطْفِ عَلى قَوْمِ نُوحٍ، وقِيلَ: عَلى مَحَلِّ الظّالِمِينَ، وقِيلَ: عَلى مَفْعُولِ جَعَلْناهم وثَمُودَ مَعْطُوفٌ عَلى ( عادًا )، وقِصَّةُ عادٍ وثَمُودَ قَدْ ذُكِرَتْ فِيما سَبَقَ ﴿وأصْحابَ الرَّسِّ﴾ الرَّسُّ في كَلامِ العَرَبِ: البِئْرُ الَّتِي تَكُونُ غَيْرَ مَطْوِيَّةٍ، والجَمْعُ رِساسٌ كَذا قالَ أبُو عُبَيْدَةَ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎وهم سائِرُونَ إلى أرْضِهِمْ تَنابِلَةٌ يَخْفِرُونَ الرِّساسا قالَ السُّدِّيُّ: هي بِئْرٌ بِإنْطاكِيَةَ قَتَلُوا فِيها حَبِيبًا النَّجّارَ فَنُسِبُوا إلَيْها، وهو صاحِبُ يس الَّذِي قالَ ﴿قالَ ياقَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ﴾ [يس: ٢٠] وكَذا قالَ مُقاتِلٌ وعِكْرِمَةُ وغَيْرُهُما. وقِيلَ: هم قَوْمٌ بِأذْرَبِيجانَ قَتَلُوا أنْبِياءَهم فَجَفَّتْ أشْجارُهم وزُرُوعُهم، فَماتُوا جُوعًا وعَطَشًا. وقِيلَ: كانُوا يَعْبُدُونَ الشَّجَرَ، وقِيلَ: كانُوا يَعْبُدُونَ الأصْنامَ، فَأرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ شُعَيْبًا فَكَذَّبُوهُ وآذَوْهُ. وقِيلَ: هم قَوْمٌ أرْسَلَ اللَّهُ إلَيْهِمْ نَبِيًّا فَأكَلُوهُ، وقِيلَ: هم أصْحابُ الأُخْدُودِ. وقِيلَ: إنَّ الرَّسَّ: هي البِئْرُ المُعَطَّلَةُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُها، وأصْحابُها أهْلُها. وقالَ في الصِّحاحِ: والرَّسُّ اسْمُ بِئْرٍ كانَتْ لِبَقِيَّةِ ثَمُودَ، وقِيلَ: الرَّسُّ: ماءٌ ونَخْلٌ لِبَنِي أسَدٍ، وقِيلَ: الثَّلْجُ المُتَراكِمُ في الجِبالِ. والرَّسُّ: اسْمُ وادٍ، ومِنهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ: ؎بَكَرْنَ بُكُورًا واسْتَحَرْنَ بِسَحْرَةٍ ∗∗∗ فَهُنَّ لِوادِي الرَّسِّ كاليَدِ لِلْفَمِ والرَّسُّ أيْضًا: الإصْلاحُ بَيْنَ النّاسِ والإفْسادُ بَيْنَهم، فَهو مِنَ الأضْدادِ. وقِيلَ: هم أصْحابُ حَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوانَ، وهُمُ الَّذِينَ ابْتَلاهُمُ اللَّهُ بِالطّائِرِ المَعْرُوفِ بِالعَنْقاءِ ﴿وقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا﴾ مَعْطُوفٌ عَلى ما قَبْلَهُ، والقُرُونُ جَمْعُ قَرْنٍ أيْ: أهْلُ قُرُونٍ، والقَرْنُ: مِائَةُ سَنَةٍ، وقِيلَ: مِائَةٌ وعِشْرُونَ، وقِيلَ: القَرْنُ أرْبَعُونَ سَنَةً، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: بَيْنَ ذَلِكَ إلى ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الأُمَمِ. وقَدْ يُذْكُرُ الذّاكِرُ أشْياءَ مُخْتَلِفَةً ثُمَّ يُشِيرُ إلَيْها بِذَلِكَ. ﴿وكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الأمْثالَ﴾ قالَ الزَّجّاجُ أيْ: وأنْذَرْنا كُلًّا ضَرَبْنا لَهُمُ الأمْثالَ وبَيَّنّا لَهُمُ الحُجَّةَ، ولَمْ نَضْرِبْ لَهُمُ الأمْثالَ الباطِلَةَ كَما يَفْعَلُهُ هَؤُلاءِ الكَفَرَةُ، فَجَعَلَهُ مَنصُوبًا بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ ما بَعْدَهُ، لِأنَّ ( حَذَّرْنا ) و( ذَكَّرْنا ) و( أنْذَرْنا ) في مَعْنى: ضَرَبْنا، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى ما قَبْلَهُ، والتَّنْوِينُ عِوَضٌ عَنِ المُضافِ إلَيْهِ المَحْذُوفِ، وهو الأُمَمُ أيْ: كُلُّ الأُمَمِ ضَرَبْنا لَهُمُ الأمْثالَ وأمّا كُلًّا الأُخْرى: فَهي مَنصُوبَةٌ بِالفِعْلِ الَّذِي بَعْدَها، والتَّتْبِيرُ: الإهْلاكُ بِالعَذابِ. قالالزَّجّاجُ: كُلُّ شَيْءٍ كَسَرْتَهُ وفَتَّتَّهُ فَقَدْ تَبَّرْتَهُ. وقالَ المُؤَرِّجُ والأخْفَشُ: مَعْنى ﴿تَبَّرْنا تَتْبِيرًا﴾ دَمَّرْنا تَدْمِيرًا أُبْدِلَتِ التّاءُ والباءُ مِنَ الدّالِ والمِيمِ. ﴿ولَقَدْ أتَوْا عَلى القَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ﴾ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِمُشاهَدَتِهِمْ لِآثارِ هَلاكِ بَعْضِ الأُمَمِ. والمَعْنى: ولَقَدْ أتَوْا أيْ: مُشْرِكُو مَكَّةَ عَلى قَرْيَةِ قَوْمِ لُوطٍ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ. وهو الحِجارَةُ أيْ: هَلَكَتْ بِالحِجارَةِ الَّتِي أُمْطِرُوا بِها، وانْتِصابُ ( مَطَرَ ) عَلى المَصْدَرِيَّةِ، أوْ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ: إذِ المَعْنى أعْطَيْتُها وأوْلَيْتُها مَطَرَ السَّوْءِ، أوْ عَلى أنَّهُ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أيْ: إمْطارٌ مِثْلُ مَطَرِ السَّوْءِ، وقَرَأ أبُو السَّمْألِ ( السُّوءِ ) بِضَمِّ السِّينِ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ السَّوْءِ في ( بَراءَةٌ ) ﴿أفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها﴾ الِاسْتِفْهامُ لِلتَّقْرِيعِ والتَّوْبِيخِ، أيْ يَرَوْنَ القَرْيَةَ المَذْكُورَةَ عِنْدَ سَفَرِهِمْ إلى الشّامِ لِلتِّجارَةِ، فَإنَّهم يَمُرُّونَ بِها، والفاءُ لِلْعَطْفِ عَلى مُقَدَّرٍ أيْ: لَمْ يَكُونُوا يَنْظُرُونَ إلَيْها فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها ﴿بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا﴾ أضْرَبَ سُبْحانَهُ عَمّا سَبَقَ مِن عَدَمِ رُؤْيَتِهِمْ لِتِلْكَ الآثارِ إلى عَدَمِ رَجاءِ البَعْثِ مِنهُمُ المُسْتَلْزِمِ لِعَدَمِ رَجائِهِمْ لِلْجَزاءِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْنى ( يَرْجُونَ ) ( يَخافُونَ ) . ﴿وإذا رَأوْكَ إنْ يَتَّخِذُونَكَ إلّا هُزُوًا﴾ أيْ: ما يَتَّخِذُونَكُ إلّا هُزُؤًا أيْ: مَهْزُوءًا بِكَ، قَصَرَ مُعامَلَتَهم لَهُ عَلى اتِّخاذِهِمْ إيّاهُ هُزُوًا، فَجَوابُ ( إذا ) هو ( ﴿إنْ يَتَّخِذُونَكَ﴾ ) وقِيلَ: الجَوابُ مَحْذُوفٌ، وهو قالُوا أهَذا الَّذِي وعَلى هَذا فَتَكُونُ جُمْلَةُ ( ﴿إنْ يَتَّخِذُونَكَ إلّا هُزُوًا﴾ ) مُعْتَرِضَةً، والأوَّلُ أوْلى. وتَكُونُ جُمْلَةُ ﴿أهَذا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ بِتَقْدِيرِ القَوْلِ أيْ: قائِلِينَ أهَذا إلَخْ، وفي اسْمِ الإشارَةِ دَلالَةٌ عَلى اسْتِحْقارِهِمْ لَهُ وتَهَكُّمِهِمْ بِهِ، والعائِدُ مَحْذُوفٌ أيْ: ( بَعَثَهُ اللَّهُ ) وانْتِصابُ رَسُولًا عَلى الحالِ أيْ: مُرْسَلًا، واسْمُ الإشارَةِ مُبْتَدَأٌ، وخَبَرُهُ المَوْصُولُ. وصِلَتُهُ ﴿إنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا﴾ أيْ قالُوا: إنْ كادَ هَذا الرَّسُولُ لَيُضِلُّنا: لَيَصْرِفُنا عَنْ آلِهَتِنا فَنَتْرُكُ عِبادَتَها، و( إنْ ) هُنا هي المُخَفَّفَةُ، وضَمِيرُ الشَّأْنِ مَحْذُوفٌ أيْ: إنَّهُ كادَ أنْ يَصْرِفَنا عَنْها ﴿لَوْلا أنْ صَبَرْنا عَلَيْها﴾ أيْ: حَبَسْنا أنْفُسَنا عَلى عِبادَتِها، ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ أجابَ عَلَيْهِمْ فَقالَ: ﴿وسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العَذابَ مَن أضَلُّ سَبِيلًا﴾ أيْ: حِينَ يَرَوْنَ عَذابَ يَوْمِ القِيامَةِ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ ويَسْتَوْجِبُونَهُ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ مَن هو أضَلُّ سَبِيلًا أيْ: أبْعَدُ طَرِيقًا عَنِ الحَقِّ والهُدى، أهم أمِ المُؤْمِنُونَ ؟ ثُمَّ بَيَّنَ لَهم سُبْحانَهُ أنَّهُ لا تَمَسُّكَ لَهم فِيما ذَهَبُوا إلَيْهِ سِوى التَّقْلِيدِ واتِّباعِ الهَوى. فَقالَ مُعَجِّبًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - ﴿أرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَواهُ﴾ قَدَّمَ المَفْعُولَ الثّانِيَ لِلْعِنايَةِ كَما تَقُولُ عَلِمْتُ مُنْطَلِقًا زَيْدًا أيْ: أطاعَ هَواهُ طاعَةً كَطاعَةِ الإلَهِ أيِ: انْظُرْ إلَيْهِ يا مُحَمَّدُ وتَعَجَّبْ مِنهُ. قالَ الحَسَنُ: مَعْنى الآيَةِ لا يَهْوى شَيْئًا إلّا اتَّبَعَهُ ﴿أفَأنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وكِيلًا﴾ الِاسْتِفْهامُ لِلْإنْكارِ والِاسْتِبْعادِ أيْ: أفَأنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ حَفِيظًا وكَفِيلًا حَتّى تَرُدَّهُ إلى الإيمانِ وتُخْرِجَهُ مِنَ الكُفْرِ، ولَسْتَ تَقْدِرُ عَلى ذَلِكَ ولا تُطِيقُهُ، فَلَيْسَتِ الهِدايَةُ والضَّلالَةُ مَوْكُولَتَيْنِ إلى مَشِيئَتِكَ، وإنَّما عَلَيْكَ البَلاغُ. وقَدْ قِيلَ إنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنسُوخَةٌ بِآيَةِ القِتالِ. ثُمَّ انْتَقَلَ سُبْحانَهُ مِنَ الإنْكارِ الأوَّلِ إلى إنْكارٍ آخَرَ فَقالَ: ﴿أمْ تَحْسَبُ أنَّ أكْثَرَهم يَسْمَعُونَ أوْ يَعْقِلُونَ﴾ أيْ أتَحْسَبُ أنَّ أكْثَرَهم يَسْمَعُونَ ما تَتْلُو عَلَيْهِمْ مِن آياتِ القُرْآنِ ومِنَ المَواعِظِ، أوْ يَعْقِلُونَ مَعانِيَ ذَلِكَ ويُفْهِمُونَهُ حَتّى تَعْتَنِيَ بِشَأْنِهِمْ وتَطْمَعَ في إيمانِهِمْ، ولَيْسُوا كَذَلِكَ، بَلْ هم بِمَنزِلَةِ (p-١٠٤٣)مَن لا يَسْمَعُ ولا يَعْقِلُ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ حالَهم، وقَطَعَ مادَّةَ الطَّمَعِ فِيهِمْ فَقالَ: ﴿إنْ هم إلّا كالأنْعامِ﴾ أيْ: ما هم في الِانْتِفاعِ بِما يَسْمَعُونَهُ إلّا كالبَهائِمِ الَّتِي هي مَسْلُوبَةُ الفَهْمِ والعَقْلِ فَلا تَطْمَعْ فِيهِمْ، فَإنَّ فائِدَةَ السَّمْعِ والعَقْلِ مَفْقُودَةٌ، وإنْ كانُوا يَسْمَعُونَ ما يُقالُ لَهم ويَعْقِلُونَ ما يُتْلى عَلَيْهِمْ، ولَكِنَّهم لَمّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ كانُوا كالفاقِدِ لَهُ. ثُمَّ أضْرَبَ سُبْحانَهُ عَنِ الحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِأنَّهم كالأنْعامِ إلى ما هو فَوْقَ ذَلِكَ فَقالَ: ﴿بَلْ هم أضَلُّ سَبِيلًا﴾ أيْ: أضَلُّ مِنَ الأنْعامِ طَرِيقًا. قالَ مُقاتِلٌ: البَهائِمُ تَعْرِفُ رَبَّها وتَهْتَدِي إلى مَراعِيها وتَنْقادُ لِأرْبابِها وهَؤُلاءِ لا يَنْقادُونَ ولا يَعْرِفُونَ رَبَّهُمُ الَّذِي خَلَقَهم ورَزَقَهم. وقِيلَ: إنَّما كانُوا أضَلَّ مِنَ الأنْعامِ، لِأنَّهُ لا حِسابَ عَلَيْها ولا عِقابَ لَها، وقِيلَ: إنَّما كانُوا أضَلَّ لِأنَّ البَهائِمَ إذا لَمْ تَعْقِلْ صِحَّةَ التَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ لَمْ تَعْتَقِدْ بُطْلانَ ذَلِكَ، بِخِلافِ هَؤُلاءِ فَإنَّهُمُ اعْتَقَدُوا البُطْلانَ عِنادًا ومُكابَرَةً وتَعَصُّبًا وغَمْطًا لِلْحَقِّ. وقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلْنا مَعَهُ أخاهُ هارُونَ وزِيرًا﴾ قالَ: عَوْنًا وعَضُدًا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿فَدَمَّرْناهم تَدْمِيرًا﴾ قالَ: أهْلَكْناهم بِالعَذابِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قالَ: الرَّسُّ قَرْيَةٌ مِن ثَمُودَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا قالَ: الرَّسُّ بِئْرٌ بِأذْرَبِيجانَ، وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ سَألَ كَعْبًا عَنْ أصْحابِ الرَّسِّ قالَ: صاحِبُ ( يس ) الَّذِي ﴿قالَ ياقَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ﴾ [يس: ٢٠] فَرَسَّهُ قَوْمُهُ في بِئْرٍ بِالأحْجارِ. وأخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «إنَّ أوَّلَ النّاسِ يَدْخُلُ الجَنَّةَ يَوْمَ القِيامَةِ العَبْدُ الأسْوَدُ، وذَلِكَ أنَّ اللَّهَ بَعَثَ نَبِيًّا إلى أهْلِ قَرْيَةٍ فَلَمْ يُؤْمِن بِهِ مِن أهْلِها أحَدٌ إلّا ذَلِكَ الأسْوَدُ، ثُمَّ إنَّ أهْلَ القَرْيَةِ غَدَوْا عَلى النَّبِيِّ فَحَفَرُوا لَهُ بِئْرًا فَألْقُوهُ فِيها، ثُمَّ أطْبَقُوا عَلَيْهِ بِحَجَرٍ ضَخْمٍ، فَكانَ ذَلِكَ العَبْدُ يَذْهَبُ فَيَحْتَطِبُ عَلى ظَهْرِهِ، ثُمَّ يَأْتِي بِحَطَبِهِ فَيَبِيعُهُ فَيَشْتَرِي بِهِ طَعامًا وشَرابًا، ثُمَّ يَأْتِي بِهِ إلى تِلْكَ البِئْرِ، فَيَرْفَعُ تِلْكَ الصَّخْرَةَ فَيُعِينُهُ اللَّهُ عَلَيْها، فَيُدْلِي طَعامَهُ وشَرابَهُ ثُمَّ يَرُدُّها كَما كانَتْ، فَكانَ كَذَلِكَ ما شاءَ اللَّهُ أنْ يَكُونَ، ثُمَّ إنَّهُ ذَهَبَ يَوْمًا يَحْتَطِبُ كَما كانَ يَصْنَعُ فَجَمَعَ حَطَبَهُ وحَزَّمَ حِزْمَتَهُ وفَرَغَ مِنها، فَلَمّا أرادَ أنْ يَحْمِلَها وجَدَ سِنَةً فاضْطَجَعَ فَنامَ فَضُرِبَ عَلى أُذُنِهِ سِنِينَ نائِمًا، ثُمَّ إنَّهُ ذَهَبَ فَتَمَطّى فَتَحَوَّلَ لِشِقِّهِ الآخَرِ فاضْطَجَعَ فَضَرَبَ اللَّهُ عَلى أُذُنِهِ سَبْعَ سِنِينَ أُخْرى، ثُمَّ إنَّهُ ذَهَبَ فاحْتَمَلَ حِزْمَتَهُ ولا يَحْسَبُ إلّا أنَّهُ نامَ ساعَةً مِن نَهارٍ، فَجاءَ إلى القَرْيَةِ فَباعَ حِزْمَتَهُ، ثُمَّ اشْتَرى طَعامًا وشَرابًا كَما كانَ يَصْنَعُ، ثُمَّ ذَهَبَ إلى الحُفْرَةِ في مَوْضِعِها الَّذِي كانَتْ فِيهِ فالتَمَسَهُ فَلَمْ يَجِدْهُ، وقَدْ كانَ بَدا لِقَوْمِهِ فِيهِ بُدٌّ، فاسْتَخْرَجُوهُ فَآمَنُوا بِهِ وصَدَّقُوهُ، وكانَ النَّبِيُّ يَسْألُهم عَنْ ذَلِكَ الأسْوَدِ ما فَعَلَ ؟ فَيَقُولُونَ ما نَدْرِي حَتّى قُبِضَ ذَلِكَ النَّبِيُّ، فَأهَبَّ اللَّهُ الأسْوَدَ مِن نَوْمَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، إنَّ ذَلِكَ الأسْوَدَ لَأوَّلُ مَن يَدْخُلُ الجَنَّةَ» . قالَ ابْنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِهِ بَعْدَ إخْراجِهِ: وفِيهِ غَرابَةٌ ونَكارَةٌ، ولَعَلَّ فِيهِ إدْراجًا. انْتَهى. الحَدِيثُ أيْضًا مُرْسَلٌ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ زُرارَةَ بْنِ أوْفى قالَ: القَرْنُ مِائَةٌ وعِشْرُونَ عامًا. وأخْرَجَ هَؤُلاءِ عَنْ قَتادَةَ قالَ: القَرْنُ سَبْعُونَ سَنَةً. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبِي سَلَمَةَ قالَ: القَرْنُ مِائَةُ سَنَةٍ. وقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا إلى النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - أنَّهُ قالَ: «القَرْنُ مِائَةُ سَنَةٍ، وقالَ خَمْسُونَ سَنَةً، وقالَ: القَرْنُ أرْبَعُونَ سَنَةً» . وما أظُنُّهُ يَصِحُّ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ وقَدْ سُمِّيَ الجَماعَةُ مِنَ النّاسِ قَرْنًا كَما في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ «خَيْرُ القُرُونِ قَرْنِي» . وأخْرَجَ الحاكِمُ في الكُنى عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - إذا انْتَهى إلى مَعْدِ بْنِ عَدْنانَ أمْسَكَ، ثُمَّ يَقُولُ: كَذَبَ النَّسّابُونَ. قالَ اللَّهُ:» وقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿ولَقَدْ أتَوْا عَلى القَرْيَةِ﴾ قالَ: هي سَدُومُ قَرْيَةُ لُوطٍ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ قالَ: الحِجارَةُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿أرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَواهُ﴾ قالَ: كانَ الرَّجُلُ يَعْبُدُ الحَجَرَ الأبْيَضَ زَمانًا مِنَ الدَّهْرِ في الجاهِلِيَّةِ، فَإذا وجَدَ حَجَرًا أحْسَنَ مِنهُ رَمى بِهِ وعَبَدَ الآخَرَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ الآيَةَ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ في الآيَةِ قالَ: ذَلِكَ الكافِرُ لا يَهْوى شَيْئًا إلّا اتَّبَعَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب