الباحث القرآني

. قَوْلُهُ: ﴿قالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ﴾ قِيلَ هُمُ العُلَماءُ قالُوهُ لِأُمَمِهِمُ الَّذِينَ كانُوا يَعِظُونَهم ولا يَلْتَفِتُونَ إلى وعْظِهِمْ. وكانَ هَذا القَوْلُ مِنهم عَلى طَرِيقِ الشَّماتَةِ، وقِيلَ هُمُ الأنْبِياءُ، وقِيلَ المَلائِكَةُ، والظّاهِرُ الأوَّلُ لِأنَّ ذِكْرَهم بِوَصْفِ العِلْمِ يُفِيدُ ذَلِكَ وإنْ كانَ الأنْبِياءُ والمَلائِكَةُ هم مِن أهْلِ العِلْمِ، بَلْ هم أعْرَقُ فِيهِ لَكِنْ لَهم وصْفٌ يُذْكَرُونَ بِهِ هو أشْرَفُ مِن هَذا الوَصْفِ، وهو كَوْنُهم أنْبِياءَ أوْ كَوْنُهم مَلائِكَةً، ولا يَقْدَحُ في هَذا جَوازُ الإطْلاقِ، لِأنَّ المُرادَ الِاسْتِدْلالُ عَلى الظُّهُورِ فَقَطْ ﴿إنَّ الخِزْيَ اليَوْمَ﴾ أيِ الذُّلَّ والهَوانَ والفَضِيحَةَ يَوْمَ القِيامَةِ والسُّوءَ أيِ العَذابَ عَلى الكافِرِينَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ. ﴿الَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسِهِمْ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ، والمَوْصُولُ في مَحَلِّ الجَرِّ عَلى أنَّهُ نَعْتٌ لِلْكافِرِينَ، أوْ بَدَلٌ مِنهُ، أوْ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الِاخْتِصاصِ، أوْ في مَحَلِّ رَفْعٍ عَلى تَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، أيْ: هُمُ الَّذِينَ تَتَوَفّاهم، وانْتِصابُ ﴿ظالِمِي أنْفُسِهِمْ﴾ عَلى الحالِ ﴿فَألْقَوُا السَّلَمَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى فَيَقُولُ أيْنَ شُرَكائِيَ وما بَيْنَهُما اعْتِراضٌ أيْ أقَرُّوا بِالرُّبُوبِيَّةِ، وانْقادُوا عِنْدَ المَوْتِ، ومَعْناهُ الِاسْتِسْلامُ، قالَهُ قُطْرُبٌ، وقِيلَ مَعْناهُ المُسالَمَةُ، أيْ: سالَمُوا وتَرَكُوا المُشاقَّةَ. قالَهُ الأخْفَشُ، وقِيلَ مَعْناهُ الإسْلامُ أيْ أقَرُّوا بِالإسْلامِ وتَرَكُوا ما كانُوا فِيهِ مِنَ الكُفْرِ، وجُمْلَةُ ﴿ما كُنّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ تَفْسِيرًا لِلسَّلَمِ عَلى أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالسَّلَمِ الكَلامُ الدّالُّ عَلَيْهِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالسُّوءِ هُنا الشِّرْكَ، ويَكُونُ هَذا القَوْلُ مِنهم عَلى وجْهِ الجُحُودِ والكَذِبِ، ومَن لَمْ يُجَوِّزِ الكَذِبَ عَلى أهْلِ القِيامَةِ حَمَلَهُ عَلى أنَّهم أرادُوا أنَّهم لَمْ يَعْمَلُوا سُوءًا في اعْتِقادِهِمْ وعَلى حَسَبِ ظُنُونِهِمْ، ومِثْلُهُ قَوْلُهم: ﴿واللَّهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣]، فَلَمّا قالُوا هَذا أجابَ عَلَيْهِمْ أهْلُ العِلْمِ بِقَوْلِهِمْ: ﴿بَلى إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (p-٧٨٠)أيْ بَلى كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ السُّوءَ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالَّذِي كُنْتُمْ تَعْمَلُونَهُ فَمُجازِيكم عَلَيْهِ ولا يَنْفَعُكم هَذا الكَذِبُ شَيْئًا. ﴿فادْخُلُوا أبْوابَ جَهَنَّمَ﴾ أيْ يُقالُ لَهم ذَلِكَ عِنْدَ المَوْتِ. وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أبْوابِ جَهَنَّمَ وأنَّ جَهَنَّمَ دَرَجاتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ، و﴿خالِدِينَ فِيها﴾ حالٌ مُقَدَّرَةٌ لِأنَّ خُلُودَهم مُسْتَقْبَلٌ ﴿فَلَبِئْسَ مَثْوى المُتَكَبِّرِينَ﴾ المَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، والتَّقْدِيرُ، لَبِئْسَ مَثْوى المُتَكَبِّرِينَ جَهَنَّمُ، والمُرادُ بِتَكَبُّرِهِمْ هُنا هو تَكَبُّرُهم عَنِ الإيمانِ والعِبادَةِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿إنَّهم كانُوا إذا قِيلَ لَهم لا إلَهَ إلّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [الصافات: ٣٥] . ثُمَّ أتْبَعَ أوْصافَ الأشْقِياءِ بِأوْصافِ السُّعَداءِ، فَقالَ: ﴿وقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ وهُمُ المُؤْمِنُونَ ﴿ماذا أنْزَلَ رَبُّكم قالُوا خَيْرًا﴾ أيْ أنْزَلَ خَيْرًا. قالَ الثَّعْلَبِيُّ: فَإنْ قِيلَ لِمَ ارْتَفَعَ الجَوابُ في قَوْلِهِ ﴿أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ وانْتَصَبَ في قَوْلِهِ خَيْرًا فالجَوابُ أنَّ المُشْرِكِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالتَّنْزِيلِ، فَكَأنَّهم قالُوا: الَّذِي يَقُولُهُ مُحَمَّدٌ هو أساطِيرُ الأوَّلِينَ، والمُؤْمِنُونَ آمَنُوا بِالنُّزُولِ، فَقالَ: أنْزَلَ خَيْرًا ﴿لِلَّذِينَ أحْسَنُوا في هَذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ﴾ قِيلَ: هَذا مِن كَلامِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وقِيلَ: هو حِكايَةٌ لِكَلامِ الَّذِينَ اتَّقَوْا، فَيَكُونُ عَلى هَذا بَدَلًا مِن ( خَيْرًا )، عَلى الأوَّلِ يَكُونُ كَلامًا مُسْتَأْنَفًا مَسُوقًا لِلْمَدْحِ لِلْمُتَّقِينَ، والمَعْنى: لِلَّذِينِ أحْسَنُوا أعْمالَهم في الدُّنْيا حَسَنَةً، أيْ: مَثُوبَةً حَسَنَةً ﴿ولَدارُ الآخِرَةِ﴾ أيْ مَثُوبَتُها خَيْرٌ مِمّا أُوتُوا في الدُّنْيا ﴿ولَنِعْمَ دارُ المُتَّقِينَ﴾ دارُ الآخِرَةِ، فَحُذِفَ المَخْصُوصُ بِالمَدْحِ لِدَلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ. وارْتِفاعُ ﴿جَنّاتُ عَدْنٍ﴾ عَلى أنَّها مُبْتَدَأٌ خَبَرُها ما بَعْدَها، أوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وقِيلَ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ هي المَخْصُوصُ بِالمَدْحِ يَدْخُلُونَها هو إمّا خَبَرُ المُبْتَدَأِ، أوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وعَلى تَقْدِيرِ تَنْكِيرِ عَدْنٍ تَكُونُ صِفَةً لِجَنّاتٍ وكَذَلِكَ ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾ وقِيلَ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ الجُمْلَتانِ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ عَلى تَقْدِيرِ أنَّ لَفْظَ عَدْنٍ عَلَمٌ، وقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنى جَرْيِ الأنْهارِ مِن تَحْتِ الجَنّاتِ ﴿لَهم فِيها ما يَشاءُونَ﴾ أيْ لَهم في الجَنّاتِ ما تَقَعُ عَلَيْهِمْ مَشِيئَتُهم صَفْوًا عَفْوًا يَحْصُلُ لَهم بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ ﴿كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ المُتَّقِينَ﴾ أيْ مِثْلَ ذَلِكَ الجَزاءِ يَجْزِيهِمْ، والمُرادُ بِالمُتَّقِينَ كُلُّ مَن يَتَّقِي الشِّرْكَ وما يُوجِبُ النّارَ مِنَ المَعاصِي. والمَوْصُولُ في قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ﴾ في مَحَلِّ نَصْبِ نَعْتٍ لِلْمُتَّقِينَ المَذْكُورِ قَبْلَهُ، قَرَأ الأعْمَشُ، وحَمْزَةُ تَتَوَفّاهُمُ في هَذا المَوْضِعِ، وفي المَوْضِعِ الأوَّلِ بِالياءِ التَّحْتِيَّةِ، وقَرَأ الباقُونَ بِالمُثَنّاةِ الفَوْقِيَّةِ، واخْتارَ القِراءَةَ الأُولى أبُو عُبَيْدٍ مُسْتَدِلًّا بِما رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قالَ: إنَّ قُرَيْشًا زَعَمُوا أنَّ المَلائِكَةَ إناثٌ فَذَكِّرُوهم أنْتُمْ. وطَيِّبِينَ فِيهِ أقْوالٌ: طاهِرِينَ مِنَ الشِّرْكِ، أوِ الصّالِحِينَ، أوْ زاكِيَةً أفْعالُهم وأقْوالُهم، أوْ طَيِّبِينَ الأنْفُسِ ثِقَةً بِما يَلْقَوْنَهُ مِن ثَوابِ اللَّهِ، أوْ طَيِّبَةً نُفُوسُهم بِالرُّجُوعِ إلى اللَّهِ، أوْ طَيِّبِينَ الوَفاةِ، أيْ: هي عَلَيْهِمْ سَهْلَةٌ لا صُعُوبَةَ فِيها، وجُمْلَةُ ﴿يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِنَ المَلائِكَةِ، أيْ: قائِلِينَ سَلامٌ عَلَيْكم، ومَعْناهُ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما أنْ يَكُونَ السَّلامُ إنْذارًا لَهم بِالوَفاةِ. الثّانِي أنْ يَكُونَ تَبْشِيرًا لَهم بِالجَنَّةِ لِأنَّ السَّلامَ أمانٌ. وقِيلَ إنَّ المَلائِكَةَ يَقُولُونَ: السَّلامُ عَلَيْكَ ولِيَّ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامَ ﴿ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أيْ بِسَبَبِ عَمَلِكم، قِيلَ يَحْتَمِلُ هَذا وجْهَيْنِ: الأوَّلُ أنْ يَكُونَ تَبْشِيرًا بِدُخُولِ الجَنَّةِ عِنْدَ المَوْتِ، الثّانِي أنْ يَقُولُوا ذَلِكَ لَهم في الآخِرَةِ. ولا يُنافِي هَذا دُخُولَ الجَنَّةِ بِالتَّفَضُّلِ كَما في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ «سَدِّدُوا وقارِبُوا واعْلَمُوا أنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ أحَدٌ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ. قِيلَ: ولا أنْتَ يا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قالَ: ولا أنا إلّا أنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ» وقَدْ قَدَّمْنا البَحْثَ عَنْ هَذا. وقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿وقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ قالَ: هَؤُلاءِ المُؤْمِنُونَ. يُقالُ لَهم ﴿ماذا أنْزَلَ رَبُّكُمْ﴾ فَيَقُولُونَ ﴿خَيْرًا لِلَّذِينَ أحْسَنُوا﴾ أيْ آمَنُوا بِاللَّهِ وكُتُبِهِ وأمَرُوا بِطاعَتِهِ وحَثُّوا عِبادَ اللَّهِ عَلى الخَيْرِ ودَعَوْهم إلَيْهِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبِينَ﴾ قالَ: أحْياءً وأمْواتًا، قَدَّرَ اللَّهُ لَهم ذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب