الباحث القرآني

. قَوْلُهُ: ﴿قالَ اهْبِطا﴾ قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ في البَقَرَةِ: أيِ انْزِلا مِنَ الجَنَّةِ إلى الأرْضِ، خَصَّهُما اللَّهُ سُبْحانَهُ بِالهُبُوطِ لِأنَّهُما أصْلُ البَشَرِ، ثُمَّ عَمَّمَ الخِطابَ لَهُما ولِذَرِّيَّتِهِما فَقالَ: ﴿بَعْضُكم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ والجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ ويَجُوزُ أنْ يُقالَ خاطَبَهُما في هَذا وما بَعْدَهُ خِطابُ الجَمْعِ، لِأنَّهُما مَنشَأُ الأوْلادِ. ومَعْنى ﴿بَعْضُكم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ تَعادِيهِمْ في أمْرِ المَعاشِ ونَحْوِهِ. فَيَحْدُثُ بِسَبَبِ ذَلِكَ القِتالُ والخِصامُ ﴿فَإمّا يَأْتِيَنَّكم مِنِّي هُدًى﴾ بِإرْسالِ الرُّسُلِ وإنْزالِ الكُتُبِ ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقى﴾ أيْ لا يَضِلُّ في الدُّنْيا ولا يَشْقى في الآخِرَةِ. ﴿ومَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ أيْ عَنْ دِينِي، وتِلاوَةِ كِتابِي، والعَمَلِ بِما فِيهِ، ولَمْ يَتَّبِعْ هُدايَ ﴿فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ أيْ فَإنَّ لَهُ في هَذِهِ الدُّنْيا مَعِيشَةً ضَنْكًا: أيْ عَيْشًا ضَيِّقًا. يُقالُ: مَنزِلٌ ضَنْكٌ وعَيْشٌ ضَنْكٌ، مَصْدَرٌ يَسْتَوِي فِيهِ الواحِدُ وما فَوْقَهُ والمُذَكَّرُ والمُؤَنَّثُ، قالَ عَنْتَرَةُ: ؎إنَّ المَنِيَّةَ لَوْ تُمَثَّلُ مُثِّلَتْ مِثْلِي إذا نَزَلُوا بِضَنْكِ المُنَزِلِ وقُرِئَ ضُنْكى بِضَمِّ الضّادِ عَلى فُعْلى. ومَعْنى الآيَةِ: أنَّ اللَّهَ - عَزَّ وجَلَّ - جَعَلَ لِمَنِ اتَّبَعَ هُداهُ وتَمَسَّكَ بِدِينِهِ أنْ يَعِيشَ في الدُّنْيا عَيْشًا هَنِيًّا غَيْرَ مَهْمُومٍ ولا مَغْمُومٍ ولا مُتْعِبٍ نَفْسَهُ كَما قالَ سُبْحانَهُ: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: ٩٧] وجَعَلَ لِمَن لَمْ يَتَّبِعْ هُداهُ وأعْرَضَ عَنْ دِينِهِ أنْ يَعِيشَ عَيْشًا ضَيِّقًا وفي تَعَبٍ ونَصَبٍ، ومَعَ ما يُصِيبُهُ في هَذِهِ الدُّنْيا مِنَ المَتاعِبِ، فَهو في الأُخْرى أشَدُّ تَعَبًا وأعْظَمُ ضِيقًا وأكْثَرُ نَصَبًا. وذَلِكَ مَعْنى ﴿ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى﴾ أيْ مَسْلُوبَ البَصَرِ. وقِيلَ: المُرادُ بِالعَمى عَنِ الحُجَّةِ، وقِيلَ: أعْمى عَنْ جِهاتِ الخَيْرِ لا يَهْتَدِي إلى شَيْءٍ مِنها، وقَدْ قِيلَ إنَّ المُرادَ بِالعِيشَةِ الضَّنْكى عَذابُ القَبْرِ، وسَيَأْتِي ما يُرَجِّحُ هَذا ويُقَوِّيهِ. ﴿قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمى وقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا﴾ (p-٩٢٦)فِي الدُّنْيا. قالَ كَذَلِكَ. أيْ مِثْلِ ذَلِكَ فَعَلْتَ أنْتَ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿أتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها﴾ أيْ أعْرَضْتَ عَنْها، وتَرَكْتَها، ولَمْ تَنْظُرْ فِيها ﴿وكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسى﴾ أيْ مِثْلِ ذَلِكَ النِّسْيانِ الَّذِي كُنْتَ فَعَلْتَهُ في الدُّنْيا تُنْسى: أيْ تُتْرَكُ في العَمى والعَذابِ في النّارِ، قالَ الفَرّاءُ: يُقالُ إنَّهُ يَخْرُجُ بَصِيرًا مِن قَبْرِهِ فَيَعْمى في حَشْرِهِ. ﴿وكَذَلِكَ نَجْزِي مَن أسْرَفَ﴾ أيْ مِثْلَ ذَلِكَ الجَزاءِ نَجْزِيهِ: والإسْرافُ الِانْهِماكُ في الشَّهَواتِ، وقِيلَ: الشِّرْكُ ﴿ولَمْ يُؤْمِن بِآياتِ رَبِّهِ﴾ بَلْ كَذَّبَ بِها ﴿ولَعَذابُ الآخِرَةِ أشَدُّ﴾ أيْ أفْظَعُ مِنَ المَعِيشَةِ الضَّنْكى وأبْقى أيْ أدْوَمُ وأثْبَتُ لِأنَّهُ لا يَنْقَطِعُ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ والطَّبَرانِيُّ وأبُو نُعَيْمٍ في الحِلْيَةِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «مَنِ اتَّبَعَ كِتابَ اللَّهِ هَداهُ اللَّهُ مِنَ الضَّلالَةِ في الدُّنْيا، ووَقاهُ سُوءَ الحِسابِ يَوْمَ القِيامَةِ» وذَلِكَ أنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقى﴾ . وأخْرَجَ الفِرْيابِيُّ وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ ومُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ مِن طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: أجارَ اللَّهُ تابِعَ القُرْآنِ مِن أنْ يَضِلَّ في الدُّنْيا أوْ يَشْقى في الآخِرَةِ، ثُمَّ قَرَأ ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقى﴾ قالَ: لا يَضِلُّ في الدُّنْيا، ولا يَشْقى في الآخِرَةِ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ ومُسَدَّدٌ في مَسْنَدِهِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ «عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا في قَوْلِهِ: ﴿مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ قالَ: عَذابُ القَبْرِ» . ولَفَظُ عَبْدِ الرَّزّاقِ قالَ: «يُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتّى تَخْتَلِفَ أضْلاعُهُ» . وقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: المَوْقُوفُ أصَحُّ. وأخْرَجَ البَزّارُ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ «عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - في قَوْلِهِ: ﴿فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ قالَ: المَعِيشَةُ الضَّنْكى أنْ يُسَلَّطَ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وتِسْعُونَ حَيَّةً يَنْهَشُونَ لَحْمَهُ حَتّى تَقُومَ السّاعَةُ» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا والحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وأبُو يَعْلى وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ حِبّانَ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ بِأطْوَلَ مِنهُ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: رَفْعُهُ مُنْكَرٌ جِدًّا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ والبَزّارُ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والحاكِمُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ «عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - في قَوْلِهِ: ﴿فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ قالَ: عَذابُ القَبْرِ» . قالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ إخْراجِهِ: إسْنادٌ جَيِّدٌ. وأخْرَجَ هَنّادٌ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ الطَّبَرانِيُّ والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ في قَوْلِهِ: ﴿فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ قالَ: عَذابُ القَبْرِ، ومَجْمُوعُ ما ذَكَرْنا هُنا يُرْجِعُ تَفْسِيرَ المَعِيشَةِ الضَّنْكى بِعَذابِ القَبْرِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ والطَّبَرانِيُّ والبَيْهَقِيُّ في كِتابِ عَذابِ القَبْرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ فَسَّرَ المَعِيشَةَ الضَّنْكى بِالشَّقاءِ. وأخْرَجَ هَنّادٌ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وعَنْ عِكْرِمَةَ في قَوْلِهِ: ﴿ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى﴾ قالَ: عَمِيَ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ إلّا جَهَنَّمَ، وفي لَفْظٍ: لا يُبْصِرُ إلّا النّارَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ سُفْيانَ في قَوْلِهِ: ﴿وكَذَلِكَ نَجْزِي مَن أسْرَفَ﴾ قالَ: مَن أشْرَكَ بِاللَّهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب