الباحث القرآني

. لَمّا نَفى سُبْحانَهُ الخَيِّراتِ الحَقِيقِيَّةَ عَنِ الكَفَرَةِ المُتَنَعِّمِينَ أتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَن هو أهْلٌ لِلْخَيِّراتِ عاجِلًا وآجِلًا فَوَصَفَهم بِصِفاتٍ أرْبَعٍ: الأُولى قَوْلُهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ هم مِن خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ الإشْفاقُ: الخَوْفُ، تَقُولُ أنا مُشْفِقٌ مِن هَذا الأمْرِ أيْ: خائِفٌ. قِيلَ الإشْفاقُ هو الخَشْيَةُ، فَظاهِرُ ما في الآيَةِ التَّكْرارُ. وأُجِيبَ بِحَمْلِ الخَشْيَةِ عَلى العَذابِ أيْ: مِن عَذابِ رَبِّهِمْ خائِفُونَ، وبِهِ قالَ الكَلْبِيُّ ومُقاتِلٌ. وأُجِيبَ أيْضًا بِحَمْلِ الإشْفاقِ عَلى ما هو أثَرٌ لَهُ: وهو الدَّوامُ عَلى الطّاعَةِ أيْ: الَّذِينَ هم مِن خَشْيَةِ رَبِّهِمْ دائِمُونَ عَلى طاعَتِهِ. وأُجِيبَ أيْضًا بِأنَّ الإشْفاقَ كَمالُ الخَوْفِ فَلا تَكْرارَ، وقِيلَ: هو تَكْرارٌ لِلتَّأْكِيدِ. والصِّفَةُ الثّانِيَةُ قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ هم بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ قِيلَ المُرادُ بِالآياتِ هي التَّنْزِيلِيَّةُ، وقِيلَ: هي التَّكْوِينِيَّةُ، وقِيلَ: مَجْمُوعُهُما، قِيلَ ولَيْسَ المُرادُ بِالإيمانِ بِها هو التَّصْدِيقُ بِكَوْنِها دَلائِلَ وأنَّ مَدْلُولَها حَقٌّ. والصِّفَةُ الثّالِثَةُ قَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ هم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ﴾ أيْ يَتْرُكُونَ الشِّرْكَ تَرْكًا كُلِيًّا ظاهِرًا وباطِنًا. والصِّفَةُ الرّابِعَةُ قَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهم وجِلَةٌ أنَّهم إلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ﴾ أيْ يَعْطُونَ ما أعْطُوا وقُلُوبُهم خائِفَةٌ مِن أجْلِ ذَلِكَ الإعْطاءِ يَظُنُّونَ أنَّ ذَلِكَ لا يُنْجِيهِمْ مِن عَذابِ اللَّهِ، وجُمْلَةُ ﴿وقُلُوبُهم وجِلَةٌ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ أيْ: والحالُ أنَّ قُلُوبَهم خائِفَةٌ أشَدَّ الخَوْفِ. قالَ الزَّجّاجُ: قُلُوبُهم خائِفَةٌ؛ لِأنَّهم إلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ، وسَبَبُ الوَجَلِ هو أنْ يَخافُوا أنْ لا يُقْبَلَ مِنهم ذَلِكَ عَلى الوَجْهِ المَطْلُوبِ، لا مُجَرَّدُ رُجُوعِهِمْ إلَيْهِ سُبْحانَهُ. وقِيلَ: المَعْنى: أنَّ مَنِ اعْتَقَدَ الرُّجُوعَ إلى الجَزاءِ والحِسابِ وعَلِمَ أنَّ المُجازِيَ والمُحاسِبَ هو الرَّبُّ الَّذِي لا تَخْفى عَلَيْهِ خافِيَةٌ لَمْ يَخْلُ مِن وجَلٍ. قَرَأتْ عائِشَةُ وابْنُ عَبّاسٍ والنَّخْعِيُّ ( يَأْتُونَ ما أتَوْا ) مَقْصُورًا مِنَ الإتْيانِ. قالَ الفَرّاءُ: ولَوْ صَحَّتْ هَذِهِ القِراءَةُ لَمْ تُخالِفْ قِراءَةَ الجَماعَةِ؛ لِأنَّ مِنَ العَرَبِ مَن يُلْزِمُ في الهَمْزِ الألْفَ في كُلِّ الحالاتِ. قالَ النَّحّاسُ: ومَعْنى هَذِهِ القِراءَةِ يَعْمَلُونَ ما عَمِلُوا. والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولَئِكَ إلى المُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفاتِ، ومَعْنى ﴿يُسارِعُونَ في الخَيْراتِ﴾ يُبادِرُونَ بِها. قالَ الفَرّاءُ والزَّجّاجُ: يُنافِسُونَ فِيها، وقِيلَ: يُسابِقُونَ، وقُرِئَ ( يُسْرِعُونَ ) ﴿وهم لَها سابِقُونَ﴾ اللّامُ لِلتَّقْوِيَةِ، والمَعْنى: هم سابِقُونَ إيّاها، وقِيلَ: اللّامُ بِمَعْنى إلى كَما في قَوْلِهِ: ﴿بِأنَّ رَبَّكَ أوْحى لَها﴾ [الزلزلة: ٥] أيْ أوْحى إلَيْها، وأنْشَدَ سِيبَوَيْهِ قَوْلَ الشّاعِرِ: ؎تَجانَفْ عَنْ أهْلِ اليَمامَةِ يا فَتى وما قَصَدْتَ مِن أهْلِها لِسِوائِكا أيْ إلى سِوائِكا، وقِيلَ: المَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، والتَّقْدِيرُ: وهم سابِقُونَ النّاسَ لِأجْلِها. ثُمَّ لَمّا انْجَرَّ الكَلامُ إلى ذِكْرِ أعْمالِ المُكَلَّفِينَ ذَكَرَ لَهُما حُكْمَيْنِ: الأوَّلُ قَوْلِهِ: ﴿ولا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها﴾ (p-٩٨٧)الوُسْعُ هو الطّاقَةُ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ هَذا في آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ، وفي تَفْسِيرِ الوُسْعِ قَوْلانِ: الأوَّلُ أنَّهُ الطّاقَةُ كَما فَسَّرَهُ بِذَلِكَ أهْلُ اللُّغَةِ. الثّانِي أنَّهُ دُونَ الطّاقَةِ، وبِهِ قالَ مُقاتِلٌ والضَّحّاكُ والكَلْبِيُّ. والمُعْتَزِلَةُ قالُوا: لِأنَّ الوُسْعَ إنَّما سُمِّيَ لِأنَّهُ يَتَّسِعُ عَلى فاعِلِهِ فِعْلُهُ ولا يَضِيقُ عَلَيْهِ، فَمَن لَمْ يَسْتَطِعِ الجُلُوسَ فَلْيُومِئْ إيماءً، ومَن لَمْ يَسْتَطِعِ الصَّوْمَ فَلْيُفْطِرْ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلتَّحْرِيضِ عَلى ما وُصِفَ بِهِ السّابِقُونَ مِن فِعْلِ الطّاعاتِ المُؤَدِّي إلى نَيْلِ الكَراماتِ بِبَيانِ سُهُولَتِهِ وكَوْنِهِ غَيْرَ خارِجٍ عَنْ حَدِّ الوُسْعِ والطّاقَةِ، وأنَّ ذَلِكَ عادَةُ اللَّهِ سُبْحانَهُ في تَكْلِيفِ عِبادِهِ، وجُمْلَةُ ﴿ولَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالحَقِّ﴾ مِن تَمامِ ما قَبْلَها مِن نَفْيِ التَّكْلِيفِ بِما فَوْقَ الوُسْعِ والمُرادُ بِالكِتابِ صَحائِفُ الأعْمالِ أيْ: عِنْدَنا كِتابٌ قَدْ أثْبَتَ فِيهِ أعْمالَ كُلِّ واحِدٍ مِنَ المُكَلَّفِينَ عَلى ما هي عَلَيْهِ، ومَعْنى يَنْطِقُ بِالحَقِّ يَظْهَرُ بِهِ الحَقُّ المُطابِقُ لِلْواقِعِ مِن دُونِ زِيادَةٍ ولا نَقْصٍ، ومِثْلُهُ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿هَذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكم بِالحَقِّ إنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ وفي هَذا تَهْدِيدٌ لِلْعُصاةِ وتَأْنِيسٌ لِلْمُطِيعِينَ مِنَ الحَيْفِ والظُّلْمِ. وقِيلَ: المُرادُ بِالكِتابِ اللَّوْحُ المَحْفُوظُ، فَإنَّهُ قَدْ كُتِبَ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ. وقِيلَ: المُرادُ بِالكِتابِ: القُرْآنُ، والأوَّلُ أوْلى. وفِي هَذِهِ الآيَةِ تَشْبِيهٌ لِلْكِتابِ بِمَن يَصْدُرُ عَنْهُ البَيانُ بِالنُّطْقِ بِلِسانِهِ، فَإنَّ الكِتابَ يُعْرِبُ عَمّا فِيهِ كَما يُعْرِبُ النّاطِقُ المُحِقُّ، وقَوْلُهُ: بِالحَقِّ. يَتَعَلَّقُ بِيَنْطِقُ، أوْ بِمَحْذُوفٍ هو حالٌ مِن فاعِلِهِ أيْ: يَنْطِقُ مُلْتَبِسًا بِالحَقِّ، وجُمْلَةُ ﴿وهم لا يُظْلَمُونَ﴾ مُبَيِّنَةٌ لِما قَبْلَها مِن تَفَضُّلِهِ وعَدْلِهِ في جَزاءِ عِبادِهِ: لا يُظْلَمُونَ بِنَقْصِ ثَوابٍ أوْ زِيادَةِ عِقابٍ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ووَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِرًا ولا يَظْلِمُ رَبُّكَ أحَدًا﴾ . ثُمَّ أضْرَبَ سُبْحانَهُ عَنْ هَذا فَقالَ: ﴿بَلْ قُلُوبُهم في غَمْرَةٍ مِن هَذا﴾ والضَّمِيرُ لِلْكُفّارِ أيْ: بَلْ قُلُوبُ الكُفّارِ في غَمْرَةٍ غامِرَةٍ لَها عَنْ هَذا الكِتابِ الَّذِي يَنْطِقُ بِالحَقِّ، أوْ عَنِ الأمْرِ الَّذِي عَلَيْهِ المُؤْمِنُونَ، يُقالُ غَمَرَهُ الماءُ: إذا غَطّاهُ، ونَهْرٌ غَمْرٌ: يُغَطِّي مَن دَخَلَهُ، والمُرادُ بِها هُنا الغِطاءُ والغَفْلَةُ أوِ الحَيْرَةُ والعَمى، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى الغَمْرَةِ قَرِيبًا ﴿ولَهم أعْمالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ﴾ قالَ قَتادَةُ ومُجاهِدٌ أيْ: لَهم خَطايا لا بُدَّ أنْ يَعْمَلُوها مِن دُونِ الحَقِّ. وقالَ الحَسَنُ وابْنُ زَيْدٍ: المَعْنى ولَهم أعْمالٌ رَدِيئَةٌ لَمْ يَعْمَلُوها مِن دُونِ ما هم عَلَيْهِ لا بُدَّ أنْ يَعْمَلُوها فَيَدْخُلُونَ بِها النّارَ، فالإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ إمّا إلى أعْمالِ المُؤْمِنِينَ، أوْ إلى أعْمالِ الكُفّارِ أيْ: لَهم أعْمالٌ مَن دُونِ أعْمالِ المُؤْمِنِينَ الَّتِي ذَكَرَها اللَّهُ، أوْ مِن دُونِ أعْمالِ الكُفّارِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُها مِن كَوْنِ قُلُوبِهِمْ في غَفْلَةٍ عَظِيمَةٍ مِمّا ذُكِرَ، وهي فُنُونُ كُفْرِهِمْ ومَعاصِيهِمُ الَّتِي مِن جُمْلَتِها ما سَيَأْتِي مِن طَعْنِهِمْ في القُرْآنِ. قالَ الواحِدِيُّ: إجْماعُ المُفَسِّرِينَ وأصْحابِ المَعانِي عَلى أنَّ هَذا إخْبارٌ عَمّا سَيَعْمَلُونَهُ مِن أعْمالِهِمُ الخَبِيثَةِ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ لا بُدَّ لَهم أنْ يَعْمَلُوها، وجُمْلَةُ ﴿هم لَها عامِلُونَ﴾ مُقَرِّرَةٌ لِما قَبْلَها أيْ: واجِبٌ عَلَيْهِمْ أنْ يَعْمَلُوها فَيَدْخُلُوا بِها النّارَ لِما سَبَقَ لَهم مِنَ الشَّقاوَةِ لا مَحِيصَ لَهم عَنْ ذَلِكَ. ثُمَّ رَجَعَ سُبْحانَهُ إلى وصْفِ الكُفّارِ فَقالَ: ﴿حَتّى إذا أخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالعَذابِ﴾ حَتّى هَذِهِ هي الَّتِي يُبْتَدَأُ بَعْدَها الكَلامُ، والكَلامُ هو الجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ المَذْكُورَةُ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِما قَبْلَها، والضَّمِيرُ في مُتْرَفِيهِمْ راجِعٌ إلى مَن تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الكُفّارِ، والمُرادُ بِالمُتْرَفِينَ المُتَنَعِّمِينَ مِنهم، والضَّمِيرُ في مُتْرَفِيهِمْ راجِعٌ إلى مَن تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الكُفّارِ، والمُرادُ بِالمُتْرَفِينَ المُتَنَعِّمُونَ مِنهم، وهُمُ الَّذِينَ أمَدَّهُمُ اللَّهُ بِما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ المالِ والبَنِينَ، أوِ المُرادُ بِهِمُ الرُّؤَساءُ مِنهم. والمُرادُ بِالعَذابِ هو عَذابُهم بِالسَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ، أوْ بِالجُوعِ بِدُعاءِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - حَيْثُ قالَ: «اللَّهُمَّ اشْدُدْ وطْأتَكَ عَلى مُضَرَ واجْعَلْها عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ» . وقِيلَ: المُرادُ بِالعَذابِ عَذابُ الآخِرَةِ، ورَجَّحَ هَذا بِأنَّ ما يَقَعُ مِنهم مَنِ الجُؤارِ إنَّما يَكُونُ عِنْدَ عَذابِ الآخِرَةِ؛ لِأنَّهُ الِاسْتِغاثَةُ بِاللَّهِ ولَمْ يَقَعْ مِنهم ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ ولا في سِنِي الجُوعِ. ويُجابُ عَنْهُ بِأنَّ الجُؤارَ في اللُّغَةِ الصُّراخُ والصِّياحُ. قالَ الجَوْهَرِيُّ: الجُؤارُ مِثْلُ الخُوارِ، يُقالُ جَأرَ الثَّوْرُ يَجْأرُ أيْ: صاحَ، وقَدْ وقَعَ مِنهم ومِن أهْلِهِمْ وأوْلادِهِمْ عِنْدَ أنْ عُذِّبُوا بِالسَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ، وبِالجُوعِ في سِنِي الجُوعِ، ولَيْسَ الجُؤارُ هاهُنا مُقَيَّدًا بِالجُؤارِ الَّذِي هو التَّضَرُّعُ بِالدُّعاءِ حَتّى يَتِمَّ ما ذَكَرَهُ ذَلِكَ القائِلُ، وجُمْلَةُ ﴿إذا هم يَجْأرُونَ﴾ جَوابُ الشَّرْطِ، وإذا هي الفُجائِيَّةُ، والمَعْنى: حَتّى إذا أخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالعَذابِ جَأرُوا بِالصُّراخِ. ثُمَّ أخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّهُ يُقالُ لَهم حِينَئِذٍ عَلى جِهَةِ التَّبْكِيتِ ﴿لا تَجْأرُوا اليَوْمَ﴾ فالقَوْلُ مُضْمَرٌ، والجُمْلَةُ مَسُوقَةٌ لِتَبْكِيتِهِمْ وِإقْناطِهِمْ وقَطْعِ أطْماعِهِمْ، وخَصَّصَ سُبْحانَهُ المُتْرَفِينَ مَعَ أنَّ العَذابَ لاحِقٌ بِهِمْ جَمِيعًا واقِعٌ عَلى مُتْرَفِيهِمْ وغَيْرِ مُتْرَفِيهِمْ لِبَيانِ أنَّهم بَعْدَ النِّعْمَةِ الَّتِي كانُوا فِيها صارُوا عَلى حالَةِ تُخالِفُها وتُبايِنُها، فانْتَقَلُوا مِنَ النَّعِيمِ التّامِّ إلى الشَّقاءِ الخالِصِ، وخُصَّ اليَوْمُ بِالذِّكْرِ لِلتَّهْوِيلِ، وجُمْلَةُ ﴿إنَّكم مِنّا لا تُنْصَرُونَ﴾ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الجُؤارِ، والمَعْنى: إنَّكم مِن عَذابِنا لا تُمْنَعُونَ ولا يَنْفَعُكم جَزَعُكم. وقِيلَ: المَعْنى: إنَّكم لا يَلْحَقُكم مِن جِهَتِنا نُصْرَةٌ تَمْنَعُكم مِمّا دَهَمَكم مِنَ العَذابِ. ثُمَّ عَدَّدَ سُبْحانَهُ عَلَيْهِمْ قَبائِحَهم تَوْبِيخًا لَهم فَقالَ: ﴿قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ﴾ أيْ في الدُّنْيا، وهي آياتُ القُرْآنِ ﴿فَكُنْتُمْ عَلى أعْقابِكم تَنْكِصُونَ﴾ أيْ تَرْجِعُونَ وراءَكم، وأصْلُ النُّكُوصِ أنْ يَرْجِعَ القَهْقَرى، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎زَعَمُوا أنَّهم عَلى سُبُلِ الحَقِّ ∗∗∗ وأنّا نُكُصٌ عَلى الأعْقابِ وهُوَ هُنا اسْتِعارَةٌ لِلْإعْراضِ عَنِ الحَقِّ، وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ ( عَلى أدْبارِكم ) بَدَلَ ﴿عَلى أعْقابِكم تَنْكِصُونَ﴾ بِضَمِّ الكافِ، وعَلى أعْقابِكم مُتَعَلِّقٌ بِتَنْكِصُونَ، أوْ مُتَعَلِّقٍ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِن فاعِلِ تَنْكِصُونَ. ﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ﴾ الضَّمِيرُ في بِهِ راجِعٌ إلى البَيْتِ العَتِيقِ، وقِيلَ: لِلْحَرَمِ، والَّذِي سَوَّغَ الإضْمارَ قَبْلَ الذِّكْرِ اشْتِهارُهم بِالِاسْتِكْبارِ بِهِ وافْتِخارُهم بِوِلايَتِهِ والقِيامِ بِهِ، وكانُوا يَقُولُونَ: لا يَظْهَرُ عَلَيْنا أحَدٌ؛ لِأنّا أهْلُ الحَرَمِ وخُدّامُهُ. وإلى هَذا ذَهَبَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ عائِدٌ إلى القُرْآنِ. والمَعْنى: أنَّ سَماعَهُ يُحْدِثُ لَهم كِبْرًا وطُغْيانًا فَلا يُؤْمِنُونَ بِهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا قَوْلٌ جَيِّدٌ. (p-٩٨٨)وقالَ النَّحّاسُ: القَوْلُ الأوَّلُ أوْلى وبَيَّنَهُ بِما ذَكَرْنا. فَعَلى القَوْلِ الأوَّلِ يَكُونُ بِهِ مُتَعَلِّقا بِمُسْتَكْبِرِينَ، وعَلى الثّانِي يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِـ سامِرًا لِأنَّهم كانُوا يَجْتَمِعُونَ حَوْلَ البَيْتِ بِاللَّيْلِ يَسْمُرُونَ، وكانَ عامَّةُ سَمَرِهِمْ ذِكْرَ القُرْآنِ والطَّعْنَ فِيهِ، والسّامِرُ كالحاضِرِ في الإطْلاقِ عَلى الجَمْعِ. قالَ الواحِدِيُّ: السّامِرُ الجَماعَةُ يَسْمُرُونَ بِاللَّيْلِ أيْ: يَتَحَدَّثُونَ، ويَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ بِقَوْلِهِ: تَهْجُرُونَ والهَجْرُ بِالفَتْحِ الهَذَيانُ أيْ: تَهْذُونَ في شَأْنِ القُرْآنِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِنَ الهُجْرِ بِالضَّمِّ، وهو الفُحْشُ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ وابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ عُمَرَ وأبُو حَيْوَةَ ( سُمَّرًا ) بِضَمِّ السِّينِ وفَتْحِ المِيمِ مُشَدَّدَةً، وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وأبُو رَجاءٍ ( سَمارًا ) ورُوِيَتْ هَذِهِ القِراءَةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وانْتِصابُ سامِرًا عَلى الحالِ إمّا مِن فاعِلِ تَنْكِصُونَ، أوْ مِنَ الضَّمِيرِ في مُسْتَكْبِرِينَ، وقِيلَ: هو مَصْدَرٌ جاءَ عَلى لَفْظِ الفاعِلِ، يُقالُ قَوْمٌ سامِرٌ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎كَأنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الحَجُونِ إلى الصَّفا ∗∗∗ أنِيسٌ ولَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سامِرُ قالَ الرّاغِبُ: ويُقالُ سامِرٌ وسُمّارٌ، وسُمْرٌ وسامِرُونَ. قَرَأ الجُمْهُورُ تَهْجُرُونَ بِفَتْحِ التّاءِ المُثَنّاةِ مِن فَوْقٍ وضَمِّ الجِيمِ. وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ مُحَيْصِنٍ بِضَمِّ التّاءِ وكَسْرِ الجِيمِ مِن أهْجَرَ أيْ: أفْحَشَ في مَنطِقِهِ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وابْنُ مُحَيْصِنٍ وأبُو نَهِيكٍ بِضَمِّ التّاءِ وفَتْحِ الهاءِ وكَسْرِ الجِيمِ مُشَدَّدَةً مُضارِعَ هَجَّرَ بِالتَّشْدِيدِ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عاصِمٍ كالجُمْهُورِ إلّا أنَّهُ بِالياءِ التَّحْتِيَّةِ، وفِيهِ التِفاتٌ. وقَدْ أخْرَجَ الفِرْيابِيُّ وأحْمَدُ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ والتِّرْمِذِيُّ وابْنُ ماجَهْ وابْنُ أبِي الدُّنْيا في نَعْتِ الخائِفِينَ، وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ «عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: قُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ، قَوْلُ اللَّهِ: ﴿والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهم وجِلَةٌ﴾ أهْوَ الرَّجُلُ يَسْرِقُ ويَزْنِي ويَشْرَبُ الخَمْرَ وهو مَعَ ذَلِكَ يَخافُ اللَّهَ ؟ قالَ لا، ولَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ ويَتَصَدَّقُ ويُصَلِّي، وهو مَعَ ذَلِكَ يَخافُ اللَّهَ أنْ لا يَتَقَبَّلَ مِنهُ» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ الأنْبارِيِّ في المَصاحِفِ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَتْ عائِشَةُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا﴾ قالَ: يُعْطُونَ ما أعْطَوْا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿وقُلُوبُهم وجِلَةٌ﴾ قالَ: يَعْمَلُونَ خائِفِينَ. وأخْرَجَ الفِرْيابِيُّ وابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ﴿والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا﴾ قالَ: الزَّكاةَ. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عائِشَةَ ( والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا ) قالَتْ: هُمُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ ويُطِيعُونَهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ أبِي مُلَيْكَةَ قالَ: قالَتْ عائِشَةُ: لَأنْ تَكُونَ هَذِهِ الآيَةُ كَما أقْرَأُ أحَبُّ إلَيَّ مِن حُمُرِ النَّعَمِ، فَقالَ لَها ابْنُ عَبّاسٍ: ما هي ؟ قالَتِ ( الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا ) وقَدْ قَدَّمْنا ذِكْرَ قِراءَتِها ومَعْناها. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْها عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - أنَّهُ قَرَأ ( الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا ) مَقْصُورًا مِنَ المَجِيءِ. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وأحْمَدُ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ والبُخارِيُّ في تارِيخِهِ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ الأنْبارِيِّ في المَصاحِفِ والدّارَقُطْنِيُّ في الأفْرادِ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ «عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَرَ أنَّهُ سَألَ عائِشَةَ كَيْفَ كانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ ﴿والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا﴾ ؟ قالَتْ أيَّتُهُما أحَبُّ إلَيْكَ. قُلْتُ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأحَدِهِما أحَبُّ إلَيَّ مِنَ الدُّنْيا وما فِيها جَمِيعًا: قالَتْ أيُّهُما ؟ قُلْتُ ﴿والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا﴾ فَقالَتْ: أشْهَدُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - كانَ يَقْرَؤُها كَذَلِكَ، وكَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، ولَكِنَّ الهِجاءَ حَرْفٌ» . وفي إسْنادِهِ إسْماعِيلُ بْنُ عَلِيٍّ وهو ضَعِيفٌ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ يُسارِعُونَ في الخَيْراتِ وهم لَها سابِقُونَ﴾ قالَ: سَبَقَتْ لَهُمُ السَّعادَةُ مِنَ اللَّهِ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿بَلْ قُلُوبُهم في غَمْرَةٍ مِن هَذا﴾ يَعْنِي بِالغَمْرَةِ الكُفْرَ والشَّكَّ ﴿ولَهم أعْمالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ﴾ يَقُولُ: أعْمالٌ سَيِّئَةٌ دُونَ الشِّرْكِ ﴿هم لَها عامِلُونَ﴾ قالَ: لا بُدَّ لَهم أنْ يَعْمَلُوها. وأخْرَجَ النَّسائِيُّ عَنْهُ ﴿حَتّى إذا أخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالعَذابِ﴾ قالَ: هم أهْلُ بَدْرٍ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿إذا هم يَجْأرُونَ﴾ قالَ: يَسْتَغِيثُونَ، وفي قَوْلِهِ: ﴿فَكُنْتُمْ عَلى أعْقابِكم تَنْكِصُونَ﴾ قالَ: تُدْبِرُونَ، وفي قَوْلِهِ: ﴿سامِرًا تَهْجُرُونَ﴾ قالَ: تَسْمُرُونَ حَوْلَ البَيْتِ وتَقُولُونَ هُجْرًا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا ﴿سامِرًا تَهْجُرُونَ﴾ قالَ: كانَتْ قُرَيْشٌ يَتَحَلَّقُونَ حِلَقًا يَتَحَدَّثُونَ حَوْلَ البَيْتِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والطَّبَرانِيُّ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - كانَ يَقْرَأُ ﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِرًا تَهْجُرُونَ﴾ قالَ: كانَ المُشْرِكُونَ يَهْجُرُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - في القَوْلِ في سَمَرِهِمْ» . وأخْرَجَ النَّسائِيُّ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: إنَّما كُرِهَ السَّمَرُ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِرًا تَهْجُرُونَ﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب