الباحث القرآني

. قَوْلُهُ: وإنْ يُكَذِّبُوكَ إلَخْ هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - وتَعْزِيَةٌ لَهُ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْوَعْدِ لَهُ بِإهْلاكِ المُكَذِّبِينَ لَهُ كَما أهْلَكَ سُبْحانَهُ المُكَذِّبِينَ لِمَن كانَ قَبْلَهُ. وفِيهِ إرْشادٌ لَهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - إلى الصَّبْرِ عَلى قَوْمِهِ والِاقْتِداءِ بِمَن قَبْلَهُ مِنَ الأنْبِياءِ في ذَلِكَ. وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذِهِ الأُمَمِ وما كانَ مِنهم ومِن أنْبِيائِهِمْ وكَيْفَ كانَتْ عاقِبَتُهم. وإنَّما غَيَّرَ النَّظْمَ في قَوْلِهِ: ﴿وكُذِّبَ مُوسى﴾ فَجاءَ بِالفِعْلِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ؛ لِأنَّ قَوْمَ مُوسى لَمْ يُكَذِّبُوهُ وإنَّما كَذَّبَهُ غَيْرُهم مِنَ القِبْطِ ﴿فَأمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ﴾ أيْ أخَّرْتُ عَنْهُمُ العُقُوبَةَ وأمْهَلَتْهم والفاءُ لِتَرْتِيبِ الإمْهالِ عَلى التَّكْذِيبِ (p-٩٦٨)ثُمَّ أخَذْتُهم أيْ أخَذْتُ كُلَّ فَرِيقٍ مِنَ المُكَذِّبِينَ بِالعَذابِ بَعْدَ انْقِضاءِ مُدَّةِ الإمْهالِ ﴿فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ﴾ هَذا الِاسْتِفْهامُ لِلتَّقْرِيرِ أيْ: فانْظُرْ كَيْفَ كانَ إنْكارِي عَلَيْهِمْ وتَغَيُّرُ ما كانُوا فِيهِ مِنَ النِّعَمِ وإهْلاكُهم، والنَّكِيرُ اسْمٌ مِنَ المُنْكَرِ. قالَ الزَّجّاجُ أيْ: ثُمَّ أخَذَتُهم فَأنْكَرْتُ أبْلَغَ إنْكارٍ. قالَ الجَوْهَرِيُّ: النَّكِيرُ والإنْكارُ تَغْيِيرُ المُنْكَرِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ كَيْفَ عَذَّبَ أهْلَ القُرى المُكَذِّبَةِ فَقالَ ﴿فَكَأيِّنْ مِن قَرْيَةٍ أهْلَكْناها﴾ أيْ أهْلَكْنا أهْلَها، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى هَذا التَّرْكِيبِ في آلِ عِمْرانَ، وقُرِئَ ( أهْلَكْتُها )، وجُمْلَةُ ﴿وهِيَ ظالِمَةٌ﴾ حالِيَّةٌ، وجُمْلَةُ ﴿فَهِيَ خاوِيَةٌ﴾ عَطْفٌ عَلى أهْلَكْناها، لا عَلى ( ظالِمَةٌ ) لِأنَّها حالِيَّةٌ، والعَذابُ لَيْسَ في حالِ الظُّلْمِ، والمُرادُ بِنِسْبَةِ الظُّلْمِ إلَيْها نِسْبَتُهُ إلى أهْلِها: والخَواءُ: بِمَعْنى السُّقُوطِ أيْ: فَهي ساقِطَةٌ عَلى عُرُوشِها أيْ عَلى سُقُوفِها، وذَلِكَ بِسَبَبِ تَعَطُّلِ سُكّانِها حَتّى تَهَدَّمَتْ فَسَقَطَتْ حِيطانُها فَوْقَ سُقُوفِها، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ في البَقَرَةِ ﴿وبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى قَرْيَةٍ، والمَعْنى: وكَمْ مِن أهْلِ قَرْيَةٍ، ومِن أهْلِ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ هَكَذا قالَ الزَّجّاجُ. وقالَ الفَرّاءُ: إنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى عُرُوشِها، والمُرادُ بِالمُعَطَّلَةِ المَتْرُوكَةُ. وقِيلَ: الخالِيَةُ عَنْ أهْلِها لِهَلاكِهِمْ، وقِيلَ: الغائِرَةُ، وقِيلَ: مُعَطَّلَةٌ مِنَ الدِّلاءِ والأرْشِيَةِ، والقَصْرُ المَشِيدُ هو المَرْفُوعُ البُنْيانِ كَذا قالَ قَتادَةُ والضَّحّاكُ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ: ؎شادَهُ مَرْمَرًا وجَلَّلَهُ كَلْسًا فَلِلطَّيْرِ في ذُراهُ وُكُورُ شادَهُ أيْ: رَفَعَهُ. وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وعَطاءٌ وعِكْرِمَةُ ومُجاهِدٌ: المُرادُ بِالمَشِيدِ المُجَصَّصِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الشِّيدِ، وهو الجَصُّ، ومِنهُ قَوْلُ الرّاجِزِ: ؎لا تَحْسَبَنِّي وإنْ كُنْتُ امْرَأً غَمِرًا ∗∗∗ كَحَيَّةِ الماءِ بَيْنَ الطِّينِ والشِّيدِ وقِيلَ: المَشِيدُ الحَصِينُ قالَهُ الكَلْبِيُّ. قالَ الجَوْهَرِيُّ: المَشِيدُ المَعْمُولُ بِالشِّيدِ، والشِّيدُ بِالكَسْرِ كُلُّ شَيْءٍ طَلَيْتُ بِهِ الحائِطَ مِن جِصٍّ أوْ بَلاطٍ، وبِالفَتْحِ المَصْدَرُ، تَقُولُ شادَهُ يَشِيدُهُ جَصَّصَهُ، والمُشَيَّدُ بِالتَّشْدِيدِ المُطَوَّلُ. قالَ الكِسائِيُّ: لِلْواحِدِ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ [النساء: ٧٨] . والمَعْنى المَعْنِيُّ: وكَمْ مِن قَصْرٍ مُشَيَّدٍ مُعَطَّلٍ مِثْلِ البِئْرِ المُعَطَّلَةِ ؟ ومَعْنى التَّعْطِيلُ في القَصْرِ هو أنَّهُ مُعَطَّلٌ مِن أهْلِهِ، أوْ مِن آلاتِهِ، أوْ نَحْوِ ذَلِكَ. قالَ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِهِ: ويُقالُ إنَّ هَذِهِ البِئْرَ والقَصْرَ بِحَضْرَمَوْتَ مَعْرُوفانِ، فالقَصْرُ مُشْرِفٌ عَلى قُلَّةِ جَبَلٍ لا يُرْتَقى إلَيْهِ بِحالٍ، والبِئْرُ في سَفْحِهِ لا تُقِرُّ الرِّيحُ شَيْئًا سَقَطَ فِيها إلّا أخْرَجَتْهُ، وأصْحابُ القَصْرِ مُلُوكُ الحَضَرِ، وأصْحابُ البِئْرِ مُلُوكُ البَدْوِ. حَكى الثَّعْلَبِيُّ وغَيْرُهُ: أنَّ البِئْرَ كانَ بَعَدَنَ مِنَ اليَمَنِ في بَلَدٍ يُقالُ لَها حَضُوراءُ، نَزَلَ بِها أرْبَعَةُ آلافٍ مِمَّنْ آمَنَ بِصالِحٍ ونَجَوا مِنَ العَذابِ ومَعَهم صالِحٌ فَماتَ صالِحٌ، فَسُمِّيَ المَكانُ حَضْرَمَوْتُ؛ لِأنَّ صالِحًا لَمّا حَضَرَهُ ماتَ فَبَنَوْا حَضُوراءَ وقَعَدُوا عَلى هَذِهِ البِئْرِ وأمَّرُوا عَلَيْهِمْ رَجُلًا، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةً طَوِيلَةً، وقالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وأمّا القَصْرُ المُشَيَّدُ فَقَصْرٌ بَناهُ شَدّادُ بْنُ عادِ بْنِ إرَمَ، لَمْ يُبْنَ في الأرْضِ مِثْلُهُ فِيما ذَكَرُوا وزَعَمُوا، وحالُهُ أيْضًا كَحالِ هَذِهِ البِئْرِ المَذْكُورَةِ في إيحاشِهِ بَعْدَ الأُنْسِ، وإقْفارِهِ بَعْدَ العُمْرانِ، وأنَّ أحَدًا لا يَسْتَطِيعُ أنْ يَدْنُوَ مِنهُ عَلى أمْيالٍ، لِما يَسْمَعُ فِيهِ مِن عَزِيفِ الجِنِّ والأصْواتِ المُنْكَرَةِ بَعْدَ النَّعِيمِ والعَيْشِ الرَّغَدِ وبَهاءِ المُلْكِ، وانْتِظامِ الأهْلِ كالسِّلْكِ فَبادَرُوا وما عادُوا، فَذَكَرَهُمُ اللَّهُ سُبْحانَهُ في هَذِهِ الآيَةِ مَوْعِظَةً وعِبْرَةً. قالَ: وقِيلَ: إنَّهُمُ الَّذِينَ أهْلَكَهم بُخْتَنَصَّرُ عَلى ما تَقَدَّمَ في سُورَةِ الأنْبِياءِ في قَوْلِهِ: ﴿وكَمْ قَصَمْنا مِن قَرْيَةٍ﴾ [الأنبياء: ١١] فَتَعَطَّلَتْ بِئْرُهم وخُرِّبَتْ قُصُورُهُمُ انْتَهى. ثُمَّ أنْكَرَ سُبْحانَهُ عَلى أهْلِ مَكَّةَ عَدَمَ اعْتِبارِها بِهَذِهِ الآثارِ قائِلًا ﴿أفَلَمْ يَسِيرُوا في الأرْضِ﴾ حَثًّا لَهم عَلى السَّفَرِ لِيَرَوْا مَصارِعَ تِلْكَ الأُمَمِ فَيَعْتَبِرُوا، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونُوا قَدْ سافَرُوا ولَمْ يَعْتَبِرُوا، فَلِهَذا أنْكَرَ عَلَيْهِمْ، كَما في قَوْلِهِ: ﴿وإنَّكم لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وبِاللَّيْلِ أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [الصافات: ١٣٧ - ١٣٨] ومَعْنى ﴿فَتَكُونَ لَهم قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها﴾ أنَّهم بِسَبَبِ ما شاهَدُوا مِنَ العِبَرِ تَكُونُ لَهم قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها ما يَجِبُ أنْ يَتَعَقَّلُوهُ وأسْنَدَ التَّعَقُّلَ إلى القُلُوبِ؛ لِأنَّها مَحَلُّ العَقْلِ، كَما أنَّ الآذانَ مَحَلُّ السَّمْعِ، وقِيلَ: إنَّ العَقْلَ مَحَلُّهُ الدِّماغُ ولا مانِعَ مِن ذَلِكَ، فَإنَّ القَلْبَ هو الَّذِي يَبْعَثُ عَلى إدْراكِ العَقْلِ وإنْ كانَ مَحَلُّهُ خارِجًا عَنْهُ. وقَدِ اخْتَلَفَ عُلَماءُ المَعْقُولِ في مَحَلِّ العَقْلِ وماهِيَّتِهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا لا حاجَةَ إلى التَّطْوِيلِ بِذِكْرِهِ ﴿أوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها﴾ أيْ ما يَجِبُ أنْ يَسْمَعُوهُ مِمّا تَلاهُ عَلَيْهِمْ أنْبِياؤُهم مِن كَلامِ اللَّهِ، وما نَقَلَهُ أهْلُ الأخْبارِ إلَيْهِمْ مِن أخْبارِ الأُمَمِ المُهْلَكَةِ ﴿فَإنَّها لا تَعْمى الأبْصارُ﴾ قالَ الفَرّاءُ: الهاءُ عِمادٌ يَجُوزُ أنْ يُقالَ: ( فَإنَّهُ )، وهي قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، والمَعْنى واحِدٌ، التَّذْكِيرُ عَلى الخَبَرِ، والتَّأْنِيثُ عَلى الأبْصارِ أوِ القِصَّةِ أيْ: فَإنَّ الأبْصارَ لا تَعْمى، أوْ فَإنَّ القِصَّةَ لا تُعْمِي الأبْصارَ أيْ: أبْصارَ العُيُونِ ﴿ولَكِنْ تَعْمى القُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ﴾ أيْ لَيْسَ الخَلَلُ في مَشاعِرِهِمْ، وإنَّما هو في عُقُولِهِمْ أيْ لا تُدْرِكُ عُقُولُهم مُواطِنَ الحَقِّ ومَواضِعَ الِاعْتِبارِ. قالَ الفَرّاءُ والزَّجّاجُ: إنَّ قَوْلَهُ الَّتِي في الصُّدُورِ مِنَ التَّوْكِيدِ الَّذِي تَزِيدُهُ العَرَبُ في الكَلامِ كَقَوْلِهِ: ﴿عَشَرَةٌ كامِلَةٌ﴾، و﴿يَقُولُونَ بِأفْواهِهِمْ﴾، [آل عمران: ١٦٧] و﴿يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨] . ثُمَّ حَكى سُبْحانَهُ عَنْ هَؤُلاءِ ما كانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّكْذِيبِ والِاسْتِهْزاءِ فَقالَ: ﴿ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالعَذابِ﴾ لِأنَّهم كانُوا مُنْكِرِينَ لِمَجِيئِهِ أشَدَّ إنْكارٍ، فاسْتِعْجالُهم لَهُ هو عَلى طَرِيقَةِ الِاسْتِهْزاءِ والسُّخْرِيَةِ، وكَأنَّهم كانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ عِنْدَ سَماعِهِمْ لِما تَقُولُهُ الأنْبِياءُ عَنِ اللَّهِ سُبْحانَهُ مِنَ الوَعْدِ مِنهُ - عَزَّ وجَلَّ - بِوُقُوعِهِ عَلَيْهِمْ وحُلُولِهِ بِهِمْ، ولِهَذا قالَ: ﴿ولَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وعْدَهُ﴾ قالَ الفَرّاءُ: في هَذِهِ الآيَةِ وعِيدٌ لَهم بِالعَذابِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ. وذَكَرَ الزَّجّاجُ وجْهًا آخَرَ فَقالَ: أعْلَمُ أنَّ اللَّهَ لا يَفُوتُهُ شَيْءٌ، وإنَّ يَوْمًا عِنْدَهُ وألْفَ سَنَةٍ في قُدْرَتِهِ واحِدٌ، ولا فَرْقَ بَيْنَ وُقُوعِ ما يَسْتَعْجِلُونَهُ بِهِ مِنَ العَذابِ وتَأخُّرِهِ في القُدْرَةِ، إلّا أنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ بِالإمْهالِ انْتَهى. ومَحَلُّ جُمْلَةِ: ولَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وعْدَهُ (p-٩٦٩)النَّصْبُ عَلى الحالِ أيْ: والحالُ أنَّهُ لا يُخْلِفُ وعْدَهُ أبَدًا، وقَدْ سَبَقَ الوَعْدُ فَلا بُدَّ مِن مَجِيئِهِ حَتْمًا، أوْ هي اعْتِراضِيَّةٌ مُبَيِّنَةٌ لِما قَبْلَها، وعَلى الأوَّلِ تَكُونُ جُمْلَةُ ﴿وإنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَألْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ﴾ مُسْتَأْنَفَةً، وعَلى الثّانِي تَكُونُ مَعْطُوفَةً عَلى الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها مَسُوقَةً لِبَيانِ حالِهِمْ في الِاسْتِعْجالِ، وخِطابُهم في ذَلِكَ بِبَيانِ كَمالِ حِلْمِهِ لَكَوْنِ المُدَّةِ القَصِيرَةِ عِنْدَهُ كالمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ عِنْدَهم كَما في قَوْلِهِ: ﴿إنَّهم يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ونَراهُ قَرِيبًا﴾ [المعارج: ٦ - ٧] قالَ الفَرّاءُ: هَذا وعِيدٌ لَهم بِامْتِدادِ عَذابِهِمْ في الآخِرَةِ أيْ: يَوْمٌ مِن أيّامِ عَذابِهِمْ في الآخِرَةِ كَألْفِ سَنَةٍ. وقِيلَ: المَعْنى: وإنَّ يَوْمًا مِنَ الخَوْفِ والشِّدَّةِ في الآخِرَةِ كَألْفِ سَنَةٍ مِن سِنِي الدُّنْيا فِيها خَوْفٌ وشِدَّةٌ، وكَذَلِكَ يَوْمُ النَّعِيمِ قِياسًا. قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ ( مِمّا تَعُدُّونَ ) بِالتَّحْتِيَّةِ، واخْتارَ هَذِهِ القِراءَةَ أبُو عَبِيدٍ لِقَوْلِهِ: ﴿ويَسْتَعْجِلُونَكَ﴾ وقَرَأ الباقُونَ بِالفَوْقِيَّةِ عَلى الخِطابِ، واخْتارَها أبُو حاتِمٍ. ﴿وكَأيِّنْ مِن قَرْيَةٍ أمْلَيْتُ لَها وهي ظالِمَةٌ ثُمَّ أخَذْتُها وإلَيَّ المَصِيرُ﴾ هَذا إعْلامٌ مِنهُ سُبْحانَهُ أنَّهُ أخَذَ قَوْمًا بَعْدَ الإمْلاءِ والتَّأْخِيرِ. قِيلَ وتَكْرِيرُ هَذا مَعَ ذِكْرِهِ قَبْلَهُ لِلتَّأْكِيدِ، ولَيْسَ بِتَكْرارٍ في الحَقِيقَةِ؛ لِأنَّ الأوَّلَ سِيقَ لِبَيانِ الإهْلاكِ مُناسِبًا لِقَوْلِهِ: ﴿فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ﴾، ولِهَذا عُطِفَ بِالفاءِ بَدَلًا عَنْ ذَلِكَ، والثّانِي سِيقَ لِبَيانِ الإمْلاءِ مُناسِبًا لِقَوْلِهِ: ﴿ولَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وعْدَهُ وإنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَألْفِ سَنَةٍ﴾ فَكَأنَّهُ قِيلَ: وكَمْ مِن أهْلِ قَرْيَةٍ كانُوا مِثْلَكم ظالِمِينَ قَدْ أمْهَلْتُهم حِينًا، ثُمَّ أخَذْتُهم بِالعَذابِ ومَرْجِعُ الكُلِّ إلى حُكْمِي. فَجُمْلَةُ: وإلَيَّ المَصِيرُ تَذْيِيلٌ لِتَقْرِيرِ ما قَبْلَها. ثُمَّ أمَرَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ أنْ يُخْبِرَ النّاسَ بِأنَّهُ نَذِيرٌ لَهم بَيْنَ يَدَيِ السّاعَةِ مُبَيِّنٌ لَهم ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ. فَمَن آمَنَ وعَمِلَ صالِحًا فازَ بِالمَغْفِرَةِ والرِّزْقِ الكَرِيمِ وهو الجَنَّةُ. ومَن كانَ عَلى خِلافِ ذَلِكَ فَهو في النّارِ وهُمُ الَّذِينَ سَعَوْا في آياتِ اللَّهِ مُعاجِزِينَ، يُقالُ عاجَزَهُ سابَقَهُ؛ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما في طَلَبِ إعْجازِ الآخَرِ، فَإذا سَبَقَهُ قِيلَ أعْجَزَهُ وعَجَّزَهُ، قالَهُ الأخْفَشُ. وقِيلَ: مَعْنى مُعاجِزِينَ: ظانِّينَ ومُقَدِّرِينَ أنْ يُعْجِزُوا اللَّهَ سُبْحانَهُ ويَفُوتُوهُ فَلا يُعَذِّبُهم، قالَهُ الزَّجّاجُ. وقِيلَ: مُعانِدِينَ، قالَهُ الفَرّاءُ. وقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها﴾ قالَ: خَرِبَةٌ لَيْسَ فِيها أحَدٌ ﴿وبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ﴾ عَطَّلَها أهْلُها وتَرَكُوها ﴿وقَصْرٍ مَشِيدٍ﴾ قالَ: شَيَّدُوهُ وحَصَّنُوهُ فَهَلَكُوا وتَرَكُوهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿وبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ﴾ قالَ: الَّتِي تُرِكَتْ لا أهْلَ لَها. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ ﴿وقَصْرٍ مَشِيدٍ﴾ قالَ: هو المُجَصَّصُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجاهِدٍ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَطاءٍ نَحْوَهُ أيْضًا. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وإنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَألْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ﴾ قالَ: مِنَ الأيّامِ السِّتَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيها السَّماواتِ والأرْضَ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ، قالَ في الآيَةِ: هو يَوْمُ القِيامَةِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ قالَ: الدُّنْيا جُمْعَةٌ مِن جُمَعِ الآخِرَةِ سَبْعَةُ آلافِ سَنَةٍ، فَقَدْ مَضى مِنها سِتَّةُ آلافٍ. وأخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ والدَّيْلَمِيُّ عَنْ أنَسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مُعاجِزِينَ قالَ: مُراغِمِينَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: مُشاقِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب