الباحث القرآني

. لَمّا اطْمَأنَّتْ مَرْيَمُ عَلَيْها السَّلامُ بِما رَأتْ مِنَ الآياتِ وفَرَغَتْ مِن نِفاسِها أتَتْ بِهِ أيْ: بِعِيسى، وجُمْلَةُ تَحْمِلُهُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ، وكانَ إتْيانُها إلَيْهِمْ مِنَ المَكانِ القَصِيِّ الَّذِي انْتَبَذَتْ فِيهِ، فَلَمّا رَأوُا الوَلَدَ مَعَها حَزِنُوا، وكانُوا أهْلَ بَيْتٍ صالِحِينَ قالُوا مُنْكِرِينَ لِذَلِكَ ﴿يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ﴾ أيْ: فَعَلْتِ ﴿شَيْئًا فَرِيًّا﴾ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: الفَرِيُّ العَجِيبُ النّادِرُ، وكَذا قالَ الأخْفَشُ. والفَرْيُ القَطْعُ، كَأنَّهُ مِمّا يَخْرِقُ العادَةَ، أوْ يُقْطَعُ بِكَوْنِهِ عَجِيبًا نادِرًا. وقالَ قُطْرُبٌ: الفَرِيُّ الجَدِيدُ مِنَ الأسْقِيَةِ أيْ: جِئْتِ بِأمْرٍ بَدِيعٍ جَدِيدٍ لَمْ تُسْبَقِي إلَيْهِ وقالَ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ: الفَرِيُّ المُخْتَلَقُ المُفْتَعَلُ، يُقالُ فَرَيْتُ وأفْرَيْتُ بِمَعْنًى واحِدٍ، والوَلَدُ مِنَ الزِّنا كالشَّيْءِ المُفْتَرى، قالَ تَعالى: ﴿ولا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أيْدِيهِنَّ وأرْجُلِهِنَّ﴾ [الممتحنة: ١٢] وقالَ مُجاهِدٌ: الفَرِيُّ العَظِيمُ. ﴿ياأُخْتَ هارُونَ﴾ . قَدْ وقَعَ الخِلافُ في مَعْنى هَذِهِ الأُخُوَّةِ، وفي هارُونَ المَذْكُورِ مَن هو ؟ فَقِيلَ: هو هارُونُ أخُو مُوسى، والمَعْنى: أنَّ مَن كانَتْ نَظُنُّها مِثْلَ هارُونَ في العِبادَةِ كَيْفَ تَأْتِي بِمِثْلِ هَذا ؟ وقِيلَ: كانَتْ مَرْيَمُ مِن ولَدِ هارُونَ أخِي مُوسى، فَقِيلَ لَها يا أُخْتَ هارُونَ، كَما يُقالُ لِمَن كانَ مِنَ العَرَبِ: يا أخا العَرَبِ، وقِيلَ: كانَ لَها أخٌ مِن أبِيها اسْمُهُ هارُونَ، وقِيلَ: هارُونُ هَذا رَجُلٌ صالِحٌ في ذَلِكَ الوَقْتِ، وقِيلَ: بَلْ كانَ في ذَلِكَ الوَقْتِ رَجُلٌ فاجِرٌ اسْمُهُ هارُونُ، فَنَسَبُوها إلَيْهِ عَلى جِهَةِ التَّعْيِيرِ والتَّوْبِيخِ، حَكاهُ ابْنُ جَرِيرٍ ولَمْ يُسَمِّ قائِلَهُ وهو ضَعِيفٌ ﴿ما كانَ أبُوكِ امْرَأ سَوْءٍ وما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾ هَذا فِيهِ تَكْرِيرٌ لِما تَقَدَّمَ مِنَ التَّعْيِيرِ والتَّوْبِيخِ، وتَنْبِيهٌ عَلى أنْ الفاحِشَةَ مِن ذُرِّيَّةِ الصّالِحِينَ مِمّا لا يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ. ﴿فَأشارَتْ إلَيْهِ﴾ أيْ إلى عِيسى، وإنَّما اكْتَفَتْ بِالإشارَةِ ولَمْ تَأْمُرْهُ بِالنُّطْقِ؛ لِأنَّها نَذَرَتْ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا عَنِ الكَلامِ كَما تَقَدَّمَ، هَذا عَلى تَقْدِيرِ أنَّها كانَتْ إذْ ذاكَ في أيّامِ نَذْرِها، وعَلى تَقْدِيرِ أنَّها قَدْ خَرَجَتْ مِن أيّامِ نَذْرِها، فَيُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ اقْتِصارَها عَلى الإشارَةِ لِلْمُبالَغَةِ في إظْهارِ الآيَةِ العَظِيمَةِ، وأنَّ هَذا المَوْلُودَ يَفْهَمُ الإشارَةَ ويَقْدِرُ عَلى العِبارَةِ ﴿قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كانَ في المَهْدِ صَبِيًّا﴾ هَذا الِاسْتِفْهامُ لِلْإنْكارِ والتَّعَجُّبِ مِن إشارَتِها إلى ذَلِكَ المَوْلُودِ بِأنْ يُكَلِّمَهم. قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: في الكَلامِ حَشْوٌ زائِدٌ. والمَعْنى: كَيْفَ نُكَلِّمُ صَبِيًّا في المَهْدِ كَقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎وجِيرانٌ لَنا كانُوا كِرامِ وقالَ الزَّجّاجُ: الأجْوَدُ أنْ تَكُونَ ( مَن ) في مَعْنى الشَّرْطِ والجَزاءِ، والمَعْنى: مَن يَكُونُ في المَهْدِ صَبِيًّا فَكَيْفَ نُكَلِّمُهُ، ورَجَّحَهُ ابْنُ الأنْبارِيِّ وقالَ: لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ ( كانَ ) زائِدَةٌ، وقَدْ نَصَبَتْ ( صَبِيًّا ) ويُجابُ عَنْهُ بِأنَّ القائِلَ بِزِيادَتِها يَجْعَلُ النّاصِبَ لَهُ الفِعْلَ، وهو ( نُكَلِّمُ ) كَما سَبَقَ تَقْدِيرُهُ، وقِيلَ: إنَّ ( كانَ ) هُنا هي التّامَّةُ الَّتِي بِمَعْنى الحُدُوثِ والوُجُودِ، ورُدَّ بِأنَّها لَوْ كانَتْ تامَّةً لاسْتَغْنَتْ عَنِ الخَبَرِ، والمَهْدُ هو شَيْءٌ مَعْرُوفٌ يُتَّخَذُ لِتَنْوِيمِ الصَّبِيِّ. والمَعْنى كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن سَبِيلُهُ أنْ يُنَوَّمَ في المَهْدِ لِصِغَرِهِ، وقِيلَ: هو هُنا حِجْرُ الأُمِّ، وقِيلَ: سَرِيرٌ كالمَهْدِ. فَلَمّا سَمِعَ عِيسى كَلامَهم ﴿قالَ إنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ فَكانَ أوَّلَ ما نَطَقَ بِهِ الِاعْتِرافُ بِالعُبُودِيَّةِ لَهُ ﴿آتانِيَ الكِتابَ﴾ أيْ الإنْجِيلَ، أيْ: حَكَمَ لِي بِإيتائِي الكِتابَ والنُّبُوَّةَ في الأزَلِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ نَزَلَ عَلَيْهِ في تِلْكَ الحالِ ولا قَدْ صارَ نَبِيًّا، وقِيلَ: إنَّهُ آتاهُ الكِتابَ وجَعَلَهُ نَبِيًّا في تِلْكَ الحالِ، وهو بَعِيدٌ. ﴿وجَعَلَنِي مُبارَكًا أيْنَ ما كُنْتُ﴾ أيْ: حَيْثُما كُنْتُ، والبَرَكَةُ أصْلُها مِن بُرُوكِ البَعِيرِ، والمَعْنى: جَعَلَنِي ثابِتًا في دِينِ اللَّهِ، وقِيلَ: البَرَكَةُ هي الزِّيادَةُ والعُلُوُّ، فَكَأنَّهُ قالَ: جَعَلَنِي في جَمِيعِ الأشْياءِ زائِدًا عالِيًا مُنْجَحًا، وقِيلَ: مَعْنى المُبارَكِ: النَّفّاعُ لِلْعِبادِ، وقِيلَ: المُعَلِّمُ لِلْخَيْرِ، وقِيلَ: الآمِرُ بِالمَعْرُوفِ النّاهِي عَنِ المُنْكَرِ ﴿‎وأوْصانِي بِالصَّلاةِ﴾ أيْ: أمَرَنِي بِها والزَّكاةِ زَكاةِ المالِ، أوْ تَطْهِيرِ النَّفْسِ ﴿ما دُمْتُ حَيًّا﴾ أيْ: مُدَّةَ دَوامِ حَياتِي، وهَذِهِ الأفْعالُ الماضِيَةُ هي مِن بابِ تَنْزِيلِ ما لَمْ يَقَعْ مَنزِلَةَ الواقِعِ تَنْبِيهًا عَلى تَحَقُّقِ وُقُوعِهِ لِكَوْنِهِ قَدْ سَبَقَ في القَضاءِ المُبْرَمِ. ﴿وبَرًّا بِوالِدَتِي﴾ مَعْطُوفٌ عَلى ( مُبارَكًا )، واقْتَصَرَ عَلى البِرِّ بِوالِدَتِهِ؛ لِأنَّهُ قَدْ عَلِمَ في تِلْكَ الحالِ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أبٌ، وقُرِئَ ( وبِرًّا ) بِكَسْرِ الباءِ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ مُبالَغَةً ﴿ولَمْ يَجْعَلْنِي جَبّارًا شَقِيًّا﴾ الجَبّارُ المُتَعَظِّمُ الَّذِي لا يَرى لِأحَدٍ عَلَيْهِ حَقًّا، والشَّقِيُّ العاصِي لِرَبِّهِ، (p-٨٨٩)وقِيلَ: الخائِبُ، وقِيلَ: العاقُّ. ﴿والسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أمُوتُ ويَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: السَّلامُ هُنا بِمَعْنى السَّلامَةِ أيْ: السَّلامَةُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ، فَلَمْ يَضُرَّنِي الشَّيْطانُ في ذَلِكَ الوَقْتِ، ولا أغْوانِي عِنْدَ المَوْتِ ولا عِنْدَ البَعْثِ، وقِيلَ: المُرادُ بِهِ التَّحِيَّةُ. قِيلَ: واللّامُ لِلْجِنْسِ، وقِيلَ: لِلْعَهْدِ، أيْ: وذَلِكَ السَّلامُ المُوَجَّهُ إلى يَحْيى في هَذِهِ المَواطِنِ الثَّلاثَةِ مُوَجَّهٌ إلَيَّ. قِيلَ: إنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمِ المَسِيحُ بَعْدَ هَذا الكَلامِ حَتّى بَلَغَ المُدَّةَ الَّتِي تَتَكَلَّمُ فِيها الصِّبْيانُ في العادَةِ. وقَدْ أخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وابْنُ عَساكِرَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿فَأتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ﴾ قالَ: بَعْدَ أرْبَعِينَ يَوْمًا بَعْدَما تَعالَّتْ مِن نِفاسِها. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وأحْمَدُ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ ومُسْلِمٌ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ وغَيْرُهم، عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - إلى أهْلِ نَجْرانَ، فَقالُوا: أرَأيْتَ ما تَقْرَءُونَ: ﴿يا أُخْتَ هارُونَ﴾ ومُوسى قَبْلَ عِيسى بِكَذا وكَذا، قالَ: فَرَجَعْتُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَقالَ: ألا أخْبَرْتَهم أنَّهم كانُوا يُسَمُّونَ بِالأنْبِياءِ والصّالِحِينَ قَبْلَهم» وهَذا التَّفْسِيرُ النَّبَوِيُّ يُغْنِي عَنْ سائِرِ ما رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ في ذَلِكَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أنَسٍ قالَ: كانَ عِيسى قَدْ دَرَسَ الإنْجِيلَ وأحْكامَها في بَطْنِ أُمِّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿إنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الكِتابَ﴾ . وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ في قَوْلِهِ: ﴿آتانِيَ الكِتابَ﴾ الآيَةَ. قالَ: قَضى أنْ أكُونَ كَذَلِكَ. وأخْرَجَ الإسْماعِيلِيُّ في مُعْجَمِهِ وأبُو نُعَيْمٍ في الحِلْيَةِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ وابْنُ النَّجّارِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «قالَ النَّبِيُّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - في قَوْلِ عِيسى ﴿وجَعَلَنِي مُبارَكًا أيْنَ ما كُنْتُ﴾ قالَ: جَعَلَنِي نَفّاعًا لِلنّاسِ أيْنَما اتَّجَهْتُ» . وأخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ وابْنُ عَساكِرَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ «النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - في قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلَنِي مُبارَكًا﴾ قالَ: مُعَلِّمًا ومُؤَدِّبًا» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ولَمْ يَجْعَلْنِي جَبّارًا شَقِيًّا﴾ يَقُولُ: عَصِيًّا. ﴿ذَلِكَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ ﴿ما كانَ لِلَّهِ أنْ يَتَّخِذَ مِن ولَدٍ سُبْحانَهُ إذا قَضى أمْرًا فَإنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ ﴿وإنَّ اللَّهَ رَبِّي ورَبُّكم فاعْبُدُوهُ هَذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ ﴿فاخْتَلَفَ الأحْزابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ ﴿أسْمِعْ بِهِمْ وأبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لَكِنِ الظّالِمُونَ اليَوْمَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ﴿وأنْذِرْهم يَوْمَ الحَسْرَةِ إذْ قُضِيَ الأمْرُ وهم في غَفْلَةٍ وهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿إنّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ ومَن عَلَيْها وإلَيْنا يُرْجَعُونَ.﴾ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ إلى المُتَّصِفِ بِالأوْصافِ السّابِقَةِ. قالَ الزَّجّاجُ: ذَلِكَ الَّذِي قالَ إنِّي عَبْدُ اللَّهِ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ، لا ما تَقُولُهُ النَّصارى مِن أنَّهُ ابْنُ اللَّهِ وأنَّهُ إلَهٌ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وعاصِمٌ ويَعْقُوبُ ﴿قَوْلَ الحَقِّ﴾ بِالنَّصْبِ، وقَرَأ الباقُونَ بِالرَّفْعِ. فَوَجْهُ القِراءَةِ الأُولى أنَّهُ مُنْتَصِبٌ عَلى المَدْحِ، أوْ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ لِ ( قالَ إنِّي عَبْدُ اللَّهِ ) قالَهُ الزَّجّاجُ. ووَجْهُ القِراءَةِ الثّانِيَةِ أنَّهُ نَعْتٌ لِعِيسى، أيْ: ذَلِكَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلُ الحَقِّ، قالَهُ الكِسائِيُّ. وسُمِّيَ قَوْلَ الحَقِّ كَما سُمِّيَ كَلِمَةَ اللَّهِ، والحَقُّ هو اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ. وقالَ أبُو حاتِمٍ: المَعْنى: هو قَوْلُ الحَقِّ، وقِيلَ: التَّقْدِيرُ: هَذا الكَلامُ قَوْلُ الحَقِّ، وهو مِن بابِ إضافَةِ المَوْصُوفِ إلى الصِّفَةِ مِثْلُ حَقِّ اليَقِينِ، وقِيلَ: الإضافَةُ لِلْبَيانِ، وقُرِئَ ( قالَ الحَقَّ ) ورُوِيَ ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وقَرَأ الحَسَنُ ( قُولُ الحَقِّ ) بِضَمِّ القافِ، والقَوْلُ والقُولُ والقالُ والمَقالُ بِمَعْنًى واحِدٍ، و﴿الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ صِفَةٌ لِعِيسى، أيْ: ذَلِكَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ قَوْلَ الحَقِّ، ومَعْنى يَمْتَرُونَ يَخْتَلِفُونَ، عَلى أنَّهُ مِنَ المُماراةِ، أوْ يَشُكُّوا عَلى أنَّهُ مِنَ المِرْيَةِ. وقَدْ وقَعَ الِاخْتِلافُ في عِيسى، فَقالَتِ اليَهُودُ: هو ساحِرٌ، وقالَتِ النَّصارى: هو ابْنُ اللَّهِ. ﴿ما كانَ لِلَّهِ أنْ يَتَّخِذَ مِن ولَدٍ﴾ أيْ: ما صَحَّ ولا اسْتَقامَ ذَلِكَ، فَ ( أنْ ) في مَحَلِّ رَفْعٍ عَلى أنَّها اسْمُ كانَ. قالَ الزَّجّاجُ: ( مِن ) في مِن ولَدٍ مُؤَكِّدَةٌ تَدُلُّ عَلى نَفْيِ الواحِدِ والجَماعَةِ، ثُمَّ نَزَّهَ سُبْحانَهُ نَفْسَهُ فَقالَ: سُبْحانَهُ أيْ: تَنَزَّهَ وتَقَدَّسَ عَنْ مَقالَتِهِمْ هَذِهِ، ثُمَّ صَرَّحَ سُبْحانَهُ بِما هو شَأْنُهُ تَعالى سُلْطانُهُ فَقالَ: ﴿إذا قَضى أمْرًا فَإنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ أيْ: إذا قَضى أمْرًا مِنَ الأُمُورِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ بِلا تَأْخِيرٍ. وقَدْ سَبَقَ الكَلامُ عَلى هَذا مُسْتَوْفًى في البَقَرَةِ، وفي إيرادِهِ في هَذا المَوْضِعِ تَبْكِيتٌ عَظِيمٌ لِلنَّصارى، أيْ: مَن كانَ هَذا شَأْنَهُ كَيْفَ يُتَوَهَّمُ أنْ يَكُونَ لَهُ ولَدٌ ؟ ﴿وإنَّ اللَّهَ رَبِّي ورَبُّكم فاعْبُدُوهُ﴾ قَرَأ أهْلُ المَدِينَةِ وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ ( أنْ ) . وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وأهْلُ الكُوفَةِ بِكَسْرِها، وهو مِن تَمامِ كَلامِ عِيسى، وقَرَأ أُبَيٌّ ( إنَّ اللَّهَ ) بِغَيْرِ واوٍ، قالَ الخَلِيلُ وسِيبَوَيْهِ: في تَوْجِيهِ قِراءَةِ النَّصْبِ بِأنَّ المَعْنى: ولِأنَّ اللَّهَ رَبِّي ورَبُّكم، وأجازَ الفَرّاءُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفًا عَلى الصَّلاةِ، وجَوَّزَ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ عَطْفَهُ عَلى ( أمْرًا ) ﴿هَذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ أيْ: هَذا الَّذِي ذَكَرْتُهُ لَكم مِن أنَّهُ رَبِّي ورَبُّكم، هو الطَّرِيقُ القَيِّمُ الَّذِي لا اعْوِجاجَ فِيهِ ولا يَضِلُّ سالِكُهُ. ﴿فاخْتَلَفَ الأحْزابُ مِن بَيْنِهِمْ﴾ ( مِن ) زائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، والأحْزابُ اليَهُودُ والنَّصارى أيْ: فاخْتَلَفَتِ الفِرَقُ مِن أهْلِ الكِتابِ في أمْرِ عِيسى، فاليَهُودُ قالُوا: إنَّهُ ساحِرٌ كَما تَقَدَّمَ، وقالُوا: إنَّهُ ابْنُ يُوسُفَ النَّجّارِ، والنَّصارى اخْتَلَفَتْ فِرَقُهم فِيهِ، فَقالَتِ النَّسْطُورِيَّةُ مِنهم: هو ابْنُ اللَّهِ، وقالَتِ المَلِكِيَّةُ: ثالِثُ ثَلاثَةٍ، وقالَتِ اليَعْقُوبِيَّةُ: هو اللَّهُ تَعالى. فَأفْرَطَتِ النَّصارى وغَلَتْ، وفَرَّطَتِ اليَهُودُ وقَصَّرَتْ ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وهُمُ المُخْتَلِفُونَ في أمْرِهِ ﴿مِن مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أيْ: مِن شُهُودِ يَوْمِ القِيامَةِ وما يَجْرِي فِيهِ مِنَ الحِسابِ والعِقابِ، أوْ مِن مَكانِ الشُّهُودِ فِيهِ، أوْ مِن شَهادَةِ ذَلِكَ اليَوْمِ عَلَيْهِمْ، وقِيلَ: المَعْنى: فَوَيْلٌ لَهم مِن حُضُورِهِمُ المَشْهَدَ العَظِيمَ الَّذِي اجْتَمَعُوا فِيهِ لِلتَّشاوُرِ. ﴿أسْمِعْ بِهِمْ وأبْصِرْ﴾ قالَ أبُو عَبّاسٍ: العَرَبُ تَقُولُ هَذا في مَوْضِعِ التَّعَجُّبِ، فَيَقُولُونَ: أسْمِعْ - تُرِيدُ: وأبْصِرْ - بِهِ. أيْ: ما أسْمَعُهُ وأبْصَرُهُ، فَعَجَّبَ اللَّهُ سُبْحانَهُ نَبِيَّهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - مِنهم ﴿يَوْمَ يَأْتُونَنا﴾ أيْ: لِلْحِسابِ والجَزاءِ ﴿لَكِنِ الظّالِمُونَ اليَوْمَ﴾ أيْ: في الدُّنْيا ﴿فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ أيْ: واضِحٍ ظاهِرٍ ولَكِنَّهم (p-٨٩٠)أغْفَلُوا التَّفَكُّرَ والِاعْتِبارَ والنَّظَرَ في الآثارِ. ﴿وأنْذِرْهم يَوْمَ الحَسْرَةِ﴾ أيْ: يَوْمَ يَتَحَسَّرُونَ جَمِيعًا، فالمُسِيءُ يَتَحَسَّرُ عَلى إساءَتِهِ، والمُحْسِنُ عَلى عَدَمِ اسْتِكْثارِهِ مِنَ الخَيْرِ ﴿إذْ قُضِيَ الأمْرُ﴾ أيْ: فُرِغَ مِنَ الحِسابِ وطُوِيَتِ الصُّحُفُ، وصارَ أهْلُ الجَنَّةِ في الجَنَّةِ وأهْلُ النّارِ في النّارِ، وجُمْلَةُ ﴿وهم في غَفْلَةٍ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ، أيْ: غافِلِينَ عَمّا يُعْمَلُ بِهِمْ، وكَذَلِكَ جُمْلَةُ ﴿وهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ. ﴿إنّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ ومَن عَلَيْها﴾ أيْ: نُمِيتُ سُكّانَها فَلا يَبْقى بِها أحَدٌ يَرِثُ الأمْواتَ، فَكَأنَّهُ سُبْحانَهُ ورِثَ الأرْضَ ومَن عَلَيْها حَيْثُ أماتَهم جَمِيعًا ﴿وإلَيْنا يُرْجَعُونَ﴾ أيْ: يُرَدُّونَ إلَيْنا يَوْمَ القِيامَةِ فَنُجازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذا في سُورَةِ الحِجْرِ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿قَوْلَ الحَقِّ﴾ قالَ: اللَّهُ الحَقُّ عَزَّ وجَلَّ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ قالَ: اجْتَمَعَ بَنُو إسْرائِيلَ وأخْرَجُوا مِنهم أرْبَعَةَ نَفَرٍ، مِن كُلِّ قَوْمٍ عالِمَهم، فامْتَرَوْا في عِيسى حِينَ رُفِعَ، فَقالَ أحَدُهم: هو اللَّهُ هَبَطَ إلى الأرْضِ وأحْيا مَن أحْيا وأماتَ مَن أماتَ، ثُمَّ صَعِدَ إلى السَّماءِ، وهُمُ اليَعْقُوبِيَّةُ، فَقالَتِ الثَّلاثَةُ: كَذَبْتَ. ثُمَّ قالَ اثْنانِ مِنهم لِلثّالِثِ: قُلْ فِيهِ، فَقالَ: هو ابْنُ اللَّهِ، وهُمُ النَّسْطُورِيَّةُ، فَقالَ: اثْنانِ كَذَبْتَ، ثُمَّ قالَ أحَدُ الِاثْنَيْنِ لِلْآخَرِ: قُلْ فِيهِ، فَقالَ: هو ثالِثُ ثَلاثَةٍ، اللَّهُ إلَهٌ، وعِيسى إلَهٌ، وأُمُّهُ إلَهٌ، وهُمُ الإسْرائِيلِيَّةُ، وهم مُلُوكُ النَّصارى، فَقالَ الرّابِعُ: كَذَبْتَ، هو عَبْدُ اللَّهِ ورَسُولُهُ ورُوحُهُ مِن كَلِمَتِهِ، وهُمُ المُسْلِمُونَ، فَكانَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنهم أتْباعٌ عَلى ما قالَ فاقْتَتَلُوا، فَظَهَرُوا عَلى المُسْلِمِينَ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحانَهُ: ﴿ويَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ مِنَ النّاسِ﴾ [آل عمران: ٢١] ١٠٣ . قالَ قَتادَةُ: وهُمُ الَّذِينَ قالَ اللَّهُ: ﴿فاخْتَلَفَ الأحْزابُ مِن بَيْنِهِمْ﴾ قالَ: اخْتَلَفُوا فِيهِ فَصارُوا أحْزابًا، فاخْتَصَمَ القَوْمُ، فَقالَ المَرْءُ المُسْلِمُ: أُنْشِدُكم بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ أنَّ عِيسى كانَ يَطْعَمُ الطَّعامَ، وأنَّ اللَّهَ لا يَطْعَمُ ؟ قالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قالَ: فَهَلْ تَعْلَمُونَ أنَّ عِيسى كانَ يَنامُ وأنَّ اللَّهَ لا يَنامُ ؟ قالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فَخَصَمَهُمُ المُسْلِمُونَ فاقْتَتَلَ القَوْمُ، فَذُكِرَ لَنا أنَّ اليَعْقُوبِيَّةَ ظَهَرَتْ يَوْمَئِذٍ وأُصِيبَ المُسْلِمُونَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ . وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿أسْمِعْ بِهِمْ وأبْصِرْ﴾ يَقُولُ: الكُفّارُ يَوْمَئِذٍ أسْمَعُ شَيْءٍ وأبْصَرُهُ، وهُمُ اليَوْمَ لا يَسْمَعُونَ ولا يُبْصِرُونَ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يَأْتُونَنا﴾ قالَ: ذَلِكَ يَوْمُ القِيامَةِ. وأخْرَجَ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ وغَيْرُهُما عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ: «قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: إذا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ وأهْلُ النّارِ النّارَ، يُجاءُ بِالمَوْتِ كَأنَّهُ كَبْشٌ أمْلَحُ، فَيُوقَفُ بَيْنَ الجَنَّةِ والنّارِ فَيُقالُ: يا أهْلَ الجَنَّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذا ؟ فَيْشْرَئِبُّونَ ويَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذا المَوْتُ، وكُلُّهم قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنادِي أهْلَ النّارِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذا ؟ فَيَشْرَئِبُّونَ ويَنْظُرُونَ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذا المَوْتُ، وكُلُّهم قَدْ رَآهُ، فَيُؤْمَرُ بِهِ فَيُذْبَحُ ويُقالُ: يا أهْلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ فَلا مَوْتٌ، ويا أهْلَ النّارِ خُلُودٌ فَلا مَوْتٌ، ثُمَّ قَرَأ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - ﴿وأنْذِرْهم يَوْمَ الحَسْرَةِ﴾» الآيَةَ، وأشارَ بِيَدِهِ قالَ: أهْلُ الدُّنْيا في غَفْلَةٍ. وأخْرَجَ النَّسائِيُّ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ مِن طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: يَوْمَ الحَسْرَةِ هو مِن أسْماءِ يَوْمِ القِيامَةِ، وقَرَأ: ﴿أنْ تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتا عَلى ما فَرَّطْتُ في جَنْبِ اللَّهِ﴾ [الزمر: ٥٦] وعَلِيٌّ هَذا ضَعِيفٌ، والآيَةُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِها ابْنُ عَبّاسٍ لا تَدُلُّ عَلى المَطْلُوبِ لا بِمُطابَقَةٍ ولا تَضَمُّنٍ ولا التِزامٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب