الباحث القرآني

. (p-٩٢٠)جُمْلَةُ قالَ يا هارُونُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوابُ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ، والمَعْنى: أنَّ مُوسى لَمّا وصَلَ إلَيْهِمْ أخَذَ بِشُعُورِ رَأْسِ أخِيهِ هارُونَ وبِلِحْيَتِهِ وقالَ ما مَنَعَكَ مِنِ اتِّباعِي واللُّحُوقِ بِي عِنْدَ أنْ وقَعُوا في هَذِهِ الضَّلالَةِ ودَخَلُوا في الفِتْنَةِ. وقِيلَ: مَعْنى ﴿ما مَنَعَكَ إذْ رَأيْتَهم ضَلُّوا﴾ ﴿ألّا تَتَّبِعَنِي﴾ ما مَنَعَكَ مِنِ اتِّباعِي في الإنْكارِ عَلَيْهِمْ، وقِيلَ: مَعْناهُ: هَلّا قاتَلْتَهم إذْ قَدْ عَلِمْتَ أنِّي لَوْ كُنْتُ بَيْنَهم لَقاتَلْتُهم، وقِيلَ: مَعْناهُ: هَلّا فارَقْتَهم، و( لا ) في ﴿ألّا تَتَّبِعَنِي﴾ زائِدَةٌ، وهو في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ لِمَنَعَ: أيْ أيُّ شَيْءٍ مَنَعَكَ حِينَ رُؤْيَتِكَ لِضَلالِهِمْ مِنِ اتِّباعِي ؟ والِاسْتِفْهامُ في ﴿أفَعَصَيْتَ أمْرِي﴾ لِلْإنْكارِ والتَّوْبِيخِ، والفاءُ لِلْعَطْفِ عَلى مُقَدَّرٍ كَنَظائِرِهِ، والمَعْنى: كَيْفَ خالَفْتَ أمْرِي لَكَ بِالقِيامِ لِلَّهِ ومُنابَذَةِ مَن خالَفَ دِينَهُ وأقَمْتَ بَيْنَ هَؤُلاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ إلَهًا، وقِيلَ: المُرادُ بِقَوْلِهِ أمْرِي هو قَوْلُهُ الَّذِي حَكى اللَّهُ عَنْهُ ﴿قالَ مُوسى لِأخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي في قَوْمِي وأصْلِحْ ولا تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٢] فَلَمّا أقامَ مَعَهم ولَمْ يُبالِغْ في الإنْكارِ إلَيْهِمْ نَسَبَهُ إلى عِصْيانِهِ. ﴿قالَ ياابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي ولا بِرَأْسِي﴾ قُرِئَ بِالفَتْحِ والكَسْرِ لِلْمِيمِ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى هَذا في سُورَةِ الأعْرافِ، ونَسَبَهُ إلى الأُمِّ مَعَ كَوْنِهِ أخاهُ لِأبِيهِ وأُمِّهِ عِنْدَ الجُمْهُورِ اسْتِعْطافًا لَهُ وتَرْقِيقًا لِقَلْبِهِ، ومَعْنى ﴿ولا بِرَأْسِي﴾ ولا بِشِعْرِ رَأْسِي: أيْ لا تَفْعَلْ هَذا بِي عُقُوبَةً مِنكَ لِي، فَإنَّ لِي عُذْرًا هو ﴿إنِّي خَشِيتُ أنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ أيْ خَشِيتُ إنْ خَرَجْتُ عَنْهم وتَرَكْتُهم أنْ يَتَفَرَّقُوا فَتَقُولَ إنِّي فَرَّقْتُ جَماعَتَهم وذَلِكَ لِأنَّ هارُونَ لَوْ خَرَجَ لَتَبِعَهُ جَماعَةٌ مِنهم وتَخَلَّفَ مَعَ السّامِرِيِّ عِنْدَ العِجْلِ آخَرُونَ، ورُبَّما أفْضى ذَلِكَ إلى القِتالِ بَيْنَهم، ومَعْنى ﴿ولَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ ولَمْ تَعْمَلْ بِوَصِيَّتِي لَكَ فِيهِمْ، إنِّي خَشِيتُ أنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَهم وتَقُولَ لَمْ تَعْمَلْ بِوَصِيَّتِي لَكَ فِيهِمْ وتَحْفَظْها، ومُرادُهُ بِوَصِيَّةِ مُوسى لَهُ هو قَوْلُهُ: ﴿اخْلُفْنِي في قَوْمِي وأصْلِحْ﴾ قالَ أبُو عُبَيْدٍ: مَعْنى ﴿ولَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ ولَمْ تَنْتَظِرْ عَهْدِي وقُدُومِي لِأنَّكَ أمَرْتَنِي أنْ أكُونَ مَعَهم، فاعْتَذَرَ هارُونُ إلى مُوسى هاهُنا بِهَذا، واعْتَذَرَ إلَيْهِ في الأعْرافِ بِما حَكاهُ اللَّهُ عَنْهُ هُنالِكَ حَيْثُ قالَ: ﴿إنَّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وكادُوا يَقْتُلُونَنِي﴾ . ثُمَّ تَرَكَ الكَلامَ مَعَ أخِيهِ وخاطَبَ السّامِرِيَّ فَ ﴿قالَ فَما خَطْبُكَ ياسامِرِيُّ﴾ أيْ ما شَأْنُكَ وما الَّذِي حَمَلَكَ عَلى ما صَنَعْتَ. ﴿قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ﴾ أيْ قالَ السّامِرِيُّ مُجِيبًا عَلى مُوسى: رَأيْتُ ما لَمْ يَرَوْا أوْ عَلِمْتُ بِما لَمْ يَعْلَمُوا وفَطِنْتُ لِما لَمْ يَفْطُنُوا لَهُ، وأرادَ بِذَلِكَ أنَّهُ رَأى جِبْرِيلَ عَلى فَرَسِ الحَياةِ فَأُلْقِيَ في ذِهْنِهِ أنْ يَقْبِضَ قَبْضَةً مِن أثَرِ الرَّسُولِ، وأنَّ ذَلِكَ الأثَرَ لا يَقَعُ عَلى جَمادٍ إلّا صارَ حَيًّا. وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ والأعْمَشُ وخَلَفٌ ( بِما لَمْ تَبْصُرُوا بِهِ ) بِالمُثَنّاةِ مِن فَوْقُ عَلى الخِطابِ. وقَرَأ الباقُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ، وهي أوْلى، لِأنَّهُ يَبْعُدُ كُلَّ البُعْدِ أنْ يُخاطِبَ مُوسى بِذَلِكَ ويَدَّعِيَ لِنَفْسِهِ أنَّهُ عَلِمَ ما لَمْ يَعْلَمْ بِهِ مُوسى، وقُرِئَ بِضَمِّ الصّادِ فِيهِما وبِكَسْرِها في الأوَّلِ وفَتْحِها في الثّانِي، وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وابْنُ مَسْعُودٍ والحَسَنُ وقَتادَةُ ( فَقَبَصْتُ قَبْصَةً ) بِالصّادِ المُهْمَلَةِ فِيهِما، وقَرَأ الباقُونَ بِالضّادِ المُعْجَمَةِ فِيهِما، والفَرْقُ بَيْنَهُما أنَّ القَبْضَ بِالمُعْجَمَةِ هو الأخْذُ بِجَمِيعِ الكَفِّ، وبِالمُهْمَلَةِ بِأطْرافِ الأصابِعِ، والقُبْضَةُ بِضَمِّ القافِ: القَدْرُ المَقْبُوضُ. قالَ الجَوْهَرِيُّ: هي ما قَبَضْتُ عَلَيْهِ مِن شَيْءٍ، قالَ: ورُبَّما جاءَ بِالفَتْحِ، وقَدْ قُرِئَ ( قُبْضَةً ) بِضَمِّ القافِ وفَتْحِها، ومَعْنى الفَتْحِ المَرَّةُ مِنَ القَبْضِ، ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلى المَقْبُوضِ وهو مَعْنى القُبْضَةِ بِضَمِّ القافِ، ومَعْنى ﴿مِن أثَرِ الرَّسُولِ﴾ مِنَ المَحَلِّ الَّذِي وقَعَ عَلَيْهِ حافِرُ فَرَسِ جِبْرِيلَ، ومَعْنى فَنَبَذْتُها فَطَرَحْتُها في الحُلِيِّ المُذابَةِ المَسْبُوكَةِ عَلى صُورَةِ العِجْلِ ﴿وكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي﴾ قالَ الأخْفَشُ: أيْ زَيَّنَتْ: أيْ ومِثْلَ ذَلِكَ التَّسْوِيلِ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، وقِيلَ: مَعْنى سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي حَدَّثَتْنِي نَفْسِي. فَلَمّا سَمِعَ مُوسى مِنهُ ذَلِكَ ﴿قالَ فاذْهَبْ فَإنَّ لَكَ في الحَياةِ أنْ تَقُولَ لا مِساسَ﴾ أيْ فاذْهَبْ مِن بَيْنِنا واخْرُجْ عَنّا فَإنَّ لَكَ في الحَياةِ: أيْ ما دُمْتَ حَيًّا، وأطْوَلُ حَياتِكَ أنْ تَقُولَ لا مِساسَ. المِساسُ مَأْخُوذٌ مِنَ المُماسَّةِ: أيْ لا يَمَسُّكَ أحَدٌ ولا تَمَسُّ أحَدًا، لَكِنْ لا بِحَسَبِ الِاخْتِيارِ مِنكَ، بَلْ بِمُوجِبِ الِاضْطِرارِ المُلْجِئِ إلى ذَلِكَ، لِأنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ أمَرَ مُوسى أنْ يَنْفِيَ السّامِرِيَّ عَنْ قَوْمِهِ، وأمَرَ بَنِي إسْرائِيلَ أنْ لا يُخالِطُوهُ ولا يَقْرَبُوهُ ولا يُكَلِّمُوهُ عُقُوبَةً لَهُ. قِيلَ إنَّهُ لَمّا قالَ لَهُ مُوسى ذَلِكَ هَرَبَ، فَجَعَلَ يَهِيمُ في البَرِّيَّةِ مَعَ السِّباعِ والوَحْشِ لا يَجِدُ أحَدًا مِنَ النّاسِ يَمَسُّهُ حَتّى صارَ كَمَن يَقُولُ لا مِساسَ لِبُعْدِهِ عَنِ النّاسِ وبُعْدِ النّاسِ عَنْهُ، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎حَمّالُ راياتٍ بِها قَناعِسًا حَتّى تَقُولَ الأُزْدُ لا مَسايِسًا قالَ سِيبَوَيْهِ: وهو مَبْنِيٌّ عَلى الكَسْرِ. قالَ الزَّجّاجُ: كُسِرَتِ السِّينُ لِأنَّ الكَسْرَةَ مِن عَلامَةِ التَّأْنِيثِ. قالَ الجَوْهَرِيُّ في الصِّحاحِ: وأمّا قَوْلُ العَرَبِ لا مِساسَ مِثْلُ قِطامِ فَإنَّما بُنِيَ عَلى الكَسْرِ لِأنَّهُ مَعْدُولٌ عَنِ المَصْدَرِ، وهو المَسُّ. قالَ النَّحّاسُ: وسَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ سُلَيْمانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يَزِيدَ المُبَرِّدَ يَقُولُ: إذا اعْتَلَّ الشَّيْءُ مِن ثَلاثِ جِهاتٍ وجَبَ أنْ يُبْنى، وإذا اعْتَلَّ مِن جِهَتَيْنِ وجَبَ أنْ لا يَنْصَرِفَ، لِأنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الصَّرْفِ إلّا البِناءُ، فَمِساسُ دَراكٍ اعْتَلَّ مِن ثَلاثِ جِهاتٍ: مِنها أنَّهُ مَعْدُولٌ، ومِنها أنَّهُ يُؤَنَّثُ، ومِنها أنَّهُ مَعْرِفَةٌ، فَلَمّا وجَبَ البِناءُ فِيهِ وكانَتِ الألِفُ قَبْلَ السِّينِ ساكِنَةً كُسِرَتِ السِّينُ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ. وقَدْ رَأيْتُ أبا إسْحاقَ يَعْنِي الزَّجّاجَ ذَهَبَ إلى أنَّ هَذا القَوْلَ خَطَأٌ وألْزَمَ أبا العَبّاسِ إذا سُمِّيَتِ امْرَأةٌ بِفِرْعَوْنَ أنْ يَبْنِيَهُ وهَذا لا يَقُولُهُ أحَدٌ. وقَدْ قَرَأ بِفَتْحِ المِيمِ أبُو حَيْوَةَ والباقُونَ بِكَسْرِها. وحاصِلُ ما قِيلَ في مَعْنى لا مِساسَ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: الأوَّلُ أنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْهِ مُماسَّةَ النّاسِ، (p-٩٢١)وكانَ إذا ماسَّهُ أحَدٌ حُمَّ الماسُّ والمَمْسُوسُ. فَلِذَلِكَ كانَ يَصِيحُ إذا رَأى أحَدًا لا مِساسَ. والثّانِي أنَّ المُرادَ مَنعُ النّاسِ مِن مُخالَطَتِهِ، واعْتُرِضَ بِأنَّ الرَّجُلَ إذا صارَ مَهْجُورًا فَلا يَقُولُ هو لا مِساسَ، وإنَّما يُقالُ لَهُ، وأُجِيبَ بِأنَّ المُرادَ الحِكايَةُ: أيْ أجْعَلُكَ يا سامِرِيُّ بِحَيْثُ إذا أخْبَرْتَ عَنْ حالِكِ قُلْتَ لا مِساسَ. والقَوْلُ الثّالِثُ أنَّ المُرادَ انْقِطاعُ نَسْلِهِ، وأنْ يُخْبِرَ بِأنَّهُ لا يَتَمَكَّنُ مِن مُماسَّةِ المَرْأةِ قالَهُ أبُو مُسْلِمٍ وهو ضَعِيفٌ جِدًّا. ثُمَّ ذَكَرَ حالَهُ في الآخِرَةِ فَقالَ: ﴿وإنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ﴾ أيْ لَنْ يُخْلِفَكَ اللَّهُ ذَلِكَ المَوْعِدَ، وهو يَوْمُ القِيامَةِ، والمَوْعِدُ مَصْدَرٌ: أيْ إنَّ لَكَ وعْدًا لِعَذابِكَ، وهو كائِنٌ لا مَحالَةَ قالَ الزَّجّاجُ: أيْ يُكافِئُكَ اللَّهُ عَلى ما فَعَلْتَ في القِيامَةِ واللَّهُ لا يُخْلِفُ المِيعادَ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو ويَعْقُوبُ وابْنُ مُحَيْصِنٍ واليَزِيدِيُّ والحَسَنُ ( لَنْ تُخْلِفَهُ ) بِكَسْرِ اللّامِ، ولَهُ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ مَعْنَيانِ: أحَدُهُما سَتَأْتِيهِ ولَنْ تَجِدَهُ مُخْلِفًا كَما تَقُولُ أحْمَدْتُهُ: أيْ وجَدْتُهُ مَحْمُودًا، والثّانِي عَلى التَّهْدِيدِ: أيْ لا بُدَّ لَكَ مِن أنْ تَصِيرَ إلَيْهِ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ ( لَنْ نُخْلِفَهُ ) بِالنُّونِ: أيْ لَنْ يُخْلِفَهُ اللَّهُ. وقَرَأ الباقُونَ بِفَتْحِ اللّامِ، وبِالفَوْقِيَّةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، مَعْناهُ ما قَدَّمْناهُ ﴿وانْظُرْ إلى إلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفًا﴾ ظَلْتَ أصْلُهُ ظَلِلْتَ فَحُذِفَتِ اللّامُ الأُولى تَخْفِيفًا، والعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرًا. وقَرَأ الأعْمَشُ بِلامَيْنِ عَلى الأصْلِ. وفي قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ ( ظِلْتَ ) بِكَسْرِ الظّاءِ. والمَعْنى: انْظُرْ إلى إلَهِكَ الَّذِي دُمْتَ وأقَمْتَ عَلى عِبادَتِهِ، والعاكِفُ المُلازِمُ ﴿لَنُحَرِّقَنَّهُ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ بِضَمِّ النُّونِ وتَشْدِيدِ الرّاءِ مِن حَرَّقَهُ يُحَرِّقُهُ. وقَرَأ الحَسَنُ بِضَمِّ النُّونِ وسُكُونِ الحاءِ وتَخْفِيفِ الرّاءِ مَن أحْرَقَهُ يُحْرِقُهُ. وقَرَأ عَلِيٌّ وابْنُ عَبّاسٍ وأبُو جَعْفَرٍ وابْنُ مُحَيْصِنٍ وأشْهَبُ والعُقَيْلِيُّ ( لَنُحَرِّقَنَّهُ ) بِفَتْحِ النُّونِ وضَمِّ الرّاءِ مُخَفَّفَةً مِن حَرَقْتُ الشَّيْءَ أحْرِقُهُ حَرْقًا إذا بَرَدْتَهُ وحَكَكْتَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ: أيْ لَنُبَرِّدَنَّهُ بِالمَبارِدِ، ويُقالُ لِلْمُبَرِّدِ المُحْرِقُ. والقِراءَةُ الأوْلى أوْلى، ومَعْناها الإحْراقُ بِالنّارِ، وكَذا مَعْنى القِراءَةِ الثّانِيَةِ، وقَدْ جَمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلاثِ القِراءاتِ بِأنَّهُ أحْرَقَ، ثُمَّ بَرَّدَ بِالمُبَرِّدِ، وفي قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ ( لَنَذْبَحَنَّهُ ثُمَّ لَنَحْرِقَنَّهُ )، واللّامُ هي المُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ ﴿ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ في اليَمِّ نَسْفًا﴾ النَّسْفُ نَفْضُ الشَّيْءِ لِيَذْهَبَ بِهِ الرِّيحُ. قَرَأ أبُو رَجاءٍ ( لَنُنْسِفَنَّهُ ) بِضَمِّ السِّينِ، وقَرَأ الباقُونَ بِكَسْرِها، وهُما لُغَتانِ. والمِنسَفُ ما يُنْسَفُ بِهِ الطَّعامُ، وهو شَيْءٌ مَنصُوبُ الصَّدْرِ أعْلاهُ مُرْتَفِعٌ، والنُّسافَةُ ما يَسْقُطُ مِنهُ. ﴿إنَّما إلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هو﴾ لا هَذا العِجْلُ الَّذِي فُتِنْتُمْ بِهِ السّامِرِيَّ ﴿وسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ وسِعَ بِكَسْرِ السِّينِ مُخَفَّفَةً. وهو مُتَعَدٍّ إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ، وهو كُلُّ شَيْءٍ، وانْتِصابُ عِلْمًا عَلى التَّمْيِيزِ المُحَوَّلِ عَنِ الفاعِلِ: أيْ وسِعَ عِلْمُهُ كُلَّ شَيْءٍ. وقَرَأ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ ( وسَّعَ ) بِتَشْدِيدِ السِّينِ وفَتْحِها فَيَتَعَدّى إلى مَفْعُولَيْنِ، ويَكُونُ انْتِصابُ عِلْمًا عَلى أنَّهُ المَفْعُولُ الأوَّلُ وإنْ كانَ مُتَأخِّرًا، لِأنَّهُ في الأصْلِ فاعِلٌ، والتَّقْدِيرُ: وسِعَ عِلْمُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وقَدْ مَرَّ نَحْوُ هَذا في الأعْرافِ. ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ الكافُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى أنَّها نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أيْ كَما قَصَصْنا عَلَيْكَ خَبَرَ مُوسى كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ ﴿مِن أنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ﴾ أيْ مِن أخْبارِ الحَوادِثِ الماضِيَةِ في الأُمَمِ الخالِيَةِ لِتَكُونَ تَسْلِيَةً لَكَ ودَلالَةً عَلى صِدْقِكَ، ومِن لِلتَّبْعِيضِ: أيْ بَعْضُ أخْبارِ ذَلِكَ ﴿وقَدْ آتَيْناكَ مِن لَدُنّا ذِكْرًا﴾ المُرادُ بِالذِّكْرِ القُرْآنُ، وسُمِّيَ ذِكْرًا لِما فِيهِ مِنَ المُوجِباتِ لِلتَّذَكُّرِ والِاعْتِبارِ، وقِيلَ: المُرادُ بِالذِّكْرِ الشَّرَفُ كَقَوْلِهِ: ﴿وإنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ ولِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف: ٤٤] . ثُمَّ تَوَعَّدَ سُبْحانَهُ المُعْرِضِينَ عَلى هَذا الذِّكْرِ فَقالَ: ﴿مَن أعْرَضَ عَنْهُ فَإنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيامَةِ وِزْرًا﴾ أيْ أعْرَضَ عَنْهُ فَلَمْ يُؤْمِن بِهِ ولا عَمِلَ بِما فِيهِ، وقِيلَ: أعْرَضَ عَنِ اللَّهِ سُبْحانَهُ، فَإنَّ المُعْرِضَ عَنْهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القِيامَةِ وِزْرًا: أيْ إثْمًا عَظِيمًا وعُقُوبَةً ثَقِيلَةً بِسَبَبِ إعْراضِهِ. خالِدِينَ فِيهِ أيْ في الوِزْرِ، والمَعْنى: أنَّهم يُقِيمُونَ في جَزائِهِ، وانْتِصابُ خالِدِينَ عَلى الحالِ ﴿وساءَ لَهم يَوْمَ القِيامَةِ حِمْلًا﴾ أيْ بِئْسَ الحِمْلُ يَوْمَ القِيامَةِ، والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ: أيْ ساءَ لَهم حِمْلًا وِزْرُهم، واللّامُ لِلْبَيانِ كَما في ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ . وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ في قَوْلِهِ: ﴿ياهارُونُ ما مَنَعَكَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿أفَعَصَيْتَ أمْرِي﴾ قالَ: أمَرَهُ مُوسى أنْ يُصْلِحَ ولا يَتَّبِعَ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ. فَكانَ مِن إصْلاحِهِ أنْ يُنْكِرَ العِجْلَ. وأخْرَجَ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿ولَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ قالَ: لَمْ تَنْتَظِرْ قَوْلِي ما أنا صانِعٌ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَمْ تَرْقُبْ لَمْ تَحْفَظْ قَوْلِي. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿فَإنَّ لَكَ في الحَياةِ أنْ تَقُولَ لا مِساسَ﴾ قالَ: عُقُوبَةٌ لَهُ ﴿وإنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ﴾ قالَ: لَنْ تَغِيبَ عَنْهُ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وانْظُرْ إلى إلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفًا﴾ قالَ: أقَمْتَ ﴿لَنُحَرِّقَنَّهُ﴾ قالَ بِالنّارِ ﴿ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ في اليَمِّ﴾ قالَ: لَنَذْرِيَنَّهُ في البَحْرِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ كانَ يَقْرَأُ ( لَنُحْرِقَنَّهُ ) خَفِيفَةٌ ويَقُولُ: إنَّ الذَّهَبَ والفِضَّةَ لا تُحْرَقُ بِالنّارِ، بَلْ تُسْحَلُ بِالمِبْرَدِ ثُمَّ تُلْقى عَلى النّارِ فَتَصِيرُ رَمادًا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ قالَ: اليَمِّ البَحْرُ. وأخْرَجَ أيْضًا عَنْ عَلِيٍّ قالَ اليَمِّ النَّهْرُ. وأخْرَجَ أيْضًا عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿وسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ قالَ: مَلَأ. وأخْرَجَ أيْضًا عَنِ ابْنِ زَيْدٍ في قَوْلِهِ: ﴿مِن لَدُنّا ذِكْرًا﴾ قالَ: القُرْآنُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ وِزْرًا قالَ: إثْمًا. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وساءَ لَهم يَوْمَ القِيامَةِ حِمْلًا﴾ يَقُولُ: بِئْسَ ما حَمَلُوا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب