الباحث القرآني

(p-١٠١٨). لَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ حالَ المُؤْمِنِينَ وما يَؤُولُ إلَيْهِ أمْرُهم ذَكَرَ مَثَلًا لِلْكافِرِينَ فَقالَ: ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا أعْمالُهم كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ﴾ المُرادُ بِالأعْمالِ هُنا: هي الأعْمالُ الَّتِي مِن أعْمالِ الخَيْرِ كالصَّدَقَةِ والصِّلَةِ وفَكِّ العانِي وعِمارَةِ البَيْتِ وسِقايَةِ الحاجِّ، والسَّرابُ: ما يُرى في المَفاوِزِ مِن لَمَعانِ الشَّمْسِ عِنْدَ اشْتِدادِ حَرِّ النَّهارِ عَلى صُورَةِ الماءِ في ظَنِّ مَن يَراهُ، وسُمِّيَ سَرابًا؛ لِأنَّهُ يَسْرُبُ أيْ: يَجْرِي كالماءِ، إلّا أنَّهُ يَرْتَفِعُ عَنِ الأرْضِ حَتّى يَصِيرَ كَأنَّهُ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، قالَ امْرُؤُ القَيْسِ: ؎ألَمْ أنْضِ المَطِيَّ بِكُلِّ خَرْقٍ طَوِيلِ الطُّولِ لَمّاعِ السَّرابِ وقالَ آخَرُ: ؎فَلَمّا كَفَفْنا الحَرْبَ كانَتْ عُهُودُهم ∗∗∗ كَلَمْعِ سَرابٍ بِالفَلا مُتَألِّقِ والقِيعَةُ جَمْعُ قاعٍ: وهو المَوْضِعُ المُنْخَفِضُ الَّذِي يَسْتَقِرُّ فِيهِ الماءُ، مِثْلُ جِيرَةٍ وجارٍ، قالَهُ الهَرَوِيُّ. وقالَ أبُو عُبَيْدٍ: قِيعَةٌ وقاعٌ واحِدٌ. قالَ الجَوْهَرِيُّ: القاعُ المُسْتَوِي مِنَ الأرْضِ، والجَمْعُ: أُقُوعٌ وأقْواعٌ وقِيعانٌ، صارَتِ الواوُ ياءً لِكَسْرِ ما قَبْلَها، والقِيعَةُ مِثْلُ القاعِ. قالَ: وبَعْضُهم يَقُولُ هو جَمْعٌ ﴿يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً﴾ هَذِهِ صِفَةٌ ثانِيَةٌ لِسَرابٍ، والظَّمْآنُ العَطْشانُ، وتَخْصِيصُ الحُسْبانِ بِالظَّمْآنِ مَعَ كَوْنِ الرَّيّانِ يَراهُ كَذَلِكَ؛ لِتَحْقِيقِ التَّشْبِيهِ المَبْنِيِّ عَلى الطَّمَعِ ﴿حَتّى إذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾ أيْ إذا جاءَ العَطْشانُ ذَلِكَ الَّذِي حَسِبَهُ ماءً لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا مِمّا قَدَّرَهُ وحَسِبَهُ ولا مِن غَيْرِهِ، والمَعْنى: أنَّ الكُفّارَ يُعَوِّلُونَ عَلى أعْمالِهِمُ الَّتِي يَظُنُّونَها مِنَ الخَيْرِ ويَطْمَعُونَ في ثَوابِها، فَإذا قَدِمُوا عَلى اللَّهِ سُبْحانَهُ لَمْ يَجِدُوا مِنها شَيْئًا؛ لِأنَّ الكُفْرَ أحْبَطَها ومَحا أثَرَها، والمُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿حَتّى إذا جاءَهُ﴾ مَعَ أنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ أنَّهُ جاءَ المَوْضِعَ الَّذِي كانَ يَحْبِسُهُ فِيهِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ ما يَدُلُّ عَلى زِيادَةِ حَسْرَةِ الكَفَرَةِ، وأنَّهُ لَمْ يَكُنْ قُصارى أمْرِهِمْ مُجَرَّدُ الخَيْبَةِ كَصاحِبِ السَّرابِ فَقالَ: ﴿ووَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ واللَّهُ سَرِيعُ الحِسابِ﴾ أيْ وجَدَ اللَّهَ بِالمِرْصادِ فَوَفّاهُ حِسابَهُ أيْ: جَزاءَ عَمَلِهِ، كَما قالَ امْرُؤُ القَيْسِ: ؎فَوَلّى مُدْبِرًا يَهْوى حَثِيثًا ∗∗∗ وأيْقَنَ أنَّهُ لاقى الحِسابا وقِيلَ: وجَدَ وعْدَ اللَّهِ بِالجَزاءِ عَلى عَمَلِهِ، وقِيلَ: وجَدَ أمْرَ اللَّهَ عِنْدَ حَشْرِهِ، وقِيلَ: وجَدَ حُكْمَهُ وقَضاءَهُ عِنْدَ المَجِيءِ، وقِيلَ: عِنْدَ العَمَلِ والمَعْنى مُتَقارِبٌ. وقَرَأ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحارِبٍ ( بَقِيعاهِ ) بَهاءٍ مُدَوَّرَةٍ كَما يُقالُ رَجُلٌ عَزْهاهُ. ورُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ قَرَأ ( بِقِيعاتٍ ) بِتاءٍ مَبْسُوطَةٍ. قِيلَ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ الألِفُ مُتَوَلِّدَةً مِن إشْباعِ العَيْنِ عَلى الأوَّلِ، وجَمْعُ قِيعَةٍ عَلى الثّانِي. ورُوِيَ عَنْ نافِعٍ وأبِي جَعْفَرٍ وشَيْبَةَ أنَّهم قَرَءُوا ( الظَّمْآنُ ) بِغَيْرِ هَمْزٍ، والمَشْهُورُ عَنْهُمُ الهَمْزُ. ﴿أوْ كَظُلُماتٍ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى كَسَرابٍ، ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا آخَرَ لِأعْمالِ الكُفّارِ كَما أنَّها تُشْبِهُ السَّرابَ المَوْصُوفَ بِتِلْكَ الصِّفاتِ، فَهي أيْضًا تُشْبِهُ الظُّلُماتِ. قالَ الزَّجّاجُ: أعْلَمَ اللَّهُ سُبْحانَهُ أنَّ أعْمالَ الكُفّارِ إنْ مُثِّلَتْ بِما يُوجَدُ فَمَثَلُها كَمَثَلِ السَّرابِ، وإنْ مُثِّلَتْ بِما يُرى فَهي كَهَذِهِ الظُّلُماتِ الَّتِي وصَفَ. قالَ أيْضًا: إنْ شِئْتَ مَثِّلْ بِالسَّرابِ، وإنْ شِئْتَ مَثِّلْ بِهَذِهِ الظُّلُماتِ، فَأوْ لِلْإباحَةِ حَسْبَما تَقَدَّمَ مِنَ القَوْلِ في ﴿أوْ كَصَيِّبٍ﴾ [البقرة: ١٩] قالَ الجُرْجانِيُّ الآيَةُ الأُولى في ذِكْرِ أعْمالِ الكُفّارِ، والثّانِيَةُ في ذِكْرِ كَفْرِهِمْ، ونَسَقُ الكُفْرِ عَلى أعْمالِهِمْ؛ لِأنَّهُ أيْضًا مِن أعْمالِهِمْ. قالَ القُشَيْرِيُّ: فَعِنْدَ الزَّجّاجِ التَّمْثِيلُ وقَعَ لِأعْمالِ الكُفّارِ، وعِنْدَ الجُرْجانِيِّ لِكُفْرِ الكُفّارِ ﴿فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ﴾ اللُّجَّةُ مُعْظَمُ الماءِ، والجَمْعُ لُجَجٌ وهو الَّذِي لا يُدْرَكُ لِعُمْقِهِ. ثُمَّ وصَفَ سُبْحانَهُ هَذا البَحْرَ بِصِفَةٍ أُخْرى فَقالَ: ﴿يَغْشاهُ مَوْجٌ﴾ أيْ يَعْلُو هَذا البَحْرَ مَوْجٌ فَيَسْتُرُهُ ويُغَطِّيهِ بِالكُلِّيَّةِ، ثُمَّ وصَفَ هَذا المَوْجَ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن فَوْقِهِ سَحابٌ﴾ أيْ مِن فَوْقِ ذَلِكَ المَوْجِ الثّانِي سَحابٌ، فَيَجْتَمِعُ حِينَئِذٍ عَلَيْهِمْ خَوْفُ البَحْرِ وأمْواجُهُ والسَّحابُ المُرْتَفِعَةُ فَوْقَهُ. وقِيلَ: إنَّ المَعْنى: يَغْشاهُ مَوْجٌ مِن بَعْدِهِ مَوْجٌ، فَيَكُونُ المَوْجُ يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا حَتّى كَأنَّ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ، والبَحْرُ أخْوَفُ ما يَكُونُ إذا تَوالَتْ أمْواجُهُ، فَإذا انْضَمَّ إلى ذَلِكَ وُجُودُ السَّحابِ مِن فَوْقِهِ زادَ الخَوْفُ شِدَّةً؛ لِأنَّها تَسْتُرُ النُّجُومَ الَّتِي يَهْتَدِي بِها مَن في البَحْرِ، ثُمَّ إذا أمْطَرَتْ تِلْكَ السَّحابُ وهَبَّتِ الرِّيحُ المُعْتادَةُ في الغالِبِ عِنْدَ نُزُولِ المَطَرِ تَكاثَفَتِ الهُمُومُ وتَرادَفَتِ الغُمُومُ، وبَلَغَ الأمْرُ إلى الغايَةِ الَّتِي لَيْسَ وراءَها غايَةٌ، ولِهَذا قالَ سُبْحانَهُ: ﴿ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ﴾ أيْ هي ظُلُماتٌ، أوْ هَذِهِ ظُلُماتٌ مُتَكاتِفَةٌ مُتَرادِفَةٌ، فَفي هَذِهِ الجُمْلَةِ بَيانٌ لِشِدَّةِ الأمْرِ وتَعاظُمِهِ وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ والبَزِّيُّ ﴿سَحابٌ ظُلُماتٌ﴾ بِإضافَةِ سَحابٍ إلى ظُلُماتٍ، ووَجْهُ الإضافَةِ أنَّ السَّحابَ يَرْتَفِعُ وقْتَ هَذِهِ الظُّلُماتِ، فَأُضِيفَ إلَيْها لِهَذِهِ المُلابَسَةِ. وقَرَأ الباقُونَ بِالقَطْعِ والتَّنْوِينِ. ومِن غَرائِبِ التَّفاسِيرِ أنَّهُ سُبْحانَهُ أرادَ بِالظُّلُماتِ: أعْمالَ الكافِرِ، وبِالبَحْرِ اللُّجِّيِّ: قَلَبَهُ: وبِالمَوْجِ فَوْقَ المَوْجِ: ما يَغْشى قَلْبَهُ مِنَ الجَهْلِ والشَّكِّ والحَيْرَةِ. والسَّحابُ الرَّيْنُ والخَتْمُ والطَّبْعُ عَلى قَلْبِهِ، وهَذا تَفْسِيرٌ هو عَنْ لُغَةِ العَرَبِ بِمَكانٍ بَعِيدٍ. ثُمَّ بالَغَ سُبْحانَهُ في هَذِهِ الظُّلُماتِ المَذْكُورَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿إذا أخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها﴾ وفاعِلُ أخْرَجَ ضَمِيرٌ يُعُودُ عَلى (p-١٠١٩)مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ المَقامُ أيْ: إذا أخْرَجَ الحاضِرُ في هَذِهِ الظُّلُماتِ أوْ مَنِ ابْتُلِيَ بِها. قالَ الزَّجّاجُ وأبُو عُبَيْدَةَ: المَعْنى لَمْ يَرَها ولَمْ يَكَدْ. وقالَ الفَرّاءُ: إنْ كادَ زائِدَةٌ. والمَعْنى: إذا أخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَرَها، كَما تَقُولُ ما كِدْتُ أعْرِفُهُ. وقالَ المُبَرِّدُ: يَعْنِي لَمْ يَرَها إلّا مِن بَعْدِ الجَهْدِ. قالَ النَّحّاسُ، أصَحُّ الأقْوالِ في هَذا أنَّ المَعْنى لَمْ يُقارِبْ رُؤْيَتَها، فَإذَنْ لَمْ يَرَها رُؤْيَةً بَعِيدَةً ولا قَرِيبَةً، وجُمْلَةُ ﴿ومَن لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَما لَهُ مِن نُورٍ﴾ مُقَرِّرَةٌ لِما قَبْلَها مِن كَوْنِ أعْمالِ الكَفَرَةِ عَلى تِلْكَ الصِّفَةِ، والمَعْنى: ومَن لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ هِدايَةً فَما لَهُ مِن هِدايَةٍ. قالَ الزَّجّاجُ: ذَلِكَ في الدُّنْيا، والمَعْنى: مَن لَمْ يَهْدِهِ اللَّهُ لَمْ يَهْتَدِ، وقِيلَ: المَعْنى مَن لَمْ يَجْعَلْ لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ يَوْمَ القِيامَةِ فَما لَهُ مِن نُورٍ يَهْتَدِي بِهِ إلى الجَنَّةِ. ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الآيَةِ في سُورَةِ سُبْحانَ، والخِطابُ لِكُلِّ مَن لَهُ أهْلِيَّةُ النَّظَرِ، أوْ لِلرَّسُولِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - وقَدْ عَلِمَهُ مِن جِهَةِ الِاسْتِدْلالِ، ومَعْنى ألَمْ تَرَ ألَمْ تَعْلَمْ، والهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيرِ أيْ: قَدْ عَلِمْتَ عِلْمًا يَقِينِيًّا شَبِيهًا بِالمُشاهَدَةِ، والتَّسْبِيحُ التَّنْزِيهُ في ذاتِهِ وأفْعالِهِ وصِفاتِهِ عَنْ كُلِّ ما يَلِيقُ بِهِ، ومَعْنى ﴿مَن في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ مَن هو مُسْتَقِرٌّ فِيهِما مِنَ العُقَلاءِ وغَيْرِهِمْ، وتَسْبِيحُ غَيْرِ العُقَلاءِ ما يُسْمَعُ مِن أصْواتِها ويُشاهَدُ مِن أثَرِ الصَّنْعَةِ البَدِيعَةِ فِيها. وقِيلَ: إنَّ التَّسْبِيحَ هُنا هو الصَّلاةُ مِنَ العُقَلاءِ والتَّنْزِيهُ مِن غَيْرِهِمْ. قَدْ قِيلَ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَشْمَلُ الحَيَواناتِ والجَماداتِ، وأنَّ آثارَ الصَّنْعَةِ الإلَهِيَّةِ في الجَماداتِ ناطِقٌ ومُخْبِرٌ بِاتِّصافِهِ سُبْحانَهُ بِصِفاتِ الجَلالِ والكَمالِ وتَنَزُّهِهِ عَنْ صِفاتِ النَّقْصِ، وفي ذَلِكَ تَقْرِيعٌ لِلْكُفّارِ وتَوْبِيخٌ لَهم حَيْثُ جَعَلُوا الجَماداتِ الَّتِي مِن شَأْنِها التَّسْبِيحُ لِلَّهِ سُبْحانَهُ شُرَكاءَ لَهُ يَعْبُدُونَها كَعِبادَتِهِ عَزَّ وجَلَّ. وبِالجُمْلَةِ فَإنَّهُ يَنْبَغِي حَمْلُ التَّسْبِيحِ عَلى ما يَلِيقُ بِكُلِّ نَوْعٍ مِن أنْواعِ المَخْلُوقاتِ عَلى طَرِيقَةِ عُمُومِ المَجازِ. قَرَأ الجُمْهُورُ ( والطَّيْرُ صافّاتٍ ) بِالرَّفْعِ لِلطَّيْرِ والنُّصْبِ لِصافّاتٍ عَلى أنَّ الطَّيْرَ مَعْطُوفَةٌ عَلى مَن، وصافّاتٌ مُنْتَصِبٌ عَلى الحالِ. وقَرَأ الأعْرَجُ ( والطَّيْرَ ) بِالنَّصْبِ عَلى المَفْعُولِ مَعَهُ، وصافّاتٍ حالٌ أيْضًا. قالَ الزَّجّاجُ وهي أجْوَدُ مِنَ الرَّفْعِ. وقَرَأ الحَسَنُ وخارِجَةُ عَنْ نافِعٍ ( والطَّيْرُ صافّاتٌ ) بِرَفْعِهِما عَلى الِابْتِداءِ والخَبَرِ، ومَفْعُولُ صافّاتٍ مَحْذُوفٌ أيْ: أجْنِحَتُها، وخَصَّ الطَّيْرَ بِالذِّكْرِ مَعَ دُخُولِها تَحْتَ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ لِعَدَمِ اسْتِمْرارِ اسْتِقْرارِها في الأرْضِ وكَثْرَةِ لُبْثِها وهو لَيْسَ مِنَ السَّماءِ ولا مِنَ الأرْضِ، ولِما فِيها مِنَ الصَّنْعَةِ البَدِيعَةِ الَّتِي تَقْدِرُ بِها تارَةً عَلى الطَّيَرانِ، وتارَةً عَلى المَشْيِ بِخِلافِ غَيْرِها مِنَ الحَيَواناتِ، وذَكَرَ حالَةً مِن حالاتِ الطَّيْرِ، وهي كَوْنُ صُدُورِ التَّسْبِيحِ مِنها حالَ كَوْنِها صافّاتٍ لِأجْنِحَتِها؛ لِأنَّ هَذِهِ الحالَةَ هي أغْرَبُ أحْوالِها، فَإنَّ اسْتِقْرارَها في الهَواءِ مُسَبِّحَةً مِن دُونِ تَحْرِيكٍ لِأجْنِحَتِها ولا اسْتِقْرارٍ عَلى الأرْضِ مِن أعْظَمِ صُنْعِ اللَّهِ الَّذِي أتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ. ثُمَّ زادَ في البَيانِ فَقالَ: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وتَسْبِيحَهُ﴾ أيْ كُلُّ واحِدٍ مِمّا ذُكِرَ، والضَّمِيرُ في عَلِمَ يَرْجِعُ إلى كُلٍّ. والمَعْنى: أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِن هَذِهِ المُسَبِّحاتِ لِلَّهِ قَدْ عَلِمَ صَلاةَ المُصَلِّي وتَسْبِيحَ المُسَبِّحِ. وقِيلَ: المَعْنى: أنَّ كُلَّ مُصَلٍّ ومُسَبِّحٍ قَدْ عَلِمَ صَلاةَ نَفْسِهِ وتَسْبِيحَ نَفْسِهِ. قِيلَ والصَّلاةُ هُنا بِمَعْنى التَّسْبِيحِ، وكُرِّرَ لِلتَّأْكِيدِ، والصَّلاةُ قَدْ تُسَمّى تَسْبِيحًا. وقِيلَ: المُرادُ بِالصَّلاةِ هُنا الدُّعاءُ أيْ: كُلُّ واحِدٍ قَدْ عَلِمَ دُعاءَهُ وتَسْبِيحَهُ. وفائِدَةُ الإخْبارِ بِأنَّ كُلَّ واحِدٍ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ أنَّ صُدُورَهُ مِنها عَلى طَرِيقَةِ الِاتِّفاقِ بِلا رَوِيَّةٍ، وفي ذَلِكَ زِيادَةُ دَلالَةٍ عَلى بَدِيعِ صُنْعِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وعَظِيمِ شَأْنِهِ، كَوْنُهُ جَعَلَها مُسَبِّحَةً لَهُ عالِمَةً بِما يَصْدُرُ مِنها غَيْرَ جاهِلَةٍ لَهُ ﴿واللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ﴾ هَذِهِ الجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِما قَبْلَها أيْ: لا تَخْفى عَلَيْهِ طاعَتُهم ولا تَسْبِيحُهم، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ في عَلِمَ لِلَّهِ سُبْحانَهُ أيْ: كُلُّ واحِدٍ مِن هَذِهِ المُسَبِّحَةِ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ صَلاتَهُ وتَسْبِيحَهُ إيّاهُ والأوَّلُ أرْجَحُ لِاتِّفاقِ القُرّاءِ عَلى رَفْعِ ( كُلٌّ )، ولَوْ كانَ الضَّمِيرُ في عَلِمَ لِلَّهِ لَكانَ نَصْبُ ( كُلٌّ ) أوْلى. وذَكَرَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ أنَّها قِراءَةُ طائِفَةٍ مِنَ القُرّاءِ ( عُلِمَ ) عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّ المَبْدَأ مِنهُ والمَعادَ إلَيْهِ فَقالَ، ﴿ولِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ أيْ لَهُ لا لِغَيْرِهِ وإلَيْهِ المَصِيرُ لا إلى غَيْرِهِ، والمَصِيرُ: الرُّجُوعُ بَعْدَ المَوْتِ. وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الآيَةِ في غَيْرِ مَوْضِعٍ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ دَلِيلًا آخَرَ مِنَ الآثارِ العُلْوِيَّةِ فَقالَ: ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحابًا﴾ الإزْجاءُ: السَّوْقُ قَلِيلًا قَلِيلًا، ومِنهُ قَوْلُ النّابِغَةِ: ؎إنِّي أتَيْتُكِ مِن أهْلِي ومِن وطَنِي ∗∗∗ أُزْجِي حُشاشَةَ نَفْسٍ ما بِها رَمَقُ وقَوْلُهُ أيْضًا: ؎أسَرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الجَوْزاءِ سارِيَةٌ ∗∗∗ يُزْجِي السِّماكُ عَلَيْهِ جامِدَ البَرَدِ والمَعْنى: أنَّهُ سُبْحانَهُ يَسُوقُ السَّحابَ سَوْقًا رَقِيقًا إلى حَيْثُ يَشاءُ ﴿ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ﴾ أيْ بَيْنَ أجْزائِهِ، فَيَضُمُّ بَعْضَهُ إلى بَعْضٍ ويَجْمَعُهُ بَعْدَ تَفَرُّقِهِ لِيَقْوى ويَتَّصِلَ ويَكْثُفَ، والأصْلُ في التَّأْلِيفِ الهَمْزُ. وقَرَأ ورْشٌ وقالُونُ عَنْ نافِعٍ ( يُوَلِّفُ ) بِالواوِ تَخْفِيفًا، والسَّحابُ واحِدٌ في اللَّفْظِ، ولَكِنَّ مَعْناهُ جَمْعٌ، ولِهَذا دَخَلَتْ ( بَيْنَ ) عَلَيْهِ؛ لِأنَّ أجْزاءَهُ في حُكْمِ المُفْرَداتِ لَهُ. قالَ الفَرّاءُ: إنَّ الضَّمِيرَ في ( بَيْنَهُ ) راجِعٌ إلى جُمْلَةِ السَّحابِ، كَما تَقُولُ الشَّجَرُ قَدْ جَلَسْتُ بَيْنَهُ؛ لِأنَّهُ جَمْعٌ وأُفْرِدَ الضَّمِيرُ بِاعْتِبارِ اللَّفْظِ ﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكامًا﴾ أيْ مُتَراكِمًا يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا. والرَّكْمُ: جَمْعُ الشَّيْءِ، يُقالُ رَكَمَ الشَّيْءَ يَرْكُمُهُ رَكْمًا أيْ: جَمَعَهُ وألْقى بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ وارْتَكَمَ الشَّيْءُ وتَراكَمَ إذا اجْتَمَعَ، والرُّكَمَةُ: الطِّينُ المَجْمُوعُ، والرُّكامُ: الرَّمْلُ المُتَراكِبُ ﴿فَتَرى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِن خِلالِهِ﴾ الوَدْقُ: المَطَرُ عِنْدَ جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎فَلا مُزْنَةٌ ودَقَتْ ودْقَها ∗∗∗ ولا أرْضٌ أبْقَلَ إبْقالَها وقالَ امْرُؤُ القَيْسِ: ؎فَدَمْعُهُما ودَقٌّ وسَحٌّ ودَيْمَةٌ ∗∗∗ وسَكَبٌ وتَوْكافٌ وتَنْهَمِلانِ يُقالُ ودَقَتِ السَّحابُ فَهي وادِقَةٌ، ودَقَ المَطَرُ يَدِقُ أيْ: (p-١٠٢٠)قَطَرَ يَقْطُرُ، وقِيلَ: إنَّ الوَدْقَ البَرْقُ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎أثَرْنَ عَجاجَةً وخَرَجْنَ مِنها ∗∗∗ خُرُوجَ الوَدْقِ مِن خَلَلِ السَّحابِ والأوَّلُ أوْلى. ومَعْنى ﴿مِن خِلالِهِ﴾ مِن فُتُوقِهِ الَّتِي هي مَخارِجُ القَطْرِ، وجُمْلَةُ ﴿يَخْرُجُ مِن خِلالِهِ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ؛ لِأنَّ الرُّؤْيَةَ هُنا هي البَصَرِيَّةُ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ مَسْعُودٍ والضَّحّاكُ وأبُو العالِيَةِ مَن ( خَلَلِهِ ) عَلى الإفْرادِ. وقَدْ وقَعَ الخِلافُ في خِلالِ، هَلْ هو مُفْرَدٌ كَحِجابٍ ؟ أوْ جَمْعٌ كَجِبالٍ ؟ ﴿ويُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِن جِبالٍ فِيها مِن بَرَدٍ﴾ المُرادُ بِقَوْلِهِ مِن سَماءٍ: مِن عالٍ؛ لِأنَّ السَّماءَ قَدْ تُطْلَقُ عَلى جِهَةِ العُلُوِّ، ومَعْنى مِن بَرَدٍ لِلتَّبْعِيضِ، وهو مَفْعُولُ يُنَزِّلُ. وقِيلَ: إنَّ المَفْعُولَ مَحْذُوفٌ، والتَّقْدِيرُ: يُنَزِّلُ مِن جِبالٍ فِيها مِن بَرَدٍ بَرَدًا. وقِيلَ: إنَّ مِن في مِن بَرَدٍ زائِدَةٌ، والتَّقْدِيرُ: يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِن جِبالٍ فِيها بَرَدٌ. وقِيلَ: إنَّ في الكَلامِ مُضافًا مَحْذُوفًا أيْ: يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ قَدْرَ الجِبالِ، أوْ مِثْلَ جِبالٍ مِن بَرَدٍ إلى الأرْضِ. قالَ الأخْفَشُ: إنَّ مَن في ( مِن جِبالٍ وفي ( مِن بَرَدٍ ) زائِدَةٌ في المَوْضِعَيْنِ والجِبالُ والبَرَدُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ أيْ: يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ بَرَدًا يَكُونُ كالجِبالِ. والحاصِلُ أنَّ مِن في ( مِنَ السَّماءِ ) لِابْتِداءِ الغايَةِ بِلا خِلافٍ ومِن في ( مِن جِبالٍ ) فِيها ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: الأوَّلُ لِابْتِداءِ الغايَةِ فَتَكُونُ هي ومَجْرُورِها بَدَلًا مِنَ الأُولى بِإعادَةِ الخافِضِ بَدَلَ اشْتِمالٍ. الثّانِي أنَّها لِلتَّبْعِيضِ فَتَكُونُ عَلى هَذا هي ومَجْرُورِها في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى أنَّها مَفْعُولُ الإنْزالِ، كَأنَّهُ قالَ: ويُنَزِّلُ بَعْضَ جِبالٍ. الثّالِثُ أنَّها زائِدَةٌ أيْ: يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ جِبالًا. وأمّا مِن في ( مِن بَرَدٍ ) فَفِيها أرْبَعَةُ أوْجُهٍ: الثَّلاثَةُ المُتَقَدِّمَةُ. والرّابِعُ أنَّها لِبَيانِ الجِنْسِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلى هَذا الوَجْهِ: ويُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ بَعْضَ جِبالٍ الَّتِي هي البَرَدُ. قالَ الزَّجّاجُ: مَعْنى الآيَةِ: ويُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِن جِبالٍ بَرَدٌ فِيها، كَما تَقُولُ: هَذا خاتَمٌ في يَدِي مِن حَدِيدٍ أيْ: خاتَمُ حَدِيدٍ في يَدِي؛ لِأنَّكَ إذا قُلْتَ هَذا خاتَمٌ مِن حَدِيدٍ وخاتَمُ حَدِيدٍ كانَ المَعْنى واحِدًا انْتَهى. وعَلى هَذا يَكُونُ مِن بَرَدٍ في مَوْضِعِ جَرٍّ صِفَةً لِجِبالٍ كَما كانَ مِن حَدِيدٍ صِفَةً لِخاتَمٍ ويَكُونُ مَفْعُولُ يُنَزِّلُ مِن جِبالٍ، ويَلْزَمُ مِن كَوْنِ الجِبالِ بَرَدًا أنْ يَكُونَ المُنَزَّلُ بَرَدًا. وذَكَرَ أبُو البَقاءِ أنَّ التَّقْدِيرَ: شَيْئًا مِن جِبالٍ، فَحَذَفَ المَوْصُوفَ واكْتَفى بِالصِّفَةِ ﴿فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشاءُ﴾ أيْ يُصِيبُ بِما يُنَزِّلُ مِنَ البَرَدِ مَن يَشاءُ أنْ يُصِيبَهُ مِن عِبادِهِ ﴿ويَصْرِفُهُ عَنْ مَن يَشاءُ﴾ مِنهم، أوْ يُصِيبُ بِهِ مالَ مَن يَشاءُ ويَصْرِفُهُ عَنْ مالِ مَن يَشاءُ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَنْ مَثْلِ هَذا في البَقَرَةِ ﴿يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصارِ﴾ السَّنا الضَّوْءُ أيْ: يَكادُ ضَوْءُ البَرْقِ الَّذِي في السَّحابِ يَذْهَبُ بِالأبْصارِ مِن شِدَّةِ بَرِيقِهِ وزِيادَةِ لَمَعانِهِ، وهو كَقَوْلِهِ: ﴿يَكادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أبْصارَهُمْ﴾ [البقرة: ٢٠] قالَ الشَّمّاخُ: ؎وما كادَتْ إذا رَفَعَتْ سَناها ∗∗∗ لِيُبْصِرَ ضَوْءَها إلّا البَصِيرُ وقالَ امْرُؤُ القَيْسِ: ؎يُضِيءُ سَناهُ أوْ مَصابِيحَ راهِبٍ ∗∗∗ أهانَ السَّلِيطَ في الذَّبالِ المُفَتَّلِ فالسَّنا بِالقَصْرِ ضَوْءُ البَرْقِ وبِالمَدِّ الرِّفْعَةُ، كَذا قالَ المُبَرِّدُ وغَيْرُهُ. وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ ويَحْيى بْنُ وثّابٍ ( سَناءُ بَرْقِهِ ) بِالمَدِّ عَلى المُبالَغَةِ في شِدَّةِ الضَّوْءِ والصَّفاءِ، فَأطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الرِّفْعَةِ والشَّرَفِ. وقَرَأ طَلْحَةُ ويَحْيى أيْضًا بِضَمِّ الباءِ مِن ( بُرَقِهِ ) وفَتْحِ الرّاءِ. قالَ أحْمَدُ بْنُ يَحْيى ثَعْلَبٌ: وهي عَلى هَذِهِ القِراءَةِ جَمْعُ بَرْقٍ. وقالَ النَّحّاسُ: البُرَقَةُ المِقْدارُ مِنَ البَرْقِ والبَرْقَةُ الواحِدَةُ. وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ وابْنُ القَعْقاعِ ( يُذْهِبُ ) بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ الهاءِ مِنَ الإذْهابِ. وقَرَأ الباقُونَ سَنا بِالقَصْرِ وبَرْقِهِ بِفَتْحِ الباءِ وسُكُونِ الرّاءِ ويَذْهَبُ بِفَتْحِ الياءِ والهاءِ مِنَ الذَّهابِ، وخَطَّأ قِراءَةَ الجَحْدَرِيِّ وابْنِ القَعْقاعِ الأخْفَشُ وأبُو حاتِمٍ. ومَعْنى ذَهابِ البَرْقِ بِالأبْصارِ: خَطْفُهُ إيّاها مِن شِدَّةِ الإضاءَةِ وزِيادَةِ البَرِيقِ، والباءُ في الأبْصارِ عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ لِلْإلْصاقِ، وعَلى قِراءَةِ غَيْرِهِمْ زائِدَةٌ. ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ والنَّهارَ﴾ أيْ يُعاقِبُ بَيْنَهُما، وقِيلَ: يُزِيدُ في أحَدِهِما ويُنْقِصُ الآخَرَ، وقِيلَ: يُقَلِّبُهُما بِاخْتِلافِ ما يُقَدِّرُهُ فِيهِما مِن خَيْرٍ وشَرٍّ ونَفْعٍ وضُرٍّ، وقِيلَ: بِالحَرِّ والبَرْدِ، وقِيلَ: المُرادُ بِذَلِكَ تَغْيِيرُ النَّهارِ بِظُلْمَةِ السَّحابِ مَرَّةً وبِضَوْءِ الشَّمْسِ أُخْرى، وتَغْيِيرُ اللَّيْلِ بِظُلْمَةِ السَّحابِ تارَةً وبِضَوْءِ القَمَرِ أُخْرى، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأبْصارِ﴾ إلى ما تَقَدَّمَ، ومَعْنى العِبْرَةِ: الدَّلالَةُ الواضِحَةُ الَّتِي يَكُونُ بِها الِاعْتِبارُ، والمُرادُ بِـ أُولِي الأبْصارِ كُلُّ مَن لَهُ بَصَرٌ يُبْصِرُ بِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ دَلِيلًا ثالِثًا مِن عَجائِبِ خَلْقِ الحَيَوانِ وبَدِيعِ صَنْعَتِهِ فَقالَ: ﴿واللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دابَّةٍ مِن ماءٍ﴾ قَرَأ يَحْيى بْنُ وثّابٍ والأعْمَشُ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ ( واللَّهُ خالِقُ كُلِّ دابَّةٍ ) وقَرَأ الباقُونَ خَلَقَ والمَعْنَيانِ صَحِيحانِ، والدّابَّةُ: كُلُّ ما دَبَّ عَلى الأرْضِ مِنَ الحَيَوانِ، يُقالُ دَبَّ يَدِبُّ فَهو دابٌّ، والهاءُ لِلْمُبالَغَةِ، ومَعْنى ﴿مِن ماءٍ﴾ مِن نُطْفَةٍ، وهي المَنِيُّ، كَذا قالَ الجُمْهُورُ. وقالَ جَماعَةٌ: إنَّ المُرادَ الماءُ المَعْرُوفُ؛ لِأنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنَ الماءِ والطِّينِ. وقِيلَ: في الآيَةِ تَنْزِيلُ الغالِبِ مَنزِلَةِ الكُلِّ عَلى القَوْلِ الأوَّلِ؛ لِأنَّ في الحَيَواناتِ ما يَتَوَلَّدُ لا عَنْ نُطْفَةٍ، ويَخْرُجُ مِن هَذا العُمُومِ المَلائِكَةُ فَإنَّهم خُلِقُوا مِن نُورٍ، والجانُّ فَإنَّهم خُلِقُوا مِن نارٍ. ثُمَّ فَصَّلَ سُبْحانَهُ أحْوالَ كُلِّ دابَّةٍ فَقالَ: ﴿فَمِنهم مَن يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ﴾ وهي الحَيّاتُ والحُوتُ والدُّودُ ونَحْوُ ذَلِكَ ﴿ومِنهم مَن يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ﴾ الإنْسانُ والطَّيْرُ ﴿ومِنهم مَن يَمْشِي عَلى أرْبَعٍ﴾ سائِرُ الحَيَواناتِ، ولَمْ يَتَعَرَّضْ لِما يَمْشِي عَلى أكْثَرِ مِن أرْبَعٍ لِقِلَّتِهِ، وقِيلَ: لِأنَّ المَشْيَ عَلى أرْبَعٍ فَقَطْ وإنْ كانَتِ القَوائِمُ كَثِيرَةً، وقِيلَ: لِعَدَمِ الِاعْتِدادِ بِما يَمْشِي عَلى أكْثَرِ مِن أرْبَعٍ ؟ وقِيلَ: لَيْسَ في القُرْآنِ ما يَدُلُّ عَلى عَدَمِ المَشْيِ عَلى أكْثَرِ مِن أرْبَعٍ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَنْفِ ذَلِكَ ولا جاءَ بِما يَقْتَضِي الحَصْرَ، وفي (p-١٠٢١)مُصْحَفِ أُبَيٍّ ( ومِنهم مَن يَمْشِي عَلى أكْثَرَ ) فَعَمَّ بِهَذِهِ الزِّيادَةِ جَمِيعَ ما يَمْشِي عَلى أكْثَرِ مِن أرْبَعٍ كالسَّرَطانِ والعَناكِبِ وكَثِيرٍ مِن خِشاشِ الأرْضِ ﴿يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ﴾ مِمّا ذَكَرَهُ هاهُنا ومِمّا لَمْ يَذْكُرْهُ كالجَماداتِ مُرَكَّبِها وبَسِيطِها نامِيها وغَيْرِ نامِيها ﴿إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ بَلِ الكُلُّ مِن مَخْلُوقاتِهِ داخِلٌ تَحْتِ قُدْرَتِهِ سُبْحانَهُ. ﴿لَقَدْ أنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ﴾ أيِ القُرْآنَ، فَإنَّهُ قَدِ اشْتَمَلَ عَلى بَيانِ كُلِّ شَيْءٍ وما فَرَّطْنا في الكِتابِ مِن شَيْءٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ مِثْلِ هَذا في غَيْرِ مَوْضِعٍ ﴿واللَّهُ يَهْدِي مَن يَشاءُ﴾ بِتَوْفِيقِهِ لِلنَّظَرِ الصَّحِيحِ وإرْشادِهِ إلى التَّأمُّلِ الصّادِقِ ﴿إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ إلى طَرِيقٍ مُسْتَوٍ لا عِوَجَ فِيهِ، فَيُتَوَصَّلُ بِذَلِكَ إلى الخَيْرِ التّامِّ وهو نُعَيْمُ الجَنَّةِ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا أعْمالُهم كَسَرابٍ﴾ قالَ: هو مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ كَرَجُلٍ عَطِشَ فاشْتَدَّ عَطَشُهُ فَرَأى سَرابًا فَحَسِبَهُ ماءً، فَطَلَبَهُ فَظَنَّ أنَّهُ قَدَرَ عَلَيْهِ حَتّى أتى، فَلَمّا أتاهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا، وقُبِضَ عِنْدَ ذَلِكَ، يَقُولُ: الكافِرُ كَذَلِكَ السَّرابُ إذا أتاهُ المَوْتُ لَمْ يَجِدْ عَمَلَهُ يُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا، ولا يَنْفَعُهُ إلّا كَما نَفَعَ السَّرابُ العَطْشانَ ﴿أوْ كَظُلُماتٍ في بَحْرٍ لُجِّيٍّ﴾ قالَ: يَعْنِي بِالظُّلُماتِ الأعْمالَ، وبِالبَحْرِ اللُّجِّيِّ قَلْبَ الإنْسانِ ﴿يَغْشاهُ مَوْجٌ﴾ يَعْنِي بِذَلِكَ الغِشاوَةَ الَّتِي عَلى القَلْبِ والسَّمْعِ والبَصَرِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ بِقِيعَةٍ: بِأرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن طَرِيقٍ السُّدِّيِّ عَنْ أبِيهِ عَنْ أصْحابِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - قالَ إنَّ الكُفّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ القِيامَةِ وِرْدًا عِطاشًا فَيَقُولُونَ أيْنَ الماءُ ؟ فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ السَّرابُ فَيَحْسَبُونَهُ ماءً، فَيَنْطَلِقُونَ إلَيْهِ فَيَجِدُونَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَيُوَفِّيهِمْ حِسابَهُ واللَّهُ سَرِيعُ الحِسابِ وفي إسْنادِهِ السُّدِّيُّ عَنْ أبِيهِ، وفِيهِ مَقالٌ مَعْرُوفٌ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو الشَّيْخِ في العَظَمَةِ في قَوْلِهِ ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وتَسْبِيحَهُ﴾ قالَ: الصَّلاةُ لِلْإنْسانِ والتَّسْبِيحُ لِما سِوى ذَلِكَ مِن خَلْقِهِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ في قَوْلِهِ ﴿والطَّيْرُ صافّاتٍ﴾ قالَ: بَسْطُ أجْنِحَتِهِنَّ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتادَةَ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿يَكادُ سَنا بَرْقِهِ﴾ يَقُولُ: ضَوْءُ بَرْقِهِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: كُلُّ شَيْءٍ يَمْشِي عَلى أرْبَعٍ إلّا الإنْسانَ. وأقُولُ: هَذِهِ الطُّيُورُ عَلى اخْتِلافِ أنْواعِها تَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ، وهَكَذا غَيْرُها، كالنَّعامَةِ فَإنَّها تَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ، ولَيْسَتْ مِنَ الطَّيْرِ، فَهَذِهِ الكُلِّيَّةُ المَرْوِيَّةُ عَنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا تَصِحُّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب