الباحث القرآني

هَذا عَوْدٌ إلى بَقِيَّةِ الأحْكامِ المُفَصَّلَةِ فِيما سَلَفَ. وقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ ومَن تَبِعَهم مِنَ المُفَسِّرِينَ في هَذِهِ الآيَةِ هَلْ هي مُحْكَمَةٌ أوْ مَنسُوخَةٌ ؟ فَذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّها مَنسُوخَةٌ بِالأرْبَعَةِ الأشْهُرِ والعَشْرِ كَما تَقَدَّمَ، وأنَّ الوَصِيَّةَ المَذْكُورَةَ فِيها مَنسُوخَةٌ بِما فَرَضَ اللَّهُ لَهُنَّ مِنَ المِيراثِ. وحَكى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُحْكَمَةٌ لا نَسْخَ فِيها، وأنَّ العِدَّةَ أرْبَعَةُ أشْهُرٍ وعَشْرٌ، ثُمَّ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ وصِيَّةً مِنهُ سُكْنى سَبْعَةِ أشْهُرٍ وعِشْرِينَ لَيْلَةً، فَإنْ شاءَتِ المَرْأةُ سَكَنَتْ في وصِيَّتِها، وإنْ شاءَتْ خَرَجَتْ. وقَدْ حَكى ابْنُ عَطِيَّةَ والقاضِي عِياضٍ أنَّ الإجْماعَ مُنْعَقِدٌ عَلى أنَّ الحَوْلَ مَنسُوخٌ وأنَّ عِدَّتَها أرْبَعَةُ أشْهُرٍ وعَشْرٌ. وقَدْ أخْرَجَ عَنْ مُجاهِدٍ ما أخْرَجَهُ ابْنُ (p-١٦٧)جَرِيرٍ عَنْهُ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ. وقَوْلُهُ: وصِيَّةٌ قَرَأ نافِعٌ وابْنُ كَثِيرٍ وعاصِمٌ في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ والكِسائِيِّ بِالرَّفْعِ، عَلى أنَّ ذَلِكَ مُبْتَدَأٌ لِخَبَرٍ مَحْذُوفٍ يُقَدَّرُ مُقَدَّمًا: أيْ عَلَيْهِمْ وصِيَّةٌ، وقِيلَ: إنَّ الخَبَرَ قَوْلُهُ: لِأزْواجِهِمْ وقِيلَ: إنَّهُ خَبَرٌ مَحْذُوفٌ: أيْ وصِيَّةُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ وصِيَّةٌ، أوْ حُكْمُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ وصِيَّةٌ. وقَرَأ أبُو عُمَرَ وحَمْزَةُ وابْنُ عامِرٍ بِالنَّصْبِ عَلى تَقْدِيرِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ: أيْ فَلْيُوصُوا وصِيَّةً، أوْ أوْصى اللَّهُ وصِيَّةً، أوْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وصِيَّةً. وقَوْلُهُ: مَتاعًا مَنصُوبٌ بِـ " وصِيَّةً " أوْ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ: أيْ مَتِّعُوهُنَّ مَتاعًا، أوْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ ذَلِكَ مَتاعًا، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُنْتَصِبًا عَلى الحالِ. والمَتاعُ هُنا: نَفَقَةُ السَّنَةِ. وقَوْلُهُ: ﴿غَيْرَ إخْراجٍ﴾ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ: مَتاعًا وقالَ الأخْفَشُ: إنَّهُ مَصْدَرٌ كَأنَّهُ قالَ: لا إخْراجًا، وقِيلَ: إنَّهُ حالٌ، أيْ مَتِّعُوهُنَّ غَيْرَ مُخْرَجاتٍ، وقِيلَ: مَنصُوبٌ بِنَزْعِ الخافِضِ: أيْ مِن غَيْرِ إخْراجٍ، والمَعْنى: أنَّهُ يَجِبُ عَلى الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أنْ يُوصُوا قَبْلَ نُزُولِ المَوْتِ بِهِمْ لِأزْواجِهِمْ أنْ يُمَتَّعْنَ بَعْدَهم حَوْلًا كامِلًا بِالنَّفَقَةِ والسُّكْنى مِن تَرِكَتِهِمْ ولا يَخْرُجْنَ مِن مَساكِنِهِنَّ. وقَوْلُهُ: ﴿فَإنْ خَرَجْنَ﴾ يَعْنِي بِاخْتِيارِهِنَّ قَبْلَ الحَوْلِ ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْكم﴾ أيْ: لا حَرَجَ عَلى الوَلِيِّ والحاكِمِ وغَيْرِهِما ﴿فِيما فَعَلْنَ في أنْفُسِهِنَّ﴾ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْخُطّابِ والتَّزَيُّنِ لَهم. وقَوْلُهُ: ﴿مِن مَعْرُوفٍ﴾ أيْ: بِما هو مَعْرُوفٌ في الشَّرْعِ غَيْرَ مُنْكَرٍ. وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ النِّساءَ كُنَّ مُخَيَّراتٍ في سُكْنى الحَوْلِ ولَيْسَ ذَلِكَ بِحَتْمٍ عَلَيْهِنَّ، وقِيلَ: المَعْنى لا جُناحَ عَلَيْكم في قَطْعِ النَّفَقَةِ عَنْهُنَّ وهو ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ مُتَعَلِّقَ الجُناحِ هو مَذْكُورٌ في الآيَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿فِيما فَعَلْنَ﴾ . وقَوْلُهُ: ﴿ولِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ﴾ قَدِ اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في هَذِهِ الآيَةِ، فَقِيلَ: هي المُتْعَةُ، وأنَّها واجِبَةٌ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ، وقِيلَ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ خاصَّةٌ بِالثَّيِّباتِ اللَّواتِي قَدْ جُومِعْنَ، لِأنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ ذِكْرُ المُتْعَةِ لِلَّواتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهِنَّ الأزْواجُ. وقَدْ قَدَّمَنا الكَلامَ عَلى هَذِهِ المُتْعَةِ والخِلافَ في كَوْنِها خاصَّةً بِمَن طُلِّقَتْ قَبْلَ البِناءِ والفَرْضِ أوْ عامَّةً لِلْمُطَلَّقاتِ، وقِيلَ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ شامِلَةٌ لِلْمُتْعَةِ الواجِبَةِ وهي مُتْعَةُ المُطَلَّقَةِ قَبْلَ البِناءِ والفَرْضِ، وغَيْرِ الواجِبَةِ وهي مُتْعَةُ سائِرِ المُطَلَّقاتِ فَإنَّها مُسْتَحَبَّةٌ فَقَطْ، وقِيلَ: المُرادُ بِالمُتْعَةِ هُنا النَّفَقَةُ. وقَدْ أخْرَجَ البُخارِيُّ وغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قالَ: قُلْتُ لِعُثْمانَ بْنِ عَفّانَ: ﴿والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكم ويَذَرُونَ أزْواجًا﴾ قَدْ نَسَخَتْها الآيَةُ الأُخْرى فَلَمْ تَكْتُبْها، أوْ لَمْ تَدَعْها ؟ قالَ: يا ابْنَ أخِي لا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنهُ مِن مَكانِهِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في الآيَةِ قالَ: كانَ لِلْمُتَوَفّى عَنْها زَوْجُها نَفَقَتُها وسُكْناها في الدّارِ سَنَةً، فَنَسَخَتْها آيَةُ المَوارِيثِ فَجُعِلَ لَهُنَّ الرُّبُعُ والثُّمُنُ مِمّا تَرَكَ الزَّوْجُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَهُ عَنْ عَطاءٍ. وأخْرَجَ نَحْوَهُ أيْضًا أبُو داوُدَ والنَّسائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مِن وجْهٍ آخَرَ. وأخْرَجَ الشّافِعِيُّ وعَبْدُ الرَّزّاقِ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: لَيْسَ لِلْمُتَوَفّى عَنْها زَوْجُها نَفَقَةٌ، حَسْبُها المِيراثُ. وأخْرَجَ أبُو داوُدَ في ناسِخِهِ والنَّسائِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ قالَ: نَسَخَتْها ﴿والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكم ويَذَرُونَ أزْواجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا﴾ [البقرة: ٢٣٤] . وأخْرَجَ ابْنُ الأنْبارِيِّ في المَصاحِفِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ أيْضًا عَنْ قَتادَةَ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْكم في ما فَعَلْنَ في أنْفُسِهِنَّ مِن مَعْرُوفٍ﴾ قالَ: النِّكاحُ الحَلالُ الطَّيِّبُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ قالَ: لَمّا نَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿مَتاعًا بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلى المُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: ٢٣٦] قالَ رَجُلٌ: إنْ أحْسَنْتُ فَعَلْتُ، وإنْ لَمْ أُرِدْ ذَلِكَ لَمْ أفْعَلْ، فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿ولِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلى المُتَّقِينَ﴾ . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ قالَ: نُسِخَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿وإنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٧] . وأخْرَجَ أيْضًا عَنْ عَتّابِ بْنِ خُصَيْفٍ في قَوْلِهِ: ﴿ولِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ﴾ قالَ: كانَ ذَلِكَ قَبْلَ الفَرائِضِ. وأخْرَجَ مالِكٌ وعَبْدُ الرَّزّاقِ والشّافِعِيُّ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ إلّا الَّتِي تُطَلِّقُها ولَمْ تَدْخُلْ بِها وقَدْ فُرِضَ لَها، كَفى بِالنِّصْفِ مَتاعًا. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ قالَ: لِكُلِّ مُؤْمِنَةٍ طُلِّقَتْ حُرَّةً أوْ أمَةً مُتْعَةٌ، وقَرَأ ﴿ولِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلى المُتَّقِينَ﴾ . وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: «لَمّا طَلَّقَ حَفْصُ بْنُ المُغِيرَةِ امْرَأتَهُ فاطِمَةَ أتَتِ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، فَقالَ لِزَوْجِها: مَتِّعْها، قالَ: لا أجِدُ ما أُمَتِّعُها، قالَ: فَإنَّهُ لا بُدَّ مِنَ المَتاعِ، مَتِّعْها ولَوْ نِصْفَ صاعٍ مِن تَمْرٍ» . وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أبِي العالِيَةِ في الآيَةِ، قالَ: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب