الباحث القرآني

. قَوْلُهُ ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يُجادِلُ في اللَّهِ﴾ أيْ في شَأْنِ اللَّهِ، كَقَوْلِ مَن قالَ: إنَّ المَلائِكَةَ بَناتُ اللَّهِ، والمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وعُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. قِيلَ نَزَلَتْ في النَّضْرِ بْنِ الحارِثِ، وقِيلَ: في أبِي جَهْلٍ، وقِيلَ: هي عامَّةٌ لِكُلِّ مَن يَتَصَدّى لِإضْلالِ النّاسِ وإغْوائِهِمْ، وعَلى كُلِّ حالٍ فالِاعْتِبارُ بِما يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وإنْ كانَ السَّبَبُ خاصًّا. ومَعْنى اللَّفْظِ: ومِنَ النّاسِ فَرِيقٌ يُجادِلُ في اللَّهِ، فَيَدْخُلُ في ذَلِكَ كُلُّ مُجادِلٍ في ذاتِ اللَّهِ، أوْ صِفاتِهِ أوْ شَرائِعِهِ الواضِحَةِ، و﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ: أيْ كائِنًا بِغَيْرِ عِلْمٍ. قِيلَ والمُرادُ بِالعِلْمِ هو العِلْمُ الضَّرُورِيُّ، وبِالهُدى هو العِلْمُ النَّظَرِيُّ الِاسْتِدْلالِيُّ. والأوْلى حَمْلُ العَمَلِ عَلى العُمُومِ، وحَمْلُ الهُدى عَلى مَعْناهُ اللُّغَوِيِّ، وهو الإرْشادُ. والمُرادُ بِالكِتابِ المُنِيرِ هو القُرْآنُ، والمُنِيرُ النَّيِّرُ البَيِّنُ الحُجَّةِ الواضِحُ البُرْهانِ، وهو وإنْ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ فَإفْرادُهُ بِالذِّكْرِ كَإفْرادِ جِبْرِيلَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ ذِكْرِ المَلائِكَةِ، وذَلِكَ لِكَوْنِهِ الفَرْدَ الكامِلَ الفائِقَ عَلى غَيْرِهِ مِن أفْرادِ العِلْمِ. وأمّا مَن حَمَلَ العِلْمَ عَلى الضَّرُورِيِّ والهُدى عَلى الِاسْتِدْلالِيِّ، فَقَدْ حَمَلَ الكِتابَ هُنا عَلى الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ، فَتَكُونُ الآيَةُ مُتَضَمِّنَةً لِنَفْيِ الدَّلِيلِ العَقْلِيِّ ضَرُورِيًّا كانَ أوِ اسْتِدْلالِيًّا، ومُتَضَمِّنَةً لِنَفْيِ الدَّلِيلِ النَّقْلِيِّ بِأقْسامِهِ، وما ذَكَرْناهُ أوْلى. قِيلَ والمُرادُ بِهَذا المُجادِلِ في هَذِهِ الآيَةِ هو المُجادِلُ في الآيَةِ الأُولى، أعْنِي قَوْلَهُ ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يُجادِلُ في اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ويَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ﴾ [الحج: ٣]، وبِذَلِكَ قالَ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ، والتَّكْرِيرُ لِلْمُبالَغَةِ في الذَّمِّ كَما تَقُولُ لِلرَّجُلِ تَذُمُّهُ وتُوَبِّخُهُ أنْتَ فَعَلَتْ هَذا أنْتَ فَعَلَتْ هَذا ؟ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَّكْرِيرُ لِكَوْنِهِ وصَفَهُ في كُلِّ آيَةٍ بِزِيادَةٍ عَلى ما وصَفَهُ بِهِ في الآيَةِ الأُخْرى، فَكَأنَّهُ قالَ: ومِنَ النّاسِ مَن يُجادِلُ في اللَّهِ ويَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴿ولا هُدًى ولا كِتابٍ مُنِيرٍ﴾ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ اهـ. وقِيلَ: الآيَةُ الأُولى في المُقَلِّدِينَ اسْمُ فاعِلٍ. والثّانِيَةُ في المُقَلِّدِينَ اسْمُ مَفْعُولٍ. والثّانِيَةُ عامَّةٌ في كُلِّ إضْلالٍ وجِدالٍ، وانْتِصابُ ﴿ثانِيَ عِطْفِهِ﴾ عَلى الحالِ مِن فاعِلِ يُجادِلُ، والعِطْفُ الجانِبُ، وعِطْفا الرَّجُلِ جانِباهُ مِن يَمِينٍ وشِمالٍ، وفي تَفْسِيرِهِ وجْهانِ: الأوَّلُ أنَّ المُرادَ بِهِ مَن يَلْوِي عُنُقَهُ مَرَحًا وتَكَبُّرًا، ذَكَرَ مَعْناهُ الزَّجّاجُ. قالَ وهَذا يُوصَفُ بِهِ المُتَكَبِّرُ. والمَعْنى: ومِنَ النّاسِ مَن يُجادِلُ في اللَّهِ مُتَكَبِّرًا. قالَ المُبَرِّدُ: العِطْفُ ما انْثَنى مِنَ العُنُقِ. والوَجْهُ الثّانِي أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿ثانِيَ عِطْفِهِ﴾ الإعْراضُ: أيْ مُعْرِضًا عَنِ الذَّكَرِ، كَذا قالَ الفَرّاءُ والمُفَضَّلُ وغَيْرُهُما كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولّى مُسْتَكْبِرًا كَأنْ لَمْ يَسْمَعْها﴾ [لقمان: ٧] وقَوْلِهِ: ﴿لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ﴾ [المنافقون: ٤٥]، وقَوْلِهِ: ﴿أعْرَضَ ونَأى بِجانِبِهِ﴾ [الإسراء: ٨٣]، واللّامُ في ﴿لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِيُجادِلُ: أيْ إنَّ غَرَضَهُ هو الإضْلالُ عَنِ السَّبِيلِ وإنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِذَلِكَ، وقُرِئَ ( لِيَضِلَّ ) بِفَتْحِ الياءِ عَلى أنْ تَكُونَ اللّامُ هي لامَ العاقِبَةِ كَأنَّهُ جَعَلَ ضَلالَهُ غايَةً لِجِدالِهِ، وجُمْلَةُ ﴿لَهُ في الدُّنْيا خِزْيٌ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِما يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ جِدالِهِ مِنَ العُقُوبَةِ. والخِزْيُ الذُّلُّ، وذَلِكَ بِما يَنالُهُ مِنَ العُقُوبَةِ في الدُّنْيا مِنَ العَذابِ المُعَجَّلِ وسُوءِ الذِّكْرِ عَلى ألْسُنِ النّاسَ. وقِيلَ: الخِزْيُ الدُّنْيَوِيُّ هو القَتْلُ كَما وقَعَ في يَوْمِ بَدْرٍ ﴿ونُذِيقُهُ يَوْمَ القِيامَةِ عَذابَ الحَرِيقِ﴾ أيْ عَذابَ النّارِ المُحْرِقَةِ. والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ إلى ما تَقَدَّمَ مِنَ العَذابِ الدُّنْيَوِيِّ (p-٩٥٦)والأُخْرَوِيِّ، وهو مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ ﴿بِما قَدَّمَتْ يَداكَ﴾ . والباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ: أيْ ذَلِكَ العَذابُ النّازِلُ بِكَ بِسَبَبِ ما قَدَّمَتْهُ يَداكَ مِنَ الكُفْرِ والمَعاصِي، وعَبَّرَ بِاليَدِ عَنْ جُمْلَةِ البَدَنِ لِكَوْنِ مُباشَرَةِ المَعاصِي تَكُونُ بِها في الغالِبِ، ومَحَلُّ أنَّ وما بَعْدَها في قَوْلِهِ: ﴿وأنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ الرَّفْعُ عَلى أنَّها خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ: أيْ والأمْرُ أنَّهُ سُبْحانَهُ لا يُعَذِّبُ عِبادَهُ بِغَيْرِ ذَنْبٍ. وقَدْ مَرَّ الكَلامُ عَلى هَذِهِ الآيَةِ في آخِرِ آلِ عِمْرانَ فَلا نُعِيدُهُ. ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ﴾ هَذا بَيانٌ لِشِقاقِ أهْلِ الشِّقاقِ. قالَ الواحِدِيُّ: قالَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ: الحَرْفُ الشَّكُّ، وأصْلُهُ مِن حَرْفِ الشَّيْءِ وهو طَرَفُهُ، مِثْلُ حَرْفِ الجَبَلِ والحائِطِ، فَإنَّ القائِمَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُسْتَقِرٌّ والَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ قَلِقٌ في دِينِهِ عَلى غَيْرِ ثَباتٍ وطُمَأْنِينَةٍ كالَّذِي هو عَلى حَرْفِ الجَبَلِ ونَحْوِهِ يَضْطَرِبُ اضْطِرابًا ويَضْعُفُ قِيامُهُ، فَقِيلَ لِلشّاكِّ في دِينِهِ إنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ، لِأنَّهُ عَلى غَيْرِ يَقِينٍ مِن وعْدِهِ ووَعِيدِهِ، بِخِلافِ المُؤْمِنِ لِأنَّهُ يَعْبُدُهُ عَلى يَقِينٍ وبَصِيرَةٍ فَلَمْ يَكُنْ عَلى حَرْفٍ. وقِيلَ: الحَرْفُ الشَّرْطُ: أيْ ومِنَ النّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى شَرْطٍ، والشَّرْطُ هو قَوْلُهُ: ﴿فَإنْ أصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأنَّ بِهِ﴾ أيْ خَيْرٌ دُنْيَوِيٌّ مِن رَخاءٍ وعافِيَةٍ وخِصْبٍ وكَثْرَةِ مالٍ، ومَعْنى اطْمَأنَّ بِهِ ثَبَتَ عَلى دِينِهِ واسْتَمَرَّ عَلى عِبادَتِهِ، أوِ اطْمَأنَّ قَلْبُهُ بِذَلِكَ الخَيْرِ الَّذِي أصابَهُ ﴿وإنْ أصابَتْهُ فِتْنَةٌ﴾ أيْ شَيْءٌ يَفْتَتَنُ بِهِ مِن مَكْرُوهٍ يُصِيبُهُ في أهْلِهِ أوْ مالِهِ أوْ نَفْسِهِ ﴿انْقَلَبَ عَلى وجْهِهِ﴾ أيِ ارْتَدَّ ورَجَعَ إلى الوَجْهِ الَّذِي كانَ عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ، ثُمَّ بَيَّنَ حالَهُ بَعْدَ انْقِلابِهِ عَلى وجْهِهِ فَقالَ ﴿خَسِرَ الدُّنْيا والآخِرَةَ﴾ أيْ ذَهَبا مِنهُ وفَقَدَهُما، فَلا حَظَّ لَهُ في الدُّنْيا مِنَ الغَنِيمَةِ والثَّناءِ الحَسَنِ، ولا في الآخِرَةِ مِنَ الأجْرِ وما أعَدَّهُ اللَّهُ لِلصّالِحِينَ مِن عِبادِهِ. وقَرَأ مُجاهِدٌ وحُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ والأعْرَجُ والزُّهْرِيُّ وابْنُ أبِي إسْحاقَ خاسِرًا الدُّنْيا والآخِرَةَ عَلى صِيغَةِ اسْمِ الفاعِلِ مَنصُوبًا عَلى الحالِ. وقُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ إلى خُسْرانِ الدُّنْيا والآخِرَةِ وهو مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ ﴿ذَلِكَ هو الخُسْرانُ المُبِينُ﴾ أيِ الواضِحُ الظّاهِرُ الَّذِي لا خُسْرانَ مِثْلُهُ. ﴿يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وما لا يَنْفَعُهُ﴾ أيْ هَذا الَّذِي انْقَلَبَ عَلى وجْهِهِ ورَجَعَ إلى الكُفْرِ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ: أيْ يَعْبُدُ مُتَجاوِزًا عِبادَةَ اللَّهِ إلى عِبادَةِ الأصْنامِ ما لا يَضُرُّهُ إنْ تَرَكَ عِبادَتَهُ، ولا يَنْفَعُهُ إنْ عَبَدَهُ لِكَوْنِ ذَلِكَ المَعْبُودُ جَمادًا لا يَقْدِرُ عَلى ضُرٍّ ولا نَفْعٍ، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ إلى الدُّعاءِ المَفْهُومِ مِنِ الفِعْلِ وهو يَدْعُو، واسْمُ الإشارَةِ مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ ﴿هُوَ الضَّلالُ البَعِيدُ﴾ أيْ عَنِ الحَقِّ والرُّشْدِ مُسْتَعارٌ مِن ضَلالِ مَن سَلَكَ غَيْرَ الطَّرِيقِ فَصارَ بِضَلالِهِ بَعِيدًا عَنْها. قالَ الفَرّاءُ: البَعِيدُ الطَّوِيلُ. ﴿يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أقْرَبُ مِن نَفْعِهِ﴾ يَدْعُو بِمَعْنى يَقُولُ، والجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِما قَبْلَها مَن كَوْنِ ذَلِكَ الدُّعاءَ ضَلالًا بَعِيدًا. والأصْنامُ لا نَفْعَ فِيها بِحالٍ مِنَ الأحْوالِ بَلْ هي ضَرَرٌ بَحْتٌ لِمَن يَعْبُدُها، لِأنَّهُ دَخَلَ النّارَ بِسَبَبِ عِبادَتِها، وإيرادُ صِيغَةُ التَّفْضِيلِ مَعَ عَدَمِ النَّفْعِ بِالمَرَّةِ لِلْمُبالَغَةِ في تَقْبِيحِ حالِ ذَلِكَ الدّاعِي، أوْ ذَلِكَ مِن بابِ ﴿وإنّا أوْ إيّاكم لَعَلى هُدًى أوْ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ: ٢٤] واللّامُ هي المُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، ومَن مَوْصُولَةٌ أوْ مَوْصُوفَةٌ، وضَرُّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ أقْرَبُ، والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصُولِ. وجُمْلَةُ ﴿لَبِئْسَ المَوْلى ولَبِئْسَ العَشِيرُ﴾ جَوابُ القَسَمِ، والمَعْنى: أنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ الكافِرُ يَوْمَ القِيامَةِ لِمَعْبُودِهِ الَّذِي ضَرُّهُ أقْرَبُ مِن نَفْعِهِ: لَبِئْسَ المَوْلى أنْتَ ولَبِئْسَ العَشِيرُ. والمَوْلى النّاصِرُ، والعَشِيرُ الصّاحِبُ، ومِثْلَ ما في هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: ؎يَدْعُونَ عَنْتَرَ والرِّماحُ كَأنَّها أشْطانُ بِئْرٍ في لِبانِ الأدْهَمِ وقالَ الزَّجّاجُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ يَدْعُو في مَوْضِعِ الحالِ، وفِيهِ هاءٌ مَحْذُوفَةٌ: أيْ ذَلِكَ هو الضَّلالُ البَعِيدُ يَدَّعُوهُ وعَلى هَذا يُوقَفُ عَلى يَدْعُو، ويَكُونُ قَوْلُهُ ﴿لَمَن ضَرُّهُ أقْرَبُ مِن نَفْعِهِ﴾ كَلامًا مُسْتَأْنَفًا مَرْفُوعًا بِالِابْتِداءِ، وخَبَرُهُ لَبِئْسَ المَوْلى. قالَ: وهَذا لِأنَّ اللّامَ لِلْيَمِينِ والتَّوْكِيدِ فَجَعَلَها أوَّلَ الكَلامِ. وقالَ الزَّجّاجُ والفَرّاءُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ يَدْعُو مُكَرَّرَةً عَلى ما قَبْلَها عَلى جِهَةِ تَكْثِيرِ هَذا الفِعْلِ الَّذِي هو الدُّعاءُ: أيْ يَدْعُو ما لا يَضُرُّهُ ولا يَنْفَعُهُ يَدْعُو. مِثْلَ ضَرَبْتُ زَيْدًا ضَرَبْتُ. وقالَ الفَرّاءُ والكِسائِيُّ والزَّجّاجُ: مَعْنى الكَلامِ القَسَمُ، واللّامُ مُقَدَّمَةٌ عَلى مَوْضِعِها، والتَّقْدِيرُ: يَدْعُو مَن لَضَرُّهُ أقْرَبُ مِن نَفْعِهِ، فَمَن في مَوْضِعِ نَصْبٍ بَيَدْعُو، واللّامُ جَوابُ القَسَمِ وضَرُّهُ مُبْتَدَأٌ، وأقْرَبُ خَبَرُهُ، ومِنَ التَّصَرُّفِ في اللّامِ بِالتَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎خالِيَ لَأنْتَ ومَن جَرِيرٌ خالُهُ ∗∗∗ يَنَلِ العَلاءَ ويُكْرِمِ الأخْوالا أيْ لَخالِي أنْتَ. قالَ النَّحّاسُ: وحَكى لَنا عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ قالَ: في الكَلامِ حَذْفٌ، والمَعْنى: يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أقْرَبُ مِن نَفْعِهِ إلَهًا. قالَ النَّحّاسُ: وأحْسَبُ هَذا القَوْلَ غَلَطًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ، ولَعَلَّ وجْهَهُ أنَّ ما قَبْلَ اللّامِ هَذِهِ لا يَعْمَلُ فِيما بَعْدَها. وقالَ الفَرّاءُ أيْضًا والقَفّالُ اللّامُ صِلَةٌ: أيْ زائِدَةٌ، والمَعْنى: يَدْعُو مَن ضَرُّهُ أقْرَبُ مِن نَفْعِهِ: أيْ يَعْبُدُهُ، وهَكَذا في قِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ بِحَذْفِ اللّامِ، وتَكُونُ اللّامُ في لَبِئْسَ المَوْلى وفي لَبِئْسَ العَشِيرُ عَلى هَذا مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ. ﴿إنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾ لَمّا فَرَغَ مَن ذِكْرِ حالِ المُشْرِكِينَ، ومَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حِرَفٍ ذَكَرَ حالَ المُؤْمِنِينَ في الآخِرَةِ، وأخْبَرَ أنَّهُ يُدْخِلُهم هَذِهِ الجَنّاتِ المُتَّصِفَةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ في جَرْيِ الأنْهارِ مِن تَحْتِها ظاهِرٌ، وإنْ أُرِيدَ بِها الأرْضُ فَلا بُدَّ مِن تَقْدِيرِ مُضافٍ: أيْ مِن تَحْتِ أشْجارِها ﴿إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ﴾ هَذِهِ الجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِما قَبْلَها: أيْ يَفْعَلُ ما يُرِيدُهُ مِنَ الأفْعالِ ﴿لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ﴾ [الأنبياء: ٢٣] فَيُثِيبُ مَن يَشاءُ ويُعَذِّبُ مَن يَشاءُ. ﴿مَن كانَ يَظُنُّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ﴾ قالَ النَّحّاسُ: مِن أحْسَنِ ما قِيلَ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ المَعْنى مَن كانَ يَظُنُّ أنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - وأنَّهُ يَتَهَيَّأُ لَهُ أنْ يَقْطَعَ النَّصْرَ الَّذِي (p-٩٥٧)أُوتِيَهُ ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السَّماءِ﴾ أيْ فَلْيَطْلُبْ حِيلَةً يَصِلُ بِها إلى السَّماءِ ثُمَّ لِيَقْطَعَ أيْ ثُمَّ لِيَقْطَعَ النَّصْرَ إنْ تَهَيَّأ لَهُ ﴿فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ﴾ وحِيلَتُهُ ما يَغِيظُ مِن نَصْرِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -، وقِيلَ: المَعْنى: مَن كانَ يَظُنُّ أنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا حَتّى يُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ فَلْيَمُتْ غَيْظًا، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السَّماءِ﴾ أيْ فَلْيَشْدُدْ حَبْلًا في سَقْفِ بَيْتِهِ ﴿ثُمَّ لِيَقْطَعْ﴾ أيْ ثُمَّ لِيَمُدَّ الحَبْلَ حَتّى يَنْقَطِعَ فَيَمُوتَ مُخْتَنِقًا، والمَعْنى: فَلْيَخْتَنِقْ غَيْظًا حَتّى يَمُوتَ، فَإنَّ اللَّهَ ناصِرُهُ ومُظْهِرُهُ، ولا يَنْفَعَهُ غَيْظُهُ، ومَعْنى فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ: أيْ صَنِيعُهُ وحِيلَتُهُ ما يَغِيظُ: أيْ غَيْظَهُ، وما مَصْدَرِيَّةٌ. وقِيلَ: إنَّ الضَّمِيرَ في يَنْصُرُهُ يَعُودُ إلى مَن، والمَعْنى: مَن كانَ يَظُنُّ أنَّ اللَّهَ لا يَرْزُقُهُ فَلْيَقْتُلْ نَفْسَهُ، وبِهِ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ. وقِيلَ: إنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إلى الدِّينِ: أيْ مَن كانَ يَظُنُّ أنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ دِينَهُ. وقَرَأ الكُوفِيُّونَ بِإسْكانِ اللّامِ في ثُمَّ لِيَقْطَعْ قالَ النَّحّاسُ: وهَذِهِ القِراءَةُ بَعِيدَةٌ مِنَ العَرَبِيَّةِ. ﴿وكَذَلِكَ أنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ﴾ أيْ مِثْلَ ذَلِكَ الإنْزالِ البَدِيعِ أنْزَلْناهُ آياتٍ واضِحاتٍ ظاهِرَةَ الدَّلالَةِ عَلى مَدْلُولاتِها ﴿وأنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ﴾ هِدايَتُهُ ابْتِداءً أوْ زِيادَةً فِيها لِمَن كانَ مَهْدِيًّا مِن قَبْلُ. وقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿ثانِيَ عِطْفِهِ﴾ قالَ: لاوِيَ عُنُقِهِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والسُّدِّيُّ وابْنِ زَيْدٍ وابْنِ جُرَيْجٍ أنَّهُ المُعْرِضُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ في قَوْلِهِ: ﴿ثانِيَ عِطْفِهِ﴾ قالَ: أُنْزِلَتْ في النَّضْرِ بْنِ الحارِثِ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في الآيَةِ قالَ: هو رَجُلٌ مِن بَنِي عَبْدِ الدّارِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ﴾ قالَ: كانَ الرَّجُلُ يَقْدَمُ المَدِينَةَ، فَإنْ ولَدَتِ امْرَأتُهُ غُلامًا وأنْتَجَتْ خَيْلُهُ قالَ: هَذا دِينٌ صالِحٌ، وإنْ لَمْ تَلِدِ امْرَأتَهُ ولَمْ تُنْتِجْ خَيْلُهُ قالَ: هَذا دِينُ سُوءٍ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ قالَ: «كانَ ناسٌ مِنَ الأعْرابِ يَأْتُونَ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - يُسْلِمُونَ، فَإذا رَجَعُوا إلى بِلادِهِمْ، فَإنْ وجَدُوا عامَ غَيْثٍ وعامَ خِصْبٍ وعامَ وِلادٍ حَسَنٍ قالُوا: إنَّ دِينَنا هَذا لِصالِحٌ فَتَمَسَّكُوا بِهِ، وإنْ وجَدُوا عامَ جَدْبٍ وعامَ وِلادِ سُوءٍ وعامَ قَحْطٍ قالُوا: ما في دِينِنا هَذا خَيْرٌ، فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ﴾» . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أيْضًا نَحْوَهُ، وفي إسْنادِهِ العَوْفِيُّ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ أيْضًا مِن طَرِيقِهِ أيْضًا عَنْ أبِي سَعِيدٍ قالَ: «أسْلَمَ رَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ فَذَهَبَ بَصَرُهُ ومالُهُ ووَلَدُهُ فَتَشاءَمَ بِالإسْلامِ، فَأتى النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَقالَ: أقِلْنِي أقِلْنِي، قالَ: إنَّ الإسْلامَ لا يُقالُ، فَقالَ: لَمْ أُصِبْ مِن دِينِي هَذا خَيْرًا ذَهَبَ بَصَرِي ومالِي وماتَ ولَدِي، فَقالَ: يا يَهُودِيُّ الإسْلامُ يَسْبِكُ الرِّجالَ كَما تَسْبِكُ النّارَ خَبَثَ الحَدِيدِ والذَّهَبِ والفِضَّةِ، فَنَزَلَتْ ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ﴾» . وأخْرَجَ الفِرْيابِيُّ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿مَن كانَ يَظُنُّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ﴾ قالَ: مَن كانَ يَظُنُّ أنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا في الدُّنْيا والآخِرَةِ ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ﴾ قالَ: فَلْيُرْبَطْ بِحَبْلٍ ﴿إلى السَّماءِ﴾ قالَ: إلى سَماءِ بَيْتِهِ السَّقْفُ ﴿ثُمَّ لِيَقْطَعْ﴾ قالَ: ثُمَّ لِيَخْتَنِقْ بِهِ حَتّى يَمُوتَ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ قالَ ﴿مَن كانَ يَظُنُّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ﴾ يَقُولُ: أنْ لَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السَّماءِ﴾ فَلْيَأْخُذْ حَبْلًا فَلْيَرْبُطْهُ في سَماءِ بَيْتِهِ فَلْيَخْتَنِقْ بِهِ ﴿فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ﴾ قالَ: فَلْيَنْظُرْ هَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ أوْ يَأْتِيهِ بِرِزْقٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب