الباحث القرآني

. لَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ افْتِخارَ الكَفَرَةِ عَلى فُقَراءِ المُسْلِمِينَ بِأمْوالِهِمْ وعَشائِرِهِمْ وأجابَهم عَنْ ذَلِكَ وضَرَبَ لَهُمُ الأمْثِلَةَ الواضِحَةَ، حَكى بَعْضَ أهْوالِ الآخِرَةِ فَقالَ: ( ﴿ولَقَدْ صَرَّفْنا﴾ ) أيْ: كَرَّرْنا ورَدَّدْنا ﴿فِي هَذا القُرْآنِ لِلنّاسِ﴾ أيْ: لِأجْلِهِمْ ولِرِعايَةِ مَصْلَحَتِهِمْ ومَنفَعَتِهِمْ مِن كُلِّ مَثَلٍ مِنَ الأمْثالِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها الأمْثالُ المَذْكُورَةُ في هَذِهِ السُّورَةِ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ في سُورَةِ بَنِي إسْرائِيلَ، وحَيْثُ لَمْ يَتْرُكِ الكُفّارُ ما هم فِيهِ مِنَ الجِدالِ بِالباطِلِ، خَتَمَ الآيَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿وكانَ الإنْسانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ قالَ الزَّجّاجُ: المُرادُ بِالإنْسانِ الكافِرُ، واسْتَدَلَّ عَلى أنَّ المُرادَ الكافِرُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالباطِلِ﴾ وقِيلَ: المُرادُ بِهِ في الآيَةِ النَّضْرُ بْنُ الحارِثِ، والظّاهِرُ العُمُومُ وأنَّ هَذا النَّوْعَ أكْثَرُ الأشْياءِ الَّتِي يَتَأتّى مِنها الجِدالُ جَدَلًا، ويُؤَيِّدُ هَذا ما ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما مِن حَدِيثِ عَلِيٍّ «أنَّ النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - طَرَقَهُ وفاطِمَةَ لَيْلًا، فَقالَ: ألا تُصَلِّيانِ ؟ فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّما أنْفُسُنا بِيَدِ اللَّهِ إنْ شاءَ أنْ يَبْعَثَنا بَعَثَنا. فانْصَرَفَ حِينَ قُلْتُ ذَلِكَ ولَمْ يُرْجِعْ إلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَضْرِبُ فَخْذَهُ ويَقُولُ: ﴿وكانَ الإنْسانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾» وانْتِصابُ ( جَدَلًا ) عَلى التَّمْيِيزِ. ﴿وما مَنَعَ النّاسَ أنْ يُؤْمِنُوا إذْ جاءَهُمُ الهُدى ويَسْتَغْفِرُوا رَبَّهم إلّا أنْ تَأْتِيَهم سُنَّةُ الأوَّلِينَ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى مِثْلِ هَذا في سُورَةِ بَنِي إسْرائِيلَ، وذَكَرْنا أنَّ ( أنْ ) الأُولى في مَحَلِّ نَصْبٍ، والثّانِيَةَ في مَحَلِّ رَفْعٍ، والهُدى القُرْآنُ ومُحَمَّدٌ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -، والنّاسُ هُنا هم أهْلُ مَكَّةَ، والمَعْنى عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ: ما مَنَعَ النّاسَ مِنَ الإيمانِ والِاسْتِغْفارِ إلّا طَلَبُ إتْيانِ سُنَّةِ الأوَّلِينَ، أوِ انْتِظارُ إتْيانِ سُنَّةِ الأوَّلِينَ، وزادَ الِاسْتِغْفارَ في هَذِهِ السُّورَةِ؛ لِأنَّهُ قَدْ ذَكَرَ هُنا ما فَرَطَ مِنهم مَنِ الذُّنُوبِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها جِدالُهم بِالباطِلِ، و( ﴿سُنَّةُ الأوَّلِينَ﴾ ) هو أنَّهم إذا لَمْ يُؤْمِنُوا عُذِّبُوا عَذابَ الِاسْتِئْصالِ. قالَ الزَّجّاجُ: سُنَّتُهُمُ هو قَوْلُهم: ﴿إنْ كانَ هَذا هو الحَقَّ مِن عِنْدِكَ﴾ [الأنفال: ٣٢] الآيَةَ ﴿أوْ يَأْتِيَهُمُ العَذابُ﴾ أيْ: عَذابُ الآخِرَةِ ( قُبُلًا ) قالَ الفَرّاءُ: إنَّ قُبُلًا جَمْعُ قَبِيْلٍ أيْ: مُتَفَرِّقًا يَتْلُو بَعْضُهُ بَعْضًا، وقِيلَ: عِيانًا، وقِيلَ: فَجْأةً. ويُناسِبُ ما قالَهُ الفَرّاءُ قِراءَةُ أبِي جَعْفَرٍ وعاصِمٍ والأعْمَشِ وحَمْزَةَ والكِسائِيِّ ويَحْيى بْنِ وثّابٍ وخَلَفٍ ( قُبُلًا ) بِضَمَّتَيْنِ فَإنَّهُ جَمْعُ قَبَيْلٍ، نَحْوُ سَبِيلٍ وسُبُلٍ، والمُرادُ أصْنافُ العَذابِ، ويُناسِبُ التَّفْسِيرَ الثّانِيَ أيْ: عِيانًا، (p-٨٦٦)قِراءَةُ الباقِينَ بِكَسْرِ القافِ وفَتْحِ الباءِ أيْ: مُقابَلَةً ومُعايَنَةً، وقُرِئَ بِفَتْحَتَيْنِ عَلى مَعْنى أوْ يَأْتِيهِمُ العَذابُ مُسْتَقْبَلًا، وانْتِصابُهُ عَلى الحالِ. فَحاصِلُ مَعْنى الآيَةِ: أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ ولا يَسْتَغْفِرُونَ إلّا عِنْدَ نُزُولِ عَذابِ الدُّنْيا المُسْتَأْصِلِ لَهم، أوْ عِنْدَ إتْيانِ أصْنافِ عَذابِ الآخِرَةِ أوْ مُعايَنَتِهِ. ﴿وما نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ﴾ مِن رُسُلِنا إلى الأُمَمِ إلّا حالَ كَوْنِهِمْ مُبَشِّرِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ ومُنْذِرِينَ لِلْكافِرِينَ، فالِاسْتِثْناءُ مُفَرَّغٌ مِن أعَمِّ العامِّ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذا ﴿ويُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ﴾ أيْ: لِيُزِيلُوا بِالجِدالِ بِالباطِلِ الحَقَّ ويُبْطِلُوهُ وأصْلُ الدَّحْضِ الزَّلَقُ، يُقالُ: دَحَضَتْ رِجْلُهُ أيْ: زَلِقَتْ تَدْحَضُ دَحْضًا، ودَحَضَتِ الشَّمْسُ عَنْ كَبِدِ السَّماءِ: زالَتْ، ودَحَضَتْ حُجَّتُهُ دُحُوضًا: بَطَلَتْ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ طَرَفَةَ: أبا مُنْذِرٍ ؎رُمْتَ الوَفاءَ فَهِبْتَهُ وحِدْتَ كَما حادَ البَعِيرُ عَنِ الدَّحْضِ ومِن مُجادَلَةِ هَؤُلاءِ الكُفّارِ بِالباطِلِ قَوْلُهم لِلرُّسُلِ: ﴿ما أنْتُمْ إلّا بَشَرٌ مِثْلُنا﴾ [يس: ١٥] ونَحْوَ ذَلِكَ. ( ﴿واتَّخَذُوا آياتِي﴾ ) أيْ: القُرْآنَ ( ﴿وما أُنْذِرُوا﴾ ) بِهِ مِنَ الوَعِيدِ والتَّهْدِيدِ ( هُزُوًا ) أيْ: لَعِبًا وباطِلًا، وقَدْ تَقَدَّمَ هَذا في البَقَرَةِ. ﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأعْرَضَ عَنْها﴾ أيْ: لا أحَدَ أظْلَمُ لِنَفْسِهِ مِمَّنْ وُعِظَ بِآياتِ رَبِّهِ التَّنْزِيلِيَّةِ أوِ التَّكْوِينِيَّةِ أوْ مَجْمُوعِهِما فَتَهاوَنَ بِها وأعْرَضَ عَنْ قَبُولِها، ولَمْ يَتَدَبَّرْها حَقَّ التَّدَبُّرِ ويَتَفَكَّرْ فِيها حَقَّ التَّفَكُّرِ ﴿ونَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ﴾ مِنَ الكُفْرِ والمَعاصِي، فَلَمْ يَتُبْ عَنْها. قِيلَ والنِّسْيانُ هُنا بِمَعْنى التَّرْكِ، وقِيلَ: هو عَلى حَقِيقَتِهِ ﴿إنّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ﴾ أيْ: أغْطِيَةً، والأكِنَّةُ جَمْعُ كِنانٍ، والجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِإعْراضِهِمْ ونِسْيانِهِمْ. قالَ الزَّجّاجُ: أخْبَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ أنَّ هَؤُلاءِ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ ﴿وفِي آذانِهِمْ وقْرًا﴾ أيْ: وجَعَلْنا في آذانِهِمْ ثِقَلًا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِماعِهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذا في الأنْعامِ ﴿وإنْ تَدْعُهم إلى الهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إذًا أبَدًا﴾ لِأنَّ اللَّهَ قَدْ طَبَعَ عَلى قُلُوبِهِمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ ومَعاصِيهِمْ. ﴿ورَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ﴾ أيْ: كَثِيرُ المَغْفِرَةِ، وصاحِبُ الرَّحْمَةِ الَّتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَلَمْ يُعاجِلْهم بِالعُقُوبَةِ، ولِهَذا قالَ: ﴿لَوْ يُؤاخِذُهم بِما كَسَبُوا﴾ أيْ بِسَبَبِ ما كَسَبُوهُ مِنَ المَعاصِي الَّتِي مِن جُمْلَتِها الكُفْرُ والمُجادَلَةُ والإعْراضُ ﴿لَعَجَّلَ لَهُمُ العَذابَ﴾ لِاسْتِحْقاقِهِمْ لِذَلِكَ ( بَلْ ) جُعِلَ ( ﴿لَهم مَوْعِدٌ﴾ ) أيْ: أجَلٌ مُقَدَّرٌ لِعَذابِهِمْ، قِيلَ: هو عَذابُ الآخِرَةِ، وقِيلَ: يَوْمُ بَدْرٍ ﴿لَنْ يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا﴾ أيْ: مَلْجَأً يَلْجَأُونَ إلَيْهِ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: مَنجًا، وقِيلَ: مَحِيصًا، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎لا وألَتْ نَفْسُكِ خَلِيَّتِها ∗∗∗ لِلْعامِرِيِّينَ ولَمْ تُكْلَمِ وقالَ الأعْشى: ؎وقَدْ أُخالِسُ رَبَّ البَيْتِ غَفْلَتَهُ ∗∗∗ وقَدْ يُحاذِرُ مِنِّي ثَمَّ ما يَئِلُ أيْ: ما يَنْجُو. ( ﴿وتِلْكَ القُرى﴾ ) أيْ: قُرى عادٍ وثَمُودٍ وأمْثالُها ( أهْلَكْناهم ) هَذا خَبَرُ اسْمِ الإشارَةِ والقُرى صِفَتُهُ، والكَلامُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ: أهْلُ القُرى أهْلَكْناهم ( ﴿لَمّا ظَلَمُوا﴾ ) أيْ: وقْتَ وُقُوعِ الظُّلْمِ مِنهم بِالكُفْرِ والمَعاصِي ﴿وجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا﴾ أيْ: وقْتًا مُعَيَّنًا، وقَرَأ عاصِمٌ ( مَهْلَكِهِمْ ) بِفَتْحِ المِيمِ واللّامِ، وهو مَصْدَرُ هَلَكَ، وأجازَ الكِسائِيُّ والفَرّاءُ كَسْرَ اللّامِ وفَتْحَ المِيمِ، وبِذَلِكَ قَرَأ حَفْصٌ، وقَرَأ الجُمْهُورُ بِضَمِّ المِيمِ وفَتْحِ اللّامِ. وقالَ الزَّجّاجُ: ( مَهْلِكٌ ) اسْمٌ لِلزَّمانِ، والتَّقْدِيرُ: لِوَقْتِ مَهْلِكِهِمْ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿إلّا أنْ تَأْتِيَهم سُنَّةُ الأوَّلِينَ﴾ قالَ: عُقُوبَةُ الأوَّلِينَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ الأعْمَشِ في قَوْلِهِ: ( قُبُلًا ) قالَ: جَهارًا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: فَجْأةً. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿ونَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ﴾ قالَ: نَسِيَ ما سَلَفَ مِنَ الذُّنُوبِ الكَثِيرَةِ. وأخْرَجَ أيْضًا، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ( ﴿بِما كَسَبُوا﴾ ) يَقُولُ: بِما عَمِلُوا. وأخْرَجَ ابْنُ حاتِمٍ، عَنِ السُّدِّيِّ ﴿بَلْ لَهم مَوْعِدٌ﴾ قالَ: المَوْعِدُ يَوْمُ القِيامَةِ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ( مَوْئِلًا ) قالَ: مَلْجَأً، وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ مُجاهِدٍ ( مَوْئِلًا ) قالَ: مَحْرَزًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب