الباحث القرآني

. لَمّا حَثَّ سُبْحانَهُ عِبادَهُ عَلى العِبادَةِ ووَعَدَهُمُ الفِرْدَوْسَ عَلى فِعْلِها، عادَ إلى تَقْرِيرِ المَبْدَأِ والمَعادِ لِيَتَمَكَّنَ ذَلِكَ في نُفُوسِ المُكَلَّفِينَ فَقالَ: ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ﴾ إلى آخِرِهِ، واللّامُ جَوابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، والجُمْلَةُ مُبْتَدَأةٌ، وقِيلَ: مَعْطُوفَةٌ عَلى ما قَبْلَها، والمُرادُ بِالإنْسانِ الجِنْسُ؛ لِأنَّهم مَخْلُوقُونَ في ضِمْنِ خَلْقِ أبِيهِمْ آدَمَ، وقِيلَ: المُرادُ بِهِ آدَمُ. والسُّلالَةُ فُعالَةٌ مِنَ السَّلِّ، وهو اسْتِخْراجُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، يُقالُ سَلَلْتُ الشَّعْرَةَ مِنَ العَجِينِ، والسَّيْفَ مِنَ الغِمْدِ فانْسَلَّ، فالنُّطْفَةُ سُلالَةٌ، والوَلَدُ سَلِيلٌ، وسُلالَةٌ أيْضًا، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎فَجاءَتْ بِهِ عَضْبَ الأدِيِمِ غَضَنْفَرًا سُلالَةَ فَرْجٍ كانَ غَيْرَ حَصِينِ وقَوْلُ الآخَرِ: ؎وهَلْ هِنْدُ إلّا مُهْرَةٌ عَرَبِيَّةٌ ∗∗∗ سُلالَةُ أفْراسٍ تَحَلَّلَها بَغْلُ ومِن في ﴿مِن سُلالَةٍ﴾ ابْتِدائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِخَلَقْنا، وفي مِن طِينٍ بَيانِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ، وقَعَ صِفَةً لِسُلالَةٍ أيْ: كائِنَةٌ مِن طِينٍ، والمَعْنى: أنَّهُ سُبْحانَهُ خَلَقَ جَوْهَرَ الإنْسانِ أوَّلًا مِن طِينٍ؛ لِأنَّ الأصْلَ آدَمُ، وهو مِن طِينٍ خالِصٍ وأوْلادُهُ مَن طِينٍ ومَنِيٍّ. وقِيلَ: السُّلالَةُ: الطِّينُ إذا عَصَرْتَهُ انْسَلَّ مِن بَيْنِ أصابِعِكَ، فالَّذِي يَخْرُجُ هو السُّلالَةُ، قالَهُ الكَلْبِيُّ. ثُمَّ جَعَلْناهُ أيِ الجِنْسَ بِاعْتِبارِ أفْرادِهِ الَّذِينَ هم بَنُو آدَمَ، أوْ جَعَلْنا نَسْلَهُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ إنْ أُرِيدَ بِالإنْسانِآدَمُ، نُطْفَةً: وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ النُّطْفَةِ في سُورَةِ الحَجِّ، وكَذَلِكَ تَفْسِيرُ العَلَقَةِ والمُضْغَةِ. والمُرادُ بِالقَرارِ المَكِينِ: الرَّحِمُ، وعَبَّرَ عَنْها بِالقَرارِ الَّذِي هو مَصْدَرٌ مُبالِغَةً. ومَعْنى ﴿ثُمَّ خَلَقْنا النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾ أيْ أنَّهُ سُبْحانَهُ أحالَ النُّطْفَةَ البَيْضاءَ عَلَقَةً حَمْراءَ ﴿فَخَلَقْنا العَلَقَةَ مُضْغَةً﴾ أيْ قِطْعَةَ لَحْمٍ غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ ﴿فَخَلَقْنا المُضْغَةَ عِظامًا﴾ أيْ جَعَلَها اللَّهُ سُبْحانَهُ مُتَصَلِّبَةً لِتَكُونَ عَمُودًا لِلْبَدَنِ عَلى أشْكالٍ مَخْصُوصَةٍ ﴿فَكَسَوْنا العِظامَ لَحْمًا﴾ أيْ أنْبَتَ اللَّهُ سُبْحانَهُ عَلى كُلِّ عَظْمٍ لَحْمًا عَلى المِقْدارِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ ويُناسِبُهُ ﴿ثُمَّ أنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ أيْ نَفَخْنا فِيهِ الرُّوحَ بَعْدَ أنْ كانَ جَمادًا، وقِيلَ: أخْرَجْناهُ إلى الدُّنْيا، وقِيلَ: هو نَباتُ الشَّعْرِ، وقِيلَ: خُرُوجُ الأسْنانِ، وقِيلَ: تَكْمِيلُ القُوى المَخْلُوقَةِ فِيهِ، ولا مانِعَ مِن إرادَةِ الجَمِيعِ، والمَجِيءُ بِثُمَّ لِكَمالِ التَّفاوُتِ بَيْنَ الخَلْقَيْنِ ﴿فَتَبارَكَ اللَّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ﴾ أيِ اسْتَحَقَّ التَّعْظِيمَ والثَّناءَ. وقِيلَ: مَأْخُوذٌ مِنَ البَرَكَةِ أيْ: كَثُرَ خَيْرُهُ وبَرَكَتُهُ: والخَلْقُ في اللُّغَةِ التَّقْدِيرُ، يُقالُ خَلَقْتُ الأدِيمَ: إذا قِسْتَهُ لِتَقْطَعَ مِنهُ شَيْئًا، فَمَعْنى أحْسَنُ الخالِقِينَ: أتْقَنُ الصّانِعِينَ المُقَدِّرِينَ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎ولَأنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ وبَعْ ∗∗∗ ضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي ﴿ثُمَّ إنَّكم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ إلى الأُمُورِ المُتَقَدِّمَةِ أيْ: ثُمَّ إنَّكم بَعْدَ تِلْكَ الأُمُورِ لَمَيِّتُونَ صائِرُونَ إلى المَوْتِ لا مَحالَةَ. ﴿ثُمَّ إنَّكم يَوْمَ القِيامَةِ تُبْعَثُونَ﴾ مِن قُبُورِكم إلى المَحْشَرِ لِلْحِسابِ والعِقابِ. واللّامُ في ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكم سَبْعَ طَرائِقَ﴾ جَوابٌ لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ، والجُمْلَةُ مُبْتَدَأةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلى بَيانِ خَلْقِ ما يَحْتاجُونَ إلَيْهِ بَعْدَ بَيانِ خَلْقِهِمْ، والطَّرائِقُ هي السَّماواتُ. قالَ الخَلِيلِيُّ والفَرّاءُ والزَّجّاجُ، وسُمِّيَتْ طَرائِقَ؛ لِأنَّهُ طُورِقَ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ كَمُطارَقَةِ النَّعْلِ. قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: طارَقْتُ الشَّيْءَ جَعَلْتُ بَعْضَهُ فَوْقَ بَعْضٍ، والعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ فَوْقَ شَيْءٍ طَرِيقَةً. وقِيلَ: لِأنَّها طَرائِقُ المَلائِكَةِ، وقِيلَ: لِأنَّها طَرائِقُ الكَواكِبِ ﴿وما كُنّا عَنِ الخَلْقِ غافِلِينَ﴾ المُرادُ بِالخَلْقِ هُنا المَخْلُوقُ أيْ: وما كُنّا عَنْ هَذِهِ السَّبْعِ الطَّرائِقِ وحِفْظِها عَنْ أنْ تَقَعَ عَلى الأرْضِ بِغافِلِينَ. وقالَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ: المُرادُ الخَلْقُ كُلُّهم بِغافِلِينَ بَلْ حَفِظْنا السَّماواتِ عَنْ أنْ تَسْقُطَ، وحَفِظْنا مَن في الأرْضِ أنْ تَسْقُطَ السَّماءُ عَلَيْهِمْ فَتُهْلِكَهم أوْ تَمِيدَ بِهِمُ الأرْضُ، أوْ يَهْلِكُونَ بِسَبَبٍ مِنَ الأسْبابِ المُسْتَأْصِلَةِ لَهم، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ نَفْيُ الغَفْلَةِ عَنِ القِيامِ بِمَصالِحِهِمْ وما يَعِيشُونَ بِهِ، ونَفْيُ الغَفْلَةِ عَنْ حِفْظِهِمْ. ﴿وأنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً﴾ هَذا مِن جُمْلَةِ ما امْتَنَّ اللَّهُ سُبْحانَهُ بِهِ عَلى خَلْقِهِ، والمُرادُ بِالماءِ ماءُ المَطَرِ، فَإنَّ بِهِ حَياةَ الأرْضِ وما فِيها مِنَ الحَيَوانِ، ومِن جُمْلَةِ ذَلِكَ ماءُ الأنْهارِ النّازِلَةُ مِنَ السَّماءِ والعُيُونِ، والآبارُ المُسْتَخْرَجَةُ مِنَ الأرْضِ، فَإنَّ أصْلَها مِن ماءِ السَّماءِ. وقِيلَ: أرادَ سُبْحانَهُ في هَذِهِ الآيَةِ الأنْهارَ الأرْبَعَةَ: سَيْحانُ، وجَيْحانُ، والفُراتُ، والنِّيلُ، ولا وجْهَ لِهَذا التَّخْصِيصِ. وقِيلَ: المُرادُ بِهِ الماءُ العَذْبُ، ولا وجْهَ لِذَلِكَ أيْضًا فَلَيْسَ في الأرْضِ ماءٌ إلّا وهو مِنَ السَّماءِ، ومَعْنى بِقَدَرٍ بِتَقْدِيرٍ مِنّا أوْ بِمِقْدارٍ يَكُونُ بِهِ (p-٩٨٠)صَلاحُ الزَّرائِعِ والثِّمارِ، فَإنَّهُ لَوْ كَثُرَ لَكانَ بِهِ هَلاكُ ذَلِكَ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿وإنْ مِن شَيْءٍ إلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وما نُنَزِّلُهُ إلّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ ومَعْنى ﴿فَأسْكَنّاهُ في الأرْضِ﴾ جَعَلْناهُ مُسْتَقِرًّا فِيها يَنْتَفِعُونَ بِهِ وقْتَ حاجَتِهِمْ إلَيْهِ كالماءِ الَّذِي يَبْقى في المُسْتَنْقَعاتِ والغُدْرانِ ونَحْوِها ﴿وإنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ﴾ أيْ كَما قَدَرْنا عَلى إنْزالِهِ فَنَحْنُ قادِرُونَ عَلى أنْ نَذْهَبَ بِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، ولِهَذا التَّنْكِيرِ حُسْنُ مُوقِعٍ لا يَخْفى، وفي هَذا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ لِما يَدُلُّ عَلَيْهِ مِن قُدْرَتِهِ سُبْحانَهُ عَلى إذْهابِهِ وتَغْوِيرِهِ حَتّى يَهْلِكَ النّاسُ بِالعَطَشِ وتَهْلِكَ مَواشِيهم، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ: ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ أصْبَحَ ماؤُكم غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكم بِماءٍ مَعِينٍ﴾ . ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ ما يَتَسَبَّبُ عَنْ إنْزالِ الماءِ فَقالَ ﴿فَأنْشَأْنا لَكم بِهِ جَنّاتٍ مِن نَخِيلٍ وأعْنابٍ﴾ أيْ أوْجَدْنا بِذَلِكَ الماءِ جَنّاتٍ مِنَ النَّوْعَيْنِ المَذْكُورَيْنِ لَكم فِيها أيْ في هَذِهِ الجَنّاتِ ﴿فَواكِهُ كَثِيرَةٌ﴾ تَتَفَكَّهُونَ بِها وتَطْعَمُونَ مِنها. وقِيلَ: المَعْنى: ومِن هَذِهِ الجَنّاتِ وُجُوهُ أرْزاقِكم ومَعاشِكم كَقَوْلِهِ: فُلانٌ يَأْكُلُ مِن حِرْفَةِ كَذا، وهو بَعِيدٌ، واقْتَصَرَ سُبْحانَهُ عَلى النَّخِيلِ والأعْنابِ؛ لِأنَّها المَوْجُودَةُ بِالطّائِفِ والمَدِينَةِ وما يَتَّصِلُ بِذَلِكَ. كَذا قالَ ابْنُ جَرِيرٍ وقِيلَ: لِأنَّها أشْرَفُ الأشْجارِ ثَمَرَةً وأطْيَبُها مَنفَعَةً وطَعْمًا ولَذَّةً. قِيلَ المَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: ﴿لَكم فِيها فَواكِهُ﴾ أنَّ لَكم في هَذِهِ الجَنّاتِ فَواكِهَ مِن غَيْرِ العِنَبِ والنَّخِيلِ. وقِيلَ: المَعْنى لَكم في هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ خاصَّةً فَواكِهُ؛ لِأنَّ فِيهِما أنْواعًا مُخْتَلِفَةً مُتَفاوِتَةً في الطَّعْمِ واللَّوْنِ. وقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ الفِقْهِ في لَفْظِ الفاكِهَةِ عَلى ماذا يُطْلَقُ ؟ اخْتِلافًا كَثِيرًا، وأحْسَنُ ما قِيلَ: إنَّها تُطْلَقُ عَلى الثَّمَراتِ الَّتِي يَأْكُلُها النّاسُ، ولَيْسَتْ بِقُوتٍ لَهم ولا طَعامٍ ولا إدامٍ. واخْتُلِفَ في البُقُولِ هَلْ تَدْخُلُ في الفاكِهَةِ أمْ لا ؟ وانْتِصابُ شَجَرَةً عَلى العَطْفِ عَلى جَنّاتٍ، وأجازَ الفَرّاءُ الرَّفْعَ عَلى تَقْدِيرِ: وثَمَّ شَجَرَةٌ، فَتَكُونُ مُرْتَفِعَةً عَلى الِابْتِداءِ وخَبَرُها مَحْذُوفٌ مُقَدَّرٌ قَبْلَها، وهو الظَّرْفُ المَذْكُورُ. قالَ الواحِدِيُّ: والمُفَسِّرُونَ كُلُّهم يَقُولُونَ: إنَّ المُرادَ بِهَذِهِ الشَّجَرَةِ شَجَرَةُ الزَّيْتُونِ، وخُصَّتْ بِالذِّكْرِ؛ لِأنَّهُ لا يَتَعاهَدُها أحَدٌ بِالسَّقْيِ، وهي الَّتِي يَخْرُجُ الدُّهْنُ مِنها، فَذَكَرَها اللَّهُ سُبْحانَهُ امْتِنانًا مِنهُ عَلى عِبادِهِ بِها؛ ولِأنَّها أكْرَمُ الشَّجَرِ وأعَمُّها نَفْعًا وأكْثَرُها بَرَكَةً، ثُمَّ وصَفَ سُبْحانَهُ هَذِهِ الشَّجَرَةَ بِأنَّها ﴿تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْناءَ﴾ وهو جَبَلٌ بِبَيْتِ المَقْدِسِ، والطُّورُ الجَبَلُ في كَلامِ العَرَبِ، وقِيلَ: هو المُبارَكُ، وذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّهُ اسْمٌ لِلْجَبَلِ كَما تَقُولُ جَبَلُ أُحُدٍ. وقِيلَ: سَيْناءُ حَجَرٌ بِعَيْنِهِ أُضِيفَ الجَبَلُ إلَيْهِ لِوُجُودِهِ عِنْدَهُ، وقِيلَ: هو كُلُّ جَبَلٍ يَحْمِلُ الثِّمارَ. وقَرَأ الكُوفِيُّونَ سَيْناءَ بِفَتْحِ السِّينِ، وقَرَأ الباقُونَ بِكَسْرِ السِّينِ، ولَمْ يُصْرَفْ؛ لِأنَّهُ جُعِلَ اسْمًا لِلْبُقْعَةِ، وزَعَمَ الأخْفَشُ أنَّهُ أعْجَمِيٌّ. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ﴾ بِفَتْحِ المُثَنّاةِ وضَمِّ الباءِ المُوَحَّدَةِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو بِضَمِّ المُثَنّاةِ وكَسْرِ الباءِ المُوَحَّدَةِ. والمَعْنى عَلى القِراءَةِ الأُولى: أنَّها تَنْبُتُ في نَفْسِها مُتَلَبِّسَةً بِالدُّهْنِ، وعَلى القِراءَةِ الثّانِيَةِ: الباءُ بِمَعْنى مَعَ، فَهي لِلْمُصاحَبَةِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: التَّقْدِيرُ: تَنْبُتُ جَناحُها ومَعَهُ الدُّهْنُ. وقِيلَ: الباءُ زائِدَةٌ. قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ، ومِثْلُهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎هُنَّ الحَرائِرُ لا رَبّاتُ أحْمِرَةٍ ∗∗∗ سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ وقالَ آخَرُ: ؎نَضْرِبُ بِالسَّيْفِ ونَرْجُو بِالفَرَجِ وقالَ الفَرّاءُ والزَّجّاجُ: إنَّ نَبَتَ وأنْبَتَ بِمَعْنًى، والأصْمَعِيُّ يُنْكِرُ أنْبَتَ، ويَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْلُ زُهَيْرٍ: ؎رَأيْتَ ذَوِي الحاجاتِ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ ∗∗∗ قَطِينًا لَهم حَتّى إذا أنْبَتَ البَقْلُ أيْ نَبَتَ. وقَرَأ الزُّهْرِيُّ والحَسَنُ والأعْرَجُ ( تُنْبَتُ ) بِضَمِّ المُثَنّاةِ وفَتْحِ المُوَحَّدَةِ. قالَ الزَّجّاجُ وابْنُ جِنِّيٍّ: أيْ تَنْبُتُ ومَعَها الدُّهْنُ، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ ( تَخْرُجُ بِالدُّهْنِ )، وقَرَأ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ ( تُنْبِتُ الدُّهْنَ ) بِحَذْفِ حَرْفِ الجَرِّ. وقَرَأ سُلَيْمانُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ والأشْهَبُ ( بِالدِّهانِ ) ﴿وصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى الدُّهْنِ أيْ: تَنْبُتُ بِالشَّيْءِ الجامِعِ بَيْنَ كَوْنِهِ دُهْنًا يُدْهَنُ بِهِ. وكَوْنِهِ صِبْغًا يُؤْتَدَمُ بِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ صِبْغٍ وقَرَأ قَوْمٌ ( صِباغٍ ) مِثْلُ لِبْسٍ ولِباسٍ، وكُلُّ إدامٍ يُؤْتَدَمُ بِهِ فَهو صِبْغٌ وصِباغٌ، وأصْلُ الصِّبْغِ ما يُلَوَّنُ بِهِ الثَّوْبُ، وشُبِّهَ الإدامُ بِهِ؛ لِأنَّ الخُبْزَ يَكُونُ بِالإدامِ كالمَصْبُوغِ بِهِ. ﴿وإنَّ لَكم في الأنْعامِ لَعِبْرَةً﴾ هَذِهِ مِن جُمْلَةِ النِّعَمِ الَّتِي امْتَنَّ اللَّهُ بِها عَلَيْهِمْ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الأنْعامِ في سُورَةِ النَّحْلِ. قالَ النَّيْسابُورِيُّ في تَفْسِيرِهِ: ولَعَلَّ القَصْدَ بِالأنْعامِ هُنا إلى الإبِلِ خاصَّةً؛ لِأنَّها هي المَحْمُولُ عَلَيْها في العادَةِ؛ ولِأنَّهُ قَرَنَها بِالفُلْكِ وهي سَفائِنُ البَرِّ، كَما أنَّ الفُلْكَ سَفائِنُ البَحْرِ، وبَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّها عِبْرَةٌ؛ لِأنَّها مِمّا يُسْتَدَلُّ بِخَلْقِها وأفْعالِها عَلى عَظِيمِ القُدْرَةِ الإلَهِيَّةِ، ثُمَّ فَصَّلَ سُبْحانَهُ ما في هَذِهِ الأنْعامِ مِنَ النِّعَمِ بَعْدَ ما ذَكَرَهُ مِنَ العِبْرَةِ فِيها لِلْعِبادِ فَقالَ: ﴿نُسْقِيكم مِمّا في بُطُونِها﴾ يَعْنِي سُبْحانَهُ: اللَّبَنَ المُتَكَوِّنَ في بُطُونِها المُنْصَبَّ إلى ضُرُوعِها، فَإنَّ في انْعِقادِ ما تَأْكُلُهُ مِنَ العَلَفِ واسْتِحالَتِهِ إلى هَذا الغِذاءِ اللَّذِيذِ، والمَشْرُوبِ النَّفِيسِ أعْظَمَ عِبْرَةٍ لِلْمُعْتَبِرِينَ، وأكْبَرَ مَوْعِظَةٍ لِلْمُتَّعِظِينَ. قُرِئَ نُسْقِيكم بِالنُّونِ عَلى أنَّ الفاعِلَ هو اللَّهُ سُبْحانَهُ، وقُرِئَ بِالتّاءِ الفَوْقِيَّةِ عَلى أنَّ الفاعِلَ هو الأنْعامُ، ثُمَّ ذَكَرَ ما فِيها مِنَ المَنافِعِ إجْمالًا فَقالَ: ﴿ولَكم فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ﴾ يَعْنِي في ظُهُورِها وألْبانِها وأوْلادِها وأصْوافِها وأشْعارِها، ثُمَّ ذَكَرَ مَنفَعَةً خاصَّةً فَقالَ: ﴿ومِنها تَأْكُلُونَ﴾ لِما في الأكْلِ مِن عَظِيمِ الِانْتِفاعِ لَهم. كَذَلِكَ ذَكَرَ الرُّكُوبَ عَلَيْها لِما فِيهِ مِنَ المَنفَعَةِ العَظِيمَةِ فَقالَ: ﴿وعَلَيْها وعَلى الفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾ أيْ وعَلى الأنْعامِ، فَإنْ أُرِيدَ بِالأنْعامِ الإبِلُ والبَقَرُ والغَنَمُ، فالمُرادُ وعَلى بَعْضِ الأنْعامِ، وهي الإبِلُ خاصَّةً، وإنْ أُرِيدَ بِالأنْعامِ الإبِلُ خاصَّةً، فالمَعْنى واضِحٌ. ثُمَّ لَمّا كانَتِ الأنْعامُ هي غالِبَ ما يَكُونُ الرُّكُوبُ عَلَيْهِ في (p-٩٨١)البَرِّ ضَمَّ إلَيْها ما يَكُونُ الرُّكُوبُ عَلَيْهِ في البَحْرِ، فَقالَ: ﴿وعَلى الفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾ تَتْمِيمًا لِلنِّعْمَةِ وتَكْمِيلًا لِلْمِنَّةِ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: السُّلالَةُ صَفْوُ الماءِ الرَّقِيقِ الَّذِي يَكُونُ مِنهُ الوَلَدُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: إنَّ النُّطْفَةَ إذا وقَعَتْ في الرَّحِمِ طارَتْ في شَعْرٍ وظُفْرٍ فَتَمْكُثُ أرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ تَنْحَدِرُ في الرَّحِمِ فَتَكُونُ عَلَقَةً. ولِلتّابِعِينَ في تَفْسِيرِ السُّلالَةِ أقْوالٌ قَدْ قَدَّمَنا الإشارَةَ إلَيْها. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿ثُمَّ أنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ قالَ: الشَّعْرُ والأسْنانُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ ﴿ثُمَّ أنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ قالَ: نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، وكَذا قالَ مُجاهِدٌ وعِكْرِمَةُ والشَّعْبِيُّ والحَسَنُ وأبُو العالِيَةِ والرَّبِيعُ عَنْ أنَسٍ والسُّدِّيِّ والضَّحّاكِ وابْنِ زَيْدٍ، واخْتارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ ﴿ثُمَّ أنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ قالَ: حِينَ اسْتَوى بِهِ الشَّبابُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ صالِحٍ أبِي الخَلِيلِ قالَ: لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - إلى قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ قالَ عُمَرُ: ﴿فَتَبارَكَ اللَّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ﴾ قالَ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّها خُتِمَتْ بِالَّذِي تَكَلَّمْتَ بِهِ يا عُمَرُ. وأخْرَجَ الطَّيالِسِيُّ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ وابْنُ عَساكِرٍ عَنْ أنَسٍ قالَ: قالَ عُمَرُ: وافَقْتُ رَبِّي في أرْبَعٍ، قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ صَلَّيْنا خَلْفَ المَقامِ ؟ فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿واتَّخِذُوا مِن مَقامِ إبْراهِيمَ مُصَلًّى﴾ وقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْتَ عَلى نِسائِكَ حِجابًا فَإنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْكَ البَرُّ والفاجِرُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿وإذا سَألْتُمُوهُنَّ مَتاعًا فاسْألُوهُنَّ مِن وراءِ حِجابٍ﴾ وقُلْتُ لِأزْواجِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: لَتَنْتَهُنَّ أوْ لَيُبْدِلْنَهُ اللَّهُ أزْواجًا خَيْرًا مِنكُنَّ، فَنَزَلَتْ ﴿عَسى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ﴾ الآيَةَ، ونَزَلَتْ ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ مِن سُلالَةٍ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ فَقُلْتُ أنا ﴿فَتَبارَكَ اللَّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ﴾ . وأخْرَجَ ابْنُ راهَوَيْهِ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ قالَ: «أمْلى رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - هَذِهِ الآيَةَ ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿خَلْقًا آخَرَ﴾ فَقالَ مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ ﴿فَتَبارَكَ اللَّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ﴾ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -، فَقالَ لَهُ مُعاذٌ: مِمَّ ضَحِكْتَ يا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قالَ: بِها خُتِمَتْ ﴿فَتَبارَكَ اللَّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ﴾» وفي إسْنادِهِ جابِرٌ الجُعْفِيُّ وهو ضَعِيفٌ جِدًّا. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وفي خَبَرِهِ هَذا نَكارَةٌ شَدِيدَةٌ، وذَلِكَ أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وزَيْدُ بْنُ ثابِتٍ إنَّما كَتَبَ الوَحْيَ بِالمَدِينَةِ، وكَذَلِكَ إسْلامُ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ إنَّما كانَ بِالمَدِينَةِ واللَّهُ أعْلَمُ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ والخَطِيبُ قالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - قالَ: «أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الجَنَّةِ إلى الأرْضِ خَمْسَةَ أنْهارٍ. سَيْحُونُ وهو نَهْرُ الهِنْدِ، وجَيْحُونُ وهو نَهْرُ بَلْخٍ، ودِجْلَةُ والفُراتُ وهُما نَهْرا العِراقِ، والنِّيلُ وهو نَهْرُ مِصْرَ، أنْزَلَها مِن عَيْنٍ واحِدَةٍ مِن عُيُونِ الجَنَّةِ مِن أسْفَلِ دَرَجَةٍ مِن دَرَجاتِها عَلى جَناحَيْ جِبْرِيلَ، فاسْتَوْدَعَها الجِبالَ وأجْراها في الأرْضِ، وجَعَلَها مَنافِعَ لِلنّاسِ في أصْنافِ مَعايِشِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وأنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأسْكَنّاهُ في الأرْضِ﴾ فَإذا كانَ عِنْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ أرْسَلَ اللَّهُ جِبْرِيلَ، فَرَفَعَ مِنَ الأرْضِ القُرْآنَ والعِلْمَ، والحَجَرَ مِن رُكْنِ البَيْتِ، ومَقامِ إبْراهِيمَ، وتابُوتَ مُوسى بِما فِيهِ، وهَذِهِ الأنْهارَ الخَمْسَةَ، فَيَرْفَعُ كُلَّ ذَلِكَ إلى السَّماءِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وإنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ﴾ فَإذا رُفِعَتْ هَذِهِ الأشْياءُ مِنَ الأرْضِ فَقَدَ أهْلُها خَيْرَ الدُّنْيا والآخِرَةِ» . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: طُورُ سَيْناءَ هو الجَبَلُ الَّذِي نُودِيَ مِنهُ مُوسى. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ﴾ قالَ: هو الزَّيْتُ يُؤْكَلُ ويُدْهَنُ بِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب