الباحث القرآني

قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ المِيثاقِ المَأْخُوذِ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ. وقالَ مَكِّيٌّ: إنَّ المِيثاقَ الَّذِي أخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُنا هو ما أخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ في حَياتِهِمْ عَلى ألْسُنِ أنْبِيائِهِمْ، وهو قَوْلُهُ: ﴿لا تَعْبُدُونَ إلّا اللَّهَ﴾ وعِبادَةُ اللَّهِ إثْباتُ تَوْحِيدِهِ وتَصْدِيقُ رُسُلِهِ والعَمَلُ بِما أنْزَلَ في كُتُبِهِ. قالَ سِيبَوَيْهِ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿لا تَعْبُدُونَ إلّا اللَّهَ﴾ هو جَوابُ قَسَمٍ، والمَعْنى، اسْتَحْلَفْناهم واللَّهِ لا تَعْبُدُونَ إلّا اللَّهَ، وقِيلَ: هو إخْبارٌ في مَعْنى الأمْرِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قِراءَةُ أُبَيٍّ وابْنِ مَسْعُودٍ " لا تَعْبُدُوا " عَلى النَّهْيِ ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا ما عُطِفَ عَلَيْهِ مِن قَوْلِهِ: وقُولُوا وأقِيمُوا وآتُوا وقالَ قُطْرُبٌ والمُبَرِّدُ: إنَّ قَوْلَهُ: لا تَعْبُدُونَ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ، أيْ: أخَذْنا مِيثاقَهم مُوَحِّدِينَ أوْ غَيْرَ مُعانِدِينَ. قالَ القُرْطُبِيُّ: وهَذا إنَّما يَتَّجِهُ عَلى قِراءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وحَمْزَةَ والكِسائِيِّ ( يَعْبُدُونَ ) بِالياءِ التَّحْتِيَّةِ. وقالَ الفَرّاءُ والزَّجّاجُ وجَماعَةٌ: إنَّ مَعْناهُ أخَذْنا مِيثاقَكم بِأنْ لا تَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ وبِأنْ تُحْسِنُوا بِالوالِدَيْنِ، وبِأنْ لا تَسْفِكُوا الدِّماءَ: ثُمَّ حُذِفَ ( أنْ ) فارْتَفَعَ الفِعْلُ لِزَوالِها. قالَ المُبَرِّدُ: هَذا خَطَأٌ، لِأنَّ كُلَّ ما أُضْمِرَ في العَرَبِيَّةِ فَهو يَعْمَلُ عَمَلَهُ مُظْهَرًا. وقالَ القُرْطُبِيُّ: لَيْسَ بِخَطَأٍ بَلْ هُما وجْهانِ صَحِيحانِ وعَلَيْهِما أنْشَدَ: ؎ألا أيَهَذا الزّاجِرِي أحْضُرَ الوَغى وأنْ أشْهَدَ اللَّذّاتِ هَلْ أنْتَ مُخْلِدِي بِالنَّصْبِ لِقَوْلِهِ: ( أحْضُرَ ) وبِالرَّفْعِ. والإحْسانُ إلى الوالِدَيْنِ: مُعاشَرَتُهُما بِالمَعْرُوفِ والتَّواضُعُ لَهُما وامْتِثالُ أمْرِهِما، وسائِرُ ما أوْجَبَهُ اللَّهُ عَلى الوَلَدِ لِوالِدَيْهِ مِنَ الحُقُوقِ. والقُرْبى: مَصْدَرٌ كالرُّجْعى والعُقْبى، هُمُ القَرابَةُ والإحْسانُ لَهم: صِلَتُهم والقِيامُ بِما يَحْتاجُونَ إلَيْهِ بِحَسَبِ الطّاقَةِ وبِقَدْرِ ما تَبْلُغُ إلَيْهِ القُدْرَةُ. واليَتامى جَمْعُ يَتِيمٍ، واليَتِيمُ في بَنِي آدَمَ مَن فَقَدَ أباهُ. وفي سائِرِ الحَيَواناتِ: مَن فَقَدَ أُمَّهُ. وأصْلُهُ الِانْفِرادُ، يُقالُ: صَبِيٌّ يَتِيمٌ، أيْ مُنْفَرِدٌ مِن أبِيهِ. والمَساكِينُ جَمْعُ مِسْكِينٍ، وهو مَن أسْكَنَتْهُ الحاجَةُ وذَلَّلَتْهُ، وهو أشَدُّ فَقْرًا مِنَ الفَقِيرِ عِنْدَ أكْثَرِ أهْلِ اللُّغَةِ وكَثِيرٍ مِن أهْلِ الفِقْهِ. ورُوِيَ عَنِ الشّافِعِيِّ أنَّ الفَقِيرَ أسْوَأُ حالًا مِنَ المِسْكِينِ. وقَدْ ذَكَرَ أهْلُ العِلْمِ لِهَذا البَحْثِ أدِلَّةً مُسْتَوْفاةً في مَواطِنِها. ومَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا﴾ أيْ قُولُوا لَهم قَوْلًا حَسَنًا فَهو صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وهو مَصْدَرٌ كَبُشْرى، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ " حَسَنًا " بِفَتْحِ الحاءِ والسِّينِ. وكَذَلِكَ قَرَأ زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ وابْنُ مَسْعُودٍ. قالَ الأخْفَشُ: هُما بِمَعْنًى واحِدٍ، مِثْلُ البُخْلِ والبَخَلِ، والرُّشْدِ والرَّشَدِ. وحَكى الأخْفَشُ أيْضًا ( حُسْنى ) بِغَيْرِ تَنْوِينٍ عَلى فُعْلى. قالَ النَّحّاسُ: وهَذا لا يَجُوزُ في العَرَبِيَّةِ، لا يُقالُ مِن هَذا شَيْءٌ إلّا بِالألِفِ واللّامِ نَحْوَ الفُضْلى والكُبْرى والحُسْنى وهَذا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ. وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ " حُسُنًا " بِضَمَّتَيْنِ: والظّاهِرُ أنَّ هَذا القَوْلَ الَّذِي أمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ لا يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ كُلُّ ما صَدَقَ عَلَيْهِ أنَّهُ حَسَنٌ شَرْعًا كانَ مِن جُمْلَةِ ما يَصْدُقُ عَلَيْهِ هَذا الأمْرُ. وقَدْ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ هو كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ، وقِيلَ: الصِّدْقُ، وقِيلَ: الأمْرُ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ وقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وقَوْلُهُ: ﴿وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، وهو خِطابٌ لِبَنِي إسْرائِيلَ، فالمُرادُ الصَّلاةُ الَّتِي كانُوا يُصَلُّونَها، والزَّكاةُ الَّتِي كانُوا يُخْرِجُونَها. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وزَكاتُهم هي الَّتِي كانُوا يَضَعُونَها فَتَنْزِلُ النّارُ عَلى ما يُقْبَلُ، ولا تَنْزِلُ عَلى ما لا يُقْبَلُ. وقَوْلُهُ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ قِيلَ: الخِطابُ لِلْحاضِرِينَ مِنهم في عَصْرِ النَّبِيِّ ﷺ لِأنَّهم مِثْلُ سَلَفِهِمْ في ذَلِكَ، وفِيهِ التِفاتٌ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطابِ. وقَوْلُهُ: إلّا قَلِيلًا مَنصُوبٌ عَلى الِاسْتِثْناءِ، ومِنهم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ وأصْحابُهُ. وقَوْلُهُ: ﴿وأنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ في مَوْضِعِ النَّصْبِ (p-٧٣)عَلى الحالِ، والإعْراضُ والتَّوَلِّي بِمَعْنًى واحِدٍ، وقِيلَ: التَّوَلِّي بِالجِسْمِ، والإعْراضُ بِالقَلْبِ. وقَوْلُهُ: ﴿لا تَسْفِكُونَ﴾ الكَلامُ فِيهِ كالكَلامِ في لا تَعْبُدُونَ وقَدْ سَبَقَ. وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وشُعَيْبُ بْنُ أبِي حَمْزَةَ بِضَمِّ الفاءِ، وهي لُغَةٌ. وقَرَأ أبُو نَهِيكٍ بِضَمِّ الياءِ وتَشْدِيدِ الفاءِ وفَتْحِ السِّينِ، والسَّفْكُ: الصَّبُّ، وقَدْ تَقَدَّمَ، والمُرادُ أنَّهُ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ بَعْضُهم بِبَعْضٍ. والدّارُ: المَنزِلُ الَّذِي فِيهِ أبْنِيَةُ المُقامِ، بِخِلافِ مَنزِلِ الِارْتِحالِ. وقالَ الخَلِيلُ: كُلُّ مَوْضِعٍ حَلَّهُ قَوْمٌ فَهو دارٌ لَهم وإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أبْنِيَةٌ، وقِيلَ: سُمِّيَتْ دارًا لِدَوْرِها عَلى سُكّانِها، كَما يُسَمّى الحائِطُ حائِطًا لِإحاطَتِهِ عَلى ما يَحْوِيهِ. وقَوْلُهُ: ثُمَّ أقْرَرْتُمْ مِنَ الإقْرارِ، أيْ حَصَلَ مِنكُمُ الِاعْتِرافُ بِهَذا المِيثاقِ المَأْخُوذِ عَلَيْكم في حالِ شَهادَتِكم عَلى أنْفُسِكم بِذَلِكَ، قِيلَ: الشَّهادَةُ هُنا بِالقُلُوبِ وقِيلَ هي بِمَعْنى الحُضُورِ، أيْ أنَّكُمُ الآنَ تَشْهَدُونَ عَلى أسْلافِكم بِذَلِكَ، وكانَ اللَّهُ سُبْحانَهُ قَدْ أخَذَ في التَّوْراةِ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ أنْ لا يَقْتُلَ بَعْضُهم بَعْضًا ولا يَنْفِيَهِ ولا يَسْتَرِقَّهُ. وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ أنْتُمْ هَؤُلاءِ﴾ أيْ أنْتُمْ هَؤُلاءِ المُشاهَدُونَ الحاضِرُونَ تُخالِفُونَ ما أخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْكم في التَّوْراةِ فَتَقْتُلُونَ أنْفُسَكم إلى آخِرِ الآيَةِ، وقِيلَ: إنَّ ( هَؤُلاءِ ) مَنصُوبٌ بِإضْمارِ أعْنِي، ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: مَنصُوبٌ بِالذَّمِّ أوِ الِاخْتِصاصِ، أيْ أذُمُّ أوْ أخُصُّ. وقالَ القُتَيْبِيُّ: إنَّ التَّقْدِيرَ: يا هَؤُلاءِ. قالَ النَّحّاسُ: هَذا خَطَأٌ عَلى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ لا يَجُوزُ. وقالَ الزَّجّاجُ ( هَؤُلاءِ ) بِمَعْنى الَّذِينَ أيْ ثُمَّ أنْتُمُ الَّذِينَ تَقْتُلُونَ. وقِيلَ: ( هَؤُلاءِ ) مُبْتَدَأٌ و( أنْتُمْ ) خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وقَرَأ الزُّهْرِيُّ: " تُقَتِّلُونَ " مُشَدَّدًا، فَمَن جَعَلَ قَوْلَهُ: أنْتُمْ هَؤُلاءِ مُبْتَدَأً وخَبَرًا جَعَلَ قَوْلَهَ: تَقْتُلُونَ بَيانًا لِأنَّ مَعْنى قَوْلِهِ: أنْتُمْ هَؤُلاءِ أنَّهم عَلى حالَةٍ كَحالَةِ أسْلافِهِمْ مِن نَقْضِ المِيثاقِ. ومَن جَعَلَ ( هَؤُلاءِ ) مُنادًى أوْ مَنصُوبًا بِما ذَكَرْنا جَعَلَ الخَبَرَ ( تَقْتُلُونَ ) وما بَعْدَهُ. وقَوْلُهُ: تَظّاهَرُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وأصْلُهُ تَتَظاهَرُونَ أُدْغِمَتِ التّاءُ في الظّاءِ لِقُرْبِها مِنها في المَخْرَجِ، وهي قِراءَةُ أهْلِ مَكَّةَ. وقَرَأ أهْلُ الكُوفَةِ " تَظاهَرُونَ " مُخَفَّفًا بِحَذْفِ التّاءِ الثّانِيَةِ، لِدَلالَةِ الأُولى عَلَيْها. وأصِلُ المُظاهَرَةِ المُعاوَنَةُ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الظَّهْرِ لِأنَّ بَعْضَهم يُقَوِّي بَعْضًا فَيَكُونُ لَهُ كالظَّهْرِ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎تَظاهَرْتُمْ مِن كُلِّ أوْبٍ ووِجْهَةٍ ∗∗∗ عَلى واحِدٍ لا زِلْتُمْ قِرْنَ واحِدِ ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكانَ الكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيرًا﴾ وقَوْلُهُ: ﴿والمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ . و( أُسارى ) حالٌ. قالَ أبُو عُبَيْدٍ: وكانَ أبُو عَمْرٍو يَقُولُ: ما صارَ في أيْدِيهِمْ فَهو أُسارى، وما جاءَ مُسْتَأْسِرًا فَهو الأسْرى. ولا يَعْرِفُ أهْلُ اللُّغَةِ ما قالَ أبُو عَمْرٍو. وإنَّما هَذا كَما تَقُولُ سَكارى وسَكْرى. وقَدْ قَرَأ حَمْزَةُ " أسْرى " . وقَرَأ الباقُونَ أُسارى، والأسْرى جَمْعُ أسِيرٍ كَ ( القَتْلى ) جَمْعُ قَتِيلٍ والجَرْحى جَمْعُ جَرِيحٍ. قالَ أبُو حاتِمٍ: ولا يَجُوزُ أُسارى. وقالَ الزَّجّاجُ: يُقالُ: أُسارى كَما يُقالُ سُكارى. وقالَ ابْنُ فارِسٍ: يُقالُ في جَمْعِ أسِيرٍ أسْرى وأُسارى. انْتَهى. فالعَجَبُ مِن أبِي حاتِمٍ حَيْثُ يُنْكِرُ ما ثَبَتَ في التَّنْزِيلِ وقَرَأ بِهِ الجُمْهُورُ، والأسِيرُ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّيْرِ، وهو القَيْدُ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ المَحْمَلُ، فَسُمِّيَ أسِيرًا لِأنَّهُ يُشَدُّ وثاقُهُ، والعَرَبُ تَقُولُ: قَدْ أسَرَهُ، أيْ شَدَّهُ، ثُمَّ سُمِّيَ كُلُّ أخِيذٍ أسِيرًا وإنْ لَمْ يُؤْخَذْ. وقَوْلُهُ: تُفادُوهم جَوابُ الشَّرْطِ، وهي قِراءَةُ حَمْزَةَ ونافِعٍ والكِسائِيِّ، وقَرَأ الباقُونَ " تَفْدُوهم " . والفِداءُ: هو ما يُؤْخَذُ مِنَ الأسِيرِ لِيَفُكَّ بِهِ أسْرَهُ، يُقالُ: فَداهُ وفاداهُ: إذا أعْطاهُ فِداءَهُ. قالَ الشّاعِرُ: ؎قِفِي فادِي أسِيرَكِ إنَّ قَوْمِي ∗∗∗ وقَوْمَكِ ما أرى لَهُمُ اجْتِماعا وقَوْلُهُ: ﴿وهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكم إخْراجُهُمْ﴾ الضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ وقِيلَ: مُبْهَمٌ تُفَسِّرُهُ الجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهُ، وزَعَمَ الفَرّاءُ أنَّ هَذا الضَّمِيرَ عِمادٌ، واعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأنَّ العِمادَ لا يَكُونُ في أوَّلِ الكَلامِ. إخْراجُهم مُرْتَفِعٌ بِقَوْلِهِ: مُحَرَّمٌ سادٌّ مَسَدَّ الخَبَرِ، وقِيلَ: بَلْ مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِداءِ و( مُحَرَّمٌ ) خَبَرُهُ. قالَ المُفَسِّرُونَ: كانَ اللَّهُ سُبْحانَهُ قَدْ أخَذَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ أرْبَعَةَ عُهُودٍ: تَرْكُ القَتْلِ، وتَرْكُ الإخْراجِ، وتَرْكُ المُظاهَرَةِ، وفِداءُ أسْراهم، فَأعْرَضُوا عَنْ كُلِّ ما أُمِرُوا بِهِ إلّا الفِداءَ، فَوَبَّخَهُمُ اللَّهُ عَلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ . والخِزْيُ: الهَوانُ. قالَ الجَوْهَرِيُّ: والخِزْيُ بِالكَسْرِ يَخْزى خِزْيًا: إذا ذَلَّ وهانَ، وقَدْ وقَعَ هَذا الجَزاءُ الَّذِي وعَدَ اللَّهُ بِهِ المَلاعِينَ اليَهُودَ مُوَفَّرًا، فَصارُوا في خِزْيٍ عَظِيمٍ بِما أُلْصِقَ بِهِمْ مِنَ الذُّلِّ والمَهانَةِ بِالقَتْلِ والأسْرِ وضَرْبِ الجِزْيَةِ والجَلاءِ، وإنَّما رَدَّهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيامَةِ إلى أشَدِّ العَذابِ لِأنَّهم جاءُوا بِذَنْبٍ شَدِيدٍ ومَعْصِيَةٍ فَظِيعَةٍ. وقَدْ قَرَأ الجُمْهُورُ يُرَدُّونَ بِالياءِ التَّحْتِيَّةِ. وقَرَأ الحَسَنُ بِالفَوْقِيَّةِ عَلى الخِطابِ. وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: ﴿وما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ﴾ وكَذَلِكَ تَفْسِيرُ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا﴾ . وقَوْلُهُ: فَلا يُخَفَّفُ إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ بِأنَّ اليَهُودَ لا يَزالُونَ في عَذابٍ مُوَفَّرٍ لازِمٍ لَهم بِالجِزْيَةِ والصَّغارِ والذِّلَّةِ والمَهانَةِ، فَلا يُخَفَّفُ عَنْهم ذَلِكَ أبْدًا ما دامُوا، ولا يُوجَدُ لَهم ناصِرٌ يَدْفَعُ عَنْهم، ولا يَثْبُتُ لَهم نَصْرٌ في أنْفُسِهِمْ عَلى عَدُوِّهِمْ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ قالَ يُؤَنِّبُهم، أيْ مِيثاقَكم. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا﴾ قالَ: الأمْرُ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ. ورَوى البَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْ عَلِيٍّ في قَوْلِهِ: ﴿وقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا﴾ قالَ: يَعْنِي النّاسَ كُلَّهم، ومِثْلَهُ رَوى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطاءٍ. وأخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ قالَ، أيْ تَرَكْتُمْ ذَلِكَ كُلَّهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: مَعْناهُ أعْرَضْتُمْ عَنْ طاعَتِي إلّا قَلِيلًا مِنكم وهُمُ الَّذِينَ اخْتَرْتُهم لِطاعَتِي. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أبِي العالِيَةِ في قَوْلِهِ: ﴿لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ﴾ لا يَقْتُلُ بَعْضُكم بَعْضًا ﴿ولا تُخْرِجُونَ أنْفُسَكم مِن دِيارِكم﴾ لا يُخْرِجُ بَعْضُكم بَعْضًا مِنَ الدِّيارِ ﴿ثُمَّ أقْرَرْتُمْ﴾ بِهَذا المِيثاقِ ﴿وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ وأنْتُمْ شُهُودٌ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ (p-٧٤)عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أقْرَرْتُمْ﴾ أنَّ هَذا حَقٌّ مِن مِيثاقِي عَلَيْكم ﴿ثُمَّ أنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكم﴾ أي أهْلَ الشِّرْكِ حَتّى تَسْفِكُوا دِماءَكم مَعَهم ﴿وتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنكم مِن دِيارِهِمْ﴾ قالَ: تُخْرِجُونَهم مِن دِيارِهِمْ مَعَهم ﴿تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ والعُدْوانِ﴾ فَكانُوا إذا كانَ بَيْنَ الأوْسِ والخَزْرَجِ حَرْبٌ خَرَجَتْ مَعَهم بَنُو قَيْنُقاعَ مَعَ الخَزْرَجِ والنَّضِيرُ وقُرَيْظَةُ مَعَ الأوْسِ وظاهَرَ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الفَرِيقَيْنِ حُلَفاءَهُ عَلى إخْوانِهِ حَتّى يُسافِكُوا دِماءَهم، فَإذا وضَعَتِ الحَرْبُ أوْزارَها افْتَدَوْا أسْراهم تَصْدِيقًا لِما في التَّوْراةِ ﴿وإنْ يَأْتُوكم أُسارى تُفادُوهُمْ﴾ وقَدْ عَرَفْتُمْ أنَّ ذَلِكَ عَلَيْكم في دِينِكم ﴿وهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ﴾ في كِتابِكم لِإخْراجِهِمْ ﴿أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ أتُفادُونَهم مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ، وتُخْرِجُونَهم كُفْرًا بِذَلِكَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الحَياةَ الدُّنْيا بِالآخِرَةِ﴾ قالَ: اسْتَحَبُّوا قَلِيلَ الدُّنْيا عَلى كَثِيرِ الآخِرَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب